أخلاقنا الاجتماعية … إلى أين؟١

لم يكن يجول في خاطري أن أقوم يومًا ما بالكتابة بشيء من الإسهاب في موضوع الأخلاق كما تُطبَّق عمليًّا على حياتنا في مرحلتها الراهنة؛ إذ كنت أعتقد على الدوام أن الأخلاق — في جانبها العملي — ترتكز على أسسٍ أسبقَ منها وأعمق، أي إنها ليست كيانًا قائمًا بذاته، خاضعًا لمنطقه الداخلي الخاص، مستقلًّا عما عداه وغير متأثر إلا بنفسه، وإنما هي السطح الظاهري الذي تتفاعل من تحته وتتعامل عشراتٌ من العوامل الدفينة، وهي عواملُ يصعب على العين العادية إدراكُها، وتكون حصيلة تفاعلها في نهاية الأمر ذلك الشيء الذي نسميه بالأخلاق، ومن هنا كان من قبيل إضاعة الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه أن يُجهِد المرء نفسه في الحديث عما يجري على السطح الظاهري، الذي لا يرى معظمُ الناس سواه، وهو يعلم أن من وراء هذا السطح عواملَ خفيةً هي التي تحرِّكه من وراء ستار، وأن هذه العوامل تبدو مقطوعة الصلة بمجال الأخلاق، بينما هي في حقيقة الأمر تمارس عليه تأثيرًا حاسمًا، وإن لم يكن مع ذلك تأثيرًا واضحًا للعيان.

على أن الترحيب الذي لقيه مقالي السابق بعنوان «أخلاقنا العلمية … إلى أين؟» قد أقنعني بأن للكتابة في ميدان الأخلاق مجالًا واسعًا، وبأن هناك رغبةً يمكن أن تُوصف بأنها عامة في معالجة هذا الموضوع لا في مجالٍ ضيقٍ كالأخلاق العلمية فحسب، بل على أوسع نطاق ممكن، وبأن الكلام فيه ليس منعدمَ الجدوى إلى الحد الذي قد يبدو عليه لأول وهلة.

وبطبيعة الحال فإن التصدي لهذا الموضوع يحتاج إلى تلافي محاذيرَ يقع فيها الكثيرون، وترتد كلها إلى الخطأ الأساسي الذي أشرنا إليه من قبلُ، وأعني به النظر إلى الأخلاق على أنها تكون مجالًا مستقلًّا عن كلِّ ما عداه، وعلى أنها قادرة على تفسير نفسها بنفسها، فلا مفرَّ للمرء — وهو يعمل على تشخيص العيوب — من أن يرد هذه العيوب إلى أسبابها الموضوعية الكامنة في تركيب المجتمع ذاته، ولا بُدَّ له — في مرحلة البحث عن العلاج — من أن يقدم أفكارًا تصلح لمعالجة الداء من جذوره، لا لتغطية سطحه الخارجي فحسب.

إننا شعب اشتهر بميله — الذي قد يكون مفرطًا — إلى نقد ذاته، وكثيرًا ما يتردَّد في أحاديثنا — حينما نجد أنفسنا إزاء أمرٍ يثير فينا السخط — لفظُ «يا بلد!» أو «يا شعب!» وكثيرًا ما يلحق هذا اللفظ بصفاتٍ تدل على أننا نتهم أنفسنا — كشعب — بالضعف الأخلاقي، وبما قد يكون أسوأ من ذلك، وبطبيعة الحال فإن المتكلم يستثني نفسه دائمًا من هذا الحكم (إذ كيف يكون قد أدرك هذا الضعف، واستطاع أن ينتقده، لو لم يكن هو ذاته فوق مستوى الضعف؟) ومع ذلك فإن أحدًا لا يتنبه إلى المفارقة التي تتلخص في أننا جميعًا نردِّد هذه العبارات، وبالتالي فلو كنا جميعًا فوق مستوى الضعف الأخلاقي لما كان لعباراتنا هذه معنًى، ولكن لندعْ جانبنا هذا التناقض الشكلي، ولنتأملِ الظاهرة في جوهرها، فما الذي يدل عليه هذا النقد الذاتي المفرط، الذي قد يتجلَّى مباشرةً في عباراتٍ ساخطة، وقد يتخذ مظهرًا غير مباشر في ذلك السيل الجارف من النكات التي لا يفلت أحدٌ من سخريتها اللاذعة، أو من لذعتها الساخرة؟

إنه يدل — أولًا وقبل كل شيء — على اعتقادٍ منتشرٍ بين معظم العامة وكثير من المثقفين، بأن لكل شعب أخلاقًا خاصة مميزة له، وبأن هذه الأخلاق صفةٌ لاصقةٌ به، أو جزء من تكوينه «الطبيعي» أو «الفطري»، ولمَّا كنا لا نود الخوض في مناقشةٍ طويلةٍ نفنِّد فيها الاعتقاد بوجود أي نوع من الارتباط بين ما يُسمَّى بالتكوين الطبيعي لشعبٍ ما وبين النمط الأخلاقي السائد فيه، فسوف نكتفي بالقول إن أخلاق أي شعب لا تتميز عن أخلاق شعب آخرَ إلا لأن الظروف الموضوعية المتراكمة عبْر التاريخ، والتي مر بها هذا الشعب، تختلف عن ظروف الشعوب الأخرى، ومعنى ذلك أن من واجبنا — قبل أن نقسو على أنفسنا بلومٍ مفرط — أن ندرك مدى تأثير العوامل المعاكسة التي تَعرَّضْنا لها على مر التاريخ، ومدى عجزنا — كمجتمع — عن التحكم في هذه العوامل وتغيير اتجاهها على النحو الكفيل بتحقيق مصالحنا، عندئذٍ يمكن أن تبدو عيوبنا الأخلاقية في ضوءٍ مختلف، وتتخذ أساليبُ إصلاحِ هذه العيوب طابعًا مغايرًا، مستمدًّا من الفهم السليم للعوامل الحقيقية المتحكمة في أخلاقنا.

على أن هذا النقد الذاتي القاسي يدل أيضًا على حقيقةٍ لا يمكن الشك فيها، وهي أن هناك إحساسًا عامًّا بوجود أزمة أخلاقية، ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن عددًا غيرَ قليل من المشتغلين بشئون الفكر قد دأبوا على التحذير من هذه الأزمة الأخلاقية، ومع ذلك لا يشعر المرء في كتاباتهم بوجود تلك الرغبة المخلصة في البحث عن علاجٍ حقيقي، بل إن أكثر الأصوات ارتفاعًا في التنبيه إلى عيوبنا الأخلاقية، كثيرًا ما تَصْدُر عن أبعد الناس عن الأخلاقية بمعناها الصحيح، وتعليل هذه الظاهرة أمرٌ ميسور؛ إذ إن هؤلاء يعزلون العامل الأخلاقي عن غيره من العوامل، ويصوِّرون مشكلتنا الأخلاقية كما لو كانت مستقلة عن غيرها من المشكلات، وتتجه دعوتهم — نتيجةً لذلك — إلى «إصلاح الأخلاق» أو «تقويمها»، وإلى «تهذيب النفوس»، وما إلى ذلك من الأهداف التي يستحيل تحقيقها عمليًّا، والتي يستحيل التأكُّد من صداها الحقيقي في النفوس حتى لو أمكن تحقيقها، وهكذا فإن أصحاب النزعة الأخلاقية الخالصة هؤلاء، يقومون في واقع الأمر بتمييع المشكلة عن طريق نقلها إلى مجالٍ غيرِ قابل للبحث الموضوعي ويستحيل أن تطبَّق فيه معاييرُ متفقٌ عليها، وأعني به مجال إصلاح النفوس وتهذيبها.

ولكن إذا كانت هذه النظرة — التي ترتكز على الاعتقاد بالاستقلال الذاتي للأخلاق — قد زَيَّفت المشكلة بنقلها إلى مجالٍ لا يخضع البحث فيه — بطبيعته — للمنهج العلمي، فإن هذا لا ينفي أن المشكلة ذاتها قائمة، وإن كانت تحتاج في تشخيصها وفي علاجها إلى وجهة نظر مختلفة تمام الاختلاف.

وربما كانت أوضح مظاهر هذه الأزمة الأخلاقية هي تلك الحالات التي تكتمل فيها كل المقومات الكفيلة بنجاح مشروع معيَّن، من تخطيط سليم ومعدات كاملة ووسائل مادية لا ينقصها شيء، ثم تكون النتيجة أن يلقى المشروع إخفاقًا ذريعًا، في هذه الحالة، حين نتساءل في حيرة ودهشة: أين الخطأ إذن؟ لا نجد أمامنا مفرًّا من أن نجيب: إنه في الإنسان، أو بعبارة أدق: في الأخلاق. وما أكثرَ هذه الحالات في حياتنا، وما أقوى أصوات النائحين الذين يندبون حظنا العاثر في ميدان الأخلاق، ويلحون على المجتمع كيما يقوِّم اعوجاج المنحرفين بالوعظ والإرشاد، ولكن الأمر المؤكد أن هذه الطريقة في معالجة الأزمة لا تُجْدِي فتيلًا؛ لأن صاحب المصلحة يستحيل أن يتنازل عنها من أجل موعظة، وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة؛ فالأزمة موجودة يشعر بها الجميع، ولكن أسلوب العلاج التقليدي لا يؤدي إلا إلى زيادة الأزمة تفاقمًا، فكيف يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق؟

أولى الخطوات في الطريق الصحيح هي — في رأيي — الإدراك الواعي لقصور نظرتنا إلى الأخلاق؛ فنحن — بوصفنا مجتمعًا شرقيًّا ميالًا إلى المحافظة — نميل إلى المبالغة في تأثير العامل الأخلاقي، ولكنا لا نكاد نفهم هذا العامل إلا من جانب واحد هو الجنس، والحق أنك لو سألت ألوفًا من عامة الناس — بل ومن المثقفين — عن مفهوم الشخص الأخلاقي والشخص اللاأخلاقي، لقدَّم إليك معظمُهم أوصافًا تدل على أن الأول في نظرهم هو العفيف جنسيًّا، والثاني هو المتحرر أو «المنحل» في مسائل الجنس.

هذا التوحيد بين الأخلاق وبين الجانب الجنسي من سلوك الناس له دلالاته الخطيرة؛ فهو أولًا يدل على اهتمامٍ مفرطٍ بالجنس، ناشئ عن قسوة الحرمان وصرامة القيود التي يفرضها المجتمع الشرقي المحافظ على أفراده في هذا المجال، ومن المعروف أن الإنسان كثيرًا ما يميل إلى تحريم أحب الأشياء إلى نفسه، أو على الأقل فرض قيود شديدة عليها، على أن هذه الصرامة في النظرة إلى الجنس تخفي وراءها نفاقًا شديدًا لا يملك المرء إلا أن يتشبع به منذ حداثته؛ إذ إن قدْرًا كبيرًا من التحريمات التي نفرضها في مجال الجنس ترجع إلى الرغبة الخفية فيه، وكثير من المتزمِّتين لا يُبْدُون هذه الصرامة إلا لأنهم محرومون، بحيث تكون قسوتهم وصرامتهم مجرَّد مظهر سلبي للرغبة العارمة في ارتكاب كلِّ ما يحرِّمونه على الغير، ومن المؤكد أن شبابنا الذي ينشأ موزَّع النفس بين التحريم الشديد الذي يفرضه المجتمع، وبين الرغبة القوية التي تزيدها لديه الحواجز المفروضة على الاختلاط بكل أنواعه ودرجاته، لا بُدَّ أن ينتهي به الأمر إما إلى أن يساير ركْب النفاق الاجتماعي فيدَّعي لنفسه وَرَعًا لا يؤمن به في قرارة نفسه، وإما إلى الأساليب الهروبية كإدمان النكات الجنسية أو ما هو شر من ذلك.

أما الدلالة الأخرى لهذا الاهتمام المفرط بالجنس واتخاذه مقياسًا أوحدَ لأخلاقية المرء، فهي افتقارنا إلى الوعي بالبُعد الاجتماعي للأخلاق، وبما ينطوي عليه من إحساس بالمسئولية العامة، وتركيزنا الاهتمام على أبعادها الفردية فحسب؛ ذلك لأن الجنس بطبيعته فردي لا يؤثر إلا في فردٍ بعينه من حيث علاقته بفردٍ آخرَ أو بمجموعة ضيقة من الأفراد، ومن هنا كان هذا التركيز على الجنس مؤديًا إلى تصوُّر الأخلاق كما لو كانت مسألة تهمُّ الفرد المنعزل وتتعلق به وحدَه، مع أن للأخلاق بُعدًا اجتماعيًّا هو دون شك أهم أبعادها جميعًا، والنتيجة المباشرة لذلك هي أن التهاون في أداء المسئوليات العامة نحو المجتمع، والافتقار إلى الضمير المهني أو الوعي الاجتماعي، كلها أمورٌ لا تُعَدُّ في نظرنا مدعاةً إلى اللوم كالانحراف عن العرف الشائع في مجال الجنس.

ولسنا نعني بذلك أن الجنس ينبغي ألا تكون له أهمية في التقييم الأخلاقي، وإنما الذي نعنيه أنه لا يعدو أن يكون واحدًا من العناصر التي ينبغي أن تُؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أخلاقية الناس، وهو عنصرٌ ليس له تأثير ملحوظ على السلوك العام للفرد، أعني سلوك الفرد في الأمور التي تمس المصلحة العامة، ومن هنا كان تركيز الاهتمام على التصرفات المتعلقة بالجنس مؤديًا إلى تجاهلِ أمورٍ أكثرَ حيويةً إلى حدٍّ بعيد بالنسبة إلى مصالح المجتمع ككل.

•••

فلنحاولْ إذن أن نقدِّم لمحاتٍ سريعة لبعض مظاهر تلك الأزمة الأخلاقية التي يؤكد الجميع وجودَها، ولنبحثْ في الوسائل الكفيلة بأن تضعنا على أول الطريق الصحيح المؤدي إلى علاجها.

أول ما ينبغي أن نتنبه إليه — ونحن نبحث عن مظاهر أزمتنا الأخلاقية — هو أن السلوك الأخلاقي المتعلق بالمسائل التي تمس المصالح العامة هو في صميمه قدوة تتخذ مسارًا يتدرج من المسئوليات العليا إلى المستويات الدنيا، وبعبارة أخرى فإن الخطوة الأولى في أي إصلاح أخلاقي يُراد له أن يعم مستويات المجتمع كلها، ينبغي أن تبدأ من أعلى وتتدرج حتى تصل إلى أدنى المستويات وأوسعها نطاقًا، هذا المسار من أعلى إلى أسفل قد يبدو مخالفًا لمسار الإصلاح الثوري الاجتماعي والاقتصادي مثلًا؛ إذ إن هذا النوع الأخير من الإصلاح يسير من أسفل إلى أعلى، بمعنى أن الطبقات الدنيا — صاحبة المصلحة الحقيقية في تغيير الأوضاع — هي التي تبدأ الثورة، وهي التي تفرض مبادئها على الطبقات العليا، ولكن الوضع في السلوك الأخلاقي يختلف؛ إذ إننا هنا بصدد بناء معنوي لا يمكن أن يبدأ تشييده من المستويات الدنيا، لسببٍ بسيط هو أن هذه المستويات تستمد أمثلتها العليا من المستويات التي تعلوها، ولأنها لو فقدت ثقتها في أخلاقية القيادات فسوف تشعر بأن أخلاقيتها هي ذاتها غير مجدية، وبأن أي مجهود تبذله في هذا الصدد ضائع لا محالة، ما دامت الأيدي المتحكمة في عملها غير مؤتمنة.

في ضوء هذه الحقيقة الأولى نستطيع أن ندرك أن قدْرًا غير قليل من عيوبنا الأخلاقية راجعٌ إلى انتقال عدوى القدرة السيئة بالتدريج من مستوياتٍ عليا في المجتمع إلى المستوى الأدنى منها، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نأتي بأمثلة لتصرفات لا تؤدي — إذا انتقلت عدواها من أعلى السُّلَّم الاجتماعي إلى أسفله — إلا إلى انهيارٍ وانحلالٍ أخلاقي؛ فبين الحين والحين تشيع أخبار استغلال نفوذ أو تصرُّف غير مشروع في الأموال العامة أو إثراء مفاجئ بغير حدود، وترتبط هذه التصرُّفات المعيبة بأشخاصٍ يؤثر سلوكهم في نفسية الألوف من الناس، بحيث يضرب لهم أسوأ الأمثلة، ويكون لهم شر قدوة، وكثيرًا ما يجد المجتمع نفسه حائرًا إزاء انتشار هذه النقائص بين مستوياتٍ يفترض أنها أقل الجميع حاجة إلى هذه التصرفات، فيتساءل الناس: من أين نأتي بالعناصر الصالحة إذن؟ ماذا نفعل إذا كان اختيارنا قد تم على أفضل أساس ممكن، ثم انتهى الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة؟

ولكن، أحقًّا كان الاختيار على أفضلِ أساسٍ ممكن؟ وهل قمنا بفحص كل الأسس التي يتم الاختيار بناءً عليها لكي نتأكد من أننا أخذنا منها بالأفضل؟ وهل الأمر يدعو حقًّا إلى مثل هذا اليأس؟ إن أبسطَ قدْرٍ من الحرص على المصلحة العامة يقتضي منا أن نختبر الظروف التي يتم فيها تفويض المسئولية لأصحابها، وهل هي ظروف تشجِّع على السلوك القويم أم على الانحراف، وهنا نجد أنفسنا نواجه المشكلة الأصلية التي بدأنا بها هذا المقال مواجهةً مباشرة؛ فسرعان ما نكتشف أن المسألة ليست مسألة إصلاح للأشخاص، بل للنظم وللشروط التي يتم في ظلها تكليف الأشخاص بمسئولياتهم، ولو كانت هذه النظم والشروط غير صالحة فسوف تؤدي حتمًا إلى إفساد كلِّ مَن يتولى مسئوليةً واسعة النطاق، حتى لو كان في الأصل صالحًا، والمهمة الكبرى التي تقع على عاتق الفكر الثوري هي أن يبحث عن النظم والشروط الموضوعية التي لا تترك مجالًا للانحراف، بل عن تلك التي ترغم المنحرف ذاته عن أن يسلك — في تصرفاته العامة — سلوكًا لا غبارَ عليه.

فلنفرضْ مثلًا أن حالاتٍ من الثراء غيرِ المشروع قد ظهرت بين عدد غير قليل ممن يتولون مسئوليات عامة، فماذا يمكن أن يكون العلاج المجدي في هذه الحالة؟ هل نوجِّه إليهم المواعظ والإرشادات ونسعى إلى إصلاح نفوسهم وتهذيبها؟ كل هذه حلولٌ لا جدوَى منها، وذلك على الأقل لأننا لن نصل أبدًا إلى أغوار النفوس لكي نكون على ثقةٍ من أنها قد انصلحت، ولكن العلاج الموضوعي لهذه الحالة يبدأ من دراسة أسباب الانحراف، عندئذٍ قد نجد — على سبيل المثال — أن الأموال العامة لا توجد عليها ضوابطُ كافية، وأن الارتفاع المفاجئ وغير المعقول في الإيراد الرسمي للشخص نتيجةً لتوليه منصبًا هامًّا يفقده توازنه ويثير فيه الرغبة في مزيد من الثراء، فإذا اتضح أن الأمر كذلك، كان الحل بسيطًا، خفضٌ ملموسٌ في مرتبات هذه الفئة كلها، وجزاءاتٌ صارمةٌ غايةَ الصرامة على أي تصرُّف غير مشروع في الأموال العامة، هنا تصبح الموضوعية الثورية — لا «الوعظ الفردي» — هي العلاج الحاسم، وبمثل هذا العلاج يجد الانتهازيون أنفسهم مضطرين إلى الانسحاب من تلقاء ذاتهم؛ لأن المسألة لم تَعُد تجلب غُنْمًا، ولا يبقى إلا مَن يريد أن يؤدي الخدمات العامة لصالح المجتمع ككل، لا لصالحه هو أو أقربائه أو المحيطين به.

ولنضربْ مثلًا آخرَ لن يشك أحد في أنه يكون جزءًا من عيوبنا الأخلاقية الظاهرة، وأعني به النفاق والمجاملة المتطرفة، وحسبنا أن نفتح صفحاتِ جرائدنا لكي نلمس في أكبر مساحاتها أمثلةً لا حصرَ لها لتلك الظاهرة التي ربما كنا ننفرد بها عن سائر بلاد العالم، الثورية منها وغير الثورية، وأعني بها الإعلانات المدفوعة من الأموال العامة أو الخاصة (والأولى هي الغالبة)، والتي لا ترمي إلى الترويج لسلعةٍ جديدة أو تنبيه الناس إليها، بل تستهدف تملُّق مسئول أو الدعاية الشخصية لحساب أصحاب الأمر والنهي في الجهة صاحبة الإعلان، هذه الظاهرة الغريبة — التي تمر علينا يوميًّا دون أن نبدي بها اهتمامًا — لها في واقع الأمر أخطرُ الدلالات؛ فكيف يمكن أن يشيع في مجتمعٍ يريد أن يسلك سلوكًا ثوريًّا مثل هذا النفاق العلني الواسع النطاق، ولمصلحةِ مَن تُؤجَّر تلك المساحات الشاسعة على صفحات الجرائد في سبيل كتابة كلماتٍ لا يقرؤها أحدٌ إلا مَن كتبوها، وحتى لو قُرِئَت فلن يستخلص الناس منها إلا دروسًا بارعةً في التملُّق الرخيص؟ وهل مما يتفق مع الثورية أن تمتلئ صحفنا بعبارات النفاق الفارغة التي تعود في نهاية الأمر على خزانة الصحف ذاتها بمزيدٍ من الإيرادات على حساب أموال الشعب من جهة، وأخلاقه ومعنوياته من جهةٍ أخرى؟ وهل يحق لنا أن نتحمل هذه الأضرار الفتاكة في سبيل رفع المستوى المادي لجزء من صحافتنا إلى حدٍّ لا يتناسب مع التقشُّف العام الذي ترتضيه بلادنا طائعة مختارة في سبيل أهدافها العليا.

هذا — من غير شك — عيبٌ أخلاقي لا يحتاج إلى مزيد من البيان، ولكن يظل أمامنا السؤال الكبير: وما الحل؟ إنك لا تستطيع أن تعطي الناس دروسًا في أضرار النفاق، ما داموا يشعرون بأن هذا النفاق يعود عليهم آخرَ الأمر بمنفعة، ومن المؤكد أن في الأمر منفعة، وإلا لما انتشرت الظاهرة واستمرت إلى هذا الحد.

وعلى ذلك فالحل يكون — أولًا وقبل كل شيء — بالقضاء على كل نفع يمكن أن يعود على مثال هؤلاء المنافقين، ومن الواضح أن حلًّا‎ كهذا لا يمكن أن يفرضه إلا مَن تُوجَّه إليهم الكلمات المنافقة. ولأضربْ لذلك مثلًا: فلنفرضْ أن رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات قد عاد من الخارج، وامتلأت مساحاتٌ من الصحف بتهاني مرءوسيه على سلامة الوصول وتمام الشفاء … إلخ، عندئذٍ يقتضي السلوك الثوري الحقيقي منه أن يوجِّه اللومَ — برفق أولًا ثم بالشدة إذا تكررت هذه التصرُّفات — إلى مَن يعاملونه بمثل هذا النفاق، في هذه الحالة — وفيها وحدَها — سيختفي هذا السلوك المعيب لأنه أصبح يحقق عكس الهدف المقصود منه، وذلك دون أن نجد أنفسنا مضطرين إلى تغيير طبائع الناس أو إعطائهم مواعظَ أخلاقية. ولكن من الغريب حقًّا أن شيئًا من هذا لا يحدث، وأن هناك نوعًا من الخداع المتبادَل — المقبول من الطرفين — في حالة النفاق الاجتماعي العلني؛ فالمرءوس ينافق رئيسه عن وعي، والرئيس ينافق مرءوسه عن غير وعي إذ يقبل منه نفاقه وهو عالم أنه مجرد نفاق.

ولنتأملْ عيبًا آخرَ من عيوبنا التي نعيش فيها كلَّ يوم، وأعني به الاستعانة بالوساطة، أو «بالواسطة»، هذا العيب المستفحل الذي نضجُّ منه جميعًا بالشكوى حين تؤدي ممارسته إلى اكتساب الآخرين منفعةً على حسابنا، ونتسابق جميعًا إلى الالتجاء إليه إذا كان يؤدي إلى اكتسابنا نحن أنفسنا نفعًا على حساب الآخرين.

هذه الوساطة أصبحت تكوِّن جزءًا مألوفًا من حياتنا إلى حدِّ أننا لم نَعُدْ نجد فيها أي غضاضة، بل إنها قد تفشَّت إلى حدِّ أنَّ مَن يمتنع — بحكم مبادئه — عن ممارستها أو عن الاستجابة لندائها أصبح يُعَد في نظر الناس متزمِّتًا، وربما اتُّهِمَ «بقلة الذوق» و«انعدام المروءة»، ولو حاولنا أن نتتبع جذور هذا العيب لتعدَّدت أمامنا المسالك وتشعَّبت إلى أبعدِ حد، ولكن يكفي أن أشير إلى عاملَين رئيسيَّين أعتقد أنهما هما أقوى الأسباب المؤدية إلى حدوث هذه الظاهرة: أولهما قيام العلاقات التي تمس المصالح العامة على أساسٍ من المنافع المتبادلة، وثانيهما امتداد أسلوب التعامل العائلي أو الريفي أو القَبَلي إلى المعاملات الرسمية التي ينبغي أن تتسم بالطابع اللاشخصي على الدوام، وكلا هذين العاملَين لا يُعالَج بالدعوة الفردية أو بالنصائح الشخصية، بل إنه يحتاج إلى معالجة جذرية؛ فنحن في حاجةٍ مُلِحَّة إلى التعوُّد على الأسلوب الموضوعي في التعامل، في حاجة إلى أن نتعلم كيف نفصل بين الأهداف الشخصية وبين العمل الرسمي الذي يعلو على الأشخاص، في حاجة إلى أن نتذكر دائمًا أن الدولة لا يملكها أفراد، بل يملكها الجميع، وأن حقنا في التصرُّف في أمورها مقيدٌ بمصلحة المجموع لا بمصلحتنا نحن، ولا يمكن أن تستقر هذه المبادئ في أذهاننا إلا إذا وُضِعَت خطةٌ مرسومة طويلة المدى تهدف إلى استئصال شأفة هذا الداء الذي كاد أن يصبح مستعصيًا على كل علاج. وفي اعتقادي أن من المهام الرئيسية لأي تنظيم سياسي في الظروف الحرجة التي نمر بها — والتي تقتضي منا أكبر قدْرٍ من الموضوعية الثورية الحازمة — أن يعمل على تنظيم حملةٍ على أوسعِ نطاقٍ ممكنٍ لكشف الوساطات وفضحها علنًا، بحيث يأتي الوقت الذي يخجل فيه المرء من إرسال بطاقته إلى صديقه موصيًا بتعيين «حامله» الذي «يهمني أمره» في الوظيفة الخالية، بل يخجل فيه من الجلوس إلى جانب قريبه في مكتبه لكي يقضي له — على الفور — أمرًا يستغرق بقية الناس في قضائه أضعاف هذا الوقت، ويبذلون في سبيله أضعاف هذا الجهد، إنه علاج ما أسهله! وما أجمله لو استقرت العزائم عليه!

•••

إن الأخلاق المتعلقة بالأمور التي تمس المصلحة العامة — كما قلت — قدوةٌ تنتقل تدريجًا من المستويات العليا إلى المستويات الأدنى منها في المجتمع، ومن المؤكد أن المستويات المتوسطة والدنيا تتحمل بدورها نصيبها من المسئولية، وتمارس بدورها شتَّى ألوان التصرُّفات التي تكشف عن عيوبٍ أخلاقيةٍ جسيمة، وإذا كنا قد ركزنا اهتمامنا — في الجزء الأكبر من هذا المقال — على التصرُّفات التي تمارسها المستويات العليا؛ فذلك لأنها هي التي تملك مفاتيح الحل، وهي التي ينبغي أن يبدأ منها العلاج، ولكن ذلك لا يحول دون التنبيه إلى بعض مظاهر الأزمة الخلقية في المستويات الأدنى بدورها.

لعل أبرز هذه المظاهر — في المرحلة الحالية من تاريخنا — هو عدم الاكتراث، وهو مظهر سلبي، والإهمال وهو أخطر المظاهر؛ لأنه متعمَّد ومقصود؛ ففي قطاعاتٍ عريضة من الموظفين والعمال، أصبحنا نشكو من تضاؤل الإنتاج، وعدم الاهتمام برفع مستواه، ومن اللامبالاة والرغبة في إبعاد المسئولية عن الذات من أجلِ إلقائها على أكتاف الآخرين، أي باختصار من انعدام الإخلاص والجدية في العمل، وأصبح من المَشاهدِ المألوفة في حياتنا اليومية أن تدخل إدارةً حكوميةً فتجد نصف موظفيها غيرَ موجودين على مكاتبهم، ونصفهم الآخر يقرأ الجريدة الصباحية أو يشرب القهوة مع زوار، بينما الأعمال معطَّلة والأوراق مكدَّسة ودورة العمل لا تكاد تتحرك، وأصبحنا نشكو في كل يوم من ارتفاع نسبة تغيُّب العمال وادعائهم المرض وانخفاض إنتاجهم وبالتالي انخفاض إنتاج المجتمع ككل.

فهل تنفع في هذا الصدد «توعية» و«دعوة» أخلاقية بحتة؟ هل نستطيع أن نبذل الجهد اللازم لتوصيل نصائحنا إلى هذه الملايين العديدة التي تتجلى فيها ظاهرة عدم الاكتراث أو الإهمال المتعمَّد؟ من الواضح أن علاجًا كهذا مستحيلٌ عمليًّا فضلًا عن كونه غير مُجْدٍ من حيث المبدأ، ولو شئنا أن نلتمس الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة التي تمثل خطرًا داهمًا على حياة أية أمة؛ لاتضح لنا — دون عناء كبير — أن المواطن لا يكترث بمصالح المجتمع؛ لأنه يشعر بأن المجتمع لا يكترث بمصالحه؛ فهناك عنصر انتقامي مؤكد — وإن كان في معظم الأحيان لا شعوريًّا — كامن من وراء هذا التكاسل والتراخي وعدم الحرص على المصلحة العامة.

فكيف يمكن أن يُعالَج عيبٌ كهذا؟ بنفس المنهج الموضوعي الذي كنا ندعو إلى اتِّباعه في كل الحالات السابقة، نقول إن من واجب المجتمع أن يمد يده إلى هذه الجموع الغفيرة من أبنائه كيما يمدوا هم بدورهم أيديَهم إليه، هذه اليد التي تمتد من المجتمع يمكنها أن تقدِّم إلى الملايين من أبنائه علاجًا معنويًّا وعلاجًا ماديًّا للأزمة التي يعاني منها الجميع، أما العلاج المعنوي فهو أن يشعر الجميع — عن وعي — بأهدافٍ عامة يمكنهم أن يشاركوا فيها مشاركةً إيجابية، أعني أن يشاركوا في تحديد هذه الأهداف، ثم في تنفيذها، ثم في تقييمها بعد أن تُنَفَّذَ؛ فالمواطن الذي يشعر بارتباطه بالمجتمع من أجلِ تحقيقِ هدفٍ يقتنع هو ذاته به، لا يمكن أن يظل غيرَ مكترث، أما إذا سار كلُّ شيء في المجتمع دون أن يكون لهذا المواطن وعي بما يدور حوله، ودون أن يعرف قيمة الدور الذي يُطلب منه أن يؤديه، ودون أن يسمع أحدٌ صوتَه في اختيار الأهداف وفي طريقة بلوغها، فلا مفرَّ عندئذٍ من أن يكون غير مكترث، بل من أن يتعمد الإهمال.

وأما العلاج المادي فهو أن يشعر المواطن بأن المجتمع حريص على ضمان احتياجاته الضرورية في حياته بقدْرِ ما يستطيع، وبطبيعة الحال فإن هذا الحل يمكن أن يؤدي بنا إلى حلقة مفرغة؛ فالمواطنون يتكاسلون لأن المجتمع لا يعطيهم الحد الأدنى اللازم لمعيشتهم، والمجتمع لا يستطيع أن يقدِّم هذا الحد الأدنى إلا إذا كفَّ المواطنون عن التكاسل وزاد الإنتاج، ولكن لا بُدَّ لهذه الحلقة المفرغة من أن تنكسر وإلا كان التدهور مصير المجتمع، ولكي نخطو أولى الخطوات المؤدية إلى انكسارها يتعيَّن علينا أن نقدِّم دليلًا لا مفرَّ من أن يكون في البداية بسيطًا غاية البساطة، على أننا نتذكر هؤلاء الناس، تكفي أقل زيادة مادية — في الحد الأدنى للأجور مثلًا — لكي تقنع قطاعاتٍ عريضةً من الناس بأن المجتمع لم يَنسَهم، وعندئذٍ سيتذكرون هم بدورهم المجتمع، ولو بمقدار بسيط في البداية، وتبدأ العجلة في الدوران، ولكن في هذه المرة إلى أعلى لا إلى أسفل.

•••

ربما كنت في هذا الحديث قد ركزت اهتمامي على الجوانب السلبية، على نحوٍ قد يتبادر معه إلى ذهن القارئ أنني لا أرى سوى الوجه القاتم من الصورة، ومع ذلك فلا بُدَّ أن أؤكد — بنفس المنهج الموضوعي الذي حاولت أن أتبعه طَوال هذا المقال — أن العيوب التي تمس الجموع الغفيرة من الناس ليست عيوبًا فطرية كامنة، بل هي — بالنسبة إلى ظروف معيشتهم — نتائجُ لا مفرَّ منها لنمطٍ من الحياة لا بُدَّ أن يفرز هذه العيوب. إن الأخلاق والذوق وحب الجمال ورهافة الحس تَرفٌ لا يملك الفقير المريض الجاهل أن يستمتع به، أو حتى أن يتطلع إليه، وليس لأحدٍ أن يلوم شخصًا كهذا إذا كانت حياته تسودها اللاأخلاقية والغلظة والجلافة وبلادة الحس.

ومع ذلك وبالرغم من قسوة الظروف التي تمر بها جموع الناس في بلادنا، فإن لديهم رصيدًا من الأخلاقية ما أحرانا أن نعمل على استغلاله بقدْرِ ما وسعنا من جهد؛ فعلى أدنى المستويات بين أبناء شعبنا نجد من صفات المروءة والشهامة وحب الجار والمبادرة إلى نجدة الضعيف ونصرة المظلوم ما يمكن أن يكون نواةً لنهوضٍ أخلاقي رائع، لو وجد أمامه الظروف المواتية، ومهما قيل عن هذه الصفات من أنها أثرٌ من آثار الحياة الريفية المتأصلة في نفوسنا، فإن هذا لا ينفي أنها من الوجهة الموضوعية موجودةٌ بين أبناء شعبنا بقدْرٍ لا تتوافر به لدى أبناءِ شعوبٍ أخرى كثيرة، وأنها يمكن أن تكون نقطة بداية ارتقاء أخلاقي ومعنوي لا حدَّ له، ولكن لكي يتحقق هذا الارتقاء، لا مفرَّ من أن يتوافر الشرطان اللذان حرصنا في هذا المقال على إبرازهما بوضوح كامل، وأعني بهما — من الناحية المادية — تهيئة الظروف الموضوعية التي لا تتحقق بدونها أية نهضة أخلاقية، والتي تتجاوز نطاق الوعظ والإرشاد المعنوي البحت، بل تتجاوز نطاق الأخلاق ذاتها وتتغلغل في صميم حياة المجتمع وعلاقاته المادية، ومن الناحية المعنوية امتداد تأثير القدوة الحسنة من أعلى المستويات إلى أدناها، وانتشار الأمثلة الرائعة للسلوك الأخلاقي الثوري من النماذج التي يود الجميع محاكاتها إلى القاعدة العريضة من جموع الناس.

١  الفكر المعاصر، العدد ٦٢، أبريل ١٩٧٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤