الرسالة الثالثة والعشرون١

هل تفتكر بنا وبجثمانك البالي

يا أخي:

حلمت في الليلة الماضية أني عدت إلى عاصمة المكسيك، وذهبت توًّا إلى حديقة تشبولتباك، تلك الحديقة التي كُنْتَ تؤثرها على كل حدائق العاصمة ومتنزهاتها.

هناك طفِقْتُ أمشي بين رياضها الغنَّاء وأشجارها الباسقة، متأملًا بك — يا أخي — وبالأيام الماضية، التي صرَفْنَاها تحت سماء المكسيك؛ حيث كنا نرتاد هذا الفردوس الأرضي معًا.

جلسْتُ إلى ضفاف بحيرتها الجميلة، أُمَتِّع الطرف في مناظرها الخلابة، وفي القوارب العديدة التي تقلُّ المتنزهين، وتسير بهم ذهابًا وإيابًا.

ابتدأت الشخاتير تَمُرُّ أمامي واحدة تلو أخرى؛ هذا قارب في وسطه خوان عليه مأكل ومسْكِر، والناس حوله يشربون ويأكلون.

وذاك قارب يحمل أناسًا يعزفون ويرقصون ويغَنُّون.

وهناك قارب يضم رهطًا يتكلمون في التجارة والصناعة والمشاريع الاقتصادية؛ فحدَّقْتُ بنظري في هذا القارب الأخير، وأصغيت لألتقط كلامهم، فرأيتك — يا أخي — بينهم، وسمعتك تتكلم معهم. فخاطبتك: قف يا أخي، أنا هنا، فلم تَقِفْ، فناديتك بأعلى صوتي، فوقَفْتَ في القارب دون أن تنبس ببنت شفةٍ؛ فطرحْتُ عليك هذا السؤال: «هل تفتكر بنا، وبجثمانك البالي؟» فلم تُجِبْ، ومشى القارب، وذَهَبْت في سبيلك.

وبينا عيناي شاخصتان بك تشيعانك استيقظْتُ فجأةً؛ فإذا بي على فراشي، فأيقنت أن مرآك في القارب كان حلمًا، والآن جِئْتُ أسألك وأنا في يقظتي وكمال عقلي ما سألتُكَ إياه في الحلم: هل تفتكر بنا يا أخي، أم أن النفس متى تَحَرَّرَتْ من المادة تفقد شعورها، وتنسى حياتها العالمية، كما ينسى المرء أوائل طفولته؟!

أو بالأحرى: إن الشعور يتوَّلد من الجسم، فمتى زال الجسم زال شعوره.

وأما أنا فأعتقد كل الاعتقاد بأن شعور الجسم هو غير شعور الروح.

كنت — يا أخي — في هذه الحياة تروي حقل ذهنك من ينبوع نفسك، وتنير صراطك القويم من منارة روحك، فمن هذا الينبوع أطلب الآن ماء، ومن تلك المنارة هديًا.

إذا كانت الأرواح لا صِلَةَ رَحِمٍ لها حتى تفكر في الأهل والبنين والإخوة والمُحِبِّين، وتشعر بألم فراقهم، كما يَشْعُر بنو البشر، فإن بينك وبيني صلتين: صلة الرحم، وصلة الروح.

وإن ذهب الموت بأخُوَّة المادة، فلا يذهب بأخوَّة الروح، كُنْتُ وإياك في عالم الفكر والتدبير والعمل كأننا واحدٌ فقط، وكانت الأخوة الروحية بيننا تبدو بتمامها في مُخْتَلِف أعمالنا وطُرُق تفكيرنا.

فإذا كانت الأنفس بعد انتقالها لا تعبأ بالمادة، ولا تأبه لها، أفلا تفتكر نَفْسُك بنفسي، وهي شقيقتها، ورفيقتها في هذه الحياة الدنيا!

تجلَّيْ إذن يا رُوحَ أخي أمامي، واعطفي عليَّ كما كنت تعطفين في الحياة، فإذا كان جسدي يَصُدُّك عن هذا التجلي، ويحبس نفسي عنك، فلا كان هذا الجسد، ولا كانت هذه الحياة.

يا أخي:

مهما كانت نفسك قد ابتعدت عن المادة، أفلا تفتكر علي الأقل بجثمانها البالي الذي عتقْتَهُ، وكانت في الحياة تحرص عليه أشد الحرص، وتسهر على تزيينه وتجميله! أو أنها تحسبه بمثابة ثوب تعطَّل فنزعَتْه عنها، ومَضَتْ في سبيلها!

إن كان الأمر هكذا، فقلَّما تُفَكِّر به، كما أن المرء قلَّما يُفَكِّر بعتيق لباسه وخِرَقه البالية.

يا أخي، يقول الطبيعيون أنْ لا شيء وراء الذرة، التي هي جوهر الحياة ومنها تتركب المادة على اختلاف أنواعها، فإذا كان الحق بجانبهم، فتكون مخاطبتي لنفسك كمن يخاطب العدم.

وأما أنا فإني أعتقد بوجود النفس وخلودها، كما أعتقد بخلود جوهر المادة أيضًا؛ لأني أرى الوجود على نوعين: وجود مادي، ووجود روحي. فالوجود المادي مصدره الذرة، أو الكهرب، وأما الوجود الروحي فمصدره النفس.

ولا أعتقد بأن الذرة، أو الكهرب يحوي الوجودين.

١  شرتون في أول أيلول سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤