الرسالة التاسعة والثلاثون١

من حوادث الحياة: انتصار الحق على الباطل

يا أخي:

نهار البارحة شَهِدْتُ مشاجرةً عنيفةً، وَقَعَتْ بين رجلين على بعض دريهمات.

كلٌّ قام يبرهن أن له مالًا بذمة رفيقه، كلٌّ قال إن الحق بجانبه، كلٌّ أَقْسَمَ بدينه، وبشرفه، وبالله العظيم أن ما ينطق به هو الصواب.

فوقَفْتُ برهةً، أتأمل بهما حائرًا ذاهلًا، ثم أخذا يتبادلان الكلام الجارح، ثم انقض كلٌّ منهما على الآخر يتضاربان ويتلاكمان.

فعندئذ دخَلْتُ لأحول بينهما، ثم سألتهما عن القيمة التي يتشاجران عليها، فأجابا أنها تبلغ مائتي غرش سوري، وقد ادَّعى كلٌّ منهما بهذا المبلغ على قرينه، وكلٌّ منهما أقسم بشرفه ودينه أنه يقول الصدق، ولا يعرف الكذب ولا البهتان.

فعندئذ أخذت كُلًّا منهما على حدة، ونَقَدْتُه القيمة التي يطلبها، ثم اجتمعْتُ بهما معًا وخاطبتهما قائلًا: أنتما تعتقدان بأن المال هو غاية الحياة، ولهذا السبب تسعيان كل السعي وراء تحصيله حقًّا كان أم بُطْلًا.

ولكن ألا تعلمان أن للحياة غايةٌ نبيلةٌ هي أسمى من المال؟ إنَّ أسمى غايات الحياة هي معرفة الحق، والاعتصام بحبله. والآن فكما نِلْتُما مني مُنَاكُما حلالًا، فإني أرجو منكما أن تقولا الحق؛ لِيَنَالَ الحقُّ منكما مُناه.

فعندئذ قام على الإثر أحدهما وقال: لقد أثَّر بي كلامك أيها الرجل؛ ولهذا السبب أَعْتَرِف لك بصراحة أن الحق في هذه القضية كان بجانب رفيقي لا بجانبي؛ لأن ادعائي عليه كان باطلًا.

فشكرته على إقراره، ثم رَجَوْتُ منه أن يكون دائمًا بجانب الحق؛ لأن صاحب الحق — ولو كان فقيرًا — فالحق يُسْعِده ويُغْنِيه، وصاحب البُطْل — ولو كان غنيًّا — فالبُطْل يفقره ويضنيه، فوعدني خيرًا، ثم انصرف ورفيقه شاكرَيْن.

يا أخي:

كلما تَأَمَّلْت في هذه الحادثة التي جَرَتْ أمامي بين رجلين أُمِّيَّيْن ينتميان إلى الطبقة الجاهلة من طبقات الناس، وكيف اختلفا، ثم انتهى اختلافهما بتضحية بسيطة كانت سبب إظهار الحق والإقرار به، مما جعلني أن أُغَيِّر اعتقادي في عقلية الناس وطبيعتهم الفاسدة، وأن أُومِن بأن قابليتهم لاكتساب الخير والاعتصام بحبل الحق عظيمة جدًّا.

ولهذا السبب أصبحت متفائلًا في مستقبل الناس على الأرض، ومُعْتَقِدًا كل الاعتقاد بأنهم سيزدادون مع الزمن رُقِيًّا في أدبياتهم وأخلاقهم، كما يزدادون تقدمًا في علومهم وصناعاتهم.

فكما تُصَفَّى المياه، وتزداد نقاءً في مُوَاظَبة تكريرها، هكذا يترقى الناس، وتُصَفَّى ضمائرهم في تعاقُبِهم جيلًا إثْر جيلٍ.

١  بيروت في ٣ شباط سنة ١٩٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤