التشريعُ

إذا كان للتشريع الديمقراطي وصف ينحصر في كلمة واحدة فهذه الكلمة هي «العموم».

عموم المصدر، وعموم التطبيق أو السريان.

وقد تختلف الشرائع سعةً وحرصًا، أو تختلف سماحة وشدة، أو تختلف تقدمًا وتأخرًا، ولكن هذه الاختلافات كلها لا تنفي عنها صفة «الديمقراطية» إذ كانت عامة في مصدرها، عامة في تطبيقها وسريانها، فالمعول في التشريع الديمقراطي على عموم الاتفاق عليه وعموم الخضوع لأحكامه، وكل ما عدا ذلك فهو فروق في صناعة التشريع أو غايته، وليست فروقًا في صفة الحكومة التي تتولاه.

والمقصود من التشريع العام في مصدره أنه تشريع لا تحتكره طائفة مقفلة، أي طائفة لا يدخلها أحد من خارجها، كطوائف النسب أو المزايا الموروثة أو كل طائفة تقصر الانتماء إليها على شروط لا تتحقق لكل إنسان بالعمل والعلم والاجتهاد.

فطائفة العلماء والفقهاء ليست من الطوائف المقفلة؛ لأن العلم والفقه صفتان يكسبهما كل من تعلم وتفقه.

وطائفة النواب المنتخبين ليست من الطوائف المقفلة؛ لأنها تتكون بالانتخاب ويتغير تكوينها من حين إلى حين.

أما عموم التطبيق والسريان فهو التسوية بين الناس جميعًا في الخضوع لأحكام القانون وعقوباته، فلا يستثنى منهم أحد لسبب من أسباب النسب أو الوجاهة أو الثروة، ولا يعفى من عقاب جريمة؛ لأن العدوان مقبول من بعضهم محظور من الآخرين.

والتشريع الإسلامي ديموقراطي بعموم مصدره، ديموقراطي بعموم تطبيقه وسريانه، فلا تمييز فيه بين الناس لاختلاف النسب أو اختلاف الطبقات.

مصدره الكتاب والسنة والإجماع، والقائم به الإمام ومن يستعين بهم من ذوي الرأي والمعرفة والخبرة، وحكم الكتاب والسنة واحد بالنظر إلى المسلمين جميعًا، وحكم الإجماع هو حكمهم بأنفسهم متفقين عليه كما شرعوه.

وكل والٍ كفء للولاية مأذون له، بل مفروض عليه أن يجتهد إذا طرأت له قضية لم يجد حكمها في الكتاب والسنة.

بعث النبي — عليه السلام — معاذ بن جبل إلى اليمن، فقال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: فبسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد في سنة رسوله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

وكلام الحاكم في غير مقام التشريع غير ملزم لأحد من المحكومين، فكان رسول الله — عليه السلام — يستحسن شيئًا ثم يعدل عنه ويقول لأصحابه: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، كما حدث في مسألة تأبير النخل.

ومن ذاك في أحكام الخلفاء: أن عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — مر ببائع في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حُدِّثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى البائع في داره، فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع.

أما سريان التشريع على جميع الناس فلا محل للاختلاف فيه بين أحد وأحد بعد سريانه على النبي نفسه ومن عاش معه من أصحابه، وقد قال — عليه السلام — في مرض الوفاة: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد مني، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشى الشحناء فهي ليست من شأني.»

وقد قال — عليه السلام — لمن سألوه أن يعفي فاطمة المخزومية من العقاب: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد.»

وإن حكم عمر في التسوية بين الملك والسوقة وبين الوالي وفرد من رعاياه هو مثال المساواة التي تحسب من الأماني في أعدل تشريع يسنه الديمقراطيون.

وللاجتهاد قواعد من خير القواعد أو الحكم Maxims التي يتوخاها المشترعون في تقرير أحكام القوانين.

أولها اليسر وتفضيل السماح على التحريم حيث أمكن السماح، فمن آيات الكتاب: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، ولَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا، وفَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.

وقال عليه السلام: «أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته.»

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن يكن إثمًا كان أبعد الناس عنه.»

ومن حكم الفقهاء أن «المشقة تجلب التيسير» وأن «الضرورات تحل المحظورات» وأن «العادة المطردة تنزل منزلة الشرط» وإن «المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا» وأنه «لا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة» وأنه «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، ومرجعهم جميعًا في تقدير العادات إلى قوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن»، و«لا تجتمع أمتي على ضلالة.»

ومن القواعد المسلمة بنص الحديث الشريف وسوابق التنفيذ في عهده — عليه السلام — قاعدة: «درء الحدود بالشبهات».

جاء في بدائع الصنائع للكاساني: «والحدود لا تستوفى مع الشبهات، وقد روي أن ماعزًا لما أقر بين يدي رسول الله بالزنا لقنه الرجوع فقال — عليه الصلاة والسلام — لعلك قبَّلتها، لعلك مسستها، وقال — عليه الصلاة والسلام — لتلك المرأة: قولي لا، ما إخالك سرقت … وهذا هو السنة للإمام إذا أقر إنسان عنده بشيء من أسباب الحدود الخالصة أن يلقنه الرجوع درءًا للحد كما فعل عليه الصلاة والسلام في الزنا والسرقة، وسواء رجع قبل القضاء أو بعده، قبل الإمضاء أو بعد إمضاء … ثم الرجوع عن الإقرار قد يكون نصًّا، وقد يكون دلالة بأن أخذ الناس في رجمه فهرب ولم يرجع حتى لا يتبع ولا يتعرض له؛ لأن الهرب في هذه الحالة دلالة الرجوع، وروي أنه لما هرب ماعز ذُكر ذلك لرسول الله فقال: «هلا خليتم سبيله» دلَّ أن الهرب دليل الرجوع، وأن الهرب مسقط للحد.

وقد أسقط الخلفاء الراشدون حد السرقة وغيره للضرورة كما فعل عمر بن الخطاب في عام المجاعة، وأخذت الدولة العثمانية بهذه القواعد عند تقنين القوانين وتنظيم الأحكام في مجلة الأحكام العدلية منذ نحو مائة سنة، ولم تتقيد بالقول الأشهر على الدوام، بل تركت الأشهر في حكم وأخذت بما هو أقل منه شهرة وتداولًا مراعاة للعرف والضرورات العصرية.

وحق الإمام واسع في عقوبة التعزير، وهي عقوبة تشمل الحبس والجلد والغرامة والنفي من البلد، وهذا الباب — مع حق الإمام في مراعاة الضرورات ومراعاة عرف الإجماع أو ما يقرب من الإجماع — يسمح باختيار التشريع الذي يصلح لكل زمن ولكل بيئة، ويسبق الديمقراطية إلى غايتها من التشريع والتعميم وغايتها من التحليل والتحريم.

وفي هذا المعرض مجال لبيان التجني ممن يزعمون أن أحكام الإسلام حالت بينهم وبين مراعاة أحوال العصر في التشريع، ومنهم لورد كرومر الذي أخذ على الشيخ العباسي مفتي الديار المصرية (١٨٩٠) أنه سئل عن عقاب العصابات من اللصوص وقطاع الطرق فقال مستشهدًا بالقرآن الكريم: إِنَّمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلا الذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.

فهذه الآية على التخصيص تمنع أمثال كرومر من واضعي النظم الحديثة من أن يتجنوا على التشريع في الإسلام أو يتهموه بالحجر على الحكومات في وضع القوانين الملائمة لكل زمن، فإن عقوبات هذه الآية تتفاوت من القتل إلى النفي إلى العفو بعد التوبة، والنفي يشمل السجن والحبس والإقصاء، فليس ما يمنع الحاكم أن يختار من هذه العقوبات ما يلائم الجريمة ويلائم البيئة التي تقع فيها، وقد نافق من ساسة الأوربيين من يزعم أنه لم يلجأ في بلاد الحضارة فضلًا عن البلاد الهمجية إلى أقسى هذه العقوبات إلا باسم الحملات التأديبية أو باسم القصاص من جنس العمل، وقد صدر الحكم على قاتل كليبر بقطع اليد والجلوس على الخازوق والإحراق، وقد أمر كرومر نفسه بإحراق عصابة من اللصوص كانت تختفي بين القصب وتمتنع فيه عن الشرطة، ولم يكن بالحاكم الذي ينفذ حكم الآية حاجة إلى نفاق كهذا النفاق؛ لأنه مفوض في الاختيار بين أقسى العقاب وبين أهونه وبين ترك العقاب جملة إذا تاب المجرمون توبة نصوحًا لندمهم وارعوائهم عن الإجرام لا لخوفهم من الجزاء.

وقلنا في ختام باب العقوبات من كتابنا الفلسفة القرآنية: إننا «ننتهي من ذلك كله إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف حتى بين المسلمين وغير المسلمين، وهما: أن قواعد العقوبات الإسلامية قامت عليها شئون جماعات من البشر آلاف السنين وهي لا تعاني كل ما تعانيه الجماعات المحدثة من الجرائم والآفات، وأن قواعد العقوبات المحدثة لم تكن تصلح للتطبيق قبل ألف سنة، وكانت تنافي مقتضيات العصر في ذلك الحين، ولكن القواعد القرآنية بما فيها من الحيطة والضمان ومباحات التصرف الملائم للزمان والمكان قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتصلح في هذه الأيام، وبعد هذه الأيام.»

وينبغي أن يكون الاجتهاد جائزًا في كل عصر بل فريضة واجبة على كل من يخاطبه القرآن الكريم، ويأمره بالتعقل والتفكير والعمل بما يؤمر به عن فهم ودراية كلما استجاب لذلك الخطاب، ومذهب الفضلاء المتأخرين في هذا أرجح من مذهب القائلين بإقفال باب الاجتهاد في عصر من العصور؛ لأن مراجع الفقه التي كانت مطوية أو مقصورة على بلد دون بلد قد نشرت في العصر الحديث، وتيسرت لمن يحسن فهمها والاقتباس منها والقيام عليها، فلا يقفل باب الاجتهاد مع فتح باب التكليف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤