الرسالة الرابعة والعشرون١

هل الشعور النفساني يرافق النفس أو ينتهي مع الجسد؟ وأيُّهما من الاثنين مصدر المساوئ؟

يا أخي:

منذ بضعة أيام انتابتني حمَّى، هزت أعصابي هزًّا، فشعرت بصداعٍ وألمٍ لا مزيد عليهما.

غابت شمس النهار، ولم تَغِب عني تلك الحمَّى الخبيثة، بل بالعكس ارتفعت درجتها في أوائل الليل ارتفاعًا هائلًا، فأمسيت أتقلب على أحرِّ من جمر الغضا، وأتلوَّى على فراشي كما تتلوَّى الأغصان تجاه العواصف، وأخذ القلب يُسْرِع في نبضاته إسراع الهارب من وجه عدُوِّه، والخائف على حياته.

في تلك الليلة الرائعة، وتحت وطأة الصداع القاتل والقيء الشديد والألم الذي لا يطاق، سمِعْتُ في داخلي كأن صوتًا يناجيني: تشجَّع يا توفيق، غدًا أو بعد غدٍ تستريح، ستزول الحرارة، وينتهي الألم، سواءٌ انتصر الداء على الجسد، أو الجسد على الداء.

لم أتَبَيَّنْ مصدر هذا الصوت الذي آساني، وأَخَذَ بيدي في أشد الساعات ضيقًا وألمًا، هل هو خارج من خلايا الدماغ، أو من جوهر النفس.

ولكني أعلم أني حَصَلْتُ على الراحة فعلًا في اليوم الثاني، وانتهى الكفاح بانتصار الجسد على الحمى انتصارًا تامًّا.

فكما زال الألم بانتصار الجسد على الداء، هكذا يزول أيضًا لو كان الأمر بالعكس، وانتصر الداء على الجسد.

لقد نظرتك — يا أخي — وأنت تتقلب على فراش الأوجاع، وتغلي من وطأة الداء غليان القدر على النار، وشاهدتك بعد وقوعك في مخالب الموت باردًا مستريحًا؛ لأن الموت قضى على جثمانك وعلى شعورك، وعلى الداء والألم جميعًا.

يا أخي، مهما كانت وطأة الشعور بالآلام الجسدية شديدة؛ فإنها — ولا شك — تنتهي بانتهاء الجسد، أما الشعور النفساني فماذا يحُلُّ به بعد الوفاة؟

هل خَسِرَتْ نفسُك الصالحة شعورها بالرحمة والرفق والعدل؟ ألا تتألم الآن من فِعْل الظلم وسائر المساوئ، كما كانت تتألم في هذه الحياة، أم أنها تعيش الآن في عالمٍ كاملٍ لا يحتاج إلى شعور؟

لو كان هذا الكون كاملًا بمخلوقاته لما كان للشعور معنًى؛ لأن الشعور يتولد من الحاجة لا من الكمال.

فكما أن الشعور بالجوع دليل الحاجة إلى الغذاء، والشعور بالراحة دليل التعب، هكذا لولا الظلم لم نَشْعُر بالعدل، ولولا البغض لم نُحِسَّ بالمحبة، ولولا الإساءة لم نشعر بالإحسان.

يا أخي:

أسألك الآن عن أبناء السوء ما هو سبب سوئهم؟ هل الشر يخرج من جوهر النفس، أو من جوهر الجسد؟

فإذا كان الجسم مصدر الشر، فمتى تحرَّرتْ منه النفس تَتَحَرَّر أيضًا من الشر، وإذا كانت هي المصدر، فكيف تتحول عن شرورها؟

إن العوسج لا يتحول عنبًا، كما أن العنب لا يَفْضُل العوسج إلا بأصله.

وأما أنا، فلا أعتقد أن في جوهر النفس سوءًا؛ لأني كلما أسأت أسمع صوت ضميري يؤنبني على الإساءة، وصوت الضمير هو صوت النفس؛ ولهذا السبب يتراءى لي أن النفس كاملة بحد ذاتها، والجسم وحده مصدر المساوئ؛ لعدم كماله.

فإذا كان الطحَّان ماهرًا، وكان الطحن سيئًا، يكون الخلل ناتجًا من الطاحونة لا من الطحان، فعندئذ لا يصلح الطحن إلا بإصلاح الطاحونة.

وهكذا الأجسام متى صلحت وتعالجت نقائصها وعاهاتها؛ تصلح الأعمال وتزول المساوئ.

هذا هو اعتقادي يا أخي، سردْتُه بكل تجرُّدٍ وإخلاصٍ.

١  شرتون في ١٢ أيلول سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤