الرسالة الواحدة والعشرون١

عن بلدة الآباء والأجداد

يا أخي:

أبعث إليك بهذه الرسالة عن شرتون، التي هي بلدة آبائك وأجدادك، ومرتع طفولتك وصبوتك.

جئتها البارحة برفقة عيلتي، وكان الوالد الحنون قد سبقنا إليها منذ بضعة أيام.

إن أزقة هذه البلدة وساحتها ومدرستها، ودار كنيستها وبيوتها وحقولها كلها تحمل تذكارات حداثتك، ومعظم سني حياتك في لبنان.

ولهذا السبب تراني الآن أتخيلك أمامي أنَّى توجَّهْتُ، وكيفما حلَلْتُ.

أتمثلك تارةً حدثًا صغيرًا جالسًا مع أترابك في مدرسة القرية، تتعلم أصول الهجاء، وطورًا تبدو أمامي كأنك لم تزل تلعب معهم في أزقة البلدة ودار كنيستها.

ثم أتخيلك، وقد بَلَغْتَ رُشْدَكَ، وانبلج فَجْرُ شبابك، متنزهًا برفقة فتيان القرية وفتياتها، قاطعًا هضابها، ومتنقلًا في بساتينها وحقولها.

كنت في ذلك العهد تستقبل نسيم الفجر، فتبدو كأنك فجرٌ يستقبل فجرًا، أو نسيمٌ يداعب نسيمًا. وكنتَ في الحقل تجني الأقمار، فتظهر فيه كأنك قمرٌ يجني قمرًا.

في مَطْلع شبابك، ما كان الورد أفضل منك لونًا، ولا كان النسيم أخفَّ منك روحًا، ولا أرقَّ لطفًا.

والبيت، ماذا أقول لك عن البيت؟! كان عِشَّنا في الصغر، في كنفه دُرجْنَا، وفي ظلِّ الأبوين وتحت رعايتهما رُبِّينَا.

دخلته البارحة وفي القلب غصَّةٌ، وفي العين دمعةٌ، جُلت فيه، وكل ما فيه يذكِّرني بك يا أخي.

هذه غرفتك، تحوي سريرك وكتبك وبعض أمتعتك، وهذه رسومك العديدة التي تمثلك منذ صغرك إلى يوم وفاتك معلقة كلها في الدار وفي البهو، وفي كل ناحيةٍ من نواحي البيت.

وأما تحاريرك التي كتَبْتَها لي وللوالد الحنون، فلم تَزَلْ كلها محفوظةً بين كتبك، تلوتها البارحة رسالةً رسالةً، فشعرت كأن وجدانك متجسمٌ في تلك الأوراق، وكأن روحك مستترةٌ بها، وسأعيد تلاوتها كل يومٍ، حيث أخال نفسي كأني أستعيد في قراءتها أيام حياتك.

خرجت من البيت إلى الحديقة، التي كُنْتَ ترمقها بعنايتك، وجلست إزاء شجرةٍ من أشجارها، ثم أَخَذْتُ أمتِّع نظري، تارةً في شجر البلوط الباسق، وطورًا في الأزهار اليانعة والأشجار المثمرة.

في هذه الحديقة خاطَبْتُ نفسي قائلًا لها: هنا تحت ظلال البلوط، كان يلعب أخي في صغره، ويتنزه في صبوته.

هذه شجيرات التفاح والمشمش والرمان وما جاورها، قد كان يأكل من ثمارها، ويتعهدها بعنايته.

وتلك مغارس الأزهار والرياحين، قد كان يقطف من أقمارها، ويرمقها بالتفاته.

ثم حوَّلْتُ نظري إلى الأعالي، فشاهدت الكرمة المشرفة على البيت، فصعَدْتُ إليها وكان العنب لم يزل حصرمًا، فاكتفيت بأن أستظل الدوالي، وأن أتمثلك — يا أخي — آتيًا من كرمة الرب إلى كرمة العنب؛ لتجلس في ظلها إزائي.

أجل تخيلتك في الكرمة كأنك حقيقةٌ بجانبي، ضممْتُكَ إلى صدري، وحنوت عليك بكل قواي، وخاطبتك بلساني، وناجيتك بنفسي، معربًا لك عن شدة شوقي إليك، وفرحي بلقائك.

ثم انتفضت، فزال الحلم عني، فوجدت نفسي وحيدًا في الكرمة، وبعيدًا عنك بُعْدَ الحياة عن الموت.

يا أخي، إن جلوسك بجانبي كان حلمًا، ولقاؤك سرابًا.

١  شرتون في ١٩ تموز سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤