الرسالة الثامنة١

يا توفيق أنت لم تنظر أحدًا يتخبط في دَوْر نزاعه، قُم الآن وشَاهِدْ نزاع أخيك

يا أخي:

لقد خاطبتك مرةً، حين كنا نتحدث عن الموت أني لم أُشَاهِد امرءًا محتضرًا أمامي، فتمثَّلَ ذلك الحديث أمام ذِهْنِك ساعة احتضارك، وقُمْتَ تُرَدِّده على مسامعي بوضوحٍ تامٍّ.

إن صوتك المتقطع الذي لَفِظْت به هذه العبارة: «يا توفيق، أنت لم تَنْظُرْ أحدًا يتخبط في دَوْر نزاعه، قُم الآن وشاهِدْ نِزَاع أخيك.» كان صوتًا روحانيًّا، خَرَجَ من أعماق نفسك لِيَبْلُغ أعماق نفسي، وهَجَرَ كيانك ليستقر بكياني.

هو حيٌّ فيَّ أشعر به دائمًا، يهمس نبراته في ذهني، وينفث زفراته في جناني.

يا أخي:

لم أَزَلْ حتى الآن أرتجف ارتجافًا حين أَتَذَكَّر ساعة فاجأتك النوبة القلبية، ودعاني طبيب العائلة إلى مخدعك، وقال لي: إن أخاك بحالة الخطر.

فنَظَرْتُك يائسًا، وهرولْتُ مسرعًا إلى الأطباء أستنجدهم؛ لينقذوك من غائلة الموت الذي أصبح على قيد باعٍ منك.

ثم عُدْتُ والأطباء، وكان الموت ببضع ثوان سبقنا جميعًا.

رأيتك — ويا لَهَوْلِ ما رأيتُ — جثةً هامدةً، لا حراك فيها، والأطباء حولَكَ يتشاوَرُونَ في سبب موتك.

وأما أنا ففي بادئ الأمر لم أُصَدِّق ما حلَّ بك، وأخذت أناديك بأعلى صوتي، وألتمس منك جوابًا، ولكن عبثًا حاولت ذلك؛ لأنك كنت رهين المنون.

لم أنظرك يا أخي ساعة احتضارك، ولكن عقيلتي التي كانت تَمْسَح عن جبينك عَرَق الشدة، أخبَرَتْني كيف أَسْلَمْتَ روحك كالبرق، وانطفأ سراج حياتك، كما تنطفئ الشمعة في الهواء.

يا أخي:

لم تُظهر ألمًا شديدًا في ساعة نزاعك، ولا وَجِلْت أمام الموت، ولا تأوَّهْتَ على خسران حياتك، مع أني أعهدك تحب الحياة حبًّا جمًّا، وتُحَافِظُ على كيانك محافَظةً شديدةً، فكيف بك وقد أظهرْتَ كرهًا للعيش، وازْدَرَيْتَ بدنياك، وما فيها من جمالٍ ومالٍ، دون أن تعتد بهما.

كُنْتَ جميلًا في الموت بِقَدْر ما كنت جميلًا في الحياة، وكان العُوَّاد جميعهم يَرَوْنك كالنائم نومًا هنيئًا لا كالفاقد الأجل.

نظرْتُكَ النظرةَ الأخيرة على باب القبر، هناك فتَحْتُ التابوت بيديَّ، وقبلتك قبلة الوداع، وكان وجْهُكَ لم يَزَلْ جميلًا مع أن القضاء كان قد حلَّ بك منذ أكْثَرَ من ثلاثين ساعة.

وَضَعَكَ الحفَّارون في قَبْرك بعد أن أَغْلَقُوا تابوتك جيدًا، ثم ابتدأ المؤبنون يتسابقون على تأبينك، مُعدِّدين مناقبك، وجميل سجاياك، وما أن انتهَوْا حتى أخذ الحفَّارون يهيلون التراب عليك، وأنا واقفٌ بقرب رمسك، ذاهل العقل، مكسور القلب والجناح، وحولي جمعٌ غفيرٌ من المشيِّعِين الذين كانوا واقفين مِثْلِي حاسِرِي الرءوس، وخاشعين أمام ضريحك.

أودعْتُكَ الثرى، وعُدْتُ وجمهورُ المشيِّعِين إلى البيت، ولكن فِكْرِي لم يَعُدْ معي، بل بَقِيَ الليلَ بطوله يجُول فوق ضريحك، ثم عاد إليَّ في الصباح برهةً، ثم رَجَعَ إلى مَقَرِّكَ، ولم يَزَلْ حتى الآن، يَذْهَب إليك ويعود إليَّ.

لقد أقمت فِكْرِي رسولًا بينك وبيني، ولكنه لسوء الحظ رسولٌ خائبٌ، لا فائدة منه، ما زال يقرع بابك ولا تفتح له، ويناجيك ولا تناجيه، ويستجيبك ولا تستجيبه.

١  بيروت في ٥ أيار سنة ١٩٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤