الإمامُ

من أدل الكلمات على معناها كلمة الإمام، وقد تدل على الشروط المطلوبة ممن يتولى الإمامة بإجمال لا يحتاج إلى تفصيل طويل.

فالإمام هو الذي يؤم الناس في إقامة الأحكام، والشروط المطلوبة منه تجتمع في القدرة على إقامتها، فكل قادر على أن يؤم الناس ويحفظ الأحكام فهو صالح للإمامة في الإسلام.

وليس في الدين الإسلامي هيئة خاصة تملك ترشيح الإمام دون غيرها من الرعية، ويذهب الحكيم الفقيه القاضي الباقلاني إلى القول بأن الإمامة تتم «برجل واحد من أهل الحل والعقد إذا عقدها لرجل على صفة ما يجب أن يكون عليه الأئمة» فإن الترشيح تتبعه المبايعة العامة، وإذا تعدد الترشيح فالأسبق هو الأحق، والباقون مدعوون إلى التسليم له والدخول في طاعته.

وبين الإمام والأمة «مسئولية» متبادلة، فهو مسئول عنها؛ لأنه راعٍ وكل راع مسئول عن رعيته، وهي مسئولة عنه؛ لأنها تختاره وتبايعه «وكما تكونوا يول عليكم».

وطاعة الإمام واجبة لا تسقط عن الناس إلا إذا أمر بالمعصية وخالف الشريعة، وتواترت الأحاديث النبوية في ذلك كحديث ابن عمر المتفق عليه: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وحديث عبادة بن الصامت المتفق عليه أيضًا: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لوم لائم، وفي رواية: على أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.»

ولا يحتمل الأذى من السلطان إلا لاتقاء فتنة، وفي ذلك يقول عليه السلام: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»، ويروي عوف بن مالك الأشجعي عنه — عليه السلام — أنه قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم»، قال الأشجعي قلت يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا، ما أقاموا الصلاة، لا، ما أقاموا الصلاة، إلا من ولِّي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة.»

والنصيحة مع ذلك واجبة كما قال عليه السلام: «الدين النصيحة» وسئل: لمن؟ فقال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وهي في حكم الجهاد، كما جاء في حديث آخر: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.»

أما الصفات المطلوبة في الإمام فهي الفهم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والبصر بتدبير الجيوش وأمر الحرب وسد الثغور وحماية البيضة، ويضيف أناس من الفقهاء إلى ذلك أن يكون قرشيًّا لقوله عليه السلام: «الأئمة من قريش»، ويرى الكثيرون التحلل من هذا الشرط لأسباب كثيرة منها، أنه شرط من شروط متعددة، فإذا اجتمع أكثرها ولم تكن منها النسبة القرشية كان فيها الكفاية، ومنها أن النبي — عليه السلام — قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، وقول عمر رضي الله عنه: «لو كان سالم مولى حذيفة حيًّا لوليته.»

ومنها أن النبي لا يدعو إلى عصبية؛ لأنه نهى عنها في أحاديث كثيرة وبريء من كل دعوة إلى العصبية، فهو صلوات الله عليه يؤثر الإمام القرشي لصفات القدرة على القيام بالإمامة، لا للعصبية ولو فقدت معها القدرة، وقد كانت قريش أقدر القبائل بمكة عاصمة الجزيرة في عهد الدعوة المحمدية، فكانت إمامتها هناك أرجح إمامة، وظلت كذلك إلى أن قام بالأمر من اجتمعت له شروط الإمامة دونها، أما ما عدا الإمامة من أعمال الولاية فلا اختلاف عليه في زمن من الأزمان على عهد النبي وبعد عهده، فقد ولى — عليه السلام — زيدًا وابنه أسامة قيادة جيوش كان فيها جلة الصحابة القرشيين، ومنهم عمر بن الخطاب.

ولا خلاف بين فقهاء السنة على جواز خلع الإمام متى ثبت نقضه للعهد أو عجزه بعلة لا يرجى صلاحها، وإنما ينظرون في ذلك إلى اتقاء الفتنة، فإذا أمنت فلا خلاف، وإذا وقعت الفتنة فالأمر إذن أمر الواقع لا محل فيه لفتوى الحكماء إلى أن يستقر الأمر على قرار.

ويرى بعض الشيعة الإمامية أن الخلع لا يجوز بعد انعقاد الإمامة، وأن الإمامة وصية من النبي — عليه السلام — يتلقاها إمام عن إمام، ولكن الشيعة الإمامية يرون أن الإمام قد يحتجب حينًا، ويتولى الحكم عنه حاكم ظاهر، ولا خلاف بين الشيعة وأهل السنة في وجوب الرجوع بالبيعة له إلى الأمة، فهي التي تبايع من ترضاه.

وإجلال الإمامة عن الخلافات الهينة مجمع عليه بين السواد الأعظم من المسلمين، فإنها المنصب الذي تتعلق به حماية الدولة وحقوق الأمة، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما جاء في الحديث الشريف، أو كما جاء في الأثر: «إن السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر.»

لكن المهم في إسباغ هذه الجلالة على منصب الإمامة أنها تحفظ الحقوق وتقيم الحدود وتحقن الدماء، وليست جلالتها؛ لأنها حق يتسلط به صاحب السلطان على رعاياه.

في أوائل هذا القرن الهجري تجدد البحث في مسألة الخلافة العثمانية، وكان صاحب مجلة «الإنسان» حسن حسني الطويراني — الذي كان يلقب بالفيلسوف — من أنصارها ودعاتها فكتب يقول في رسالة بعنوان: «إجمال الكلام على مسألة الخلافة بين أهل الإسلام»:

لا يخفى على كل مطلع عارف بالأحوال العمومية أن هذا المقام الجليل الجامع بين رياستي الدين والدنيا قد ادَّعاه كثيرون في غابر الأيام وحاضرها وقديم الأجيال وحديثها، فيدعيه اليوم ملك المغرب الأقصى المولى الحسن وحجته على ما انتهج من محجته أنه من سلالة الأدارسة سلاطين فاس وملوكها من قرون؛ إذ هم ينتهون إلى إدريس الأكبر وهو إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما … ويدعيها أيضًا ملوك إيران وهم شاهان العجم، حتى إن جرائدهم الرسمية كجريدة الاطلاع وإيران، وغير الرسمية كجريدة فارهنج أصفهان وشرف، تصف مدينة طهران عاصمة المملكة الإيرانية بدار الخلافة الناصرية، وحجتهم أن الوصاية والإمامة منحصرة في أولاد علي — رضي الله عنه — وأن حكومتهم هي القائمة بشعائرهم المذهبية والمؤيدة لدعوتهم العلوية، ويدعيها كذلك بعض الناس في صعدة ضمن ولاية اليمن شرف الدين وأولاده، وحجتهم حجة أصحاب المغرب الأقصى المولى الحسن الفاسي إلا أنهم يرون أنفسهم الأحق بذلك منه؛ إذ ينتهون في أنسابهم إلى الإمام الحسين، وهو أساس خلف بين الحسنية والحسينية؛ لأن السيد الحسن صالح معاوية وترك حقه في الخلافة، وأما السيد الحسين: فإنه لم يصالح بل طلبها حتى قتل دونها، مستشهدًا في وقعة كربلة، وممن ادعى الخلافة والإمامة: أولاد سعود أصحاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القطعة النجدية من أواخر القرن الثاني عشر إلى قريب عهدنا الحاضر أو فيه، وحجتهم حجة الشيخ ابن عبد الوهاب إذ لا يعتقدون أن غيرهم من المسلمين على حق إلا إذا دانوا بما يدينون، فلذلك لا يجدون حقًّا لغيرهم في دعوة الخلافة، ولا يقرون لأولاد عليٍّ بما يدعون من الوصاية والاستحقاق، وكان يدعي الإمامة أيضًا أمراء صنعاء اليمن، ويلقبون أنفسهم بألقاب العبابسة كالمعتز بالله والمعز لدين الله وهلم جرًّا، حتى وقعت حرب اليمن بعد الثمانين والمائتين وألف واحتلتها الجيوش العثمانية، وحجتهم حجة من ذكر قبلهم من العلويين، وادعاها عبد الله التعايشي خليفة المتمهدي في أم درمان …

ومعظم هؤلاء الآن قد انقضى عهدهم أو انقضت دعواهم في الخلافة والإمامة، وليس من شأننا في هذا المبحث أن نفصل بين مدعيها أو نقدم حجة فريق منهم على فريق، ولكن موضع العبرة من سياق هذا الكلام هو حكمة الإيمان بسيادة الأمة، وأنها مرد التشريع والسلطان، فإذا تعذرت المبايعة لخليفة واحد متفق عليه فلا تسقط الشرائع، ولا تستباح الحقوق ما دام المحكومون هم مرجع الحكم في كل دولة، وما دامت الأمم هي مصدر السلطان وإلا كان الحق كله للسيف والغلبة، وهو حق يدعيه المؤمنون بالأديان وغير المؤمنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤