الرسالة السادسة والعشرون١

ما هي حياة الإنسان على الأرض بالنسبة إلى الأبدية؟ ما هي الأبدية؟

يا أخي:

إنَّ مَنْ يبلغ الثمانين من العمر يُعَدُّ من كبار المعمرين من أبناء الجنس البشري، مع أن هذا الرقم من السنين — الذي يحسَبُه بنو البشر طويلًا، ولا يعيشُه إلا القليلون منهم — لا يُعَدُّ شيئًا بالنسبة إلى الأبدية.

إن قياس قطرة الماء إلى البحر أقرب إلى العقل والمنطق من قياس عمر الإنسان إلى الأبدية.

لعمري، يحار العقل البشري — مهما كان رياضيًّا ثاقبًا — حينما يأتي على تحديد الأبدية، بأي شيء يقيسها، وكيف يحددها وهي لا حدود لها؟!

هل تقاس بالأرض والشمس وسائر الكواكب المحدودة؟ لا، فلا يقاس المحدود باللامحدود، والمتناهي باللانهاية.

يا أخي:

عبثًا أُجْهِد عقلي كلما فكرت بحل رموز الأبدية، إنها — لعمري — لغزٌ لا يُحَلُّ، وقضيةٌ لا يُدْرِك كُنْهَها الذهنُ البشري؛ لأنها ترمز إلى الله الأبدي، الذي لا تُدرَك أسراره ورموزه.

إذن فالأبدية في نظري هي ذات الله، كما أنه تعالى هو الأبدية بحذافيرها.

أجل، كلما خلوْتُ بنفسي أتساءل: ما هي حياة الإنسان علي الأرض؟

فإذا كانت حياته تقتصر على هذه السنين القليلة التي يعيشها، كان خيرًا له عدم وجوده.

إن أطوار الطفولة والصبوة والشباب، ما هي بالحقيقة إلا مراحل درسٍ واستفادةٍ، وقليلون هم الناس الذين يبلغون الكهولة، ويتمتعون بما اكتسبوا من خبرة سنيهم الماضية، وَنَدَرَ منهم من يبلغ الشيخوخة معافًى، ويتمتع بحكمة الكهولة.

إن الناس يموتون غالبًا دون أن يتمتعوا بحكمتهم، ومتى كان الأمر هكذا، وكانت الحكمة والخبرة تذهبان ضياعًا، فما هي نتيجة الحياة؟!

يا أخي، يتراءى لي أنه لا شيء يَذْهَب ضياعًا في هذا الوجود.

إن ذرة الرمل وقطرة الماء لا تزولان؛ فكيف تزول أعمال الإنسان وحكمته؟!

أليست هذه الحياة تتركب من روح ومادة؟ والروح هي الجوهر، والمادة هي العرض؛ إذ من الجوهر تتولد القوة الأدبية، ومن المادة تتولد القوة البدنية، فإذا كانت المادة التي هي قشور الحياة وعرضها لا تفنى في الموت، بل تتجدد على الدوام، فكيف تفنى الحكمة التي هي جوهرها ولبابها؟!

وفضلًا عن ذلك؛ أليس للوجود غايةٌ؟! وهل يا تُرى يصل المرء في حياته القصيرة على الأرض إلى غاية وجوده؟!

إذن يُخيَّلُ إليَّ أن للوجود نظامًا يشبه نظام الجامعات العلمية، أو أنه يُدعى — بحق — جامعةَ الجامعات.

فكما أن الطالب لا يَبْلغ غايةَ عِلْمِه في درس سنةٍ واحدةٍ، بل عليه أن يواظب على دروسه أعوامًا عديدة، وأن يعلو في معارفه صفًّا صفًّا إلى أن يُدْرِك نهاية علمه، هكذا الإنسان لا يَبْلغ غايةَ الوجود في هذه الحياة الدنيا، بل عليه أن يحيا حياةً جديدةً ليُتَمِّم معارفه، ويعلو في خبرته صفًّا صفًّا، إلى أن يدرك الغاية القصوى من وجوده.

ولهذا السبب تراني أعتقد كل الاعتقاد بأن خبرة هذه الحياة لا تذهب عبثًا، بل بالعكس؛ لها فائدةٌ مزدوِجةٌ.
  • الفائدة الأولى: ما يُوَّرِّثُه المرء لأبناء جنسه؛ لأنه كما يرث الخلف عقار السلف ونضاره، هكذا يرث أيضًا عِلْمَه واختباره.
  • والفائدة الثانية: ترجع إليه من حيث يزوِّد نفسه حكمةً في خبرة دنياه، ويزيدها ثقافةً ورقيًّا، ويخطو بها في المعرفة خطوة إلى الأمام في مراحل حياته الباقية.

يا أخي، إن هذه الحياة العالمية ليست في نظري كُلَّ الحياة، بل تمثل فقط مشهدًا من مشاهدها، ودورًا من أدوارها، وأما الحياة فإني أتمثلها أبديةً كالأبدية.

١  شرتون في ١٠ تشرين الأول سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤