الرسالة الثالثة والثلاثون١

جنازات

يا أخي:

ذهبت البارحة لزيارة صديقٍ مريضٍ في أحد المستشفيات؛ فشاهَدْتُ هناك جنينًا أجْهَضَتْه أمُّه في الشهر السابع.

فقلت في نفسي: أفما كان الخير لهذا الجنين عَدَمَ وجوده؛ إذ ما هي الحكمة من وجوده؟!

وبينما أنا أفكر في هذا الأمر خرجت إلى الشارع، فنظرت جنازة طفلٍ صغيرٍ، قيل لي: إنه مات بعد ولادته ببضع دقائق. لقد أشْرَقَتْ شمس حياته كالبرق، وغربت كالبرق.

فما هي الحكمة من شروقها وغروبها؟

ثم سرت في طريقي، فإذا بي أمام جنازة طفلٍ، بلغ السنة الأولى من عمره، تَعَلَّمَ كلمةً واحدةً نطق بها ومات.

فما هي غاية الحياة من هذه الكلمة؟

ثم واصَلْتُ السير إلى أن بلغْتُ منتهى الشارع، فاصطَدَمْتُ هناك بأربع جنازاتٍ، واحدةٍ تلو أخرى.

جنازة صبي بلغ السابعة من عمره، كان يرتاد المدرسة ليتعلم أصول القراءة والكتابة.

وجنازة مراهق كان يجاهد في تحصيل العلم فمات دون نَيْل مُنَاه.

وجنازة شابٍّ في عامه العشرين، دَهَمَهُ الموت بعد أن أتم دروسه، ونال شهادته العلمية، فزهقت روحه وهو مُشْبَعٌ بأمل الحياة وأحلام الشباب.

وجنازة رجلٍ أحرز ثروةً طائلةً بجده واجتهاده، ثم مات في روعة شبابه وكمال نشاطه، دون أن يتنعم بماله ويستفيد من أتعابه.

ما هي الحكمة الخفية التي قضت على الجنين في أحشاء أمه، وعلى الطفل إثر ولادته، وعلى الصبيِّ والمراهق والرجل البالغ الشباب؟

ما هي غاية وجودهم، ما داموا لم يُفسَحوا مجالًا للعمل، وللانتفاع من العمل؟

•••

إن الآية القائلة: «ما كُتِبَ قد كُتب» لا تعني عالم الإنسان وحده، بل عالَمَي الحيوان والنبات أيضًا.

فكم من حيوانٍ يموت في أحشاء أمه، أو إثْر ولادته، وحيوان يعيش إلى أن يبلغ نهاية عمره!

وكم من زهرةٍ تَذْوِي قبل تفتيح أكمامها، وزهرة تعيش إلى أن تبلغ هرمها!

كيف أعلل سبب الموت في بدء الحياة وفي زهوتها؟!

هل أعلل ذلك في الصلاح والطلاح؟ أعني بأن أعتقد بأنه لو عاش الذي كُتِب له الموت في أوائل حياته لكان من الآثمين؟ لا، لا أقبل هذا التعليل، ما زِلْتُ أشاهد كثيرين من الأشرار عاشوا حتى الهرم؛ بينما غيرهم من الأخيار لم يبلغوا الكهولة.

وفضلًا عن ذلك، فالشمس تشرق على الأخيار والأشرار بالسواء.

هل أعتقد إذن بما ارتآه شاعر الجاهلية وحكيمها زهير ابن أبي سلمى؛ حيث يقول في معلَّقَته المشهورة:

رأيتُ المنايا خَبْطَ عشواء من تُصِبْ
تُمِتْه ومن تخطئ يُعَمِّر فيهرمِ

فإذا كان الأمر هكذا، يكون العرض هو سبب المنايا، وهو الذي يفعل فعله الذريع في جميع الأحياء على اختلاف أجناسهم وأعمارهم.

فكما يجرف السيلُ العرِمُ كل ما يصادفه في طريقه، صغيرًا كان ذلك أو كبيرًا، هكذا يبيد العرض كل شيءٍ في سبيله.

ولكن أليس لهذا العرض نظام يتمشَّى عليه، كما تتمشَّى الكائنات على أنظمتها؟

أو أنه فوضوي، ثار منذ البدء على قوانين الكون، ولم يزل ثائرًا لا يقبل نظامًا، يسير كيفما يشاء، ويخبط في سيره خَبْط عشواء.

•••

يا أخي:

لقد أجهدت عقلي باطلًا في حل قضية الحياة؛ لأني لم أَصِلْ عن طريق العلم إلى تفهُّم هذه الحكمة الخفيَّة، التي تأمر بولادة حيٍّ، ثم تقضي عليه قبل أوانه.

ولهذا السبب تركت العلم جانبًا، وأخَذْتُ أستنجد مخيلتي لحل هذه المعضلة التي استعصت على ذهني.

والخيال دائمًا يسبق الواقع، كما أن الواقع يتولد من الخيال.

إن مخيلتي تُملي عليَّ الآن بأن هذه الحياة ليست هي بالواقع سوى روايات متسلسلة، تتمثل على مسرح اللانهاية، ولكل روايةٍ أدوارها وفصولها ومشاهدها المتنوعة، وعلى كل حيٍّ أن يُتقن تمثيل دَوْرِه جد الإتقان.

ومن لم يُحسن تمثيل مشهدٍ، أو فصلٍ من دَوْرِه يُعاد إلى تمثيله إلى أن يحسنه.

ولهذا السبب، يبدو لي أن الذي جاء هذا الوجود ومات جنينًا أو طفلًا أو صبيًّا أو مراهقًا أو شابًّا أو رجلًا، ولم يتقن تمثيل دوره يُعاد إلى تمثيله في العالم الثاني، أو في غيره من العوالم.

يا أخي:

وهذا في اعتقادي ما عناه السيد المسيح بقوله: «عند أبي منازل كثيرة.»

١  بيروت في ١٠ ك١ سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤