النظريات اليونانية في فلسفة الفن١

كان الشعب اليوناني فنانًا بطبيعته؛ إذ إنه — بالإضافة إلى ما خلَّفه للعالم من روائع الآثار الفنية في ميادين النحت والتصوير والعمارة والشعر والمسرح — قد نظر إلى الحياة، في جميع مظاهرها، نظرةً يمكن أن يُقال إنها فنية في أساسها؛ فالدين اليوناني لم يكن فكرة أو عقيدة فحسب، بل كان في الوقت ذاته طقوسًا وشعائر تسهم في أدائها أنواعٌ عديدة من الفنون، ولم يكن من الممكن فصل أي من هذين الوجهين عن الآخر أو إيجاد أي نوع من التمييز بينهما، والآلهة اليونانيون لم يكونوا قوًى خفية تتحكم في مسار العالم دون أن نعلم عنها شيئًا، وإنما كانوا شخصيات فنية في دراما هائلة، هي دراما الخلق والصيرورة الكونية ومصير العالم، كذلك لم تكن الأخلاق اليونانية أخلاقًا مجردة، بل كانت فكرة الجمال وفكرة الانسجام تلعب فيها دورًا أساسيًّا، أما التربية فلم تكن أبدًا تحصيلًا أو تكديسًا للعلم، بقدْرِ ما كانت تحقيق التوازن الكامل بين الجسم والروح، وتنظيم مَلَكات الإنسان على نحوٍ يسوده أكملُ قدْرٍ من التوافق.

غير أن الشعب اليوناني لم يتميَّز بالفن فحسب، بل تميَّز أيضًا بالفلسفة، أي إنه لم يكن يكتفي بالخلق والإبداع، بل كان يبذل جهدًا كبيرًا في تحليل هذا الخلق والإبداع والتفكير فيه بوعي دقيق، ومن هنا فكما ترك لنا اليونانيون مجموعةً من أروع الآثار الفنية، فكذلك تركوا أولى النظريات التي احتفظ بها تاريخ البشر في مجال الفن؛ ولذا كان معظم الباحثين في علم الجمال يبدءون دراستهم بالنظريات الجمالية اليونانية، بوصفها أولَ محاولة للتفكير الواعي في الأسس الجمالية للخلق الفني، ولعل النظريات الجمالية الكبرى — التي سنوردها في هذا المقال لأشهر الفلاسفة اليونانيين — كفيلةٌ بأن توضِّح مدى عمق التفكير الجمالي اليوناني على المستوى النظري، مثلما توضِّح آثارهم الفنية مدى عمق تجربتهم الجمالية على المستوى العملي.

النظرية الأخلاقية عند أفلاطون

من الممكن القول إن آراء أفلاطون في الفن تكوِّن أولَ نظرية جمالية عامة محدَّدة المعالم ظهرت في تاريخ الفلسفة، صحيح أن الإنتاج الفني قديمٌ قِدَم البشرية ذاتها، ولكن التفكير الواعي في معنى الفن وقيمته، وتحديد العناصر التي تجعل العمل الفني جميلًا، كل هذه أمورٌ كان لا بُدَّ من أن يمر وقتٌ طويل قبل أن تُصاغ في صورة نظرية واضحةِ المعالم.

ولكي نتبيَّن طبيعة الجو الذي صاغ فيه أفلاطون نظرياته الجمالية، ينبغي أن نبدأ بكلمةٍ عن العلاقة بين فنٍّ كالشعر وبين الفلسفة في العصر الذي تَقدَّم فيه أفلاطون بآرائه، وبذلك يتسنَّى لنا أن نضع آراء أفلاطون في سياقها التاريخي الصحيح؛ فقد نشأ التفكير في علم الجمال — عند اليونانيين — في جوٍّ من التنافس والصراع بين الشعر والفلسفة، واضطر الفلاسفة — إخلاصًا منهم للحقيقة — إلى الحملة على الشعراء الذين كانوا ينافسونهم في ادعاء الحكمة والمعرفة، ولم يكن أفلاطون في الواقع أولَ فيلسوف يوناني يحمل على الشعراء ويندِّد بادعاءاتهم، بل سبقه إلى ذلك فلاسفةٌ آخرون اتفقوا جميعًا على أن الشعراء يقدِّمون إلى الناس صورةً مزيَّفة عن العالم وعن الإنسان الآلهة، والواقع أن فنًّا كالشعر لم يكن يؤدي في حياة اليونانيين دورًا سطحيًّا على الإطلاق، ولم يكن تأثيره فيهم يقتصر على ما يبعثه في نفوسهم من المتعة الجمالية، وإنما كان له في حياتهم دور أساسي؛ فملاحم هوميروس كانت بالنسبة إلى العصر اليوناني أشبه بالإنجيل بالنسبة إلى العصر المسيحي فيما بعد، وكانت الأساطير التي هي المادة الخام لهذه الملاحم تقوم بمهمة تعليم الذهن الشعبي وتشكيله في آن واحد، ولم يكن اليوناني العادي ينظر إلى هذه الملاحم على أنها مجرد قَصَص مثير يُرْوَى بطريقة إيقاعية، ويكوِّن عالمًا خياليًّا مصطنعًا، وإنما كان يَعُدُّها حجةً في الشئون المتعلقة بالحرب والسياسة والعلاقات الاجتماعية والدين والحياة الأخرى، ومن المعروف أنه لم تكن لدى اليونانيين القدماء كتبٌ دينية مقدسة أو هيئة دينية تضع الدين في صِيَغٍ ثابتة يتقيَّد بها الناس، ومن هنا كانوا يرجعون إلى الشعراء ليسترشدوا بهم في الشئون المتعلقة بالسلوك في الحياة. ولما كانت الفلسفة قد ظهرت بين اليونانيين لتطالب لنفسها بنفس هذه الوظيفة — أعني وظيفة تقديم تفسير للعالم وتوجيه الإنسان أخلاقيًّا في سلوكه — فقد كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين الفلاسفة وبين الشعراء، ونظرًا إلى أن الشعر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالموسيقى، ولا سيما عند اليونانيين الذين كانت أشعارهم تُلْقَى بطريقة غنائية إيقاعية، كما يرتبط أيضًا بفنونٍ أخرى كالفن المسرحي، فقد كان من الطبيعي أيضًا أن يؤدي هذا الصدام إلى صراعٍ له طابع أشمل بين الفلسفة وبين الفن بوجه عام.

هذا التمهيد — كما قلنا — ضروري لكي ندرك طبيعة الجو الفكري الذي ظهرت فيه نظرية أفلاطون الجمالية؛ فعلى أي نحوٍ إذن كان أفلاطون يفهم الفن في معناه العام؟ يعني أفلاطون بالفن أولًا ما اكتسبه الإنسان من مهاراتٍ أساسية تؤدي إلى الوفاء بحاجاته الأولية التي لا تستطيع الطبيعة تلبيتها؛ فالفن هو ما يضيفه الإنسان بذهنه إلى الطبيعة، ويمارس فيه مهاراته التي يكتسبها بعد خبرة طويلة، على أن الفن سرعان ما ينتقل عنده إلى معنًى آخرَ أعمق، يصبح فيه عملية واعية يمارسها الإنسان وفي ذهنه غاية يحدِّدها مقدمًا، فهو يقتضي معرفة دقيقة، ويسير تبعًا لغاية معيَّنة، وبعبارة أخرى فلكل فن خيرٌ يؤمل منه، وهدف يسعى إلى تحقيقه، وهكذا يرتبط البحث في الفن بالمعاني الأخلاقية منذ بداية الأمر.

ولقد كان من الطبيعي أن تتركز أول نظرية في علم الجمال على فكرة التقليد أو المحاكاة، فحتى يومنا هذا نجد كثيرًا من العقول الساذجة تنظر إلى الفن على أنه محاولة لمحاكاة الطبيعة، وتلك هي النظرة السائدة عن طبيعة الفن عند أفلاطون؛ فالفنان — في رأيه — قادر على محاكاة كل شيء، وكما يقول هذا الفيلسوف في إحدى فقرات محاورة «الجمهورية»: «إن الفنان يستطيع أن يصنع النباتات والحيوانات، ويصنع ذاته وكل الأشياء الأخرى، من أرض وسماء، وما يعلو في السماء ويكمن في باطن الأرض، بل يستطيع أن يصنع الآلهة أيضًا؛ ألست ترى أن هناك وسيلةً تستطيع أن تفعل بها أنت نفسك ذلك؟ … إن كل ما عليك أن تظل تدير مرآة حولك، وسرعان ما تجد نفسك قد صنعت الشمس والأرض وذاتك في المرآة وحدَها.» وهكذا يشبِّه أفلاطون عملَ الرسام بهذه العملية التي يدير فيها الإنسان مرآةً من حوله ليصنع منها مظاهر وخيالات للأشياء، فإذا رسم الفنان كرسيًّا، فلهذا الكرسي مرتبةٌ ثالثة من حيث الوجود؛ فهناك أولًا فكرة الكرسي كما توجد في الذهن الإلهي، وهناك ثانيًا الكرسي الفعلي الذي يصنعه النجار، وثالثًا مظهر الكرسي أو صورته كما يرسمها الفنان، وعلى ذلك يكون العمل الفني في المرتبة الثالثة من مراتب الوجود؛ لأنه لا يتناول الأفكار الثابتة للأشياء، أو المُثُل كما يسميها أفلاطون، ولا يتناول الأشياء الجزئية التي نراها في العالم الواقعي، وإنما يتناول مظاهرَ لهذه الأشياء الجزئية فحسب، وهكذا يرتبط رأي أفلاطون في الفن بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المُثُل، التي تُرتَّب فيها الموجودات ترتيبًا تنازليًّا، يبدأ بتلك الأفكار الثابتة المسماة بالمُثُل، وينتقل إلى الأفراد الجزئية الهائلة العدد، والتي تشارك كلُّ مجموعة منها في مثال واحد، وينتهي إلى ظلال الأشياء أو مظاهرها كما يصوِّرها الشعراء والفنانون. فالفن إذن محاكاة، وهو ليس محاكاة للموجودات في أعلى مراتبها — أعني للمُثُل — وإنما هو محاكاة للأشياء الجزئية الفردية الزائلة، ومن هنا كان يحتل أدنى مرتبة من مراتب الوجود، وإذا كان من الشائع اليوم وصفُ الفنان بأنه خالق، فإن أفلاطون لم يكن ليقبل وصفًا كهذا على الإطلاق؛ ذلك لأن الفنان في نظره مقلِّد فحسب، وهو يأتي في المرتبة الثالثة بعد الخالق الحقيقي، وهو الخير الكوني أو مثال المُثُل، وبعد الصانع الذي يصنع أشياءَ جزئيةً ملموسةً يحاكي بها المُثُل ويقلِّد عالم الأفكار الثابتة.

وعلى أساس فكرة المحاكاة هذه تتخذ نظرية أفلاطون في الفن طابعًا أخلاقيًّا واضحًا؛ ذلك لأن الفن يتصف بنفس صفات الأشياء التي يحاكيها، فينبغي إذن أن يخضع لنفس القيود التي يُخضِع لها الناس هذه الأشياء في حياتهم الفعلية، فإذا كنا في هذه الحياة مثلًا نحرِّم السرقة ونَعُدُّها جريمةً في حق المجتمع، فمن واجبنا أيضًا أن نحرِّم الشعر الذي يتحدث عن السرقة ويجعلها تبدو أمرًا محببًا إلى نفوس الناس. وربما قيل إن تأثير التقليد أضعفُ من تأثير الأصل، ولكن الواقع أن المحاكاة الفنية أشد إثارة للنفوس؛ لأن الفنان مبالغٌ بطبيعته، ولأن الفن أقرب صلة إلى الانفعال، وإذن فمن الواجب إخضاع الفن لقيودٍ تشريعية صارمة بحيث نطبق على الأفعال التي يدعو إليها الفنان نفسَ الأحكام التي نطبقها على نظائرها التي تحدث في الحياة الواقعية.

كذلك نصل إلى هذه النتيجة ذاتها إذا تأملنا الأثر الداخلي الذي يتركه الفن في النفوس؛ فالفن يبعث فينا نوعًا من اللذة، ويرتبط بانفعالاتنا أوثقَ الارتباط، وله فينا تأثيرٌ أشبه بالسحر الخلاب، وهذا التأثير وحدَه كافٍ للحملة عليه في نظر أفلاطون؛ إذ إن التأثُّر بهذا السحر هو ذاته ابتعاد عن الحقيقة، وانخداع بوهم باطل، والفن — بما يبعثه في الإنسان من لذة — يتقاذف النفس البشرية وكأنها ألعوبة في يده، فتراه يعلو بها أحيانًا إلى قمَّة السرور، وينزل بها أحيانًا أخرى إلى حضيض الحزن والألم، ويظل الإنسان نهبًا لهذه الانفعالات، يمتلئ بها ويَفْرغ منها كأنه وعاء خاوٍ. فالفن إذن يبعث في النفس البشرية حالةً من عدم الاستقرار نتوهم خطأً أنها متعة، وفي هذا يجد أفلاطون سببًا آخرَ للحملة عليه؛ ففي هذه اللذة التي يبعثها فينا خطورة؛ لأنها تؤثر حتمًا في واجباتنا الاجتماعية. ويرى أفلاطون أن هذه الصفة واضحة في الموسيقى بقدْرِ ما هي واضحة في الشعر، ومن الطبيعي أن الموسيقى في نظر أفلاطون تعجز عن محاكاة الموضوعات الخارجية محاكاة مباشرة، وإنما هي تحاكي — أو على الأصح تصوِّر — أحوالًا للنفس البشرية، ومن هنا يصبح المعيار الذي يحكم به أفلاطون على الموسيقى هو نوع الحالة النفسية أو الخلق الذي تثيره الموسيقى في نفس الإنسان.

•••

ويؤكد أفلاطون أن الأحوال التي تثيرها الفنون المختلفة — وخاصةً الموسيقى — في الإنسان، تتغلغل في نفسه تدريجيًّا حتى تصبح طبيعة ثابتة، أي إن النمو النفسي للمرء يتحدَّد من خلال الانفعالات التي يمر بها، والتي تلعب فيها الفنون دورًا كبيرًا، ومن هنا كان من الواجب الحرص على إخضاع النشء للمؤثرات الفنية الصالحة وحدَها، واستبعاد كل فن يبعث في نفسه عزيمة خائرة أو يولِّد فيه صفات الجبن والغش والخداع. وهكذا يبدو أن أفلاطون — رغم كل ما يبديه من عداء لأنواعٍ معيَّنة من الفن — يعترف ضمنًا بما للفن من تأثير هائل في النفوس، وبدوره الكبير في التربية، وبقيمته الأساسية بوصفه سلاحًا أخلاقيًّا من الطراز الأول.

ومن الواضح أن هذه الآراء قد تكررت مرارًا خلال تاريخ التفكير الجمالي، ومن أشهر الأمثلة الحديثة لها، النظريةُ التي عرضها الكاتب الروسي الشهير تولستوي في كتابه «ما الفن؟» فهو يرى أن الفن نوعٌ من التبادل المقصود للمشاعر، وأنه رغم كونه محايدًا أخلاقيًّا، فإنه لا يستحق أن يُقْبَلَ إلا إذا أثار فينا مشاعرَ تتمشَّى مع غاية الحياة وخيرها كما يحدِّدها المجتمع في عصر معيَّن. وعلى أية حال فلسنا بحاجة إلى الخوض في تفاصيل نظرية تولستوي، التي تنتهي إلى نتائجَ مشابهة لتلك التي انتهى إليها أفلاطون، رغم ارتكازها على دوافع وقيامها على أسس مختلفة كل الاختلاف عن دوافع نظرية أفلاطون وأسسها؛ فالنظرية الأخلاقية في الفن متشابهة في طابعها العام، ولها أينما ظهرت عيوب ومزايا واحدة.

فما هي إذن أهم عيوب هذه النظرية؟ أوضحُ هذه العيوب أنها تخلط بين البحث عن المنفعة العملية والفائدة الأخلاقية وبين المتعة الفنية أو الجمالية ذاتها؛ فمن الصعب أن يعترف المرء بأن الفن لا ينبغي تقديره إلا لما فيه من دعوة أخلاقية؛ لأن الفن يغدو عندئذٍ نوعًا من المواعظ، بل تصبح المواعظ ذاتها أعظمَ قيمة منه، فضلًا عن أنها سبيل أيسرُ للوصول إلى الهدف المطلوب، ولو تأملنا الأسس التي نحكم بها على الأعمال الفنية، لما وجدنا الأساس الأخلاقي واحدًا منها؛ فقد يحدث أن يفضِّل الناس عملًا فنيًّا يؤدي إلى نوع من التهاون الأخلاقي، والأكثر من ذلك شيوعًا ألا ينظرَ الناس إلى المضمون الأخلاقي للعمل الفني على الإطلاق، وهم في ذلك على حق؛ إذ إننا في تجربتنا الجمالية لا ننظر إلى الفنان على أنه معلِّم يلقننا درسًا في الأخلاق، ولا نعجب بلوحاته أو بموسيقاه بناءً على ما تبعثه فينا من معاني الفضيلة وحسن السير والسلوك، ولنتساءلْ بعد ذلك: أية أخلاق هذه التي يريدنا أصحابُ هذه النظرية أن نطالب بها في كل عمل فني نستمتع به، أهي أخلاقُ طبقة معيَّنة، أم عصر كامل، أم أخلاق الحكام؟ إن أفلاطون يؤكد أن الفيلسوف — بوصفه الشخص الذي يعرف الخير والشر أكثرَ مما يعرفهما غيره من الناس، وبوصفه أجدرَ الناس بتولي مقاليد الحكم في الدولة المثالية — هو القادر على أن يحدِّد لنا الفن المقبول والفن غير المقبول، وعلى عكس ذلك يدعو تولستوي إلى أن يكون كل فن مفهومًا ومقبولًا لدى أبسط فلاح، وإن كنا لا نستطيع أن نفترض أن «أبسط فلاح» هذا سيكون بالضرورة شخصًا أخلاقيًّا تتمشَّى أحكامه مع الخير ومع الفضيلة، والمهم في الأمر أن أحدهما يضع المعيار في أعلى درجات السُّلم الاجتماعي والفكري، أي عند الحاكم الفيلسوف، والآخر يضعه في أدنى درجاته، أي عند الفلاح البسيط، وهذا وحدَه شاهد على أن القول بوجوب اتباع الفن للأخلاق ليس كافيًا وحدَه؛ إذ إننا سنظل نتساءل دائمًا عن نوع الأخلاق التي ينبغي أن يتبعها الفن، وسندخل في خلافات جديدة حول تفضيل نُظُم القيم المختلفة للناس. وعلى أية حال فمن الواضح أن مغزى العمل الفني أعمقُ وأوسعُ من مثل هذه الخلافات الضيقة؛ فالعمل الفني العظيم يضعنا وجهًا لوجه أمام ماهية الإنسان ذاتها، أعني الإنسان من حيث هو موجود له موقف معيَّن من الكون ومن عالم الناس، وهو أعم وأشمل من أن يرتبط بهذا النظام الأخلاقي أو ذاك، والمتعة الجمالية ذاتها شيء يختلف كلَّ الاختلاف عن الاعتبارات العملية المتعلقة بالسلوك الأخلاقي الناجح، والأمر المؤكَّد أن كبار الفنانين لم يَخلُقوا أعمالهم وفي أذهانهم غاياتٌ أو نوايا أخلاقية، ولم يبدعوا وهم يَرمُون إلى تحسين أخلاق الناس أو إعطائهم دروسًا في الفضيلة، ولو أصبحت الغاية الوحيدة للفن هي غرس الأخلاق الحميدة في النفوس، لانحطَّ مستوى الفن انحطاطًا شديدًا، بينما لن تفيد الأخلاق ذاتها شيئًا من كلِّ ما يقدمه الفنانون من مواعظ.

ومثل هذا يُقال عن ارتباط الفن باللذة عند أفلاطون؛ فالمنطق السليم لا ينكر أن الفن يجلب نوعًا من اللذة، وإلا لما كنا نجد العمل الفني جميلًا؛ إذ إن العمل الذي نتذوقه دون لذة حاضرة أو مأمولة لا يمكن أن يكون في نظرنا جميلًا على الإطلاق، ولكن هذا الارتباط باللذة لا يعني أن الفن مجرَّد وسيلة لالتماس اللذة بأي ثمن، ولو كان الأمر كذلك لكان أفلاطون محقًّا في هجومه على الفن؛ إذ إن من المعترف به أن بعض اللذات تنطوي على الشر إما في ذاتها أو بما تجلبه من النتائج، ولكن الواقع أن الخلق الفني وتذوق الجمال هما مظهران لنشاطٍ مرغوب فيه لذاته، ولو كان الفن مجرد وسيلة لاكتساب اللذة أو مداعبة الحواس؛ لكان من واجبنا أن نستبدل به وسائلَ أخرى تعطينا من اللذات قدْرًا أعظم، ولكان من الصعب على المرء — على حدِّ تعبير أحد الكُتَّاب — أن يفاضل بين علبة السجاير وبين شكسبير، فإذا قيل — ردًّا على ذلك إن على المرء أن يفضِّل ذلك النوع الخاص من اللذة المسمَّى بالفن، لكان في هذا اعترافٌ بالمطلوب؛ لأنه يعني أن ما يجذبنا إلى الفن ليس اللذة في ذاتها، وإنما أمورٌ أخرى نسلِّم بوجودها في العمل الفني، وبعدم وجودها في بقية الموضوعات المحسوسة الأخرى.

أما فكرة المحاكاة — التي تُبْنَى عليها هذه النظرية الأخلاقية في الفن — فإن فيها عيوبًا واضحة، أبرزُها أن هناك أنواعًا من الفن لا تحاكي شيئًا على الإطلاق، وكذلك أنواعًا من الجمال لا تنطوي على تصويرٍ أو تقليدٍ لشيء، ومن أمثلة هذه الأنواع: جمال الطبيعة وجمال الفن الزخرفي والفن المعماري وفن الرقص، ولا يمكن أن تستقيم نظرية أفلاطون إلا إذا استطاع أن يُدخِل ضمنها هذه الفنون جميعًا، ومما له دلالته أن أفلاطون لم يتحدَّث في الكتاب العاشر من محاورة «الجمهورية» — الذي هاجم فيه الفن على أساس فكرة المحاكاة — إلا عن فن الشعر والتصوير، وأغفل الفنون الأخرى التي هي بطبيعتها غير محاكية. والواقع أننا — حتى في الحالات التي يكون فيها الفن محاكيًا — نرى الأصل في كثير من الأحيان فلا نعجب به إعجابنا بالتقليد الذي هو العمل الفني، فلا بُدَّ إذن أن يكون بينهما شيء من الفارق هو الذي يعلِّل هذا الإعجاب، أما التقليد الحرفي فقد يكون أمرًا مسليًا، ولكنه لا يثير فينا متعة جمالية، والدليل على ذلك أن القردة أقدَرُ عليه من معظم الناس.

وفي آراء أفلاطون الجمالية — بعد هذا — عيبٌ أساسي، هو ارتباطها بنظريته الفلسفية المعروفة باسم نظرية المُثُل، بحيث إن المرء يستطيع أن يرفض كل هذه الآراء الجمالية إذا لم يوافقه على نظرية المُثُل، وإذا لم يكن يؤمن بأن للأفكار أسبقيةً في الوجود على الأشياء الجزئية الواقعية، أو بأن الأولى هي الثابتة، بينما يقل الثبات وتنعدم الوحدة والنظام كلما ابتعد المرء عنها هبوطًا في سُلَّم الموجودات. والواقع أن هذه النظرية عندما تُطَبَّق على الفن تؤدي إلى نتائجَ ممتنعةٍ غايةَ الامتناع؛ إذ هي تفترض ضمنًا القولَ إن الصانع — كالنجار الذي يصنع الكرسي في المَثَل الذي ضربناه من قبلُ — أفضلُ من الفنان؛ لأن الأول على الأقل يحاكي المُثُل الفكرية مباشرة، بينما الثاني لا يحاكي إلا ما أنتجه الأول بالمحاكاة، وعلى حين أن الصانع يتصل مباشرةً بالمُثُل، ويُنتِج شيئًا واقعيًّا ملموسًا، فإن الفنان لا يُنتِج إلا ظلالًا وأوهامًا في أدنى مراتب الوجود، ولعل هذه النتيجة وحدَها كافية لإثبات مدى استحالة تطبيق مثل هذه النظريات الميتافيزيقية في مجال الفن.

ولنتساءلْ في هذا الصدد: لماذا أصرَّ أفلاطون على القول بأن الفنان يقلِّد الأشياء الجزئية، ولم يقل إنه إذا كان مقلدًا، فإنه يقلِّد المُثُل الفكرية العامة؟ هل الفنان بالفعل — في خلقه لعمله الفني — يصوِّر الأشياء الفردية الجزئية الخاصة، ولا يضع في اعتباره الفكرة أو المثال أبدًا؟ إننا نعترف بأن موضوعات الفن جزئية، بمعنى أن الكاتب مثلًا يرسم في روايته شخصيةً فرديةً محدَّدة، لها اسم معيَّن وطبيعة واحدة وظروف خاصة في الحياة، ولكن الفنان كثيرًا ما يتناول — من خلال هذه الشخصية الجزئية — نمطًا عامًّا يمثِّل الفكرة بأسرها، لا تحقُّقها الجزئي في هذا الفرد أو ذاك، ولنَقُلْ من ناحية أخرى إن المثال الأفلاطوني ذاته شيء يصْعُب تصوُّره بالفكر المحض، وربما كانت أفضلُ وسيلة لتقريبه إلى الأذهان هي تأمُّله من خلال العمل الفني؛ فحين يعرض الفنان شخصيةً إنسانيةً جزئية خاصة، قد يعرض لنا من ورائها أنموذجًا كاملًا للإنسان ذاته، صحيح أنه لا يزعم أنه يصوِّر الإنسانية كلها، من حيث هي فكرة واحدة ثابتة لا تتغير، كما أراد أفلاطون من المُثُل أن تكون، ولكنه على أية حال يخرج في عمله الفني عن حيز الفردية الضيقة، بحيث يمثِّل في «روميو وجولييت» مثلًا المحبين في كل زمان ومكان، ويمثِّل في «الإخوة كارامازوف» أزْمةَ الإنسان الحديث بأسرها، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه كلُّ من العملين — بطبيعة الحال — من عناصرَ خاصة لا تُفْهَم إلا في سياق محدود. وبعبارة أخرى فإذا كان في وُسع الإنسان أن يتصوَّر نماذجَ لعالم مثالي يعلو على الجزئيات الفردية التي يتعامل معها الناس في حياتهم اليومية، فأقرب شيء إلى هذه النماذج هو تلك الموضوعات التي يخلقها الفنان، وهذا يؤدي بنا إلى قلب أوضاع نظرية أفلاطون، بحيث يحتل العمل الفني المرتبةَ الأولى بدلًا من الثالثة، أو على الأقل يصبح هو أقرب الأشياء التي يمكننا تصوُّرها إلى هذه المرتبة وإلى طبيعة المثال أو الفكرة الكامنة من وراء الجزئيات.

فإذا انتقلنا إلى الجانب الإيجابي من آراء أفلاطون ومن نظريته الأخلاقية بوجه عام، كان علينا أن ننبِّه أولًا إلى أن قدْرًا كبيرًا من سوء الفهم — بالنسبة إلى هذه النظريات القديمة — يرجع إلى الاختلاف في فهْم معاني المصطلحات بين اللغات القديمة واللغات الحديثة؛ فالكلمة اليونانية المعبِّرة عن الشاعر تعني أيضًا الصانع أو الفاعل، وكان يشيع استخدامُها بين اليونانيين للدلالة على كل فنان يخلق شيئًا أو يصنعه بعد أن لم يكن موجودًا. وهكذا فإن الكلمة حتى عندما تُسْتَخدم بمعناها الضيق — وهو معنى الشاعر — تحمل دائمًا ارتباطاتٍ أوسعَ من هذا المعنى، وهذا يَصدُق أيضًا على الكلمة المعبِّرة عن الموسيقى؛ فهي أحيانًا تشمل كل الفنون والآداب، أي كلَّ ما يرتبط بربات الفن والأدب، وهذا هو المعنى الذي يقصده أفلاطون حين يتحدث عن العنصرين الأساسيين اللذين ينبغي أن تتضمنهما التربية، وهما: الموسيقى — أي التربية الروحية — والرياضة البدنية — أي التربية الجسمية، بل إن هذا الاختلاف يظهر بوضوحٍ في كلمة الفن ذاتها؛ فالفن عند اليونانيين يشمل — بالإضافة إلى معناه المألوف لدينا اليوم — الفنون الصغرى والحِرَف اليدوية والصنائع العملية، أي إن التقابل الحديث بين الفن الجميل والصنعة لم يكن قد عُرِفَ بعدُ، ويرى بعض الباحثين أن هذا التوسُّع في معنى الفن هو أمر تتميز به النظرة اليونانية في مجموعها عن النظرة الحديثة التي ضيَّقت مجال الفن أكثرَ مما ينبغي، حين أخرجت من ميدانه أنواعًا من النشاط تنتمي بالتأكيد إلى مجال التنظيم المعقول للموضوعات الحسية التي يتعامل معها الإنسان.

ورغم كل العيوب التي أشرنا إليها من قبلُ في صدد فكرة المحاكاة، فمن المؤكد أن لهذه الفكرة أساسًا ثابتًا في التجرِبة الفنية ذاتها، هو أن الفن — في معظم اتجاهاته — يصوِّر شيئًا ما، وقد لا يعترف أنصار الفن التجريدي المعاصر بذلك، ولكن كثيرًا من الرسامين والنحاتين قد اعترفوا بأنهم يصوِّرون في أعمالهم موضوعاتٍ معيَّنة بل يحاكونها أحيانًا، كما أننا نقول عن الروائي أو الكاتب المسرحي أو الشاعر إنه يصوِّر شخصيات أو مشاعرَ معيَّنة بدقة، بل إن أكبر مدح نوجهه إلى الأديب القصاص هو أن نَصِفَ حوادثَه بأنها طبيعية، وشخصياته بأنها صادقة، ولغته بأنها مماثلة لتلك التي يستخدمها الناس بالفعل. وإذا كان أفلاطون قد عبَّر في نظريته عن طبيعة عصره الذي درس فيه المثَّالون تفاصيلَ الجسم البشري بدقة ليحاكوها في أعمالهم على نحوٍ علمي دقيق، فإن آراؤه تغدو أقربَ إلى فهْمنا إذا تذكرنا تلك الدراسات الطويلة التي قام بها رسامون محدَثون للظواهر الطبيعية حتى يحاكوها في لوحاتٍ أصبحت لها منذ ذلك الحين شهرة عالمية.

وأخيرًا فإن الانتقادات التي يمكن أن توجَّه إلى النظريات الأخلاقية في الفن كثيرة، ولكن سيظل من الصحيح رغم كل ذلك أن التجرِبة الجمالية تجعلنا أناسًا أفضل، وأنها تهذِّب مشاعرنا وتجعلها أقل عنفًا وأكثرَ إنسانية، وتبلغنا بالتالي رسالةً لا شك في أن لها طبيعةً أخلاقية، وإذا كان من الخطأ أن يُطلَب إلى الفنان أن يقدِّم إلينا دروسًا مباشرةً في الأخلاق، فمن المؤكد أن هذه الدروس موجودة حتى لو لم يتعمدها الفنان، وهي تتمثل في قلب التجرِبة الجمالية ذاتها، في ذلك السر الغامض الذي يتميز به العمل الفني العظيم، حين يضفي على مشاعرنا رقةً لا ندرك مصدرها، ويجعلنا — على نحوٍ لا نفهمه بوضوح — نَبْعد عن مشاغلنا ومصالحنا الجزئية ونزداد اقترابًا من إنسانية الإنسان.

النظرية الواقعية عند أرسطو

أما أرسطو فكان أولَ مَنْ خصص مؤلَّفًا كاملًا عن موضوعٍ في صميم علم الجمال، هو كتاب الشعر، ورغم أن موضوع البحث في هذا الكتاب — كما هو واضح من عنوانه — هو الأدب بل الأدب المنظوم، فإن الكتاب أولُ مؤلَّفٍ نظري خُصِّصَ كله لمناقشة المسائل الجمالية، فضلًا عن أنه تضمن إشارات موجزة إلى مختلف الفنون، وإلى طبيعة التجرِبة الجمالية بوجه عام. ولم يكن كتاب الشعر هو الوحيد الذي عالج فيه أرسطو الموضوعات الفنية، وإنما تضمنت كُتبه الأخرى — ولا سيما كتاب السياسة — أبحاثًا هامة في هذا الموضوع.

ولقد كان الأسلوب الذي تناول به أرسطو موضوع الفلسفة الجمالية مختلفًا كلَّ الاختلاف عن طريقة أفلاطون في معالجة هذا الموضوع؛ فأرسطو ينقلنا إلى جوٍّ علمي جديد، خلا من تلك النزعة الشعرية الواضحة التي تميزت بها طريقة أفلاطون في الكتابة، ولم يكن أرسطو يَشعر على الإطلاق بذلك التوتر الذي أحسَّ به أفلاطون بين مزاجه الشعري الخاص وبين رفضه الفلسفي للشعر. ومن هنا كان أرسطو أَقْدَر على التحليل العلمي الهادئ من أفلاطون، وأَقْدَر منه أيضًا على المضي في أبحاثه بحيث تتفرع الموضوعات عنده إلى ميادين أدقَّ وأعمق.

والأهم من ذلك أن أرسطو كان يتميز بموقفٍ فلسفي عام أقرب إلى الواقعية كثيرًا من أفلاطون، وكان لهذا الموقف تأثيرٌ هام في صبغ نظريته الجمالية بالصبغة الواقعية؛ فهو لا يحمل على الواقع وعلى عالم الجزئيات كما فعل أفلاطون، ولا يهاجم العالم المادي من الوجهة الأخلاقية مثله، وإنما يتصف العالم في نظره بالدينامية والحرية، وبالغرضية التي تتغلغل في أدق تفاصيله، وبعبارة أخرى فللطبيعة ذاتها — في كل أفعالها — غايةٌ يمكن أن تُوصف بأنها جمالية بمعنًى ما، ولها في كل شيء حكمة وخطة مرسومة، وسوف نرى بعد قليل إلى أي حدٍّ تؤثر نظرة أرسطو الواقعية هذه إلى الطبيعة في فلسفته الجمالية بوجه عام.

•••

ولكي نوضِّح العناصر الرئيسية في نظرية أرسطو في الفن، سنقتبس أجزاءً من تعريفٍ للشعر ورد في مستهلِّ كتابه، ويمكن أن ينطبق على مجال الفن بأسره؛ ففي التعريف يقول أرسطو: «إن أصل الشعر راجعٌ إلى سببين، كلٌّ منهما يرتد إلى ميول طبيعية: الأول هو المحاكاة، وهي متأصلة في البشر منذ طفولتهم وما يلي ذلك من فترات العمر … كما أن التمتُّع بالمحاكاة متأصل في الناس جميعًا، وهذا أمرٌ يشهد به الواقع ذاته؛ إذ إننا نستمتع برؤيةِ أدقِّ صورِ الأشياء التي نكره أن ننظر إليها في حقيقتها، كصورِ أبشعِ الحيواناتِ أو الجثث، والسبب الثاني هو أن الناس جميعًا — لا أهل العلم فقط — يستمتعون برؤية الأشياء من جديد؛ إذ إن هذه تتيح لهم فرصةَ التَّعرف والاستدلال على كل شيء على حدة، فيقولون إنه ذاك؛ ذلك لأن الرائي لو لم يكن قد رأى الشيء من قبلُ أبدًا، لما كان الشبيه هو الذي يسبِّب اللذة، ولكن الذي يسببها هو الأداء أو اللون أو أي عامل آخر.»

في هذا التعريف المشهور يحدِّد أرسطو عناصرَ معيَّنة للفن، أولها عنصر المحاكاة؛ ففي الفن يعمل الإنسان على محاكاة الطبيعة، ويكون منتجًا مثلها، وكل ما في الأمر أن المبدأ المنتج في حالة الطبيعة يكون موجودًا في الطبيعة ذاتها، أما في حالة الفن فإنه يكون في نفس الفنان، وعلى ذلك فالفن راجع إلى ذلك الميل الطبيعي لدى الإنسان إلى محاكاة الأشياء، وهذا هو الأصل الأول للفن كما يحدِّده أرسطو بطريقته المميَّزة التي كان يحرص فيها على ردِّ كل شيء إلى منشئه، وهي الطريقة المسماة بالمنهج المشئي أو منهج الرجوع إلى الأصول.

ومع ذلك فإن أرسطو لا يحمل على الفن نظرًا إلى كونه يحاكي الطبيعة أو عالم الواقع؛ لأن الواقع — كما قلنا — ليس عنده ظلالًا معتمة، وإنما هو حقيقة حية تنطوي في ذاتها على أسمى غاياتها، وفضلًا عن ذلك فإن الفن يضيف إلى هذا الواقع جديدًا على الدوام؛ ففي البدايات الساذجة وحدَها يكون الفن مقيدًا بالطبيعة، أما حين يشب عن الطوق، فإنه يضم العناصر التي توجد متفرقة في الطبيعة بحيث يكوِّن منها كلًّا واحدًا، وكما يقول أرسطو: «فالجميل يختلف عن غير الجميل — مثلما تختلف الأعمال الفنية عن الأشياء الواقعية — في أنه يجمع بين العناصر المتفرقة كالألوان في الرسم، والأصوات المنفردة في السُّلم الموسيقي، والكلمات في الشعر، والحوادث في الرواية.» ولكي يكون العمل الفني سليمًا، فلا بُدَّ أن يَحدُث فيه هذا الجمع بين العناصر تبعًا لنِسبٍ محدَّدة، وبالإضافة إلى جمع الفن بين العناصر التي توجد متفرقةً في الطبيعة، فإنه يأتينا بما هو عام، على حين أن الطبيعة لا تنطوي إلا على جزئيات، ولكن ليس المقصود من العمومية في هذه الحالة هو أن الفن يتناول ظواهرَ يشترك فيها كثرة من الناس أو الأفراد؛ إذ إن هذا النوع من التعميم من شأن العقل لا الخيال، وكلما كان الخيال المبدع حيًّا، كانت الشخصيات التي يرسمها أكثرَ عينية وفردية، وإنما المقصود بقولنا إن الفن يصوِّر حوادثَ عامة، هو أن الفنان عندما يصوِّر شخصية — مثلًا — يصوِّر ما يفعله أي فرد آخرَ في مثل ظروفنا وموقفنا، أي إنه يصور عنصر الضرورة في الحوادث والأفعال، بحيث يبدو ارتباطُها فيما بينها، وصدورها عن الشخصية التي تقوم بها، ارتباطًا يقنع العقل ويُرضي نزوعنا إلى البحث عن الأسباب. وعلى ذلك فالفن عام بمعنَى أنه يصوِّر الكلي في مقابل العرضي، لا بمعنى أنه يصوِّر ما ينطبق على كثرة من الأفراد، وبعبارة أخرى ففي الفن نوعٌ خاص من الحقيقة، يتمثَّل في أنه لا يصوِّر نزواتٍ فردية يستحيل تعليلها، وإنما ينقل إلينا حقائقَ يقتنع بها الجميع، وتحتل كلُّ واحدة منها مكانها وسط السلسلة العامة لما يعرضه من الحوادث، فإذا كنا نجد الفن معبِّرًا، فلا بُدَّ أن يكون ذلك راجعًا إلى أنه يعبِّر عن إمكانية من إمكانياتنا، وبذلك ندرك التقارب بين أذهاننا وذهن الفنان، سواء في الشعور وفي التعبير، وهو تقارب يمتد — مثاليًّا — إلى البشرية جمعاء.

•••

وربما كان أهم ما يُسْتَخْلَص من التعريف السابق — فيما يتعلَّق برأي أرسطو في فكرة المحاكاة — هو قول أرسطو إن المرء قد يستمتع برؤية صورة شيء يكره أن ينظر إليه في حقيقته؛ فأرسطو هنا يسير في أول الطريق الذي يؤدي إلى الاعتراف بأن للفن حقيقةً مستقلة بذاتها، وعلى حين أن أفلاطون قد أكَّد — بشيء من السذاجة — أن تأثير التصوير في نفوسنا مماثلٌ لتأثير الواقع، فإن أرسطو يجعل للتصوير تأثيرًا مستقلًّا عن الواقع الذي يمثله، أعني أن في العمل الفني عنصرًا جماليًّا مستقلًّا عن الواقع الذي يمثِّله مضمون الموضوع الذي يصوِّره هذا العمل، ويرى بعض الكُتَّاب في هذا الرأي تلميحًا إلى فكرة الرمزية، أي إن هذه هي الخطوة الأولى في الطريق الذي يؤدي إلى القول بأن الفن يرمز إلى الواقع بدلًا من أن يحاكيه، وعلى أية حال فأقل ما يمكن أن يُقال في هذا الصدد هو أن أرسطو قد أدرك — لأول مرة بالنسبة إلى الفلاسفة السابقين عليه — أن تصوير الواقع فنيًّا يؤدي إلى تغييره، ويصبغه بصبغة مثالية.

وتتفاوت الفنون من حيث قدرتها على تصوير الواقع ومحاكاته؛ فللموسيقى قدرةٌ مباشرة على تصوير الأحوال النفسية والطباع، «فالإيقاع والنغم يقومان بمحاكاة مشاعر الغضب والرقة، وكذلك صفات الشجاعة والاعتدال، والصفات المقابلة لهذه وغيرها من صفات الخلق، وهذا أمرٌ تثبته التجرِبة؛ إذ إننا نشعر بتأثيرها في نفوسنا عند سماعنا لها»، أما في التصوير فليست المحاكاة مباشرة، صحيح أننا قد نشعر في التصوير بمزيد من المتعة، تولِّدها فينا قدرتنا على استنتاج موضوع التصوير والتعرُّف عليه، ولكن هذا السرور ملتوٍ غير مباشر. على أن المحاكاة تكتمل وتبلغ هدفها في المأساة أي التراجيديا؛ فالموسيقى والتصوير — على ما لهما من أهمية — لا يقدِّمان إلينا فكرةً تبلغ من الثراء والاتساع ما تبلغه العقدة الموحدة المحبوكة في التراجيديا. وهكذا يقيس أرسطو شرف الفن المحاكى — مثلما يقيس شرف المعرفة — بمقدار ما فيه من شمول ومعقولية وضرورة محتومة، تناظر ما في العلم الأصيل والمعرفة الحقة من هذه الصفات.

والفكرة الرئيسية الثانية في نظرية أرسطو في الفن هي فكرته المشهورة في «التطهُّر catharsis»، ويعرض أرسطو هذه الفكرة في تعريفه للتراجيديا الذي يقول فيه: إنها «تصوِّر فعلًا نبيلًا كاملًا في ذاته … بلغةٍ لها سحرُها الخاص … وتؤدي — بإثارتها لانفعالَي الشفقة والخوف — إلى تطهير النفس من هذين الانفعالين.» وهذا التعريف يحدِّد صفةً أساسية للتراجيديا، هي أنها تصوِّر فعلًا كاملًا في ذاته؛ فلا بُدَّ أن تكون للتراجيديا وحدةٌ عضوية متكاملة، وأن تكون لها بداية ووسط ونهاية، وينبغي أن تُرتَّب الحوادث فيها بحيث إنه إذا تغيَّر موضعُ أي جزء منها أو حُذِفَ؛ اختل نظام الكل، وهكذا تكون العلاقة بين الحوادث أشبه بالعلاقات الرياضية بما فيها من نظام وتماثُل وتحدُّد.

ولكن أهم ما في هذا التعريف هو إشارته إلى فكرة التطهُّر؛ فعلى حين أن أفلاطون قد رأى في الشعر والأدب عامةً وسيلةً لإثارة الانفعالات بأي ثمن، فإن أرسطو يرى — على العكس من ذلك — أن المأساة وسيلةٌ لتخفيف الانفعالات أو إطلاقها وتحرير الإنسان منها، وبعبارة أخرى فاللذة التي تترتَّب على الفن لا تحمل ذلك الطابع المذموم الذي تحمله عند أفلاطون، وإنما هي تتويجٌ للحياة ودليل على الشعور بامتلائها، وفي استطاعة اللذة الفنية أن تخلِّص النفس من المتاعب والهموم والانفعالات، مثلما يؤدي الشرب إلى خلاص الجسم من العطش؛ ذلك لأن الانفعالات لو تُرِكَت لتتراكم في النفس، فإنها تغدو فيها أشبهَ بالسموم التي ينبغي التخلُّص منها، وهناك أشخاص يَسهُل تعرُّضهم لانفعالات الخوف والإشفاق المتزايد، وهؤلاء يصابون بأضرارٍ كثيرة لو أطلقوا العِنان لهذه الانفعالات، ومن هنا كان في الفن — وفي فن المأساة بوجه خاص — شفاءٌ لنفوسهم وتطهير لها من انفعالاتها المتطرفة؛ ذلك لأنهم يمرون — عند مشاهدتهم للمأساة — بتجربة مماثلة لما يحدث في الحياة الواقعية، وهكذا تنطلق الطاقة الحبيسة في نفوسهم، ولكن في ظروفٍ مصطنعة لا تكون لها نفس الأضرار التي يمكن أن تصيب النفس لو أُطْلِقَت هذه الطاقة في الظروف الطبيعية، وعن طريق هذه التجرِبة المحاكية تتخفف النفس من انفعالاتها الأصلية. ومن هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين فكرة المحاكاة وفكرة التطهر، أي بين العنصرين الرئيسيين في نظرية أرسطو في الفن؛ ذلك لأن التطهُّر لا يتم إلا بمحاكاة ظروفٍ مماثلة لتلك التي تُثار فيها الانفعالات في الحياة الواقعية. وهكذا يبدو أن أرسطو من أنصار المَثل القائل: وداوِني بالتي كانت هي الداء. وكلُّ ما في الأمر أن الدواء هنا يتم في ظروفٍ فنية مصطنعة، تعالج الداء الذي هو الإفراط الفعلي في الانفعال، ولنوضحْ بطريقةٍ أخرى ما يقصده أرسطو من فكرة التطهُّر، تلك الفكرة المشهورة التي طالما اختلف حولها الشُّرَّاح والمفسرون، فهو يرى أن شفاء الجسم والنفس من العلل يتم عن طريق بلوغ حالة من التوازن تتسنَّى فيها معادلة التطرُّف بحالة مضادة له، تؤدي إلى التخفيف منه، وتعيد التوازن إلى سابق عهده، وهكذا ففي مقابل الشفقة المرضية المفرطة التي يتعرض لها الناس في حياتهم المعتادة، يعود التوازن السليم بفضل تلك الشفقة المتزنة العاقلة التي تثيرها المأساة؛ ذلك لأن الإفراط في الشفقة قد يؤدي بنا إلى الإشفاق على مَن لا يستحق، أما المأساة المسرحية السليمة فإنها تعلمنا كيف نضع الشفقة في موضعها الصحيح، ومن هنا كان أرسطو يرى أن المأساة الجيدة ينبغي أن ترسم لنا صورة شخص تظلمه الأقدار وهو لا يستحق الظلم، وإن كان قد ارتكب خطأً بسيطًا هو الذي أدَّى إلى نزول الكارثة عليه، وهنا تكون شفقتنا عليه في موضوعها، ولا تكون شفقةً مفرطة نشعر بها تجاه مَن يستحق ومَن لا يستحق، ومثل هذا يُقال أيضًا عن تأثير المأساة في انفعال الخوف والحماسة المفرطة، وهكذا فإن مشاهدة مأساة مسرحية كهذه، تعيد إلى المُشاهِد التوازنَ في انفعالاته، وتَردُّ إليها ما فيها من تناسُب وتناسُق.

وهنا نلمس فارقًا آخرَ بين نظريتَي أفلاطون وأرسطو؛ فعلى حين أن أرسطو يرى أن إشفاقنا على الضحية في المأساة يفرغ طاقتنا الانفعالية، ويخلصنا بالتالي من المشاعر المتطرفة، فإن أفلاطون يرى — على العكس من ذلك — أن تَكرار الاستماع إلى القَصص الشعري ومشاهدة العروض المسرحية يزيد من حساسية النفس للانفعالات، ولا يؤدي مطلقًا إلى التخلُّص منها، وقد أدَّى هذا الاختلاف بين الفيلسوفين إلى تباينٍ آخرَ في تقدير كلٍّ منهما لقيمة الفنان؛ فأفلاطون كان يضع الشاعر بعد الصُّنَّاع وأصحاب الحرف، أما أرسطو فيضعه في أعلى السُّلم مع الفلاسفة والحكماء؛ ذلك لأن أرسطو كان يرى في قدرة الشاعر ومؤلِّف المأساة على تصوير تجارِب الحياة، وعلى تمثُّل هذه التجارِب في نفسه بكلِّ ما فيها من تفاصيلَ ومشاعرَ عميقة، دليلًا على وجود موهبة لدى الشاعر لا تقل عن موهبة الفيلسوف، أما أفلاطون فقد كان يرى في هذه الصفة ذاتها — أعني في قدرة الأديب على تقمُّص الشخصيات والمواقف المختلفة والتقلُّب معها — دليلًا على تقلب النفس ذاتها وافتقارها إلى التماسك والثبات، ولو قارن المرء بين الموقفين؛ لظهر له على التوِّ أن موقف أرسطو هو الأسلم والأقرب إلى الفهم السليم لطبيعة التجرِبة الفنية. وهكذا فإن إدراك أرسطو لقدرة الفن على السمو بالانفعالات الإنسانية — بالإضافة إلى اعترافه بأن للفن حقيقةً قائمة بذاتها، بغض النظر عن طبيعة الموضوع الذي يصوِّره — يمثل تقدُّمًا كبيرًا في التفكير الجمالي، بل هو يدُل على ظهور بوادر النظريات الجمالية منذ ذلك العهد البعيد، عهد الفلسفة اليونانية القديمة.

النظرية الصوفية عند أفلوطين

أما نظرية أفلوطين فتمثِّل آخرَ مرحلة للتفكير الجمالي عند اليونانيين، ومن الممكن أن تُعَدَّ قمةً وتتويجًا لهذا التفكير، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي في ذاتها على عنصرٍ يقضي على الطابع المميِّز للفكر اليوناني، ويمهِّد الطريق لنمط التفكير الذي ساد العصور الوسطى؛ ذلك لأن أفلوطين قد جمع أهم الأفكار التي تضمنتها النظرية الجمالية عند أفلاطون وأرسطو، وكوَّن منها مركَّبًا أعلى، ولكنه في الوقت ذاته قد صبغ هذا المركَّب بصبغةٍ صوفية كانت في واقع الأمر تمهيدًا لظهور النظرة اللاهوتية إلى الحياة وإلى الفن في العصور الوسطى، وبالتالي لاختفاء المفهوم اليوناني في هذين المجالين.

ومنذ أول «تساعية» من تساعيات أفلوطين، نراه يتساءل عن ماهية الجَمال، فيقول إن هناك جَمالًا يُرى أو يُسمع أو يُحسُّ، وهناك جَمال الروح الذي نجده في سلوكٍ معيَّن أو في طبيعةٍ معيَّنة، ولكن هل يوجد عنصر مشترك بين نوعَي الجَمال هذين؟ لو اهتدينا إلى هذا العنصر المشترك؛ لعرفنا ماهية الجَمال في ذاته.

ويرفض أفلوطين نظرية الانسجام أو التماثُل التي قال بها أرسطو؛ فالفن لا يرجع إلى رغبةٍ غريزية في الانسجام — كما قال أرسطو — إذ لو كان الأمر كذلك لما اتصف بالجمال إلا ما هو مركَّب معقَّد، حتى يمكن أن يكون هناك انسجامٌ بين عناصره المختلفة، غير أن التجرِبة تُثبِت لنا أن الجَمال كثيرًا ما يكون مرتبطًا بالبساطة، ومتنافيًا مع التعقيد، وفضلًا عن ذلك ففي عالم الأفكار جَمال، غير أن هذا العالم بسيط وليس مركَّبًا، فكيف يمكن وجودُ الجمال في مثل هذا العالم؟

بهذا السؤال الأخير ينتقل أفلوطين إلى صميم بحثه الخاص في طبيعة الجمال، ويربط بين هذا البحث وبين نظرياته الميتافيزيقية ربطًا واضحًا؛ ذلك لأن أفلوطين — في فلسفته النظرية — كان يرى أن الأشياء جميعًا تشارك في الله أو في العالم المثالي، وهو حين يطبِّق هذا الرأي في ميدان علم الجمال يقول إن أي شيء لا يكون جميلًا إلا بقدْرِ مشاركته في هذه الطبيعة الإلهية، ومبعث اللذة التي نحس بها عند إدراك عمل فني عظيم، هو أن النفس الإنسانية — التي هي بطبيعتها قريبة من الطبيعة الإلهية — تَطْرَب وتبتهج كلما رأت شيئًا يقرب بدوره من هذه الطبيعة.

فالجمال إذن إنما هو حضور الماهية الإلهية الأزلية في عالم الأشياء الزمانية، ومعنى ذلك أننا نستطيع أن نصل إلى الله عن طريق حبنا للجمال، مثلما نصل إليه عن طريق سعينا إلى الخير والحق؛ ففي الله تلتقي القيم جميعًا، ومن مشاركة الأشياء الزمانية في الماهية الإلهية الأزلية تُسْتَمَد كل القيم.

ولكي يحدِّد أفلوطين العلاقة بين الأشياء الجميلة وبين عالم الأفكار الإلهية الذي هو مصدر جمالها، يؤكِّد أننا نصف بالجمال كلَّ شيء نرى فيه ذلك الطابع الذي أضفيناه نحن عليه، بفضل اتحادنا بالمبدأ الإلهي؛ فحين يصنع المهندس بيتًا جميلًا، فهو إنما يطبع المادة الخارجية — أي الحجارة — بفكرةٍ في داخله، أو يقرِّبها من المَثَل الأعلى الباطن فيه، ولهذا السبب وحدَه كان يراه جميلًا كلما نظر إليه.

وإذا كان جمال الأشياء المادية يرجع إلى انعكاس الفكرة الإلهية عليها، فإن هذه الصفة أوضح ظهورًا في جمال الأشياء اللامادية؛ فللأفعال والخِلال والفضائل جمالُها وللنفوس جمالُها، وإلا فبماذا نصف ذلك الطرب الذي نَحُسُّ به كلما سَمَتْ نفوسنا، وذلك السعي إلى العلو بأرواحنا، وتجاوز حدود جسمنا؟ إن هذه كلَّها مظاهرُ للجمال، لا ترجع إلا إلى شعورنا بحضور الله في هذه الأفعال والخلال.

وعلى أساس هذا الفهْم لطبيعة الجمال يعرِّف أفلوطين الفنَّ بأنه التعبير عن مشاعرِ الفنان الذي يدرك مظاهر المبدأ الإلهي في شيء مادي موجود في الزمان والمكان، وهو إدراك يتوافر للفنان بفضل مشاركته بدوره في هذا المبدأ الإلهي؛ فالفنان إذن ينقل فكرتَه إلى المادة، ويعبِّر من خلال وسط مادي عن إدراكه لحضور المبدأ الإلهي في العالم الزماني والمكاني، ولنتأملْ ذلك الحَجَر الذي يتحوَّل على يد الفنان إلى تمثال، ويكتسب بفضل هذا التحوُّل جمالًا، إن الجمال لا يكون في هذه الحالة كامنًا في المادة، وإنما في الصورة التي يضفيها عليها الفنان، أي إنه مستمدٌّ من روحه، وبعبارة أخرى فالفنان يُنطِق الحجرَ انفعالاتِه ومشاعرَه، وهي انفعالاتٌ ومشاعرُ لم تنشأ في نفس الفنان إلا من تأمُّله لصورة المبدأ الإلهي مطبوعةً على عالم المكان والزمان.

ولا شك أننا نستطيع أن نلمح هنا تلك الفكرة المشتركة بين أهم النظريات الجمالية عند فلاسفة اليونان، وأعني بها فكرة المحاكاة، غير أن المحاكاة ليست في هذه الحالة محاكاةً لأشياءَ مادية، وإنما هي محاكاة للمثل الأفكار الإلهية، أي إنها محاكاة للروح اللامادية من خلال وسيط مادي أو شبه مادي، ولا جدالَ في أن آراء أفلوطين هذه في الفن تمثِّل تقدُّمًا كبيرًا بالنسبة إلى آراءِ أستاذه الروحي أفلاطون؛ فقد رأينا هذا الأخير يُقصِر مهمةَ العمل الفني على محاكاة الأشياء المادية الجزئية، بينما يسمو أفلوطين بهذه المهمة إلى محاكاة المثل أو العنصر الإلهي في العالم، ومن هنا كان التفاوت النسبي في قيمة الفن عند كلٍّ من الفيلسوفين؛ فالأول يجعل منه نشاطًا يحتل مرتبةً أدنى من مرتبة الأشياء التي يحاكيها، على حين أن الثاني يجعل منه نشاطًا روحيًّا رفيعًا، يعلو على ما يحاكيه من الموضوعات.

وهكذا فإن فلسفة أفلوطين الجمالية — في إعلائها من شأن العمل الفني على هذا النحو — تمثِّل القمَّة العليا للتفكير الجمالي عند اليونانيين، ولكنها في الوقت ذاته تتضمن — كما قلنا — تلك العناصرَ التي قضت — بالتدريج — على الطريقة اليونانية في التفكير؛ ذلك لأن أفلوطين يَرُدُّ كلَّ شيء إلى المبدأ الإلهي، ويجعل من الفن تأملًا لصورة الألوهية كما تنطبع على عالم الزمان والمكان، ولولا هذا الاتصال الدائم بالمبدأ الإلهي لمَا كان في وُسعنا أن نرى الجمال في شيء، وهكذا كانت فلسفة أفلوطين في ميدان الجمال — كما كانت في سائر الميادين — تمثِّل الجسر الذي انتقلت عليه الحضارة من طريقة التفكير اليونانية إلى طريقة التفكير اللاهوتية في العصور الوسطى، وتمثِّل نقطة النهاية بالنسبة إلى منهج اليونانيين العقلي في حل مشكلات الفن والفكر والحياة.

١  مجلة «المجلة»، العدد ٩٣، سبتمبر ١٩٦٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤