الرسالة الثالثة عشرة١

لم أعمل في حياتي عملًا معيبًا تستحيي منه

يا أخي:

أخالك قبل أن كلمتني بهذه العبارة قد استعرضْتَ سنيَّ حياتك منذ طفولتك إلى يومك الأخير، وامتحنْتَ نفسك امتحانًا كليًّا، فلم تجد شيئًا معيبًا صدر منك، ولا وصمةً تافهةً تؤاخذ عليها.

يا أخي:

لقد بلوتُكَ كما بلوْتُ نفسي، وعلمت دخائلَكَ كما أعلم دخائلي؛ لأنك قضيْتَ معظم حياتك بجانبي.

فلَمْ أرَ — وايم الحق — حياةً ترمز إلى المَثل الأعلى أفضل من حياتك، ولا قلبًا أطْهَرَ من قلبك.

كلما شئْتُ أن أراك أستنجد مخيلتي فتعيد إليَّ ملامح طفولتك، ورسم صبوتك وشبابك.

وكلما أردْتُ أن أقرأ تاريخ حياتك أفتح كتاب ذهني، وأتصفَّحه صفحةً صفحةً، فأحيط علمًا عنك منذ ولادتك إلى يوم وفاتك.

الحقَّ أقول لك: إنك مثَّلت رواية الحياة أحسن تمثيلٍ، وحُزْتَ قَصَبَ السبق في جميع أدوارها.

فلم يكُنْ أودع منك في الطفولة، ولا أبرَّ في الصبوة، ولا أكمل في الشباب، ولا أشجع في الموت.

لم تأتِ في حياتك أمرًا فريًّا؛ لأنك كنت حكيمًا جدًّا، تنظر إلى عواقب الأمور قبل إتيانها، وكان شعارك دائمًا هذه العبارة: «لا نجاح بلا حكمة، ولا حكمة بلا تفكير وتروٍّ.»

ولا أزال أَذْكُر بعض أحاديثك التي تَنمُّ عن روائع حكمتك، منها: أنك سَمِعْتَنِي مرةً أشكو لبعض الناس همًّا نزل بي، وكنت لا تثق بهم، فهمَسْتَ بأذني قائلًا: يا أخي: لا تشكو همَّك لمن لا يحبُّك، ولا تُظْهِر ضَعْفَك لمن يجب أن تُظْهِر له مَقْدِرَتَك.

وفي ذات يوم كنا نتحدث عن التضحية فقلت لي: جميلةٌ هي التضحية التي يبشر بها الأولياء، ولكنها اسْمٌ لغير مسمًّى؛ لأن الناس مطبوعون على حِفْظِ كيانهم، ولا تضحية مع حفظ الكيان.

وسمعتك مرةً تقول: إن جميع المصاعب التي تحصل لنا في معترك الحياة ناتجةٌ بالأكثر عن جهلنا طريق الحياة الأمينة لنعيش بمَعْزِل عن المتاعب والمصاعب.

ثم أردفت هذه العبارة: ومن عرف أن يمهد مَصَاعِب نفسه يجب عليه أن يسعى لتمهيد مصاعب الآخرين؛ لأن أفضل الناس أنفعهم للناس.

هذا مثال من أحاديثك، التي كانت تدل على سُمُوِّ فِكْرِك وكمال عقلك، ولم تكن أعمالك سوى نتيجة أحاديثك وتفكيرك العميق.

١  بيروت في ٢٨ أيار سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤