مقدمة

وضحنا في الصفحات التالية فكرة الديمقراطية كما أنشأها الإسلام لأول مرة في تاريخ العالم، ودعانا إلى هذا البحث أن الأمم الإسلامية في عصرنا تنهض وتتقدم، وأنها أحوج ما تكون في هذه المرحلة خاصة إلى الحرية والإيمان متفقين؛ لأن الحرية بغير إيمان حركة آلية حيوانية أقرب إلى الفوضى والهياج منها إلى الجهد الصالح والعمل المسدد إلى غايته، فمن الخير أن تذكر الأمم الإسلامية على الدوام أن الحرية عندها إيمان صادق، وليست غاية الأمر فيها أنها مصلحة ونظام مستعار.

ولمن شاء أن يقرأ هذه الصفحات من الوجهة الدينية، فسيراها مطابقة للعقيدة الدينية الحسنى في غير شطط ولا جمود.

ولمن شاء أن يقرأها من الوجهة العلمية، فسيرى أن الموضوع كله صالح للعرض على مقاييس العلم وموازينه، ولكن على شريطة أن يفهم «أولًا» ما هي المسألة التي تعرض على العلم حين نتكلم عن الديمقراطية في الإسلام.
  • هل هي شعائر العقيدة وعباداتها ومدلولاتها في العقل وفي الضمير؟

  • هل هي الاعتقاد كما استقر في فطرة الإنسان؟

  • هل هي الأمم التي دانت بتلك العقيدة مئات من السنين، وصدرت عنها في تقدير الأخلاق والعادات، وتقرير المباح والمحظور؟

  • هل هي الأعمال الجسام التي تمت بباعث تلك العقيدة، ولولاها لما تمت على هذا الوجه، أو لما تمت على وجه من الوجوه؟

  • هل هي أسلوب الوجدان في تصور الحقائق الدينية والشعور بالغيب المكنون وراء ظواهر هذا الوجود؟

وهنالك جانب «سلبي» يقابل هذا الجانب «الإيجابي» ولا بد من السؤال عنه كما يسأل عن هذه الأمور.

إذا عرضنا لتقدير الحياة الدينية في أمة من الأمم فهل نستغني عن النظر إلى الإنسان المجرد من الاعتقاد الذي خلا وجدانه من الإيمان؟ وهل نستطيع أن نبعد من تقديرنا أنه إنسان «غير طبيعي» في قلقه وارتيابه وسوء ظنه بوجوده، وأن اجتماع ملايين من أمثال هذا الإنسان في أمة واحدة يخلق لنا أمة «غير طبيعية» في خللها وفوضاها، ونقص البواعث التي تمسك بعضها إلى بعض، وتربط كلًّا منها برباط القانون والخلق وصوالح العادات؟ وما هي الظاهرة العلمية التي يقررها العالم إذا قاس الأمور كلها بهذا المقياس، ووزن الأحداث التاريخية والأطوار الإنسانية كلها بهذا الميزان؟

هنا حقيقة شاملة لا انفكاك لجزء من أجزائها عن سائرها: حقيقة حية تنتظم في أطوائها مئات الملايين من البشر في عشرات المئين من السنين، وتدخل فيها بواعث الأخلاق والاجتماع والنهوض والتقدم بين أولئك الملايين في ذلك الزمن الطويل، فأي عنصر من هذه العناصر يحمله العالِم إلى معمله لتحليله وتعليله؟ وكيف يحللها جملة ويعللها جملة ويخرج منها جاهلًا بالقوة الشاملة في هذه الحقيقة الحية؟ وكيف يستطيع أن يزيفها وليس في جواهر الحقائق العيانية ما هو أثبت منها وأعصى على التزييف؟

قلنا في فصل من هذه الرسالة: إن طريقة الوجدان في تحصيل الحقائق تثبت تلك الحقائق ولا تبطلها، وإننا لو تأملنا حقائق الحس نفسه لوجدنا لها أسلوبًا يخالف تعبير العلماء في الوصف والتعليل، فنحن نسمع كلمات لها وقع في النفس، والعلم لا يعرف من هذه الكلمات إلا أمواج الهواء أو الفضاء، ونحن نذكر اللون الأحمر واللون الأزرق واللون الأخضر وغيرها من الألوان الخالصة أو الممزوجة، والعلم لا يعرف منها إلا ذبذبة شعاع، ثم لا يعرف ما هي هذه الذبذبة، وأين يكون مجراها من الأثير أو الفضاء على التحقيق.

فأسلوب الحس كأسلوب الوجدان إذا أراد العلم أن يحكم على أسلوب الدلالة في الحالتين، فليست صور الوجدان باطلة؛ لأن العلم لا يصفها بوصفها، وليست ألوان النظر باطلة؛ لأن وصفها في العلم الطبيعي غير وصفها في الأحداق والرءوس.

فإذا ادعى مدَّع أنه ينظر بعين العلم ولم ينظر إلى عقائد الوجدان في النفوس وفي الأمم وفي أطوار التاريخ كما ينبغي لها أن تنظر، وكما هي في الواقع حقيقة حية شاملة نامية متطورة، فهو مضلل في نظره ودعواه، ومثله في ضلاله وادعائه مثل من يحكم على الكائن الحي بعضو ينتزعه منه ويفصله من سائر أجزائه، ثم يقول: هذه هي الحياة.

من شاء أن يقرأ هذه الصفحات من الوجهة الدينية فهي ماثلة أمامه بأسانيدها ومراجعها كما أسلفنا في غير شطط ولا جمود.

ومن شاء أن يقرأها من الوجهة العلمية فليعرف «أولًا» ما هي الوجهة العلمية في النظر إلى واقع حي لا ينحصر في مجموعة من الشعائر والعقائد، ولا في عدد من الناس، ولا في زمن محدود، ولا في أحوال متطورة، ولا في ظواهر علنية، ولا في بواطن خفية؛ بل يشمل هذا كله، ولا بدَّ للوزن الصحيح من وضع هذا كله في الميزان.

نعم، ولا بدَّ مع هذا النظر إلى الناحية السلبية لهذه المسألة، ونعني بها حالة الإنسان فردًا وهو مجرد من الإيمان بما يعمر وجدانه، وحالة الإنسان مجتمعًا مع الملايين من أمثاله وهم مجردون من الإيمان بما يعمر وجدانهم، ثم حكم العلم الذي يخلص إليه حين يدرس الحقيقة بجملتها من جانب الإثبات وجانب الإنكار.

فإذا كان العالم عالمًا حقًّا فهو خليق أن يحكم في المسألة حكم العلم قبل حكم الدين، فيقول له العلم: إن الحقائق الكبرى من هذا القبيل لا يثبتها أنبيق ولا تنفيها معادلة حسابية، ولا تقطع فيها بالرأي مادة واحدة من مواد العلوم، ومتى ظفرت الأمة بإيمانها وانبعثت معه في حياتها وفي جهادها وفي الحاضر من أعمالها والمنظور من آمالها فليست المسألة هنا مسألة هينة يقررها عالم ويدحضها عالم، وتتغير تبعًا لذاك، ولكنها هي باعث الحياة الإنسانية العامة، وشأنها شأن الحياة في خصوصها وعمومها: قوة نراها بظواهرها ولا مناص لنا من الوقوف أمام خفاياها موقف الخشوع والمهانة، وموقف التدبر والأناة.

بهذه النظرة العلمية يتلاقى رجل العلم ورجل الدين، ويستطيع الباحث في الديمقراطية الإسلامية أن يحسب حسابها بضميره وعقله، وألا يعدو الواقع حين يضع يديه على الأسباب ونتائجها فيقول إن شاء: هذا هو العيان، ويقول إن شاء: هذا هو الوجدان.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤