العودة إلى الحياة

كانت باتريشيا إتش امرأةً تتمتَّع بالذكاء والحيوية، وكانت تُمثل الرسَّامين، وتُدير صالةً للعرض الفني في لونج آيلاند، وكانت هي نفسُها رسَّامةً هاوية موهوبة. تولَّت تربية أطفالها الثلاثة، وعندما اقتربت من سنِّ الستين، ظلَّت تحيا حياةً نشيطة، بل و«ساحرة» أيضًا كما وصفتها ابنتاها، حيث الرِّحلاتُ الاستكشافية إلى القرية والسهراتُ المنزلية الدائمة؛ إذ كانت تَهْوى الطبخ، وغالبًا ما يكون لديها عِشرون شخصًا على مائدة العشاء. كان زوجها أيضًا رجلًا متعددَ المهام؛ فكان مُذيعًا في الراديو، وعازفَ بيانو جيدًا، يعزف أحيانًا في الملاهي الليلية، وناشطًا سياسيًّا. كان كِلاهما اجتماعيًّا إلى أقصى حد.

في عام ١٩٨٩، تُوفي زوج بات فجأةً إثر نوبة قلبية. كانت بات نفسُها قد خضعت لعملية قلب مفتوح بسبب تلف في أحد الصمامات في العام السابق، ووُصفت لها مضادَّاتٌ للتخثُّر. وقد تأقلمَت مع هذا الأمر بسهولة، ولكن مع وفاة زوجها، على حد قول إحدى ابنتَيها: «بدَت مذهولة، وأصبحت مُكتئبةً للغاية، وفقدَت وزنها، وسقطت في مترو الأنفاق، وتعرَّضت لحوادث بالسيارة، وكانت تظهر، كما لو كانت تائهة، على عتبة باب منزلنا في مانهاتن.» كانت بات دائمًا مُتقلبةَ المِزاج نوعًا ما («كانت تكتئب لبضعة أيام وتلزم فِراشها، ثم تنتقل فجأةً إلى مِزاج مُعاكس، وتُهرَع إلى المدينة حيث يكون لديها آلافُ الارتباطات من شتَّى الأنواع»)، ولكن الآن خيَّم عليها حزنٌ دائم لا يتزعزع.

في يناير من عام ١٩٩١، عندما لم تردَّ على الهاتف لمدة يومَين، أصيبَت ابنتاها بالذعر، واتَّصلا بأحد الجيران، الذي اقتحم منزلَ بات بمساعدة الشرطة ليجدوها مُستلقيةً في سريرها فاقدةً للوعي. قيل لابنتَيها إنها دخلَت في غيبوبة لمدة عشرين ساعةً على الأقل، وعانت من نزيفٍ دماغي حاد. كان هناك جلطةٌ دموية ضخمة في النصف الأيسر من الدماغ، وهو النصفُ المُسيطر لديها، وكان يُعتقد أنها لن تنجو.

بعد أسبوع في المستشفى دون تحسُّن، خضعت بات لعمليةٍ جِراحية كإجراءٍ أخير. فلم يكُن بالإمكان التنبؤُ بنتائج هذه الجِراحة، كما قيل لابنتَيها.

في الواقع، بدا الوضع في البداية، بعد إزالة الجلطة، مُريعًا. فقد كانت بات، وفقًا لما قالته إحدى ابنتَيها «تُحدق … دون أن يبدوَ أنها ترى. في بعض الأحيان كانت عيناها تتبعاني، أو هكذا تبدوُان. لم نكن نعرف ماذا كان يحدث، وما إذا كانت واعيةً.» يتحدث أطباء الأعصاب أحيانًا عن «حالاتٍ إنباتيَّة مُزمِنة»، وهي حالاتٌ شبيهة بالزومبي يحتفظ فيها المريض ببعض ردود الفعل البدائية، ولكن دون وعي أو نفَسٍ مُتماسكَين. يمكن أن تكون مثلُ هذه الحالات محيِّرةً إلى حدٍّ مؤلِم؛ إذ كثيرًا ما يكون هناك شعورٌ بأن المرء على وشك أن يستعيدَ وعيه، لكن الحالات قد تستمرُّ لأشهُر أو حتى إلى أجلٍ غير مسمًّى. غير أن حالة بات استمرَّت لمدة أسبوعَين، ثم في يومٍ من الأيام، كما تذكَّرت ابنتُها لاري، «كان معي مشروب كولا للحِمية في يدي، وكانت تريدها. رأيتها تنظر إليها. فسألتها: «هل تُريدين رشفة؟» فأومأتْ برأسها. وتغيَّر كل شيء في تلك اللحظة.»

استعادت بات وعيَها في ذلك الوقت، وتعرَّفَت على ابنتَيها، وكانت على علم بحالتها وما يُحيط بها. كان لديها الأشياءُ التي تشتهيها، ورغباتها، وشخصيتها، لكنَّ جانبها الأيمن كان مشلولًا، والأخطر أنها لم تَعُد قادرةً على التعبير عن أفكارها ومشاعرها بالكلمات، فقط كان بإمكانها الإشارةُ بالعين واستخدامُ الحركات الإيمائية، بالإشارة أو الإيماء. كان فهمُها للكلام أيضًا ضعيفًا للغاية. كانت، باختصارٍ، مُصابةً بالحُبسة.

•••

تعني الحُبْسة (Aphasia)، اشتقاقًا، فقدان القدرة على الكلام، لكن ليس الكلام في حدِّ ذاته الذي يُفقَد، بل اللغة نفسُها؛ أي التعبير بها أو فهمها، سواءٌ كليًّا أو جزئيًّا. (ومن ثَم فإن المُصابين بالصَّمم الخِلقي الذين يستخدمون لغة الإشارة قد يُصابون بالحُبسة بعد إصابة بالدماغ أو سكتةٍ دماغية، ويُصبحون غيرَ قادرين على استخدام لغة الإشارة أو فهمها، وهي حُبسةٌ في لغة الإشارة مُشابه من كل الجوانب لحُبسة الأشخاص الناطقين.)

للحبسة أشكالٌ عديدة مختلفة، حسَب أجزاء الدماغ المُتأثرة، وعادةً ما يُوضع تمييزٌ واسع بين الحبسة التعبيرية والحبسة الاستقبالية، وفي حالة وجود كِلَيهما، يُسمَّى هذا بالحبسة «الشاملة».

إن الحبسة ليست بالشيء النادر؛ فقد قُدِّر أن شخصًا واحدًا من بين كل ثلاثمائة شخص قد يُعاني من حبسةٍ مُستديمة نتيجةَ تلف في الدماغ، سواءٌ أكان ذلك نتيجة لسكتةٍ دماغية، أم إصابة في الرأس، أم ورم، أم مرض تنكُّسي دماغي. غير أن كثيرًا من الناس قد تعافَوا كليًّا أو جزئيًّا من الحبسة. (توجد أيضًا أشكالٌ عابرة للحُبسة، تستمرُّ بضع دقائق فقط، وقد تحدُث أثناء نوبة صداع نصفي أو صرع.)

تتميَّز الحُبسة التعبيرية في أخفِّ أشكالها بصعوبةٍ في العثور على الكلمات أو ميل إلى استخدام الكلمات الخاطئة، دون المساس بالبِنية العامة للجُمل. وتميل الأسماءُ، بما في ذلك أسماءُ الأعلام، إلى التأثر بشكلٍ خاص. وفي الأشكال الأكثرِ حدَّةً للحبسة التعبيرية، يصبح الشخصُ غيرَ قادر على تكوين جُملٍ كاملة تامَّة نحويًّا، ويقتصر الأمر لديه على أقوالٍ «تلغرافية» ضعيفة وموجَزة، أما إذا كانت الحُبسة حادَّة للغاية، يكون الشخص صامتًا تقريبًا، مع القدرة من حين لآخر على قذف بعض الكلمات (مثل «اللعنة!» أو «رائع!»). وفي بعض الأحيان قد يلزمُ المريض كلمةً أو عبارةً واحدة ينطقها في جميع الظروف؛ نتيجةَ إحباطه الواضح. كان لديَّ مريضة لم تستطع أن تقول أيَّ شيء بعد جلطتها الدماغية سوى «شكرًا لكِ يا أمي»، ومريضةٌ أخرى، كانت سيدةً إيطالية، لم يكُن بإمكانها أن تنطق سِوى «الحقيقة الكاملة، الحقيقة الكاملة».

اعتبر هيولينجز جاكسون، وهو من المُستكشفين الرُّواد لمرض الحُبسة في ستينيَّات وسبعينيَّات القرن التاسع عشر، أن مثل هؤلاء المرضى يفتقدون الكلامَ «الخبري»، وأنهم فقَدوا الكلام الداخلي أيضًا؛ ومن ثَم لم يتمكَّنوا من الكلام أو «الإخبار»، حتى لأنفسهم. لذلك شعر بأنَّ القدرة على التفكير المجرد كانت مفقودةً في الحبسة، وفي هذا السياق قارَن مُصابي الحبسة بالكلاب.

في كتابه الرائع «الأدمغة المُصابة للعقول الطبية»، يستشهد ناريندر كابور بالعديد من الروايات الشخصية عن الحُبسة. كانت إحداها لسكوت موس، وهو عالمُ نفس أُصيب بسكتةٍ دماغية في سنِّ الثالثة والأربعين، وأصبح مُصابًا بالحُبسة، ووصف فيما بعدُ تَجرِبته، التي توافقت كثيرًا مع مفاهيم هيولينجز جاكسون حول فقدان الكلام الداخلي والمفاهيم الداخلية:

عندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي في المستشفى، كنتُ مُصابًا بحُبسة (شاملة) تمامًا. كان باستطاعتي أن أفهم بصعوبةٍ ما يقوله الآخرون لي إذا ما كان الحديثُ بطيئًا وممثَّلًا بشكلٍ من أشكال الحركة المادية للغاية … لقد فقدتُ القدرة تمامًا على التحدث، والقراءة، والكتابة. بل إنني فقدتُ خلال الشهرين الأوَّلَين القدرةَ على استخدام الكلمات داخليًّا؛ أي في تفكيري … وفقدتُ أيضًا القدرةَ على الحلم. لذلك، عشتُ نحو ثمانية إلى تسعة أسابيع في فراغٍ تامٍّ من المفاهيم المُنتَجة ذاتيًّا … لم يكن باستطاعتي التعاملُ إلا مع الحاضر الآني … كان الجزء المفقود مني هو الجانبَ الفكري؛ ذلك الشرط اللازم لشخصيَّتي، تلك العناصر الأساسية الأكثرُ أهميةً ليكون المرءُ فردًا مميزًا … ولمدةٍ طويلة من الزمن كنت لا أعدُّ نفسي سوى نصفِ رجل.

فقدَ موس، الذي كان يُعاني من كلٍّ من الحبسة التعبيرية والاستقبالية، القدرةَ على القراءة أيضًا. فالشخص المُصاب بالحبسة التعبيرية فقط قد يظلُّ على القراءة والكتابة (شريطةَ ألا تكون اليدُ التي يستخدمها في الكتابة قد أُصيبت بالشلل جرَّاءَ السكتة الدماغية).١

روايةٌ أخرى كانت لجاك لوردا، وهو عالمُ نفس فرنسيٌّ بارز من أوائل القرن التاسعَ عشر قدَّم وصفًا استثنائيًّا للحُبسة التي أُصيب بها بعد سكتةٍ دماغية، وذلك قبل بضع وستين سنةً من دراسات هيولينجز جاكسون. وقد كانت تَجارِبه مختلفةً تمامًا عن تجارِب موس:

في غضون أربع وعشرين ساعةً استعصى عليَّ الكلام فيما عدا بضع كلمات. وأثبتَت تلك الكلمات التي بقيَت أنها عديمةُ الفائدة تقريبًا؛ إذ لم يعد باستطاعتي تذكرُ الطريقة التي يجب أن أُنسِّقها بها لتوصيل الأفكار … لم أعُد قادرًا على استيعاب أفكار الآخرين؛ لأن فقدان الذاكرة ذاتَه الذي أعاقني عن الكلام جعلني غيرَ قادر على فهم الأصوات التي كنتُ أسمعها بالسرعة الكافية التي تمكِّنني من فَهم معناها … داخليًّا، شعرت بالشيء نفسِه أكثرَ من أي وقتٍ مضى. هذه العزلة الذهنية التي أذكرها، وحزني، وإعاقتي، وظهور الغباء الذي تولَّد عنها، أدَّى بالكثيرين إلى اعتقاد أن ملَكاتي الفكرية قد ضعُفَت … كنتُ مُعتادًا أن أناقش بداخلي عملي والدراسات التي أحببتُها. لم يتسبَّب التفكيرُ لي في أي صعوبة تُذكر … ظلَّت ذاكرتي للحقائق، والمبادئ، والعقائد، والأفكار المجردة كما هي عندما كنت بصحةٍ جيدة … كان عليَّ أن أدرك أن الآلياتِ الداخليةَ للعقل يُمكنها الاستغناء عن الكلمات.

وهكذا، قد يحظى بعضُ المرضى، حتى لو كانوا غيرَ قادرين تمامًا على التحدث أو فهم الكلام، بقدرةٍ مثالية على الحفاظ على القدرات الفكرية، القدرة على التفكير منطقيًّا ومنهجيًّا، والتخطيط، والتذكر، والتوقع، والحَدْس.٢

ومع ذلك، لا يزال هناك شعورٌ في أذهان العامة — وفي كثير من الأحيان في أذهان الأطباء أيضًا — أن الحبسة من الكوارث المطلَقة التي تُنهي الحياة الداخلية للشخص في الواقع، وكذلك حياته الخارجية. وقد قيل شيءٌ من هذا القبيل لابنتَي بات، دانا ولاري. فقد قيل لهما إنه قد يحدث قليلٌ من التحسُّن، لكن بات يجب أن تودَع في مِصحَّة علاجية بقيةَ حياتها؛ فلن تكون هناك حفلات، ولا محادثات، ولا صالاتُ عرض بعد الآن، كل ما كان يشكِّل جوهرَ حياة بات سينتهي، وكانت ستحيا الحياةَ الضيِّقة لمريضٍ مُقيم في إحدى المؤسَّسات العلاجية.

ونظرًا إلى أنَّ مرضى الحبسة نادرًا ما يكونون قادرين على بَدء حوار أو التواصل مع الآخرين، فإنهم يُواجهون مخاطرَ خاصةً في مستشفيات الأمراض المُزمنة أو دُور المسنِّين. فقد يتلقَّون كلَّ أشكال العلاج، ولكن البُعد الاجتماعيَّ الحيوي في حياتهم يكون مفقودًا، وكثيرًا ما يشعرون بالعزلة والانفصال الشديدَين. ومع ذلك، توجد العديد من الأنشطة — مثل ألعاب الورق، أو رِحلات التسوُّق، أو السينما، أو المسرح، أو الرقص، أو الرياضة — التي لا تتطلَّب لغة، ويمكن استخدامها لجذب أو استدراج مرضى الحُبسة إلى عالم من الأنشطة المألوفة والتواصل البشري. وأحيانًا ما يُستخدَم المصطلح الباهت «إعادة التأهيل الاجتماعي» هنا، لكن المريض في الحقيقة (كما قد يصفُه ديكنز) «يُعاد إلى الحياة».

كانت ابنتا بات عازمتَين على القيام بكل شيء بوُسعهما القيامُ به لإعادة والدتهما إلى العالم، إلى أكملِ حياة مُمكنة تُتيحها لها قيودُها. قالت لاري: «لقد استأجرنا ممرِّضةً أعادت تعليم أمِّي كيف تُطعِم نفسَها، وكيف «تكون». كانت أمي تغضب، وتضربُها في بعض الأحيان، لكنها، أي الممرِّضة، لم تكُن تستسلم أبدًا. ولم نُفارقها أنا ودانا قط. كنا نصطحبُها إلى الخارج، وننقلها على كرسي ذي عجلات إلى شقَّتي … كنا نصطحبها إلى المطاعم، أو نُحضر لها الطعام في المنزل، أو نجعلها تحصلُ على تصفيف لشعرها، أو تقليم لأظفارها … لم نتوقَّف أبدًا.»

نُقلت بات من مستشفى الرعاية الحادَّة، حيث خضعت لعمليةٍ جِراحية، إلى إحدى مؤسَّسات إعادة التأهيل. وبعد ستة أشهُر، نُقلت أخيرًا إلى مستشفى بيث إبراهام، في مقاطعة ذا برونكس، حيث قابلتُها أولَ مرة.

•••

عندما افتُتح مستشفى بيث إبراهام عام ١٩١٩ كان يُسمى دار بيث إبراهام للحالات المُستعصية، الاسم المثبِّط للهِمم الذي لم يتغيَّر سوى في الستينيَّات. كان المستشفى في البداية يستوعب بعضًا من أوائل ضحايا وباء التهاب الدماغ النوامي (كان بعضهم لا يزال يعيش هناك بعد أكثرَ من أربعين عامًا عند وصولي)، وتوسَّع على مدار السنين ليصبح مستشفًى يضمُّ خَمسمائة سرير إلى جانب برامج إعادة تأهيل نشِطة، تهدف لمساعدة المرضى المُصابين بجميع أنواع الأمراض المزمِنة؛ مرض باركنسون، والخرف، ومشاكل الكلام، والتصلُّب المتعدِّد، والسكتات الدماغية (وصارت تضمُّ، على نحوٍ مُتزايد، مرضى تلفِ العمود الفِقري أو الدماغ الناتج عن جروح الرصاص أو حوادث السيارات).

غالبًا ما يُصاب زُوار مستشفيات الأمراض المُزمنة بالذُّعر عند رؤية مئات المرضى «المستعصِين»، الذين يكون الكثيرُ منهم مشلولين، أو مكفوفين، أو بُكمًا. وكثيرًا ما يكون أولُ ما يتبادر إلى ذهن المرء: هل تستحقُّ الحياة العيشَ في ظروف كهذه؟ أي حياة يمكن أن يعيشها هؤلاء الناس؟ ويتساءل المرء، في اضطراب، كيف سيكون ردُّ فِعله إزاءَ احتمال إصابته بإعاقة ودخوله هو نفسه دارًا كهذه.

بعد ذلك قد يبدأ المرءُ في رؤية الجانب الآخر للموقف. حتى لو لم يكن ثمةَ علاج، أو تحسنٌ محدود فقط، لمعظم هؤلاء المرضى، يمكن مع ذلك مساعدةُ العديد منهم على إعادة هيكلة حياتهم، وتطوير طُرُق أخرى للقيام بالأشياء، والاستفادة من مَواطن قوتهم، وإيجاد شتى أنواع التعويضات والتسهيلات. (ويعتمد هذا، بالطبع، على درجة الضرر العصبي ونوعه، وعلى الموارد الداخلية والخارجية لكلِّ مريض.)

إذا كان من الصعب على الزائرين رؤيةُ مستشفًى للأمراض المُزمنة لأول مرة، فمن الممكن أن يكون الأمرُ مُرعبًا للنزيل الجديد؛ إذ يكون ردُّ فِعل الكثيرين منهم الرعبَ الممزوج بالحزن، أو المرارة، أو الغضب. (بل في بعض الأحيان قد ينتج عن هذا «ذُهان دخول المستشفى» التام.) عندما قابلتُ بات لأول مرة، بعد مدةٍ وجيزة من دخولها مستشفى بيث إبراهام في أكتوبر عام ١٩٩١، وجدتُها غاضبة، ومُتألمة، ومُحبَطة. لم تكُن قد تعرَّفَت بعد على العاملين هناك أو تصميم المكان، وشعرَتْ أن نظامًا مؤسَّسيًّا صارمًا كان يُفرَض عليها. كان يمكنها التواصلُ بالإيماءات — التي كانت انفعاليَّة، إن لم تكن مفهومة دائمًا — لكنها كانت لا تزال لا تُقدم خطابًا مُتماسكًا (على الرغم من أنها في بعض الأحيان، كما قال العاملون، كانت تَصيح قائلةً: «الجحيم!» أو «ابتعدوا!» عندما تكون غاضبة). وبينما بدا أنها تفهم كثيرًا مما قاله الناسُ لها، فقد اتَّضح من الفحص أنها لم تكُن تستجيب كثيرًا للكلمات بقدرِ ما كانت تستجيب لنبرة الصوت، وتعبيرات الوجه، والإيماءات.

عندما اختبرتُها في العيادة، لم تستطع بات الاستجابةَ لقولي «المِسي أنفَكِ»، سواءٌ بالكلام أو الكتابة. وتمكَّنتْ من العدِّ («واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة …») كتسلسل، ولكنها لم تستطع أن تقول الأعدادَ مُنفردةً أو تعدَّ تنازليًّا. وقد ظل الجانب الأيمن من جسمها مشلولًا تمامًا. وكانت حالتها العصبية، كما أشرتُ في تقريري، «سيِّئة. أخشى أنها لن تستعيدَ قدرًا كبيرًا من الوظائف اللغوية، لكن يجب بالتأكيد تجربةُ علاجٍ مكثَّف للنطق، وكذلك العلاج الطبيعي والوظيفي.»

كانت بات تتوق إلى الكلام، لكنها كان تشعر بالإحباط باستمرار عندما تنطق بالكلمة الخطأ أو بكلمةٍ غير مفهومة بعد جهودٍ ضخمة في إخراج كلمة. كانت تُحاول تصحيحها، ولكن غالبًا ما تُصبح غيرَ مفهومة على نحوٍ أكبرَ مع كل محاولة لجعل كلامها مفهومًا. أعتقد أنه قد بدأ يتَّضح لها أنَّ قدرتها على الكلام قد لا تعود أبدًا، وتراجعَت أكثرَ وأكثر للصمت. كان هذا العجزُ عن التواصل بالنسبة إليها، كما هو بالنسبة إلى كثير من المرضى المُصابين بالحُبسة، أسوأَ بكثير من شلل نصف جسمها. كنت أراها أحيانًا، في هذه السنة الأولى بعد إصابتها بالسكتة الدماغية، جالسةً بمفردها في الممرِّ أو في غُرفة أنشطة المرضى، محرومة من الكلام، ومُحاطة بشبهِ هالة من الصمت، ويعلو وجهَها نظرةُ كَرْب ووَحدة.

لكن بعد مرور عام، وجدتُ أن بات قد تحسَّنت كثيرًا. فقد طوَّرَت مهارة لفهم الآخَرين من خلال إيماءاتهم وتعبيراتهم، مثلما يُفهَمون من كلماتهم. واستطاعت أن تُظهر أفكارَها ومشاعرها، لا من خلال الكلام ولكن بإيماءات وحركات إيحائيَّة بَليغة. فقد أشارت، على سبيل المثال، مُرفرفةً بتذكرتَين، إلى أنها ستذهب إلى السينما فقط إذا تمكَّن أحدُ أصدقائها من الذهاب أيضًا. أصبحت بات أقلَّ غضبًا، وأكثرَ اجتماعية، ومُدركةً تمامًا لكل ما يدور حولها.

مثَّل هذا تحسنًا اجتماعيًّا هائلًا — إذ كان يُعد تحسنًا في قدرتها على التواصل — ولكنني لم أكُن مُتأكدًا إلى أيِّ مدًى اعتمد هذا التحسنُ على تحسنٍ عصبي فِعلي. فكثيرًا ما يعتقد أصدقاءُ وأقارب مرضى الحبسة أنَّ هناك شفاءً عصبيًّا أكثر مما عليه الأمرُ في الواقع؛ لأن العديد من مثلِ هؤلاء المرضى يُمكنهم أن يكتسبوا تزايدًا تعويضيًّا ملحوظًا في القدرات والمهارات غيرِ اللغوية الأخرى، وخاصةً القدرة على قراءة نوايا الآخرين ومعاني ما يقولونه من خلال تعبيرات وجوههم، والتغيُّرات في طبقاتهم الصوتية، ونبرات أصواتهم، وكذلك كل الإيماءات، ووضعيَّات الجسم، والحركات الدقيقة التي عادةً ما تُصاحب الكلام.

قد يمنح مثلُ هذا التعويض قدراتٍ مُدهشةً لمريض الحبسة، وخاصةً تعزيز القدرة على كشف الحِيَل التمثيليَّة، أو المُراوغة، أو الكذب. وقد وصفت هذا في عام ١٩٨٥،‏٣ عندما لاحظتُ مجموعةً من مرضى الحبسة يُشاهدون خطابًا رِئاسيًّا في التلفاز، وفي عام ٢٠٠٠ نشرَت نانسي إيتكوف وزملاؤها في مستشفى ماساتشوستس العامِّ دراسةً في مجلة «نيتشر»، أظهرت أن الأشخاص المُصابين بالحبسة كانوا في الواقع «أكثرَ تفوقًا على نحوٍ ملحوظ في كشف الأكاذيب المتعلِّقة بالعواطف والمشاعر من الأشخاص الذين لا يُعانون من أيِّ ضعف لُغوي.» وقد لاحظوا أن مثل هذه المهارات، على ما يبدو، قد استغرقَت وقتًا لتطويرها؛ لأنها لم تظهر على مريض الحبسة سوى منذ بِضعة شهور. ويبدو أن الأمر كان كذلك مع بات، التي كانت في البداية لا تملك أدنى خبرة في التقاط عواطف الآخرين ونواياهم، ولكنها أصبحت بمرور السنين ذاتَ مهارة استثنائيَّة في ذلك. وإذا كان مرضى الحبسة يتفوَّقون في فَهم التواصل غيرِ اللفظي، فيُمكنهم أيضًا أن يُصبحوا خبراءَ في نقل أفكارهم الخاصة بالطريقة نفسِها؛ وقد بدأت بات الآن في التحول نحوَ تمثيل واعٍ وإرادي (وغالبًا ما يكون مبتكَرًا) لأفكارها ونواياها بالحركات الإيمائية.

ولكن بينما تصبح الإشارة والحركات الإيمائية، في حالة فقدان القواعد النحوية وبناء الجملة في اللغة الفعلية، بديلًا عادةً، فهي ليست كافيةً؛ فليس لها سوى قدرةٍ محدودة على توصيل المعاني والعبارات المعقَّدة (على عكس لغة الإشارة الفعلية، كالتي يستخدمها الصُّم). كانت هذه القيود غالبًا ما تُثير حنَق بات، غير أن تغييرًا بالغ الأهمية قد طرأ عندما اكتشفت اختصاصيةُ التخاطب التي تُباشر حالتها، جانيت ويلكنز، أنه على الرغم من أن بات لم تستطع قراءةَ جملةٍ واحدة، فقد استطاعت التعرفَ على الكلمات مُنفردةً (وأن حصيلة مفرداتها، في الواقع، كانت واسعةً للغاية). وقد اكتشفَت جانيت هذا لدى آخرين من مرضى الحبسة عندما بدَءوا في التعافي، وابتكرتْ مُعجمًا خاصًّا لهم، كان عبارةً عن كتاب للكلمات مرتَّبة في فئاتٍ للأشياء، والأشخاص، والأحداث، وكذلك الحالات المِزاجية والعواطف.

وجدتْ جانيت أن مِثل هذا المعجم كثيرًا ما كان يُجْدي نفعًا عندما يكون المرضى في جلساتٍ فردية معها، لكن العديد من مرضى الحبسة كانوا يجدون صعوبةً في التواصل مع الآخرين؛ ربما كانوا شَديدي الخجل، أو شديدي الاكتئاب، أو شديدي العجز بسبب حالات طِبية أخرى لدرجةٍ تعوقهم عن بدء التواصل مع الآخرين.٤ لم يكن أيٌّ من هذا ينطبق على بات، التي كانت مُنفتحة واجتماعيةً طَوال حياتها. كانت تحمل الكتاب دائمًا على حجرها أو بجانب كرسيِّها المُتحرك، حتى تتمكنَ من تصفُّحِه بسرعةٍ بيدها اليسرى والعثور على الكلمات التي تحتاج إليها. فإذا أرادت الاقترابَ بجُرأة من شخصٍ ما، كانت تفتح كتابها على الصفحة المناسبة، وتدفع به في اتجاه الشخص، وتُشير إلى الموضوع الذي تريد التحدث عنه.

اتَّسعت حياةُ بات في جميع النواحي بفضل وجود «كتابها المقدَّس»، كما أطلقتْ عليه ابنتاها. فسُرعان ما أصبحَت قادرةً على توجيه المحادثة في أيِّ اتجاه تُريده؛ المحادثة التي كانت تُدار من جانبها فقط بالإشارة والحركات الإيمائية، وكان يجب القيامُ بذلك أولًا بذراعها اليسرى؛ لأن جانبها الأيمن كان لا يزال مشلولًا تمامًا. ومع ذلك، فإن الجمع بين الإشارات والحركات الإيمائية وبين الكلمات في كتابها أتاح لها تعبيرًا كاملًا ودقيقًا على نحوٍ ملحوظ عن احتياجاتها وأفكارها.

داخل المستشفى، أصبحت شخصيةً اجتماعية مركزيَّة، على الرغم من عدم قدرتها على التواصل بالطريقة المُعتادة. فأصبحتْ غُرفتها غرفةً للدردشة، مع مرضى آخَرين كانوا كثيرًا ما يُعرِّجون عليها. وكانت بات تتحدث مع ابنتَيها عبر الهاتف «مائة مرة في اليوم»، على حد قولهما، على الرغم من أن المحادثات كانت كلُّها سلبيةً من جانبها؛ إذ كانت تنتظر أسئلةً بسيطة يمكنها الإجابةُ عنها ﺑ «نعم» (وكانت تقول «نعم» عن طريق القُبلات)، أو ﺑ «لا»، أو «بخير»، أو بإصدار أصوات استحسان، أو تَندُّر، أو رفض.

بحلول عام ١٩٩٦، أي بعد مرور خمس سنوات على إصابتها بالسكتة الدماغية، قلَّت حِدَّة الحبسة الاستقبالية لدى بات؛ فقد صارت قادرةً على فَهمِ قليلٍ من الكلام، وإن كانت لا تزال غيرَ قادرة على التعبير عن نفسها بالكلام. كانت تستخدم بعض العبارات الثابتة، مثل «على الرحب والسَّعة!» أو «بخير!»، ولكن لم تكن تستطيع تسمية الأشياء المألوفة أو نُطق جملة. بدأت ترسم مرةً أخرى، مستخدمةً يدَها اليسرى، وكانت مصدرَ قلق في لعبة الدومينو؛ لأن أنظمتها التمثيلية غيرَ اللفظية كانت سليمةً لم يمَسَّها ضرر. (كان مفهومًا منذ مدة طويلة أنه ليس بالضرورة أن تؤثر الحُبسة على القدرة الموسيقية، أو الصور البصرية، أو الكفاءة الميكانيكية، وقد أوضح نيكولاي كليسنجر وزملاؤه في جامعة شيفيلد أن المنطق العدديَّ والبناء الرياضيَّ يمكن أن يكونا سليمَين تمامًا حتى لدى المرضى غير القادرين على فهم اللغة النحوية أو التحدث بها.)

كثيرًا ما يُقال إنه بعد السكتة الدماغية أو أي إصابة دماغية، لا يمكن إحرازُ مزيدٍ من التعافي بعد اثنَي عشر إلى ثمانية عشر شهرًا. وفي حين أن الوضع قد يكون كذلك أحيانًا، فقد رأيتُ أن هذا التعميم قد ثبَت خطؤه مع العديد من المرضى. وفي العقود القليلة الماضية، أكَّد علم الأعصاب أن للدماغ قدراتٍ على الإصلاح والتجديد أكبرَ مما كان يُعتقَد في السابق. كما أنه يتمتع ﺑ «مرونة» أكبرَ بكثير؛ أي قدرةٍ أكبرَ في المناطق السليمة من الدماغ على تولِّي بعضٍ من وظائف المناطق الأخرى المتضرِّرة، شريطةَ ألا يكون الضررُ ممتدًّا أكثرَ من اللازم. وعلى المستوى الشخصي، توجد القدرات التكيُّفية؛ أي إيجاد طُرقٍ جديدة أو طُرقٍ أخرى لفعل الأشياء حينما لا تعود الطريقة الأصلية مُتاحة. حتى بعد خمس سنوات بعد إصابتها بالسكتة الدماغية، لاحظتُ أن بات ما زالت تُظهر تحسُّنًا مستمرًّا، وإن كان محدودًا للغاية، في قُدراتها الاستقبالية؛ أي قدرتها على فهم اللغة.

ومع ذلك، وعلى الرغم من قدرتها على التلفُّظ ببِضع كلمات وقدرتها على فَهم الكلمات المفردة، سواءٌ أكانت منطوقةً أم مكتوبة، كانت بات لا تزال، إجمالًا، محرومةً من لغةٍ منظَّمة، وبدَت غيرَ قادرة على «الإخبار» سواءٌ داخليًّا أو للآخَرين. وقد ميَّز الفيلسوف فيتجنشتاين طريقتَين للتواصل والتمثيل هما: «القول» و«العرض». أما القول، بمعنى الإخبار، فهو أمرٌ جازم، ويتطلَّب اقترانًا وثيقًا للبِنية المنطقية والتركيبية مع ما يجزم به. وأما العرض، فليس بالأمر الجازم؛ بل يُقدم معلوماتٍ مباشرةً، بطريقةٍ غيرِ رمزية، ولكنه لا يتميَّز، كما أُجبر فيتجنشتاين على الاعتراف، بقواعد نحويةٍ أساسية أو بِنية تركيبية. (بعد سنوات قليلة من نشر كتاب «الرسالة» لفيتجنشتاين، أصدر صديقُه بييرو سراتا إشارة، حيث طقطقَ أصابعه، وقال: «ما البِنية المنطقية لذلك؟» لكن فيتجنشتاين لم يستطع الإجابة.)

ومِثلما أحدث ناعوم تشومسكي ثورةً في دراسة اللغة، أحدثَ ستيفن كوسلين ثورةً كذلك في دراسة التصور، وحيث يكتب فيتجنشتاين عن «القول» و«العرض»، يتحدث كوسلين عن أساليبِ التمثيل «الوصفية» و«التصويرية». هذان الأسلوبان كلاهما مُتاحٌ للدماغ الطبيعي، وهما مُتكاملان، بحيث يمكن للمرء استخدامُ أحد الأسلوبين أو الآخَر في بعض الأحيان، وغالبًا ما قد يستخدمهما معًا. كانت بات قد فقدَت إلى حدٍّ كبير قدراتِها على الإخبار، والجزم، والوصف، وأظهرَت احتماليةً ضئيلة لاستعادتها. لكن قدراتها على التصوير، التي لم تتأثَّر بالسكتة الدماغية، صارت أكثرَ حدةً وقوة على نحوٍ ملحوظ كردِّ فِعل على فقدانها للغة. فقُدرتها على قراءة إيماءات الآخرين وتعبيراتهم وبراعتها في التعبير عن نفسها بالإشارات والحركات الإيمائية شكَّلتا الجانبَين، الاستقبالي والتعبيري، لقدرتها التصويرية.

•••

كانت بات الأصغرَ بين سبعة أشقَّاء، ولَطالما لعبتْ عائلتها الكبيرة دورًا مِحوريًّا في حياتها، وامتدَّ هذا الدورُ إلى أبعدَ من ذلك عند ميلاد أليكسا ابنة لاري، أُولى أحفاد بات، عام ١٩٩٣. قالت لاري إن أليكسا «وُلدت في مستشفى بيث إبراهام.» كانت تزور جَدَّتها كثيرًا، وكان لدى بات دائمًا لعبةٌ أو مكافأة خاصة لها (قالت لاري مندهشةً: «لا أعرف كيف كانت تحصل على هذه الأشياء»). كانت بات كثيرًا ما تطلب من أليكسا أن تأخذ رقائقَ البسكويت إلى صديق في آخرِ القاعة لم يكن يستطيع المشي. كانت أليكسا وشقيقها وشقيقتها الصُّغرَيان، دين وإيف، جميعًا مفتونَين ببات، ويُحبون الاتصال بها كثيرًا عبر الهاتف عندما لا يكون باستطاعتهم زيارتُها. شعرت لاري أن ثَمة علاقةً نشِطة للغاية و«طبيعية» للغاية تجمعهم مع جَدتهم، وهي علاقة يُقدرونها جميعًا ويعتزُّون بها.

احتوت إحدى صفحات كتاب بات على قائمةٍ بالحالات العاطفية (اختارتها من قائمة كلمات أعدَّتها جانيت، اختصاصية التخاطب). عندما سألتها عام ١٩٩٨ عن الحالة المِزاجية المُسيطرة عليها، أشارت إلى «سعيد». كانت ثَمة صفاتٌ أخرى في صفحة الحالة المزاجية، مثل «غاضب»، و«خائف»، و«مُتعَب»، و«مريض» و«وحيد» و«حزين» و«ضجِر»، أشارت إليها كلِّها من حين لآخر في السنوات السابقة.

في عام ١٩٩٩، عندما سألتُها عن التاريخ، أشارت إلى «الأربعاء، ٢٨ يوليو»، ربما ببعض الانزعاج؛ لإهانتي لها بطرح سؤال بسيط كهذا. أشارت، باستخدام «كتابها المقدَّس»، إلى أنها حضرَت ستَّ مسرحيات موسيقية ومَعرِضَين فنِّيَّين في الشهور القليلة الماضية، وأنها الآن، وكان ذلك في الصيف، ستزور لاري في لونج آيلاند في عطلات نهاية الأسبوع، وستُمارس السباحةَ من بين أمور أخرى. سألتُها مُتشككًا: «السباحة؟» فأشارت بات إلى كلمة نعم؛ فحتى مع إصابة جانبها الأيمن بالشلل، كان لا يزال بإمكانها ممارسةُ السباحة الجانبية. لقد كانت سبَّاحةَ مسافاتٍ طويلةٍ رائعةً في شبابها، حسَبما أشارت. أخبرتني كم كانت مُتحمسةً لأن لاري ستتبنَّى طفلًا جديدًا في غضون أشهُر قليلة. اندهشت كثيرًا، في هذه الزيارة، التي جاءت بعد ثماني سنوات من إصابتها بالسكتة الدماغية، باتساع وثراء تَجارِب بات اليومية، وحبِّها النَّهِم للحياة في مواجهة ما قد يُعتبر تلفًا مدمِّرًا للدماغ.

في عام ٢٠٠٠، أطلعتني بات على صور لأحفادها. كانت قد زارتهم جميعًا في اليوم السابق، بمناسبة عيد الاستقلال في الرابع من يوليو، وشاهَدوا السفن الطويلة والألعاب النارية في التلفاز. كانت مُتلهفةً لإطلاعي على الصحيفة، التي كانت تحوي صورةً للشقيقتَين ويليامز وهما تلعبان التنس. وأشارت إلى أن التنس كان إحدى رياضاتها المفضَّلة، إلى جانب التزلُّج، وركوبِ الخيل، والسباحة. وحاولتْ جاهدةً أن تُظهر لي أن أظفارها كانت مشذَّبة ومَطْلية، وكانت ترتدي قبعةَ شمس ونظارةً شمسية، في طريقها للتشمس في فِناء المستشفى.

بحلول عام ٢٠٠٢، صارت بات قادرةً على استخدام بضع كلمات في حديثها. وقد تحقَّق ذلك باستخدام الأغاني المألوفة كأغنية «هابي بيرث داي» أو «بايسكل بيلت فور تو»، التي كانت تُغنيها مع كوني توماينو، المُعالج بالموسيقى في مستشفى بيث إبراهام. استطاعت بات أن تألَف الموسيقى وبعضَ الكلمات. كان هذا «يُحرر» صوتها، لبضع دقائق بعده، ويمنحها القدرة على قولِ بعض الكلمات، بطريقة الغناء. ثم بدأت تحمل جهازَ تسجيلٍ مع شريط لأغانٍ مألوفة؛ حتى تستطيع إعمالَ قدراتها اللغوية. وقد أظهرت هذا بقولها: «أوه، يا له من صباحٍ جميل!» وأتبعَتْه بعبارة «صباح الخير د. ساكس» مُنغَّمة، مع تشديدٍ ثقيل وإيقاعي على كلمة «صباح».

إن العلاج بالموسيقى لا يُعادله شيء بالنسبة إلى بعض مرضى الحبسة التعبيريَّة؛ فباكتشافهم أنهم يستطيعون غناءَ كلماتِ أغنيةٍ ما، يطمئنُّون إلى أنهم لم يفقدوا اللغةَ بالكامل، وأنه لا يزال بإمكانهم الوصولُ إلى الكلمات في مكانٍ ما بداخلهم. السؤال إذن هو ما إذا كان من الممكن إزالةُ القدرات اللغوية المضمَّنة في الأغاني مِن سياقها الموسيقي واستخدامُها في التواصل. أحيانًا يكون هذا ممكنًا بقدرٍ محدود، بإعادة تضمين الكلمات في نوعٍ من الغناء المرتجَل.٥ لكن بات لم تكُن مهتمَّة بهذا؛ فقد شعرت أن براعتها الحقيقية تكمُن في قدراتها الإيمائية، وتقديرها للإيماءات واستخدامها. وقد حقَّقت مهارةً وإدراكًا حَدْسيًّا هنا يكاد يصل إلى حدِّ العبقرية.

إن المُحاكاة، أي التمثيل المتعمَّد والواعيَ للمشاهد، والأفكار، والمشاعر، والنوايا، وما إلى ذلك عن طريق الحركات الإيمائية والحركة، يبدو أنه إنجازٌ بشَري على نحوٍ خاص، مثله في ذلك مثل اللغة (وربما الموسيقى). فالقِرَدة العُليا القادرةُ على «التقليد»، لديها قدرةٌ محدودة على تكوين تمثيلات مُحاكية واعية ومتعمَّدة. (في كتاب «أصول العقل الحديث»، يُشير عالم النفس ميرلين دونالد إلى أن «الثقافة المُحاكية» ربما كانت مرحلةً وسيطة حاسمة في التطوُّر البشري، ما بين الثقافة «العرضية» للقردة العليا والثقافة «النظرية» للإنسان الحديث.) وللمُحاكاة قدرةٌ تمثيلية دماغية أكبر وأقوى بكثير من اللغة، وهذا قد يُفسِّر سببَ احتفاظ المرضى الذين فقَدوا اللغة بها في معظم الأحيان. ويمكن أن يسمح هذا الاحتفاظُ بتواصلٍ غني على نحوٍ ملحوظ، لا سيَّما إذا كان من الممكن التوسعُ فيه، وزيادته، وتجميعه بواسطة معجم كما في حالة بات.

لَطالما كان لدى بات شغفٌ بالتواصل (إذ قالت دانا: «لقد كانت هذه المرأة تتحدث أربعًا وعشرين ساعةً في اليوم»)، وكان إحباطُ هذه الثرثرة هو ما أدَّى إلى اليأس والغضب عندما وصلَت أولَ مرة إلى المستشفى، وإلى تحفُّزها الشديد ونجاحها في التواصل بمجرد أن حمَّسَتها جانيت لذلك.

أحيانًا ما كانت ابنتا بات تندهشان من مُرونتها. قالت دانا: «لماذا لا تشعر بالاكتئاب بالنظر إلى تاريخها السابق مع الاكتئاب؟ كنت أُفكر في البداية كيف تمكَّنَت من العيش هكذا … كنتُ أعتقد أنها ستؤذي نفسها.» بين الحين والآخر، كما روَت دانا، كانت والدتها تُشير بإيماءةٍ تبدو كأنها تقول: «يا إلهي، ماذا حدث؟ ما هذا؟ لماذا أنا في هذا الغُرفة؟» كما لو أنَّ الرعب الشديد مِن سَكتتِها الدماغية قد أصابها مرةً أخرى. لكن بات كانت مُدركةً أنها كانت، إلى حدٍّ ما، محظوظةً للغاية، على الرغم من أن نصف جسدها ظلَّ مشلولًا. كانت محظوظةً أن تلف دماغها، على الرغم من اتساعه، لم يُقوِّض قوة عقلها أو شخصيَّتها، وكانت محظوظةً أن ابنتَيها قاتَلتا بكلِّ ما أُوتيتا من قوةٍ منذ البداية لإبقائها في حالةٍ من التفاعل والنشاط، واستطاعتا توفيرَ المزيد من وسائل المساعدة والمُعالجين، وكانت محظوظةً أيضًا أنها قابلت اختصاصيةَ تَخاطُب لاحظتْها بلطف ودقة، وكانت مصدرَ إلهامٍ كبير للغاية على المستوى الشخصي، وتمكَّنت من تزويدها بأداةٍ بالغة الأهمية، «كتابها المقدَّس»، الذي نفعها للغاية.

ظلَّت بات محتفظةً بنشاطها وتفاعُلها مع العالم. كانت، كما قالت دانا، «محبوبة» العائلة، والطابَق الذي تُقيم فيه بالمستشفى أيضًا. لم تفقد القدرة على أسْرِ ألباب الناس («حتى إنها أسَرتك يا دكتور ساكس»، على حدِّ قول دانا)، وتمكَّنَت من الرسم قليلًا بيدها اليسرى. كانت ممتنَّةً لكونها على قيد الحياة، ولكونها قادرةً على فعل كل ما تستطيع فعله، وكان هذا، في اعتقاد دانا، هو السببَ في أن مِزاجها ومعنوياتها كانت جيدةً للغاية.

عبَّرَت لاري عن نفسها بعباراتٍ مُماثلة. فقد قالت لي: «يبدو الأمرُ كما لو أن السلبية قد مُحيت. إنها أكثرُ اتساقًا بكثير، وتقديرًا لحياتها ولمواهب … الآخرين. إنها واعيةٌ بكونها محظوظة، ولكن ذلك يجعلها أكثرَ لطفًا، وأكثرَ مُراعاةً للمرضى الآخَرين الذين قد يُعانون من إعاقةٍ جسدية أخفَّ من إعاقتها، ولكنهم أقلُّ «تكيفًا»، أو «حظًّا»، أو «سعادةً» بكثير.» واختتمت لاري حديثها قائلةً: «إنها المعنى المضادُّ للضحية. إنها تشعر بالفعل بأنها في نعمة.»

***

بعد ظهيرة يوم سبتٍ بارد في نوفمبر، انضممتُ إلى بات ودانا في أحد الأنشطة المفضَّلة لبات؛ التسوُّق في شارع أليرتون، بالقرب من المستشفى. عندما وصلنا إلى غُرفة بات — وكانت تَفيض بالنباتات، واللوحات، والصور الفوتوغرافية، والملصقات الخاصة بالبرامج المسرحية — كانت بات في انتظارنا، وقد ارتدَت بالفعل مِعطفًا مفضَّلًا لديها.

عندما وصلنا شارع أليرتون، الذي كان يعجُّ بالصخب بعد ظهيرة عُطلة نهاية الأسبوع، رأيتُ أن نصف أصحاب المتاجر كانوا يعرفون بات؛ إذ صاحوا قائلين بينما كانت تنطلق مارَّةً بهم على كرسيِّها المُتحرك: «مرحبًا بات!». لوَّحَت للشابة في متجر الأطعمة الصحية الذي تشتري منه عصير الجزر، التي ردَّت على تحيتها قائلةً: «مرحبًا بات!». لوَّحَت أيضًا إلى امرأةٍ كورية في متجر التنظيف الجاف، وأرسلت لها قُبلة، وتلقَّت الردَّ بإرسال قُبلة مُماثلة في الهواء. وكانت شقيقة المرأة، التي استطاعت بات أن تُشير لي إليها، تعمل في متجر الفاكهة. دخلنا متجرًا للأحذية، حيث كانت رغباتُ بات واضحةً للغاية؛ فقد كانت تريد حذاءً طويلًا مبطَّنًا بفِراء من الداخل، لفصل الشتاء المُقبِل. سألتها دانا: «أتريدينه بسحَّاب أم بفيلكرو؟» فأشارت بات إلى أنها لا تُفضل شيئًا معيَّنًا، ولكنها تحرَّكت بكرسيِّها أمام الأحذية المعروضة ثم، بحسمٍ شديد، أشارت إلى الحذاء الذي تُريده. قالت دانا: «لكنه بأربطة!» ابتسمت بات وهزَّت كتفَيها، وكانت تعني: «وماذا في ذلك؟! سيربطها شخصٌ آخر.» إنها لا تستغني عن الخُيَلاء؛ فالحذاء يجب أن يكون أنيقًا مِثلما يجب أن يكون دافئًا. (كان تعبيرُ وجهها يقول: «فيلكرو، حقًّا!».) سألتها دانا: «ما مقاسك؟ تسعة؟» أشارت بات بلا، ثم قسمَت إصبعها؛ وكانت تعني ثمانيةً ونصفًا.

توقَّفنا عند السوبر ماركت، حيث كانت دائمًا ما تلتقط بعض الأشياء لنفسها وللآخرين في المستشفى. كانت بات تعرف كلَّ ممر، وسُرعان ما اختارت ثمرتَي مانجو ناضجتَين لنفسها، وحُزمةً كبيرة من الموز (أشارت إلى أنها ستُعطي معظمها للآخرين)، وبعضَ كعكات الدونات الصغيرة؛ وعند مِنضدة الحساب، أخذَت ثلاثة أكياس من الحلوى. (أشارت إلى أن هذه كانت لأطفال إحدى مساعدات التمريض في الطابق الذي تُقيم به.)

ونحن نمضي في طريقنا محمَّلين بمشترياتنا، سألتني دانا أين كنت صباح هذا اليوم. فأخبرتها أنني ذهبتُ إلى اجتماع لجمعية السراخس في حديقة نيويورك النباتية، مُضيفًا: «أنا شخص محبٌّ للنباتات.» استرَقَت بات السمع، وأشارت بإيماءةٍ واسعة إلى نفسها، وكانت تعني: «أنا وأنت. كلانا يُحب النباتات.»

قالت دانا: «لم يتغيَّر شيء منذ إصابتها بالسكتة الدماغية. فما زالت لديها تفضيلاتها وميولُها القديمة …» وأضافت مُبتسمةً: «الشيء الوحيد الجديد هو أنها أصبحت شخصًا مُزعجًا!» فضحكت بات، متفِقةً معها.

توقَّفنا عند أحد المقاهي. من الواضح أن بات لم تُواجه صعوبةً مع القائمة؛ إذ أشارت إلى أنها لا تريد بطاطسَ منزلية، ولكن بطاطس مقليَّة مع خبزٍ محمَّص من القمح الكامل. بعد تناول الطعام، وضعت بات أحمر الشِّفاه بعناية. (قالت دانا في دهشة وإعجاب: «يا لخُيلائك!».) وتساءلت دانا عمَّا إذا كان يُمكنها أن تأخذ والدتها في رحلةٍ بحرية. فذكرتُ السفن السياحية العملاقة التي رأيتُها تدخل وتخرج من كوراساو، فانجذبتْ بات للأمر واستفسرتْ باستخدام كتابها عمَّا إذا كانت تنطلق من نيويورك. حاولتُ أن أرسم سفينةً في دفتر ملاحظاتي؛ فضحكت بات، ورسمت أفضلَ مني بكثير باستخدام يدها اليسرى.

هوامش

(١) وصف ماكدونالد كريتشلي كيف فقدَ د. صمويل جونسون كلَّ قدرته على الكلام عندما أُصيب بسكتةٍ دماغية في سنِّ الثالثة والسبعين. فكتب كريتشلي يقول: «في منتصف الليل، استيقظ وأدركتُ على الفور أنه أُصيب بسكتةٍ دماغية.» ولكي يُقنع نفسه بأنه لم يفقد عقله، ألَّف جونسون صلاةً باللغة اللاتينية في ذهنه، لكنه وجد أنه لا يستطيع نطقها بصوت عالٍ. وفي صباح اليوم التالي، ١٧ يونيو ١٧٨٣، أعطى خادمَه رسالةً قصيرة كان قد كتبها لجاره في المنزل المُجاور:

سيدي العزيز، لقد شاء الربُّ القدير هذا الصباحَ أن يحرمَني من القدرة على الكلام؛ وبما أنني لا أعرف ما الذي قد يشاءُ أن يحرمَني منه قريبًا من حواسِّي، أطلب منك، عند استلام هذه الرسالة، أن تأتيَ لي، وتعمل لأجلي، حسَبما قد تتطلَّب مقتضياتُ حالتي.

واصَل جونسون كتابةَ الرسائل بثرائه وأسلوبه الفخم المعتادَين على مدى الأسابيع القليلة التالية، بينما كان يستعيد ببطءٍ قدرتَه على الكلام. ومع ذلك، وقع في أخطاءٍ غير معهودة في بعض الرسائل؛ إذ كان أحيانًا يحذف كلمةً أو يكتب كلمةً خاطئة، ثم يُصحح أخطاءه عند إعادة قراءتها.
(٢) كان هذا هو الحال إلى حدٍّ كبير مع السير جون هيل، المؤرِّخ الشهير، الذي أُصيب بسكتةٍ دماغية أصابته بحُبسةٍ تعبيرية. تُقدم زوجته، شيلا هيل، في كتابها «الرجل الذي فقدَ لغته»، روايةً حية ومؤثرةً عن الحبسة التي أصابت زوجَها، والتي كانت مُدمرةً للغاية في البداية، وكيف كان قادرًا، جزئيًّا عن طريق قدرة العلاج الخبير والمستمر، على استعادة الكثير مما بدا أنه قد فُقد على نحوٍ لا يمكن إصلاحُه حتى بعد مرور سنوات. وتُظهر شيلا كيف أن حتى الأطبَّاء المُحترفين قد يرفضون مرضى الحُبسة باعتبارهم «ميئوسًا من شفائهم» أو قد يُعاملونهم معاملةَ الأغبياء، على الرغم من ذكائهم الواضح.
(٣) «خطاب الرئيس»، فصلٌ في كتاب «الرجل الذي حسب زوجتَه قبعة».
(٤) قد تكون بعضُ القدرات العلاجية الاستثنائية لويلكنز قد تأتَّت من أنها نفسها أُصيبت بالشلل الرباعي (فقد كُسرت رقبتُها في حادث سيارة في سن الثامنة عشرة)، لكنها مع ذلك عاشت حياةً مليئة بالحيوية، وكانت شديدةَ الاهتمام بالآخَرين. فقد أدَّت رؤية مرضى ويلكنز لثبات المعالج ومرونته في بعض النواحي حيث يُعاني من الإعاقة هو نفسه أكثرَ منهم، إلى أن يعملوا بجِدٍّ أكثر من أجلها، ومن أجل أنفسهم.
(٥) كتبت بمزيدٍ من الإسهاب عن علاج الحبسة بالموسيقى في أحد فصول كتاب «الولع بالموسيقى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤