الرسالة الثامنة والعشرون١

العدل العام

يا أخي:

تراني كلما فكرت في العدل العام، وفي كيان الجنس البشري، يبدو لي — لأول وهلةٍ — أنه يستحيل على المرء مهما كان كريمَ الأخلاق فاضلًا أن يكون عادلًا عدلًا عامًّا؛ لأن العدل العام يُوجِب البعد عن الأذى وعدم الاعتداء.

ولهذا السبب تراني دائمًا أتساءل: كيف أكون عادلًا في هذا الكون، وقادرًا أن أحفظ كياني؟! ما زال حفظ الكيان يتعلق بالاعتداء على كيان الغير.

كيف أعدل؟! ما زلت أفتك بالحيوان الأمين لأقتات بلحمه، وأتنعم بجلده!

ماذا عمل الحيوان ليستحق هذه العقوبة؟

وإذا امتنعت عن أكل اللحوم، وعفوت عن الحيوان كما تعفو البراهمة، وأخذْتُ أتغذى بالأثمار والنبات فقط، أفلا أتساءل أيضًا: بأي حقٍّ أفتك بنبات الأرض وأستحله طعامًا؟!

كيف أعدل؟ ما زلت — بلا سببٍ — أستأصل كيان الثمر لأحفظ كياني.

وإذا عاهدت نفسي ألا أعتدي على الحيوان، ولا على النبات، حفظًا لناموس العدل العام، فكيف أعيش؟!

هل أقدر أن أحيا بلا غذاءٍ؟ لا.

هل أَحْصل على غذائي دون أن أفتك بغيري؟ لا.

إذن ما العمل لأحفظ العدل وكياني؟

إن العهد القديم يَنُصُّ في سفر التكوين: أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته ومثاله، وسَلَّطَه على سَمَك البحر، وعلى طير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، يضحِّي منها بما يشاء، وفقًا لحاجاته وحفظًا لسلامته.

ولكن المُطلع على ناموس الطبيعة، والمفكر تفكيرًا صائبًا في خفايا الكون وأسراره، يبدو له جليًّا أن المبدع لم يميز في خَلْقِه الوجودَ إنسانًا عن حيوانٍ ولا حيوانًا عن نباتٍ؛ لأنه — تعالى — سلك طريق العدل العام في السُّنَّة التي اسْتَنَّها لجميع مخلوقاته، ألا وهي سنَّة الجهاد، وكل من جاهد سادَ.

إن هذه النتيجة التي استَخْلَصْتُها من درس الكون تُنَاقِض الكتاب، ولكنها أَقْرَب إلى عدل الله في مخلوقاته، وفضلًا عن ذلك إن ناموس الطبيعة يؤيدها، وما ناموس الطبيعة سوى ناموس الأخذ والعطاء، الذي يعمُّ الكائنات بأسرها.

وهذا الناموس يُدعَى — بحقٍّ — ناموسَ العدل العامِّ؛ لأن كل ما في الوجود يأخذ ويعطي.

إن الأرض تستمد نورها من الشمس، ثم تمد غيرها بالمِثْل قوةً ونورًا، وهكذا الأحياء جميعهم يأخذون ويعطون، فكما يأخذ المرء كساءه وطعامه من الحيوان والنبات، هكذا يأتي يومٌ يعطي كل ما يأخذه؛ إذ يموت فيصبح جثمانه طعامًا لنبات الأرض وحشراتها.

يا أخي:

هذه هي حياة الإنسان المادية، وأما حياته الأدبية فهو حرٌ بها؛ فإذا شاء كان فاضلًا وعادلًا، وإذا لم يشأ كان من العابثين بالعدالة والفضيلة.

ولكنه مهما عاش طويلًا، وتمادى بالظلم، وعبث بالحق فهل يدوم على الأرض جوره وعدوانه؟ لا؛ لأن يد الموت ستطاله، والعدل العام يقتصُّ منه، عاجلًا كان ذلك أم آجلًا.

هذا هو ناموس الوجود، ناموس العدل الإلهي.

١  بيروت في ٧ ت٢ سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤