الديمقراطية السياسية

الحكم الديمقراطي حقائق وأشكال، أو كما يقول أهل المنطق جوهر وعرض، فأما الجوهر: فهو حرية المحكومين في اختيار حكومتهم، وأما العرض: فهو نصوص الدساتير وقوانين الانتخاب وصناديق الاقتراع وما إليها؛ لأنها وسيلة إلى حرية الحكم وليست بغاية مقصودة لذاتها، فقد تكون دساتير وقوانين انتخاب وصناديق اقتراع ولا ديمقراطية، وقد تكون ديمقراطية ولا شيء من هذه الوسائل والأدوات.

ومن المؤرخين الذين كتبوا في تاريخ الإسلام السياسي من نظر إلى العرض وترك الجوهر، فأشاروا إلى مبايعة الخلفاء الراشدين، وقالوا: إنها لم تجر على القواعد الديمقراطية، يعنون أنها لم تجر باقتراع في صناديق انتخاب، وكانت هذه الملاحظة منهم مثلًا في النظر السطحي وتقديم القشور على اللباب؛ لأن المهم في الأمر هو نتيجة المبايعة وليس هو إجراء المبايعة بالصناديق وأوراق الاقتراع، وبخاصة بين الأميين وسكان المدينة الواحدة التي تقع فيها المبايعة الشفوية موقع الصناديق الموزعة في أنحاء البلاد، وإنما الوجه في النظر إلى المبايعة أن يسأل السائل: ماذا كانت الصناديق والأوراق بالغة بالمبايعة فوق ما بلغته من الرضا والإقرار؟ إنها كانت خليقة أن تنقص ولا تزيد؛ لأنها تفتح باب الخلل والشتات، ولا تعين على التنظيم والإنجاز.

وقد تم اختيار الخلفاء الأولين بموافقة المحكومين، ولم يكن واحد منهم مفروضًا على الرعية بغير اختيارها، أو مختارًا لغير مصلحتها باتفاق آرائها، ولم يكن ترشيح الخليفة ملزمًا للرعية لو لم يكن مطابقًا لرأيها وتقديرها.

وكان هناك ترشيح واحد لو حدث لكان في حكم الإلزام بالمبايعة، وهو تصريح النبي — عليه السلام — باختيار أحد من أصحابه للخلافة، ولكن النبي — عليه السلام — لم يعلن الاختيار ولم يزد فيه على الإشارة، تجنبًا لكل إلزام.

وجاء أبو بكر فأوصى بمبايعة عمر بن الخطاب، ولم تكن وصيته ملزمة للناس بالقوة والإكراه؛ لأن سلطانه ينتهي بوفاته، ولم تكن قبيلته أقوى قبائل قريش فتكره غيرها على اتباع وصيته، فكل ما هنالك أنها ترشيح لا يقبله من يقبله على رغم، وقد أقره عليه الناس وسوادهم راضون مؤيدون.

أما عمر بن الخطاب: فقد وكل أمر الترشيح إلى جلة الصحابة، وقال: «إنني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو راضٍ عنهم»، وهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، وكان طلحة غائبًا، فقال عمر للخمسة الآخرين: إني نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقًا ولا نفاقًا فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، تشاوروا ثلاثة أيام، فإن جاءكم طلحة انضم إلى ذلك، وإلا فأعزم عليكم بالله ألا تتفرقوا من اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدكم … وليصلِّ بكم صهيب هذه الأيام التي تتشاورون فيها فإنه رجل من الموالي لا ينازعكم أمركم.

ثم قال: «وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار وليس لهم من أمركم شيء، وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس، فإن لهما قرابة وأرجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شيء، ويحضر ابني عبد الله مستشارًا وليس له من الأمر شيء.»

قالوا: يا أمير المؤمنين، إن فيه للخلافة موضعًا فاستخلفه فإنا راضون به، فقال: بحسب آل الخطاب رجل واحد … ثم أوصى بترجيح الجانب الذي يقضي له عبد الله إذا تساوى الجانبان.

ولما مات الخليفة تشاوروا ثلاثة أيام فلم يبرموا فتيلًا، فلما كان اليوم الثالث قال لهم عبد الرحمن بن عوف: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم عزم عليكم صاحبكم ألا تتفرقوا حتى تستخلفوا أحدكم، فإني عارض عليكم أمرًا، قالوا: وما تعرض؟ قال: أن تولوني أمركم، وأهب لكم نصيبي فيها، وأختار لكم من أنفسكم، فأعطوه الذي سأل، ثم طلب إليهم أن يجعلوا أمرهم إلى ثلاثة منهم، فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف، ثم خرج يتلقى الناس في أنقاب المدينة متلثمًا لا يعرفه أحد، فما ترك أحدًا من المهاجرين والأنصار وغيرهم إلا سألهم واستشارهم، قال المسور بن مخرمة الذي ننقل هذا الخبر من روايته في كتاب الإمامة والسياسة: «أما أهل الرأي فأتاهم مستشيرًا وتلقى غيرهم سائلًا، فلم يلق أحدًا يستشيره ولا يسأله إلا ويقول: عثمان، فلما رأى اتفاق الناس واجتماعهم على عثمان جاء المسور بن مخرمة عشاء فقال له: ألا أراك نائمًا؟ فوالله ما اكتحلت عيني بنوم منذ هذه الثلاثة، ادع لي نفرًا من المهاجرين سماهم بأسمائهم، فناجاهم في المسجد طويلًا، ثم قاموا من عنده فدعا عليًّا فناجاه طويلًا، ودعا عثمان فناجاه طويلًا، حتى آنت صلاة الصبح، فلما صلوا جميعًا أخذ على كل واحد منهم العهد والميثاق لئن بايعتك لتقيمن كتاب الله وسنة رسوله وسنة صاحبيك من قبلك، فأعطاه كل واحد منهم العهد والميثاق على ذلك، ثم قال لكل منهم: لئن بايعت غيرك لترضين ولتسلمن وليكونن سيفك معي على من أبى، فأعطوه ذلك من عهودهم ومواثيقهم … ثم جمع الناس وبايع لعثمان، فبايعوه.»

فلم يكن الأمر يعدو الترشيح من أهله، وأهله هنا أولى بالإصابة والإخلاص والتوفيق من «لجنة الحزب» التي تجتمع في البلاد الجمهورية؛ لتختار مرشحهم للرئاسة، وتحمل الناس بوسائلها المعروفة على انتخابه، ولم تكن للصناديق والأوراق في العصور الحديثة زيادة في صدق الترشيح ولا في صدق الانتخاب ولا في حرية الاختبار.

وقد كان الخليفة يعاهد الناس بعد مبايعته على سنة الحكم مستعينًا بهم في عمله، كما قال الصديق رضي الله عنه: «فأعينوني على ذلك بخير … أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم …»

أو كما قال عمر: «لكم عليَّ ألا أجتني شيئًا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم — أي أحبسكم — في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولَّاني الله من أمركم.»

أو كما أجمل ذلك كله في كلمات فقال: «أمير المؤمنين أخو المؤمنين، فإن لم يكن أخا المؤمنين فهو عدو المؤمنين.»

•••

وأهم من الشورى في مبايعة الخليفة فرض الشورى عليه في ولاية أمر الرعية، وليست وسيلة الشورى بعد ذلك إلا مسألة تطبيق وتنفيذ، سواء كانت وسيلتها نظامًا من نظم الانتخاب أو مراجعة بالطريقة التي اختارها عبد الرحمن بن عوف لاستشارة ذوي الرأي وسؤال العامة، حيث تتيسر الاستشارة والسؤال في الموعد والمكان.

وقد عرفت لكل خليفة طريقة في الاستشارة والمراجعة، وأمثلها في رأينا طريقة الفاروق الذي خلقه الله ليقيم الدول ويبني قواعد النظام، فإنه — رضي الله عنه — كان لا يقصر مشورته على كبار الشيوخ وأئمة القوم؛ بل يلتمس الرأي من الشبان أحيانًا كما روى يوسف بن الماجشون «فكان إذا أعياه الأمر المعضل دعاهم فاستشارهم لحدة عقولهم.»

وكان أسلوبه إذا أراد أن يختار واليًا أن يذكر الشرط ويترك للسامعين الاختيار، وسأله أصحابه مرة: ما شرطك في الوالي الذي تريده؟ قال: إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذ كان أميرهم كان كأنه رجل منهم.

بل ربما استشار الأعداء كما استشار الهرمزان في الحرب الفارسية، ثم يعرض المشورة على رأيه ليعلم منها موضع النصح أو موضع التدليس.

إلا أن الشورى التي أمر بها الإسلام لم تكن مسألة عدد ولا مسألة وزن، ولكنها مسألة حيوية يراد بها أن تعمل كما تعمل وظائف الأعضاء في البنية الحية.

فليست كثرة العدد هي مناط الصواب في الشورى الإسلامية؛ لأن القرآن الكريم صريح في إبطال هذا الوهم، وآياته البينة واضحة في التفرقة بين أكثر الأقوال وأصوب الأعمال.

فمنها: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا.

ومنها: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.

ومنها: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.

ومنها: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ۖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ.

ومنها: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ.

ولم تغب هذه الحقيقة عن كبار المصلحين في الإسلام، ولم تغب عن أكبرهم وأبرزهم في العهد الحديث الذي ظهرت فيه النظم النيابية على اختلافها، ونعني به جمال الدين الأفغاني أسبق الدعاة إلى الشورى «البرلمانية» مع علمه بما فيها من عيوب.

لقد نظر إلى المسألة نظرة فلسفية فقال من أحاديثه التي سجلها صاحب خاطرات جمال الدين: «إن وجود بعض المجموع الإنساني على شيء واعتقادهم به لا يفيد أحيانًا معنى الحق، وبخاصة حين يكون رائده مطلق التقيد بالمألوف والتقليد الأعمى بغير حجة ولا برهان.

فالحقائق من أديان ومذاهب، وقواعد علمية وفنية، ما ظهرت واستقرت وتدونت وانتشرت، إلا بواسطة أفراد قلائل، بعد أن قاومها المجموع بأشد ما لديه من القوة ووسائل القهر.

فجوبتير — إله الآلهة عند اليونان — لم يجترئ على الكفر به أحد في عصر التعبد له، وكان الكهنة ومعهم مجموع الشعب ينزلون على من يكفر به آيات العذاب، واليوم يعدون الكفر به من الإيمان.

ثم جاء موسى وكفر بفرعون …

ثم جاء عيسى وليس من يؤمن به غير ذلك النفر القليل من الحواريين، وقد صرح بأنه أتى ليتمم الناموس لا لينقضه، فكان المجموع من يهود أورشليم مع هذا ألد خصومه … ثم جاء محمد وكانت شيعته أفرادًا قلائل … وكان من يؤمن به عرضة لأنواع العذاب وموضع السخرية والاستهزاء، واليوم ترى مئات الملايين من الخلق تدين بدين محمد، وأكثر مجموع العالم يدين بتعاليم الثلاثة: موسى وعيسى ومحمد.

ولو لم تكن تعاليمهم خيرًا، وموافقة لروح الإنسانية، لما تكاثر تابعوهم على الرغم من مقاومة المجموع، وعلى الرغم من الاضطهاد والقتل والاستهزاء … وهكذا ينبغي أن نعلم أن كل تعليم حق في ذاته، ولو خالف المألوف وقل أنصاره، فمن الحكمة ألا نرفضه لقلة الأشياع والنصراء أو لكثرة جماهير المخالفين … فإن تبين منه نور الحق وكان الناظر ضعيف الحكمة لا يجرؤ على مناصرته ومظاهرته فليصبر حتى تكثر الأعوان، ولا يسارع إلى مجاراة الكفران به …»

ثم قال: «وهكذا دعوى الاشتراكية — وإن قل نصراؤها اليوم — لا بد أن تسود في العالم يوم يعمه العلم الصحيح ويعرف الإنسان أنه وأخوه من طين واحد، ونسمة واحدة، وأن التفاضل إنما يكون بالأنفع من المسعى للمجموع، وليس بتاج أو نتاج أو مال يدخره، أو خدم يستعبدهم، أو جيوش يحشدها، وغير ذلك من عمل باطل ومجد زائل وسيرة تبقى معرة لآخر الدهر.»

ثم عقب قائلًا: «إن مخالفة المألوف أمر عظيم، وما تحتاج إليه من الجرأة وعلو الهمة أكبر وأعظم … ولا تصدق أن أحدًا من البشر يمكنه تخطي المألوف وتسهل عليه مخالفته، فهناك عقبة كئود وهوة هائلة لا يجتازها إلا فحول الأبطال ونوابغ الرجال … وأعظم مزايا الأنبياء اقتحامهم مخالفة أقوامهم وما كانوا فيه من ضلال … ولو لم يكن لهم إلا تلك المزية لأعظم من شأنهم من ينصفهم ولو جحد رسالاتهم وأنكرهم، ولوجد لهم فضلًا كبيرًا.»

هكذا كان رأي جمال الدين في مسألة الكثرة والقلة، ولم يكن مخالفًا فيه لرأي كبار العلماء في صدر الإسلام، فقد كانوا يسمون العامة الجهلاء بالغوغاء وهي الجراد المخرب، وكان ابن عباس يقول: إنهم ما اجتمعوا إلا ضروا وما تفرقوا إلا نفعوا؛ لأنهم يتفرقون فيه فيذهب كل منهم إلى عمله.

ومع هذا الرأي في الكثرة والقلة كان المصلح الكبير يطلب النظام البرلماني، بل يطلبه مع العلم بعيوبه عند نشأته؛ إذ قال وهو يجاهد في مطالبته ولاة الأمور بتقرير الحكم الدستوري: «إنكم سترون عما قريب — إذا تشكل المجلس النيابي المصري — أنه سيكون ولا شك بهيكله الظاهر مشابهًا للمجالس النيابية الأوربية، بمعنى أن أقل ما سيوجد فيه من الأحزاب حزب للشمال وحزب لليمين، ولسوف ترون إذا تشكل مجلسكم أن حزب الشمال لا أثر له في ذلك المجلس؛ لأن من مبادئه أن يعارض الحكومة …»

ثم قال: «ليس لي في هذه الفراسة أدنى فضيلة؛ لأن المقدمات الصحيحة هي التي تنتج النتائج الصادقة.

ومقدمات مجلس نيابي تحدثه قوة خارجة عن محيط الأمة نتيجتها … أنه مجلس لا قيمة له، وكما أنه لا يعيش طويلًا كذلك لا يغني عن الأمة فتيلًا.»

ثم قال ضاحكًا ضحكة متألم: «… نائبكم سيكون على مقتضى ما مر من مهيئات مصركم في زمانكم، هو ذلك الوجيه الذي امتص مال الفلاح بكل مساعيه، هو ذلك الجبان البعيد عن مناهضة الحكام وهم أسقط منه همة، هو ذلك الرجل الذي لا يعرف لإيراد الحجة أمام الحاكم معنى … ذلك الرجل الذي يرى في إرادة القوة الجائرة كل خير وحكمة، ويرى في كل دفاع عن وطنه قلة أدب وسوء تدبير …»

كان هذا علم الرجل بالمجالس البرلمانية وبأقوال الكثرة والقلة، ولكنه كان مع ذلك يطلب حكم الشورى ويريده قوة خارجة من بنية الأمة، وينظر إليه ببداهته الصادقة كأنه وظيفة حيوية تعمل عمل الأحياء، ولا تدور على الحساب والأوزان.

أو بعبارة أخرى: هو قوة بيولوجية وليس بقوة عدد ولا بقوة ميزان.

فليس المعول في الشورى كثرة الجهلاء، وليس المعول فيه طبقة من الطبقات الممتازة على اختلاف الامتياز بالمال أو بالعلم أو بالسلاح.

ولكن المعول فيه على تعاون الأمة بجميع طبقاتها وآحادها كما تتعاون الوظائف الحية في البنية الحية، فإنما يكون فضل الممتازين فيه على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقدر هدايتهم للعامة يكون لهم من «الأصوات» التي تؤمن بهم وتركن إليهم وتقول بقولهم وتهتدي بهديهم، فإذا أفلحوا في الهداية فليست كثرة الأصوات هي الفاصلة؛ بل الفاصل هنا هو القوة المتجمعة من الهداية والمهتدين … وإذا عجزوا عن الهداية فالجريرة هنا جريرة عجزهم قبل أن تكون جريرة أتباعهم أو من ينبغي أن يتبعهم من أصحاب العدد الكثير، وفيما أجملناه من الكلام على الديمقراطية الاجتماعية في فصل آخر بيان واضح لهذه الحقيقة، وخلاصتها: أن التعاون على النصيحة شرط لقيام الشورى على أساسها الصحيح، أما إذا وقع التخاذل بين الناس وبطلت الثقة بين كبارهم وصغارهم فليست الجائحة هنا طغيان طائفة على طائفة، أو رجحان عدد على عدد، ولكن الجائحة الكبرى هي انحلال البنية الحية وانفراط عقد الاجتماع، ولا تصلح هذه الحالة للشورى ولا للطغيان، فلا موضع للشورى في أمة أعضاؤها أشلاء لا تربط بينها روابط الحياة، ولا خير في الطغيان بحال من الأحوال.

إن ديمقراطية الأمة السياسية ديمقراطية حياة لا ديمقراطية حساب وميزان، ومتى تبينت هذه الحقيقة تبينت حكمة الإسلام في الأمر بالشورى، وفي التفرقة بين كثرة الأقوال وصواب الأقوال، فإنما الصواب لأهل الذكر فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وإنما الفضيلة ندرة في كل شيء فيه فاضل ومفضول، وإنما الشورى اجتماع القوة ممن يشير وممن يشار عليه، وليست هي التناجز والتنابذ بين هؤلاء وهؤلاء.

ومن ثم يقول الإسلام: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ.

ومن ثم يقول إن: أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

ومن ثم يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤