الرسالة الثانية١

أين أنت يا أخي؟

في صباحي ومسائي أسألك يا أخي، أين أنت؟!

سؤالٌ مُبْتَذَلٌ وجَّهَهُ قبلي ملايين من الأحياء إلى ملايين من الأموات، ولم يُجابوا.

لعمري يستحيل علينا — نحن الأحياء — مخاطبة الأموات؛ لأننا نجهل سر الموت.

وأما أنتم — أيُّها المنتقلون إلى رحمة الله، الذين امتحنوا الحيَاتَيْن وعَرَفُوا الدارَيْن — لماذا لا ترشدونا إلى داركم، ولا ترسُموا لنا سُبُل مناجاتكم، وكيفية الوصول إلى مخاطبتكم؟

ألا تحنُّون إلينا، كما نحنُّ إليكم؟!

يا أخي:

لا أسألك الآن عن جثمانك، لأني أعلم أنه عاد إلى التراب الذي جُبِلَ منه، ولكني أطلب منك عِلْمًا، أين هو ذلك الوجدان الذي كان يحوي رجاحة عقلك وسلامة ضميرك؟!

وأين هي تلك الشواعر الرقيقة التي كانت ترافقك في حياتك؟! وبكلمةٍ وجيزةٍ: أين هو ذلك الجوهر الذي كان ينير ذِهْنَك، ويقودك إلى الصراط القويم؟!

إن جوهرك لم يَمُت يا أخي، فكما كُنْتَ حيًّا في الجوهر قبل أن ولدتك أمك، هكذا أنت لم تزل حيًّا بعد مَوْتِك.

ولكني لا أدري أين أنت؟!

يا أخي:

إذا لم تشأ مخاطبتي، وأنا مستملِكٌ حواسِّي، زُرْني في الليل ساعةَ رقادي، واكشف لي عن جوهر ذاتك، وعَلِّمْنِي كيف أناجيك.

انزع — إن استطعت — هذا الحائط الكثيف القائم سدًّا منيعًا بين عالمك وعالمي، ثم تجلَّ عليَّ بروحك، وهَبْني معرفة الآخرة، وحقيقة الحياة بعد الموت.

أشْرِفْ لحظةً مِنْ كوة سمائك، وقل لي — على الأقل — أين أنت؟

١  بيروت في ٣٠ آذار سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤