الديمقراطية الاجتماعية

قبل أن تنشأ في الأمة ديموقراطية سياسية يجب أن تسبقها الديموقراطية الاجتماعية التي تتمثل في تعاونها بالفكر والشعور على قضاء حقوق المجتمع وأداء فروضه وواجباته، وأن تكون وظائف المجتمع عملًا لا يتوقف على إرادة الحاكم أو نظام الحكومة، ولا يستأثر به أحد دون أحد، ولا طائفة دون طائفة، بل موزع بين أبناء الأمة بأسرها كل فيما يستطيع وكما يستطيع.

والتعاون بالرأي والعمل والخلق والشعور فريضة على كل فرد في الجماعة الإسلامية، يقوم المجتمع بقيامها ويزول بزوالها، وما هلكت أمة يتواصى أبناؤها بالحق ويتناهون عن الباطل، وقد دالت الدول كما جاء في الكتاب الكريم لأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.

والناس جميعًا في خسر إِلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

ولا نجاة لإنسان إلا أن يقتحم عقبة الإيمان: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ.

فيتساوى التعاون بالإحسان والتعاون بالوصية، وعلى الناس جميعًا أن يتعاونوا على جلب الخير ودفع الأذى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.

ويفرض على كل مجتمع أن يسمع فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء من الحاكمين أو غير الحاكمين: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

ولا تكون الأمة خير أمة إلا بهذه الفضيلة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

وإذا وجب الجهاد في أحيان فالتذكير والنصيحة واجبان في جميع الأحيان: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلهُمْ يَحْذَرُونَ.

فهذا نفير وذلك نفير، ولهذا عبر الكتاب الكريم عنهم «بالنفر» لأنهم جند ينفرون للجهاد في سبيل التبشير والإنذار والتبصير.

ولا شك أن علماء الأمة هم المندوبون للنصح والتذكير، ولكن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة كما جاء في الحديث الشريف، فليس في الإسلام طائفة تستأثر بمهمة من مهام المجتمع كله أو بعضه، ولكنها حقوق أو فروض موزعة على كل قادر، وباب القدرة مفتوح للمجموع، وباب العلم في كل مكان حيث كان: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، و«خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت».

إن الدعوة إلى التناصح والتآزر مؤكدة مشددة في القرآن الكريم، ولكن الأحاديث النبوية تعود إلى توكيدها وتشديدها في خطاب الخاصة والعامة، وجماعها قوله صلوات الله عليه: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.»

بيان للعمل وأثره في الحالتين، فالناس بخير ما تذكروا وتشاوروا وتواصوا وتعاونوا، فإذا فرطوا في شيء من ذلك فقد تولاهم شرارهم فلا تستجاب فيهم دعوة الأبرار.

والمجتمع الذي يؤمر كل فرد فيه بهدايته والاستماع لمن يهديه غني بالديمقراطية الاجتماعية عن كل نظام من نظم الديمقراطية السياسية؛ لأن الأمة كلها في ذلك المجتمع حاكمة محكومة، وآمرة مأمورة، وناهية منهية، فلا محل فيها لطغيان أو استئثار.

وقد كان من اليسير في عهود الخلفاء الراشدين أن يتصدى أصغر الناس لتذكير أكبر الناس، وكان أشدهم بأسًا عمر بن الخطاب، فكان مع هذا يستدعي إليه من يزجرونه ويذكرونه، ويقول على الملأ: «رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا»، ويحمد الله أن يكون في الأمة من يقوِّم الخليفة بسيفه إذا رأى منه عوجًا، وينهى الناس عن المغالاة بالمهور فتتلو امرأة عليه الآية: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا فيتقبل منها الزجر ويقول مسترجعًا: «كل الناس أفقه منك يا عمر.»

كان هذا في عهود الخلفاء الراشدين عامة فكان الناس يرونه ويسمعونه ولا يستغربونه؛ لأنه لم يخرج بهم في صدر الإسلام عن مألوف ما اختبروه وانتظروه، ولكن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لم يعدموا قط قوة يقابلون بها السلطان الغضوب والحاكم الظلوم فلا يملك بين يديها غير الإصغاء والتسليم.

فلم يكن ملك من ملوك بني عثمان أرهب جانبًا من سليم الأول الملقب بالعبوس، ولم يكن أسرع منه إلى القتل والنفي والتنكيل، وحدث يومًا أنه أمر باعتقال مائة وخمسين من أمناء الخزائن بغير حجة قائمة، وعلم المفتي علاء الدين الجمالي بأمره فنهض لساعته إلى ديوان السلطان، وكان حضور المفتي إليه أمرًا نادرًا غير مألوف في ذلك الزمان، فاضطرب الوزراء وعلموا أن خطبًا جللًا قد جاء به في ذلك اليوم على غير العادة، فسألوه فطلب لقاء السلطان، وما هي إلا لحظة حتى جاءه الإذن وحده بالدخول إلى الحضرة السلطانية.

قال المفتي: قد سمعت أنك أمرت بقتل مائة وخمسين رجلًا لا يجوز قتلهم شرعًا فعليك بالعفو عنهم.

فظهر الغضب على وجه السلطان وقال له محتدًّا: إنك تتعرض للحكم وليس ذلك من عملك.

قال المفتي: كلا! إنما أتعرض لأمر آخرتك وهذا من عملي، فإن عفوت نجوت، وإن أبيت حل بك عقاب الله.

فهدأ الجبار وتطامنت نفسه، ولم يخرج المفتي من حضرته حتى كان الأمر السلطاني بالعفو عنهم قد صدر ومعه أمر بإعادتهم إلى عملهم، ولكن السلطان توعدهم بالتعذيب لتقصيرهم في خدمتهم.

فقال المفتي: هذا جائز؛ لأن التعزير مفوض إلى رأي السلطان.

وحدث في مصر على أيام الملك الكامل أنه أراد أن يؤدي شهادة بين يدي القاضي شرف الدين محمد بن عبد الله الإسكندري فأبى القاضي شهادته متلطفًا في الاعتذار، وقال له: إن الملك يأمر ولا يشهد، فأصر الملك على الشهادة، وقال: بل أشهد، فهل تقبلني أو لا تقبلني، فلم يسع القاضي إلا أن يصارحه برأيه وأجابه: كيف أقبلك وعجيبة — المغنية — تطلع عليك بجنكها كل ليلة وتنزل وهي تتمايل سكرى … فشتمه الملك بكلمة فارسية، أعلن القاضي بعد سماعها أنه اعتزل القضاء وانصرف لا يلوي على أحد، فذهب إليه الملك يسترضيه خوفًا من إشاعة الخبر، وأعاده إلى خير مما كان عليه.

وقد كان من علماء مصر من يجبه طغاة المماليك إذا جاروا على الناس في طلب المال، فإذا اعتذروا بالحاجة إلى الصرف في شئون الحكم، قالوا لهم: بل عليكم أن تعيشوا كما يعيش الناس وتنفقوا كما ينفقون، وليس لكم أن تسلبوا المال لتنفقوه على القصور والجواري وآنية الذهب والفضة، وتستمرئوا به البذخ الذي يغضب الله ويثقل على خلق الله.

•••

ومن حق المؤرخ أو الباحث في شئون الاجتماع أن يتعرف الحقائق في هذه الزواجر ويستقصي أسباب فعلها ودواعي نجاحها في قمع الطغاة وتخويف من لا يخافون من خالق أو مخلوق، فالسلطان سليم كان يحسب ذلك الحساب لرجال الدين؛ لأنه كان يطلب الخلافة ويريد أن يقيم خلافته العثمانية على بقايا الخلافة الفاطمية، والملك الكامل كان يعلم مكانة القاضي الإسكندري ويخشى أن تشيع عنه قصة المغنية إذا شاع نبأ اعتزال القاضي ولا بد أن يشيع، وأمراء المماليك كانوا يعلمون أن فتاوي العلماء تخلع السلاطين في عهدهم فضلًا عن الولاة، ولكن هذه العوارض تتكرر في كل زمن وفي كل أمة، وليس من اللازم أن تكون كل دعوة إلى المعروف أو إلى النهي عن المنكر مقبولة؛ لأن القابلين لها يعرفون المعروف وينكرون المنكر، وإنما اللازم دون غيره أن تكون للدعوة قوتها وأن يكون الداعي قديرًا عليها موثوقًا بنزاهته فيها، وهي ولا ريب تصيب في كل آونة، وتنفع المجتمع في كل دولة، ولكن الآفة أن يكون تقصير الولاة مقرونًا بتقصير الدعاة.

هذه الوظيفة الكبرى هي حيلة المجتمع التي لا تعدلها حيل السياسة في اتقاء الفتنة وصيانة الدولة، وشرعها في الإسلام مقصود به منع الفتنة لا التحرش بها والتطوع لإثارتها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً فإن لم تكن دعوة ولا اتقاء فتنة فهناك خطر الأخطار وولاية الأشرار، وصدقت نبوءة النبي حيث يقول: «لتدعون إلى المعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤