حكومة الكون

عقيدة الإنسان ميزان أخلاقه وعنوان آرائه في الحق والعدل والمعاملة المثلى والحكومة الصالحة، ولم نعهد في أمة من الأمم قط أنها ارتقت بالمثل الأعلى في العدل والصلاح إلى طبقة أعلى مما تعتقده في الرب الذي تعبده، وتأخذ نفسها بإطاعة أمره وانتظار رضوانه، وقد اطردت هذه الظاهرة من العصور الفطرية الأولى إلى العصر الأخير الذي بلغت فيه حضارة الإنسان غاية مداها، فلما كان الإنسان مؤمنًا بالعفاريت والأشباح يعبدها، ويطلب رضاها، ويتشفع إليها بالذبائح والقرابين كانت معيشته بين عشيرته والغرباء عنه معيشة العفريت الذي يتمرد تارة ويراض على الهدوء تارة أخرى، وكان يحسب عمل العفريت الذي يسطو على الناس أو يتسلل إليهم شيئًا طبيعيًّا لا غرابة فيه ولا ملامة عليه؛ بل كل ما هنالك أنه يدفع بالتعاويذ والرقى، ويتقى بوساطة السحرة والكهنة، وشفاعة الرشوة والهدية.

وقد سجل الباحثون في طبائع البشر هذه الظاهرة، وظنوا أنهم وقفوا منها موقف المراقب الذي لا يخضع لحكمها، ولكننا إذا نظرنا إلى آراء الفلاسفة الذين يضرب بهم المثل في قوة التفكير والخلاص من شوائب الخيال وجدناهم أنفسهم مثلًا من الأمثلة التي تثبت تلك الظاهرة وتكررها، فكان فلاسفة الألمان يقولون بالإرادة كأنها هي الصفة الغالبة في نواميس الكون، ويقرون للحكومة بالحق ولا يدينونها بالواجب، وكان أشهر القائلين بأن الإله غير مطلق الإرادة أناسًا من فلاسفة الإنجليز، وليس من مجرد المصادفات كما قلنا في كتابنا «الله» أن تبدأ هذه النزعة الفلسفية في البلاد الإنجليزية التي يقال عنها إن وظيفة الملك فيها وظيفة اسمية، وإن حامل التاج هناك لا يتعرض لسياسة حكومته إلا بمقدار ما يدعوه رعاياه، وليس من محض المصادفات أن يكون البادئ بها هو جون ستيوارت ميل صاحب المراجع المعتمدة في مباحث الحكومة النيابية ومباحث الحرية والدستور وصاحب الوظيفة التي تخلى عنها حين آلت إدارتها إلى سيطرة الحكومة البريطانية.

والثابت على كل حال من تواريخ العقائد والشرائع والأنظمة الحكومية أن الناس لم يطلبوا قط نظامًا لحكوماتهم أعلى وأرفع من نظام الكون كله كما يعتقدونه، وهذه الحقيقة تنطبق على المسلم كما تنطبق على غيره، مع فارق واحد فيه كل العبرة وكل الدلالة، فالمعهود في الأمم أن تترقى عقيدتها تبعًا لارتقاء آرائها عن الحكم والحكومة وارتقاء فهمها للنظام والسياسة، ولم يكن هذا شأن المسلم الذي دان بالعقيدة الإسلامية قبل أربعة عشر قرنًا في بلاد لم تعرف الحرية في مبادئ الحكومة وقواعد الدساتير، فإن آراءه عن الحق والنظام والعدل والحرية كانت تابعة لعقيدته الإلهية، ولم تكن سابقة لها، فآمن بإله قادر عادل قبل أن تتمثل له هذه الضوابط في صورة من صور الحكومة الأرضية، وجاءت صورة الحكومة الكونية كما يوجبها عليه اعتقاده مثلًا أعلى للحكم الذي لا جنف فيه ولا حيد عن الشريعة، أو مثلًا أعلى للحكومة الديمقراطية كما ينبغي أن تكون.

المسلم يؤمن بإله قادر على كل شيء فعال لما يريد، ويسبق إلى الظن من هذه الصفة العامة أن الإله الذي يتصف بها حاكم بغير قانون، وأن الحكومة الأرضية التي تقتدي بهذه الحكومة الكونية لا تكون إلا حكومة استبداد وانطلاق من القوانين، ولكن الواقع أن المسلم الذي يدين بهذه الصلة الإلهية يدين معها بالسنن التي لا تتبدل ولا تتحول، وقد تكررت الإشارة إلى هذه السنن في القرآن الكريم مرات متعددات في شتى المناسبات، ومنها: سُنَّةَ اللهِ فِي الذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا

ومنها: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا

ومنها: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ

ومنها: وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ

إلى أمثال هذه الآيات التي تذكر السنة تارة بهذا اللفظ، وتارة بما في معناه من الألفاظ والعبارات.

فالحكومة الكونية في اعتقاد المسلم حكومة ذات قوانين، وليست بالحكومة الفوضى، ولا بالحكومة التي تجري على الهوى، وهي على ذلك لا تدين أحدًا بحكم من الأحكام من غير نذير وبغير تبليغ مبين:
  • وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا.
  • وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ.
  • وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.

ومع اعتقاد المسلم أن سنة الله غالبة على كل شيء يعتقد أيضًا أن الإنسان عامل من عوامل سنن الله، وأنه ليس بعالة على الكون ولا لغوًا فيه ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

ولم ينف القرآن صفة عن الله كما نفى عنه — جل وعلا — صفة الظلم خاصة، ولم يرو حديث قوم هلكوا بآفة أشنع من آفة الظلم، ولا سيما ظلم الضعفاء.

وهذه بعض الآيات الكثيرة التي تنفي الظلم عن الله، وتنزهه عن طغيان السلطان، وهو أكبر سلطان، والله أكبر على لسان المسلم وفي ضميره عند كل مفتتح وبعد كل ختام.
  • وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ.
  • وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ.
  • ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ.
  • إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
  • وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
  • إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا.

وتقترن هذه الآيات في ثنايا الكتاب الكريم كله بآيات العبر والعظات التي تسوق للناس أنباء الأمم التي أهلكها الظلم، والجبابرة الذين دكت عروشهم وعفت آثارهم؛ لأنهم كانوا ظالمين.

هذه هي الحكومة الكونية في عقيدة المسلم: حاكم الكون هو خالقه فهو القادر على كل شيء والفعال لما يريد، ولكنها حكومة لها سنن وشرائع ومبلغون ومنذرون، ولها حجة قائمة وبرهان مبين، وكلُّ إنسانٍ فيها مسئول عن عمله لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، وَكُل إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.

ولا يكفي أن يكون البلاغ قائمًا، والنذير سابقًا، والسنة جارية لا تتبدل ولا تتحول؛ بل يعلم المسئول ذنبه بنفسه، ويعلم بماذا يدان، ولأي شيء يدان، ويبدأ كل عمل وكل خطوة وكل حساب «بسم الله الرحمن الرحيم».

•••

إذا آمن الإنسان بحكومة الكون على هذا المثال استحى أن يدين لمخلوق مثله بحق أكبر من هذا الحق أو يدين مخلوقًا مثله بطاعة أكبر من هذه الطاعة، ورفض الظلم في أطواء ضميره قبل أن يرفضه في مشهود عمله ومسموع قوله، وجاءته الديمقراطية عفوًا ما لم يدفعها عن ضميره ويدفعها بيديه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤