أقوال المفكرين الإسلاميين

ظهرت باللغة العربية مباحث كثيرة في موضوع السياسة، يمكن تقسيمها إلى أقسام ثلاثة: ما كتبه الفقهاء، وما كتبه المؤرخون والفلاسفة، وما اجتمع من وصايا الحاكمين والكتَّاب.

ومباحث الفقهاء مفصلة في مسألة الإمامة وحقوق الراعي والرعية، واتفق فقهاء السنة جميعًا على أن الحكم نيابة أو وكالة عن الأمة، تارة يسمون الإمام بالنائب، وتارة يسمونه بالوكيل، وشروطه عندهم متقاربة يجمعها قول الآمدي كما جاء في كتاب الإمامة من الأشباه والنظائر وهي: الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وأن يكون بصيرًا بأمر الحرب وتدبير الجيوش، قويًّا بحيث لا تهوله إقامة الحدود، عدلًا بالغًا، ذكرًا حرًّا نافذ الحكم مطاعًا قادرًا على من خرج على طاعته؛ وهذا هو اتفاق أهل السنة. أما الشيعة فيضيفون إلى هذه الشروط شروط القرشية والهاشمية والعصمة وأن يكون أفضل أهل زمانه، وقد يحتجب، ويتولى الأحكام عند احتجابه حاكم ظاهر تتفق شروطه وشروط أهل السنة في الإمام.

وأهم هذه الشروط عملًا ونظرًا: شرط القدرة ونفاذ الحكم، ويحق للرعية أن تخلع الحاكم إذا خرج على عهده أو فقد شروط الإمامة، لا يمنعها عن ذلك إلا اتقاء الفتنة وحذر العاقبة، فإذا حدث أن خارجًا على السلطان تغلب عليه فالمرجع في هذه الحالة إلى الواقع أو ما يسميه علماء القانون الحديث حكم الحالة الواقعة Status Quo ويكون الإمام المغلوب قد فقد الشرط المهم للإمامة، واستحقها من هو أقدر منه على القيام بها.

وقول الإمام الغزالي في الحالة الواقعة يرجع إليه حيث يقول في كتاب الإحياء: «… إن السلطان الجاهل الظالم، مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق، وجب تركه، ووجبت الطاعة له، كما تجب طاعة الأمراء؛ إذ قد ورد في الأمر بطاعة الأمراء والمنع من سل اليد عن مساعدتهم أوامر وزواجر، فالذي نراه أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس رضي الله عنه، وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد … والقول الوجيز: أننا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفًا إلى مزايا المصالح، ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأسًا، فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح؟ بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة، فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة، ومن استبد بالشوكة وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة فهو سلطان نافذ الحكم والقضاء في أقطار الأرض وولايته نافذة الأحكام.»

ومما يلحق بكلام الغزالي في الإحياء: كلامه عن الإمامة في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» لأنه جمع فيه بين نظرة الفقيه ونظرة الفيلسوف وبين فيه موقف المتكلمين عن الإمامة في زمنه، وقد يكون موقف المتكلمين عنها في زمنه كموقفهم في زمن غيره؛ لأن الحرج واحد حيث توجد السطوة والمنازعات.

فبعد أن قال إن هذه المباحث «مثار للتعصبات، وأن المعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض وإن أصاب، فكيف إذا أخطأ؟» مضى يقول إنها تدور على ثلاثة أطراف: «الطرف الأول في بيان وجوب نصب الإمام، ولا ينبغي أن نظن أن وجوب ذلك مأخوذ من العقل، فإنا بينا أن الوجوب يؤخذ من الشرع، إلا أن نفسر الواجب بالفعل الذي فيه فائدة وفي تركه أدنى مضرة، وعند ذلك لا ينكر وجوب نصب الإمام لما فيه من الفوائد ودفع المضار في الدنيا، ولكننا نقيم البرهان القطعي الشرعي على وجوبه، ولسنا نكتفي بما فيه من إجماع الأمة، بل ننبه على مستند الإجماع، ونقول: نظام أمر الدين مقصور لصاحب الشرع عليه السلام قطعًا وهذه مقدمة قطعية لا يتصور النزاع فيها، نضيف إليها مقدمة أخرى وهي أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع، فيحصل من المقدمتين صحة الدعوى وهو وجوب نصب الإمام.»

ثم مضى يقيم البرهان على المقدمة الأولى فقال: «إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع … إذ إن نظام الدين بالمعرفة والعبادة، ولا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن … فمن كان جميع أوقاته مستغرقًا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة.»

وانتقل إلى البرهان على المقدمة الثانية، فقال: أما «أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا تنتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وأن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل من غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًّا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: إن الدين والسلطان توءمان، وقيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع، وعلى الجملة لا يتمارى العاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هو عليه من تشتت الأهواء وتباين الآراء لو خلوا ورأيهم ولم يكن رأي مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا من عند آخرهم، وهذا داء لا علاج له إلا بسلطان قاهر مطاع يجمع شتات الآراء.»

ثم استطرد إلى أن ذكر الحالة التي يتأتى فيها الحاكم أن يجمع شتات الآراء، ويمنع الخلق من المحاربة والقتال، ويحملهم على مصالح المعاش والمعاد، ولكنه لا يصلح للقضاء، فسأل: «ماذا ترون فيه؟ أيجب خلعه ومخالفته أم تجب طاعته؟» ثم أجاب بما يراه ويقطع به وهو وجوب خلعه إن قدر على أن يستبدل به من هو موصوف بجميع الشروط من غير إثارة فتنة وتهييج قتال «فإن لم يكن ذلك إلا بتحريك قتال وجبت طاعته وحكم بإمامته» لأن الخسارة في هذا أقل من الخسارة «إذا افتقرنا إلى تهييج فتنة لا ندري عاقبتها» … ثم قال: «وليست هذه مسامحة عن الاختيار، ولكن الضرورات تبيح المحظورات، فنحن نعلم أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه، فليت شعري من لا يساعد على هذا ويقضي بطلان الإمامة في عصرنا لفوات شروطها وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدي لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها فأي أقوال أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة في أقطار العالم غير نافذة وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام؟ أو أن يقول: إن الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار؟ هو بين ثلاثة أمور: إما أن يمنع الناس من الأنكحة والتصرفات المنوطة بالقضاء، وهو مستحيل ومؤد إلى تعطيل المعايش كلها، ويفضي إلى تشتيت الآراء، وهلك الجماهير والدهماء، أو يقول: إنهم يقدمون على الأنكحة والتصرفات، ولكنهم مقدمون على الحرام، ولا يحكم بفسقهم ومعصيتهم لضرورة الحال، وإما أن يحكم بانعقاد الإمامة مع فوات شروطها لضرورة الحال، ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأن أهون الشرين خير بالإضافة، ويجب على العاقل اختياره.»

ثم رد على الإمامية القائلين بأن النبي — عليه السلام — نص على اختيار علي — رضي الله عنه — فقال: «إن البيعة تقطع مادة الاختلاف، والدليل عليه عدم الاختلاف في زمان أبي بكر وعثمان وقد توليا بالبيعة، وكثرته في زمان علي — رضى الله عنه — ومعتقد الإمامية أنه تولى بالنص … واعلم أن للناس في الصحابة والخلفاء الراشدين — رضي الله عنهم — إسرافًا في أطراف، فمن مبالغ في الثناء حتى يدعي العصمة للأئمة، ومنهم متهجم على الطعن يطلق اللسان بذم الصحابة، فلا تكونن من الفريقين واسلك طريق الاقتصاد في الاعتقاد.»

•••

كان الغزالي كما قدمنا فقيهًا وفيلسوفًا في كلامه عن مسألة الإمامة والعلاقة بين الراعي والرعية، وعن الحاجة إلى الحكومة والمقابلة بين السلطان الجائر والفوضى، ومن المحقق أن استفاضة البحث الفقهي في هذه المسألة قد أغنى الفلاسفة عن تخصيصها بالبحث من الوجهة الفلسفية، فمن تكلم عنها منهم فإنما يعرض لها من ناحيتها العمرانية، ولا يتوسع كثيرًا في ناحيتها السياسية، إلا فئة من المفكرين والدعاة كانوا ينزعون في السياسة منزعًا خاصًّا لتغليب دعوة وإدحاض دعوة، فكانت مذاهبهم جزءًا من عملهم في هذا المسعى، وقد لخص كتاب الملل والنحل بعض هذه المذاهب التي لا تعنينا في موضوع هذه الرسالة.

أما الفلاسفة الإسلاميون: فقد كان بحثهم في مسائل الحكم عمرانيًّا يصدق على المجتمعات كافة، وكان الرأي الغالب بينهم عن أصل الحكومة هو الرأي الذي ألم به الغزالي، وعلل فيه وجود الحكومة بالحاجة إلى الأمن وكف العدوان من بعض الناس على بعض، إلا أن ابن سينا يرى أن اختلاف الناس هو سر بقائهم وانتظام عمرانهم، ويقول من رسالة لطيفة في السياسة: إن الله «منَّ عليهم بفضل رحمته منًّا مستأنفًا بأن جعلهم في عقولهم وآرائهم متفاضلين كما جعلهم في أملاكهم ومنازلهم ورتبهم متفاوتين، لما في استواء أحوالهم وتقارب أقدارهم من الفساد الداعي إلى فنائهم، ولما يلقي بينهم من التنافس والتحاسد، ويثير من التباغي والتظالم، فقد علم ذوو العقول أن الناس لو كانوا جميعًا ملوكًا لتفانوا عن آخرهم، ولو كانوا كلهم سوقة لهلكوا عيانًا بأسرهم، كما أنهم لو استووا في الغنى لما مهن أحد لأحد، ولا رفد حميم حميمًا، ولو استووا في الفقر لماتوا ضرًّا وهلكوا بؤسًا، فلما كان التحاسد من طباعهم والتباهي من سوسهم وفي أصل جوهرهم كان اختلاف أقدارهم وتفاوت أحوالهم سبب بقائهم وعلة لقناعتهم، فذو المال الغفل من العقل العطل من الأدب المدرك حظه من الدنيا بأهون سعي إذا تأمل حال العاقل المحروم وأكدار الحول القلب ظن بل أيقن أن المال الذي وجده خير من العقل الذي عدمه، وذو الأدب المعدوم إذا تفقد حال المثري الجاهل لم يشك في أنه فضل عليه وقدم دونه، وذو الصناعة التي تعود عليه بما يمسك رمقه لا يغبط ذا السلطان العريض ولا ذا الملك المديد …»

ونظر ابن سينا في أرجوزته في الطب إلى اختلاف أحوال الأمم وأمزجتها باختلاف أجوائها ومواقع بلدانها، ومنها يقول عن السودان والصقالبة:

بالزنج حر غير الأجسادا
حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا
حتى غدت جلودها بضاضا

ولم يكن له مذهب مفصل في شئون الحكم غير هذا وأشباهه من الملاحظات المقصورة على مسائل العمران وعلاقته بالطبائع والأجواء، ويصدق ذلك مع شيء من الإسهاب والإفاضة على كلام ابن خلدون في مقدمته النفيسة، فإنه أثبت ما قرره الفقهاء في مسألة الإمامة والحكومة، وأضاف إليه من عنده عبرًا تاريخية وتعقيبات على أطوار الاجتماع البشري تجعل مدار الدولة كله على الغلبة والعصبية، وتجعل الحكومة قوة غالبة تمنع التغالب بين آحاد الناس «لأن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازعٍ وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلبًا عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك، وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة؛ لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع ليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها …»

ثم تكلم عن أثر النبوة في السياسة فقال: إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية «لأنهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الوالي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس قبولًا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيء لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات …»

ولا تعارض بين مذهب ابن خلدون في اعتماد الملك على الغلبة بالعصبية وبين قيام الملك على مبادئ الحرية أو مبادئ الديمقراطية بإلهام من العقيدة الروحية والآداب الدينية، فإن إقامة الأحكام على المساواة تحتاج إلى الغلبة؛ بل هي أحوج إليها من إقامة الأحكام على التفاوت؛ لأن المساواة تكف كثيرًا من الأقوياء وتحرس كثيرًا من الضعفاء، وليس الحكم على التفاوت والجور بمحتاج إلى كل هذه الحيطة وكل هذا القمع لمن يستطيع الطمع والاعتداء.

وفيما عدا هذه الآراء التي تعلل قيام الملك والحكومة يدور كلام ابن خلدون على المسائل العمرانية وما بين المجتمعات البشرية من وجوه الشبه ووجوه الاختلاف، وعنده أن تشابه الأمم أكثر من اختلافها مع تعدد الأقاليم وتعاقب الأزمنة، ومذهبه في الحكم الصالح هو حكم فقهاء السنة لا يمنعه تقرير الواقع عن حكومات زمانه أن يرجع إليه بالتفضيل في الموازنة بين أنواع الحكومات.

أما الفيلسوف الإسلامي الذي جعل للسياسة مذهبًا مستقلًا فهو أبو نصر الفارابي صاحب السياسة المدنية أبو آراء أهل المدينة الفاضلة.

ولكن كلامه في هذه المسألة من قبيل «الطوبي» أو المثال الكامل للحكومة كما ينبغي أن تكون في أرفع درجاتها.

ويدل على منحاه قوله في خصال رئيس المدينة الفاضلة إنه «هو الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلًا، وهو الإمام، وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها، ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها: أحدها: أن يكون تام الأعضاء … ثم أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل وعلى حسب الأمر في نفسه، ثم أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه وفي الجملة لا يكاد ينساه، ثم أن يكون جيد الفطنة ذكيًّا إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دل عليها الدليل، ثم أن يكون حسن العبارة يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره إبانة تامة، ثم أن يكون محبًّا للتعليم والاستفادة منقادًا له سهل القبول لا يؤلمه تعب التعليم ولا يؤذيه الكد الذي يناله منه، ثم أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح، متجنبًا بالطبع للعب مبغضًا للذات الكائنة عن هذه، ثم أن يكون محبًّا للصدق وأهله مبغضًا للكذب وأهله، ثم أن يكون كبير النفس محبًّا للكرامة …»

وبعد تعديد الصفات الكاملة كلها يقول: «واجتماع هذه كلها في إنسان عسر، فلذلك لا يوجد من فطر على هذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد والأقل من الناس، فإن وجد مثل هذا في المدينة الفاضلة، ثم حصلت فيه بعد أن يكبر تلك الشرائط الست المذكورة قبل أو الخمس منها دون الأنداد من جهة القوة المتخيلة كان هو الرئيس …»

هذا الحاكم «المثالي» يحكم بحق كماله، ويتصل بالعقل الفعال في يقظته أو منامه، ويشبه أن يكون من أصحاب الوحي أو من أصحاب البصيرة التي تنطبع فيها الحقائق الإلهية، وأوجز ما يوصف به أنه أمنية جميلة شأنها شأن الأماني التي نريدها للرئيس وللأمة وللحياة عامة ولطبائع الأشياء قاطبة على الوجه الأعم، ومثل هذا «الطوبي» إنما تقرأ للعلم لا للعمل، ولا تخلو من التناقض حين ننظر إليها من الوجهة الفكرية فضلًا عن الوجهة العملية، فلو أن المجتمع المثالي يوجد فعلًا لقلت حاجته إلى الحاكم مثاليًّا أو دون هذه المرتبة العليا، ولو أن الحاكم المثالي يختار للحكم حيث وجد لبطلت الحاجة إلى الحكومات أو كادت، فإن القائلين بغلبة القوة أدنى إلى الواقع، والقائلين بغلبة الكمال ينسون فعل القوة الغاشمة، وقوام الأمرين أن القوة تغلب لو انفردت، ولكنها لا تنفرد أبدًا دون قوى أخرى توازنها، وتدفع بعضها ببعضها، ومنها قوة الأمل في الخير والنزوع إلى الكمال … وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة: ٢٥١).

وقد كان مذهب الفارابي في الحكم كمذهب غيره من أصحاب «الطوبيات» حلمًا يتعلق به الخيال، ويصلح لكل تخيل في كل مقام وكل مجال، فلا ترجيح فيه لمذهب على مذهب، ولا لحرية على استبداد؛ بل لقد يكون حق «الرئيس الكامل» في الاستبداد أرجح من حق الرئيس الذي يقصر عن كماله، ويحكم أمة أقل من أمته في صفات الكمال.

•••

وقد وجد الفلاسفة الإسلاميون بحوثًا فقهية مفصلة في مسألة الإمامة ومسألة الحكم عامة فلم يسهبوا في بحث هذه المسألة من الوجهة الفلسفية كما قدمنا، ولم يجعلوا همهم تخصيص الرأي في مذاهبها، وأن يكون لكل منهم نزعة فكرية فيها، وبخاصة وهم لا يدعون إلى إقامة حكومات عملية على نظام معين، ولكن المباحث الفقهية في مسألة الإمامة وحقوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتحت أبوابًا كثيرة في الآداب العربية خاصة والآداب الإسلامية عامة لنوع من الكتابة السياسية يقل مثله في اللغات الأخرى، وهو نوع النصائح والوصايا التي تكتب للملوك ومعها أشتات متفرقة أو منظمة للكلام على الآداب والمراسم التي تتبع في بيوت الملك والإمارة، فالمجموعات التي ظهرت بالعربية في هذه الأغراض — ولا سيما النصائح والوصايا — تزيد على نظائرها في كل لغة ومرجع، ذلك تارة إلى إيجاب الوصايا والنصائح في الإسلام، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل قادر عليهما، وتارة أخرى إلى طبيعة العرب التي نسميها بالطبيعة التاريخية؛ لتعودهم تسجيل التاريخ الشخصي بالرواية والإسناد، واعتبارهم نوادر الأولين وأحاديثهم دروسًا للأدب والعبرة فيما يعيه الكبار ويلقنه الصغار، فقلما تبدر كلمة من قائل في موقعها حتى يتناقلها الرواة مفصلة بمناسباتها والعبر التي تستفاد منها، وكتب النصائح والوصايا والآداب الملكية حافلة بأمثال هذه المرويات التي أثرت عن العرب أو عن غيرهم من الأمم في هذا السياق، وكلها دليل على الصورة المطلوبة أو الكائنة لنظام الحكم كما يستخلصه المؤلفون من تلك الروايات.

ويتضح مقصد المؤلفين لهذه الكتب من مقدمة واحد منها — ولعله آخرها — وهو كتاب «الفخري» في الآداب السلطانية والدول الإسلامية لمؤلفه محمد بن علي ابن طباطبا المعروف بابن الطقطقي حيث يقول: «… أما الكلام على أصل الملك وحقيقته وانقسامه إلى رياسات دينية ودنيوية، من خلافة وسلطنة وإمارة وولاية، وما كان من ذلك على وجه الشرع وما لم يكن، ومذاهب أصحاب الآراء في الإمامة، فليس هذا الكتاب موضوعًا للبحث عنه، وإنما هو موضوع للسياسات والآداب التي ينتفع بها في الحوادث الواقعة، والوقائع الحادثة، وفي سياسة الرعية وتحصين المملكة، وفي إصلاح الأحوال والسيرة، فأول ما يقال: إن الملك الفاضل هو الذي اجتمعت فيه خصال وعدمت فيه خصال، فأما الخصال الذي يستحب أن توجد فيه، فمنها: العقل، وهو أصلها وأفضلها وبه تساس الدول بل الملل، وفي هذا الوصف كفاية، ومنها: العدل، وهو الذي تستغزر به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرجال … إلخ.»

بدأ ظهور هذه الكتب من القرن الثالث للهجرة، واستمر ظهورها إلى أيام الدولة العثمانية، ومنها كتب ابن المقفع المترجمة والمؤلفة، وكتاب أخلاق الملوك الذي ينسبه بعضهم إلى الجاحظ، وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وكتاب سلوك المالك في تدبير الممالك لأحمد بن محمد بن أبي الربيع، وكتاب سراج الملوك للطرطوشي، وكتاب تذكرة ابن حمدون في السياسة والآداب الملكية، وكتاب أدب الوزير للماوردي، ومنها كتب وضعت بالفارسية أو التركية في مثل هذا الغرض أو في الحكم والإدارة ككتاب الغزالي الموسوم التبر المسبوك في حكايات وحكم ونصائح الملوك، وكتاب نظام الملك الموسوم بسياسة نامه أو سياسة الملوك، وكتاب عنصر المعالي قيقاوس الموسوم «بقابوس نامه» وكتاب نصائح الوزراء والأمراء الذي ألف في عهد السلطان أحمد الثالث العثماني، وغير هذا من الكتب أو الفصول المتفرقة في مجاميع الآداب والسير وفيها عظات ووصايا وأخبار مقتبسة من صفحات الأوراق أو ألسنة الرواة.

•••

ومن أمثلة هذه الوصايا قول ابن المقفع فيما يبتغيه السلطان من رضا الرعية: «إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رضى المتخالفين؟ أم ما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضا الأخيار وذوي العقول، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه: احرص أن تكون خبيرًا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعملك قبل أن يأتيه معروفك، وليعرف الناس من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي …»

وفي باب التماس الرضا واتقاء السخط يروى عن الإمام علي — رضي الله عنه — أنه كتب من وصيته لمالك بن الأشتر حين ولاه مصر: «… ليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، وأن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وأن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف، وأقل شكرًا عند الإعطاء، وأبطأ عذرًا عند المنع، وأخف صبرًا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم وميلك معهم، وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبًا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منهما، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك … ولا تدخلن في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا يضعفك عن الأمور، ولا حريصًا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله، وإن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرًا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة … وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك، واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلًّا قد سمى الله سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه — صلى الله عليه وسلم وآله — عهدًا منه عنده محفوظًا، فالجنود بعون الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالى لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوم لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوم لهم جميعًا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم … ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذي يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه … فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرهم جيبًا وأفضلهم حلمًا، ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ولا يقعد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع الكرم وشعب العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قومتهم به، ولا تحتقرن لطفًا تتعاهدهم به وإن قل …»

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه١ الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر عن الغي إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه … ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرًا المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها، وإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقًا فاحشًا وشحًّا قبيحًا واحتكارًا للمنافع وتحكمًا في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة، فامنع الاحتكار فإن رسول الله — صلى الله عليه وعلى آله وسلم — منع منه، وليكن البيع بيعًا سمحًا بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف …

الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا، واحفظ الله ما استحفظ من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك وقسمًا من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى …

واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسًا عامًّا، فتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله — صلى الله عليه وعلى آله وسلم — يقول في غير موطن: «لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته.

وامض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه …

وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرًا ولا مضيعًا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله حين وجهني اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: «صل كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيمًا …»

•••

ويذكر صاحب كتاب «الفخري» آداب المشاورة وحكمة فرضها على النبي قبل غيره من المسلمين، فيقول: إن الملك «ينبغي ألا يستبد برأيه، وأن يشاور في الملمات خواص الناس وعقلاءهم، ومن يتفرس فيه الذكاء والعقل وجودة الرأي وصحة التمييز ومعرفة الأمور، ولا ينبغي أن تمنعه عزة الملك من إيناس المستشار به وبسطه واستمالة قلبه، حتى يمحضه النصيحة، فإن أحدًا لا ينصح بالقسر ولا يعطي نصيحة إلا بالرغبة، وما أحسن قول الشاعر:

أهان وأقصى ثم يستنصحونني
ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا

قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران: ١٥٩)، وكان رسول الله يشاور أصحابه دائمًا، لما كانت وقعة بدر خرج من المدينة في جماعة من المسلمين، فلما وصلوا بدرًا نزلوا على غير ماء، فقام إليه رجل من أصحابه، وقال: يا رسول الله، نزولك ها هنا شيء أمرك الله به أو هو من عند نفسك؟ قال: بل هو من عند نفسي، قال: يا رسول الله! إن الصواب أن ترحل وتنزل على الماء فيكون الماء عندنا فلا نخاف العطش، وإذا جاء المشركون لا يجدون ماء فيكون ذلك معينًا لنا عليهم، فقال رسول الله: صدقت، ثم أمر بالرحيل ونزل على الماء.

«واختلف المتكلمون في كون الله أمر رسوله بالاستشارة مع أنه أيده ووفقه، وفي ذلك أربعة وجوه: أحدها: أنه — عليه السلام — أمر بمشاورة الصحابة استمالة لقبولهم وتطبيبًا لنفوسهم، والثاني: أنه أمر بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيعمل عليه، والثالث: أنه أمر بمشاورتهم لما فيها من النفع والمصلحة، والرابع: أنه إنما أمر بمشاورتهم ليقتدي به الناس، وهذا عندي أحسن الوجوه وأصلحها، قالوا: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الانفراد والاستبداد، وقال صاحب كليلة ودمنة: لا بد للملك من مستشار مأمون، يفضي إليه بسره ويعاونه على رأيه … المستشير وإن كان أفضل من المستشار وأكمل عقلًا وأصح رأيًا قد يزداد برأي المشير رأيًا كما تزداد النار بالدهن ضوءًا ونورًا …»

ومن أمثلة التجارب السياسية المروية عن الملوك ما جاء في العقد الفريد على لسان عمرو بن العاص يتحدث عن معاوية وهو ينظر إلى جيوشه وأتباعه فيسأله: يابن العاص! كيف ترى هؤلاء وما هم عليه؟ قال عمرو: فقلت: والله يا أمير المؤمنين رأيت من يسوس الناس بالدين والدنيا فما رأيت أحدًا أوتي من طاعة رعيته ما أوتي لك من هؤلاء، فقال: أفتدري متى يفسد هذا وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا، قال: في يوم واحد، قال عمرو: فأكثرت من التعجب، فعاد يقول: والله! وفي بعض يوم … إذا كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغناء فسد جميع ما ترى.

•••

ومن تجارب عمر بن عبد العزيز في حمل الناس على الطاعة بالعدل والطمع والأناة ما رواه صاحب تذكرة ابن حمدون، قال عمر: «إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمرًا من العدل فأخاف ألا تحتمله قلوبهم، فأخرج لهم معه طمعًا من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا.»

وجاء في العقد الفريد أن عبد الملك بن عمر بن العزيز قال لأبيه: يا أبت! ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحق لو غَلت بي وبك القدور، قال عمر: لا تعجل يا بني! فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعون وتكون فتنة.

وتكلم صاحب الفخري عن الشدة والرفق من أخلاق الملك إذا وجب هذا أو ذاك ولم يتيسر الجمع بينهما فروي عن الحكماء أنهم يقولون: «سلطان يخافه الرعية خير من سلطان يخافها.»

وروى صاحب السياسة والآداب الملكية: أن الوليد بن عبد الملك سأل أباه: يا أبت! ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.

وقال في مضار الملك: إنها من قبل ستة أشياء: «الحرمان والفتنة واللهو والفظاظة والزمان والخرق، فأما الحرمان: فأن يحرم خصالًا ستًّا أو يعطاها منقوصة فاسدة: منها صالحو الوزراء من أهل الرأي والنصيحة والأمانة، ومنها الاجتهاد، ومنها الأموال، ومنها البلد، ومنها الحصون، ومنها البرد والرسل، وأما الفتنة: فتهييج بعض الأعوان، وإحواجه إلى الخروج على الملك، أو شغب الجند وتحاربهم، وأما اللهو: فالإغرام بالنساء أو الشراب أو الملاعب أو الصيد إغرامًا يستغرق الفراغ، وأما الفظاظة: فإفراط الخصومة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبسط والابتزاز لما ليس له بحق، وأما الزمان: فهو ما يصيب الناس من السنين من الغرق والحرق والوباء وكثرة الأمطار والبرد وقلة الأمطار وشدة البرد، والحر بإفراط، وكثرة الهوام، التي يكون بها نقص الثمرات أو الموتان، وأما الخرق وسوء التدبير: فأن يعامل الأعداء في مواضع السلم بالحرب وفي مواضع الحرب بالسلم والموادعة، وفي المواضع التي يحتاج فيها إلى المكيدة والصبر والحذر والتدبير بالخطأ والمغالبة والغلظة وترك السياسة.»

•••

ومن أمثلة النصائح التي يواجه بها الملك أن رجلًا دخل على هشام — كما يروي صاحب العقد — فقال: «يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك، فقال: هاتهن، قال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها … ولا يغرنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرًا … واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب، واعلم أن الأمور بغتات فكن على حذر.»

ولما قتل عبد الملك بن مروان عمرًا بن سعيد بعد ما صالحه وكتب كتبًا وأشهد شهودًا، قال عبد الملك لرجل كان يستشيره، ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر: ما رأيك في الذي كان مني؟

قال الرجل: أمر فات دركه.

قال: لتقولن!

قال: حزم لو قتلته وحييت.

قال عبد الملك: أوَلست بحي؟

فقال الرجل: مات من أوقف نفسه موقفًا لا يوثق له بعهد ولا بعقد.

فقال عبد الملك: كلام لو سبق سماعه فعلي لأمسكت.

•••

والذين بحثوا في عمل الوزير كالماوردي وابن حمدون أرادوا أن يشتقوا عمل الوزارة من لفظها، فقالوا: إنها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها من الوزر وهو الثقل؛ لأنه — أي الوزير — يحمل عن الملك أثقاله. والثاني: أنها من الأزر وهو الظهر؛ لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بظهره. والثالث: أنها من الوزر وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: كَلا لَا وَزَرَ (القيامة: ١١) أي لا ملجأ؛ لأن الملك يلجأ إلى رأيه ومعونته.

واتفقوا على أن الوزير الصالح من كان وسطًا بين الخاصة والعامة؛ لأنه يدبر مصالح هؤلاء وهؤلاء.

ومن كلام الماوردي يخاطب الوزير: «… أنت سائس مسوس، تقوم لسياسة رعيتك وتنقاد لطاعة سلطانك، فتجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكرك جاذب لمن تسوسه، وشطره مجذوب لمن تعطيه، وهو أثقل الأقسام محملًا وأصعبها مركبًا؛ لأن الناس ما بين سائس ومسوس وجامع بينهما، ولك هذه الرتبة الجامعة، فأنت تجمع ما اختلف من أحكامها، وتستكمل ما تباين من أقسامها، وبيدك تدبير مملكة صلاحها مستحق عليك وفسادها منسوب إليك، تؤاخذ بالإساءة ولا يعتد لك بالإحسان … ويلزمك في حق سلطانك ألا تعتد عليه بصلاح ملكه؛ لأنك للصلاح مندوب، ولا تعتذر إليه من اختلاله؛ لأن الاختلال إليك منسوب، واجعل اعتذارك سعيك واجتهادك، فلسان الفعال أنطق من لسان المثال … وليس يختص العدل بالأموال دون الأقوال والأفعال، فعدلك بالأموال أن تؤخذ بحقها وتدفع إلى مستحقها؛ لأنك في الحقوق سفير مؤتمن وكفيل مرتهن، عليك غرمها ولغيرك غنهما، وعدلك في الأقوال ألا تخاطب الفاضل بخطاب المفضول ولا العالم بخطاب الجهول، وتقف في الحمد والذم على حسب الإحسان والإساءة؛ ليكون إرغابك وإرهابك على وفق أسبابها من غير سرف ولا تقصير، فلسانك ميزانك، فأحفظه من رجحان أو نقصان …»

•••

وقال صاحب كليلة ودمنة: «السلطان لا يقرب الرجال على قرب آبائهم ولا يباعدهم لبعدهم، ولكنه ينزلهم على قدر ما عند كل امرئ منهم فيما ينتفع به، وقد يكون الجرذ في البيت جارًا مجاورًا فينفى إذا كان ضارًّا مؤذيًا، ولما كانت في البازي منفعة — وهو وحشي — اقتني واتخذ.»

•••

هذه وأشباهها نصائح عملية تستمد من التجارب ويجربها من يشاء، ولكن الكتب التي أشرنا إليها تفيض بالنصائح المثالية التي ترجع إلى ما يجب أن يكون، وقلما يتفق أن يكون فعلًا، ومنها كلام ابن المقفع فيما يحسن بالملك وما لا يحسن «فليس للملك أن يغضب؛ لأن القدرة وراء حاجته، وليس له أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على إلزامه بغير ما يريد، وليس له أن يبخل؛ لأنه أقل الناس عذرًا من خوف الفقر، وليس له أن يكون حقودًا؛ لأن قدره قد عظم من المجازاة لأحد على إساءة صدرت منه، وليس له أن يحلف إذا حدث؛ لأن الذي يحمل الإنسان على اليمين في حديثه خلال: إما مهانة يجدها في نفسه واحتياج إلى أن يصدقه الناس، وإما عيٌّ وحصر وعجز في الكلام فيريد أن يجعل اليمين تتمة لكلامه أو حشوًا فيه، وإما أن يكون قد عرف أنه مشهور عند الناس بالكذب فهو يجعل نفسه بمنزلة من لا يصدق، ولا يقبل قوله إلا باليمين، وحينئذ كلما ازداد أيمانًا ازداد الناس له تكذبيًا، والملك بمعزل عن هذه الدنايا كلها، وقدره أكبر من ذلك، ومن الخصال التي ينبغي أن تكون معدومة في الملك الحدة فإنها ربما أصدرت عنه فعلًا يندم عليه حين لا ينفع الندم …»

وأكثر من ذلك إمعانًا في الصفات المثالية ما جاء في كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك حيث يذكر شروط الملك، ومنها: «أن يكون له قدرة على جودة التخيل لكل ما يعلمه من أعمال السعادة، وأن يكون صحيح الأعضاء تواتيه على ما يريده من الأعمال البدنية، وأن يكون جيد الفهم والتصور لما يقال له عالمًا بكتاب الله عاملًا به، وأن يكون جيد الحفظ لما يراه ويسمعه، ولا ينسى ما يدركه من العلم، وأن يكون جيد الفطنة ذكيًّا إذا رأى على الشيء أدنى دليل فطن له، وأن يكون حسن العبارة يواتيه لسانه على إبانة جميع ما في ضميره، وأن يكون محبًّا للصدق وأهله كارهًا للكذب وأهله طبعًا لا تكلفًا، وأن يكون غير شره على الشهوات مبغضًا لما ساءت عاقبته من اللذات، وأن يكون كبير النفس محبًّا للكرامة يعظم نفسه عن كل ما يشين من الأمور، وأن يكون محبًّا للعدل والصدق وأهلهما مبغضًا للجور والكذب وأهلهما منصفًا من نفسه، وأن يكون قوي العزيمة على ما يبتغي غير خائف من الموت ولا ضعيف النفس، وأن يهون عنده الدينار والدرهم وسائر الأعراض الدنيوية الفانية …»

والنصائح التي من هذا القبيل لها نظائر في الدساتير الحديثة حيث يقول فقهاء السياسة: «إن الملك لا يخطئ» ويعنون بذلك وظيفة الملك لا شخصًا بعينه يوصف بالعصمة وهي مستحيلة في الناس، إلا أن المبدأ في ذاته سليم من حيث يقوم على مطالبة الحاكمين بالصفات التي تنفع المحكومين على أحسن مثال، ولا تخولهم الأمر والنهي إلا بما فيه صلاح للمأمورين والمتهمين، ولو كان الحكم حقًّا للحاكم ومصلحته الشخصية لما لزمته هذه الصفات، إلا أن يكون الكمال مطلوبًا لكل إنسان من الحاكمين أو المحكومين.

•••

وعلى الجملة تقوم النصائح والوصايا في هذه الكتب جميعًا على قاعدة واحدة: وهي الحكم لمصلحة المحكومين، ولا يشذ عن هذه القاعدة غير فئة قليلة من الرواة والكتاب تناقلت مراسم الدولة من عادات الدول القديمة التي كانت قائمة في بلاد الروم والفرس قبل قيام الدولة الإسلامية، وعذرهم في هذه المراسم أنها لازمة لتعظيم سلطان الدولة بين جيرانها وأعدائها، ومنهم من يذكر في هذا الباب عذر معاوية في عهد الخلافة العمرية، وخلاصة القصة كما رواها يزيد بن معاوية: «أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل فجاوز عمر حتى أخبر بمكانه فرجع إليه … قال يزيد: فلما قرب منه نزل إليه فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جانبه راجلًا، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل، فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية! أنت صاحب الموكب آنفًا مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا في بلد لا نمتنع فيه من جواسيس العدو، ولا بدَّ لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. قال عمر: لئن كان الذي تقول حقًّا فإنه رأي أريب، وإن كان باطلًا فإنها خدعة أديب، ما آمرك ولا أنهاك. فقال عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه. فأجابه عمر: لحسن موارده جشمناه ما جشمناه.»

غير أن كتاب المراسم تعمدوا الملق فأجازوا للإمام المسلم ما لا يجيز الإسلام، وجعلوها قيصرية أو شاهانية، وكلتاهما كانت مضرب المثل عند النبي، وحجة فيها يذم ولا يحمد من أبهة الجبابرة والطغاة، ولم تأتِ في الكتاب والسنة كلمة واحدة تبيح لولي الأمر أبهة تحجبه عمن يطرق بابه في المصالح والواجبات.

١  تمحكه: تنازعه في الكلام، المماحكة، الملاجَّة والمنازعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤