بين الفكر والآلة (٢)

فكرة الآلية في الفلسفة الحديثة١

لم تكن العصور الوسطى الأوروبية فترةً مجدبة عقيمة في اتجاهاتها الفكرية إلى الحد الذي تبدو عليه لأول وهلة، بل إن كثيرًا من العناصر التي أصبحت فيما بعدُ مميزة للحضارة الغربية الحديثة قد ظهرت بوادرها في تلك الفترة التي تتميز بامتدادها الزمني الهائل، والتي نضجت فيها — ولكن ببطء شديد — اتجاهاتٌ حضارية لم تجد التعبير الكامل عنها إلا في العصر الحديث.

ولقد ورثت العصور الوسطى عن العصرين: اليوناني والروماني ازدراءَ العمل اليدوي، والفصل بين مجال الفكر ومجال التطبيق، وظهر في تلك العصور عاملٌ جديد كان خليقًا بأن يزيد هذه الهُوَّة اتساعًا، هو العامل اللاهوتي الذي أصبحت له المكانة الأولى في حياة الناس في تلك العصور، والذي كان يتضمن دعوةً صريحة إلى الزهد وازدراء كلِّ نشاط متعلِّق بالعالم الأرضي المادي الزائل، ومع ذلك فإن العصور الوسطى قد شهدت تحولًا تدريجيًّا بطيئًا غاية البطء — في النظرة إلى قيمة النشاط العملي التطبيقي — بالقياس إلى سائر أوجه النشاط البشري؛ ذلك لأن النصوص الدينية المسيحية لم تكن واضحة تمامًا في هذا المجال؛ ففي الإنجيل نصوصٌ تحمل على العمل، كما أن المسيح لم يكن يعبأ بالخيرات المادية التي ينتجها العمل، ومع ذلك فإن المسيح ذاته وكذلك الكثير من حوارييه كانوا صناعًا، وهو أمرٌ له دلالته الكبرى في هذا الصدد؛ إذ إنه يؤدي إلى الربط بين العمل اليدوي وبين المثل الأعلى لذلك العصر، وهو شخصية القديس.

ومن جهةٍ أخرى فإن طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذلك العصر كانت تشجِّع على التحوُّل التدريجي في مركز العمل؛ فبينما نجد أن العمل الزراعي — الذي كان حرًّا في العصر القديم — قد تحول تدريجًا إلى نوع من العبودية بتوطيد دعائم نظام الإقطاع الذي حوَّل الفلاحين إلى أشباه عبيد، نجد من ناحيةٍ أخرى أن العمل الحِرَفي والصناعات اليدوية قد انتقلت إلى التحرُّر والاستقلال، ولا يمكن القول إن هذا التغيُّر قد حدث دفعة واحدة، بل إن احتقار الصنائع الميكانيكية ظل قائمًا بعد انتهاء العصور القديمة بفترة طويلة، وكانت قيم الفروسية التي سادت في العصور الوسطى امتدادًا لمبدأ ترفُّع الإنسان الحر عن العمل؛ إذ لم يكن الفارس يقوم بعملٍ يدوي، بل كان كلُّ ما يقبل أن يشتغل به هو تلك الفنون المسماة بالحرة، وفي حياة الفارس الإقطاعي كان الشرف والنُّبل قيمتَين مضادتَين لقيمة العمل المادي، ومع ذلك كان هناك تيار متصل يتجه إلى رد اعتبار العمل بالتدريج، وحين شاهد إنسان العصور الوسطى تلك الكاتدرائيات الشامخة التي أنتجها العمل والصناعة الميكانيكية، لم يملك إلا أن يُبْدِيَ إعجابه بالصنعة الفنية ونواتجها الرائعة التي يمكنها أن تثري حياة الإنسان الدينية ذاتها، وبدأ يدرك بصورةٍ غامضة مقدارَ التغيُّر الذي يمكن أن يُحدِثه امتزاج العلم بالصنعة اليدوية في حياة الإنسان.

ويمكن القول إن نوع الحياة التي كان يحياها الرهبان في الأديرة في العصور الوسطى يُعَدُّ أنموذجًا مصغرًا لموقف العصور الوسطى من مشكلة العمل والصناعة بأسرها؛ ذلك لأن فكرة الحياة في الأديرة كانت هي ذاتها تعبيرًا عن احتقار العمل والترفُّع عن كلِّ ما له صلة بالعالم المادي، ومع ذلك فقد ظهر عند القديس أوغسطين وغيره من آباء الكنيسة اتجاه إلى التنديد بالرهبان الذين لا يعملون، وإلى إدخال العمل اليدوي في حياة الدير، وبالفعل أخذت الأديرة تتحوَّل بالتدريج من دُور للتأمُّل والتعبُّد الخالص إلى أماكنَ تُجرى فيها تجارِبُ رائدةٌ في شتى ميادين الأعمال والصنائع اليدوية.

وعندما أقبل عصر النهضة الأوروبية، ظهر بوضوحٍ أن الاتجاه إلى الاعتراف بقيمة العمل اليدوي قد تغلَّب على الاتجاه إلى استنكاره والزُّهد فيه. وكانت حركة الإصلاح الديني من أهم العوامل التي ساعدت على عودة العمل إلى مكانته المشروعة؛ ذلك لأن «مارتن لوثر» كان ينظر إلى العمل على أنه دواء للخطايا والآثام، ويؤكد التزام المؤمنين بالعمل، ويصف حياة التأمُّل في الأديرة بأنها ناشئة عن أنانية الرهبان، ويطالب كلَّ إنسان بأن يقوم — على قدْرِ وُسعه — بالعمل الذي يمكنه أداؤه.

وقد أكَّد لوثر — معبِّرًا في ذلك عن قيمِ عصرٍ جديد — أن العمل اليدوي والعمل الروحي سواء في قيمتهما، وامتدح الصانع الفقير الكادح، ووصفه بأنه مقرَّب إلى الله، ومضى كالفن أبعدَ من ذلك، فوصف العمل بأنه الصلاة الحقيقية التي يتَّجه بها الإنسان إلى الله، وعبَّر كالفن عن القيم التجارية التي أخذت تسود ذلك العصر، حين أكَّد مشروعية أرباح التجار قائلًا: «من أين تأتي أرباح التجار؟ إنها لا تأتي إلا من نشاطهم وكدِّهم في العمل.» تلك هي الصورة التي رسمتها مذاهبُ الإصلاح الديني، والتي مهدت بها الطريق لقيم العصر التجاري والرأسمالي الآخذ في الظهور.

وقد أكمل مظهر التطهُّر (البيوريتانية) رسمَ ملامح هذه الصورة؛ صورة الإنسان الجديد النشيط الصارم ذي الإرادة الحديدية، الذي يتغلَّب على كل العقبات بعمله. ومن جهةٍ أخرى فإن الأدب والفن في عصر النهضة الأوروبية قد سارا في نفس الطريق، حين مجَّدا القيم المرتبطة بهذه الحياة وهذا العالم، واعترفا لأول مرة بكِيان الإنسان الكادح العامل، وظهر هذا التحوُّل واضحًا في موقفِ أكبرِ شخصيات عصر النهضة — وهو ليوناردو دافنشي — من الصنائع الميكانيكية؛ إذ إن هذا الفنان العملاق والمفكر الإنساني العبقري كان في الوقت ذاته مهندسًا ومصمِّمًا للآلات الميكانيكية، وقد ترك — كما هو معروف — تصميماتٍ لآلات توصلت البشرية إلى اختراع الكثير منها فيما بعدُ، ولم يكن إبداعه الفني حائلًا بينه وبين تمجيد الميكانيكا والنظر إليها على أنها أرفعُ العلوم وأنبلُها.

على أن هذا التطوُّر التدريجي الذي طرأ على مركز الصنعة العملية والأعمال اليدوية في أذهان الناس طَوال العصور الوسطى وعصر النهضة، كان لا يزال يفتقر إلى عنصر أساسي لا يمكن بدونه أن يحدث تحوُّل حاسم في نظرة الإنسان إلى الآلة وتحديده للدور الذي تؤديه في حياته، ذلك العنصر هو الجمع بين العلم النظري والعمل المادي في مركب واحد؛ فقد كان التقدُّم الذي أشرنا إليه تقدُّمًا في الخبرة العملية وحدَها، أما العلم فكان يسير في طريقه النظري الخاص، منعزلًا عن تطوُّر المعارف العملية، وبعبارةٍ أخرى فإن العلم لم يكن مطبَّقًا على الصنائع في تلك العصور، وإنما تحقَّق التقدُّم الملموس في هذه الصنائع عن طريق الخبرة والمران وحدَهما، دون الاعتماد على معرفةٍ علمية، ومع ذلك كانت هذه الخبرة تنمو وتكتشف وتخترع، وتصل بأبسط الوسائل إلى استحداث أدوات وآلات جديدة، وتحقِّق في بعض الأحيان نتائجَ باهرةً، وكان لا بُدَّ من مضي قرن أو اثنين — في مطلع العصر الحديث — قبل أن يتم الامتزاج بين العلم والعمل، وتزول الحواجز المصطنعة التي وضعتها العصور السابقة بينهما، ويؤمن المفكرون والفلاسفة أنفسهم بأن العلم ينبغي أن يُسْتَخْدَمَ في النهوض بحياة الإنسان الكاملة، لا بمَلَكَاته العقلية وحدَها.

ويمكن القول إن فرانسيس بيكن كان أولَ فيلسوف دعا صراحةً إلى اتخاذ العلم سبيلًا إلى الارتقاء بحياة الإنسان العملية، وكانت لهجته قاطعة في التنديد بالمعرفة النظرية الخالصة التي لا تستطيع أن تشق طريقها إلى واقع الإنسان، وإذا كانت حملة بيكن على الفلاسفة القدماء قد اشتهرت بأنها دعوةٌ إلى تجديد المنطق وتغيير الأداة العقلية المستخدَمة في العلم، فلا جدال في أن أهم عناصر هذه الحملة هو نظرة بيكن الثورية إلى العلاقة بين العلم والعمل أو بين المعرفة والتطبيق؛ فالمُثُل العليا التي يدعو إليها بيكن مضادَّةٌ تمامًا للمُثُل العليا اليونانية؛ إذ إنه يعزو أرفعَ قيمةٍ إلى المعارف العملية المثمرة الخصبة، على حين أنه يَعُدُّ التأمُّلَ النظري البحت أمرًا عقيمًا لا يليق بالإنسان، بل هو يكاد يَعُدُّ العِلمَ تلخيصًا أو تعميمًا أو امتدادًا للمعرفة المكتسبة في الميدان العملي.

ولقد كان بيكن يقارن على الدوام بين ركود التفكير الفلسفي النظري الصرف، وبين التقدُّم المستمر للصنائع والمخترعات التي تستطيع تغييرَ مجرى حياة الإنسان بالفعل، وهو حين يتحدث عن التأثير الهائل الذي أحدثته هذه الأخيرة في تاريخ البشر يقول: «ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمورٌ تظهر أوضحَ ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء: الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيَّرت وجهَ العالَم بأسره، الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغييراتٍ لا حصرَ لها، بحيث يمكن القول إن أي مذهب سياسي أو ديني أو أي نجم فلكي لم يكن له في شئون البشر تأثيرٌ أعظمُ مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية، وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوَّتهم الخاصة في بلادهم، وهو طموح وضيع منحط، والثانية طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلادهم وسيطرتها على البشر، وهو طموح أرفعُ من السابق، ولكنه لا يقل عنه طمعًا، أما إذا حاول امرؤ أن يسترجع للجنس البشري كلِّه قوَّته ويوسِّعها، ويزيد من سيطرته على الكون، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرفُ وأنبلُ من النوعين السابقين، على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدَها؛ إذ إن الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها.»

هذه العبارة الأخيرة في كلمات بيكن السابقة تلخِّص فلسفةَ عصر بأكمله «الطبيعة لا تحكم إلا بإطاعتها»؛ فالهدف هنا هو حكم الإنسان للطبيعة وسيطرته العملية عليها وتغييره لها، والوسيلة هي إطاعة الطبيعة، أي معرفة قوانينها.

وعلى حين أن الفلاسفة القدماء — كالرواقيين مثلًا — كانوا يدعون إلى فهْم الطبيعة من أجْل قبول ما فيها من حتمية وضرورة، فإن شعار العصر الحديث أصبح فهْم الطبيعة من أجل تغييرها، فلا غرابة إذن إن كانت الفلسفة القديمة فلسفةَ تأمُّل نظري بحت، والحديثة ممهدة لعصر التصنيع، ولقد طبَّق بيكن في كتاباته شعاره هذا بكل إخلاص؛ إذ حمل في هذه الكتابات على كل علم يعجز عن تغيير حياة الإنسان، ودعا إلى تخطيط البحث العلمي وإنفاق الدولة عليه بسخاء، وطالب بنوع جديد من التعليم تمتزج فيه المعلومات النظرية بالخبرات العملية والصناعات الفنية، وحدَّد موضوعاتٍ يعتقد أن اهتمام العلماء ينبغي أن يتركَّز فيها، من بينها التبريد الصناعي والمطر الصناعي، وتلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواعٍ جديدة، واختراع سفنٍ تسير تحت الماء، وأخرى تطير في الهواء، وفي هذا البرنامج الذي رسمه بيكن يظهر — بكل وضوح — مدَى تغيُّر المناخ العقلي بالنسبة إلى ما كان عليه في العصور القديمة، فها هنا فلسفة تتخذ مَثَلها الأعلى من تغيير الإنسان للطبيعة، ومن اتخاذ المعرفة سبيلًا إلى إحراز الإنسان لمزيد من القوة في هذا العالم، وهو مَثَل أعلى كان يُعَدُّ في العصور الوسطى داخلًا في باب السحر والشعوذة؛ إذ إن السحرة وحدَهم هم الذين يدَّعون القدرةَ على تغيير الطبيعة والتحكُّم في قواها المختلفة، وما كان مفكر مثل بيكن ليخجل من تشبيه غاياته بغايات السحرة، وكلُّ ما في الأمر أنه لم يكن يدعو إلى تغيير الطبيعة عن طريق خرْق قوانينها كما يفعل هؤلاء، وإنما هو يدعو إلى التحكُّم فيها عن طريق معرفة هذه القوانين.

كانت النزعة التجريبية — كما ظهرت في دعوة بيكن إلى تطبيق العلم على مجال الصناعات — تمثِّل أولَ مظهرٍ من مظاهر التحوُّل الفلسفي الذي هيأ الأذهان لقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكري للعصر الصناعي الحديث، ولكنَّ لهذا التحوُّل الفلسفي مظهرًا آخرَ لا يقل تأثيرًا عن هذا المظهر الأول في عملية التهيئة العقلية هذه، هو النزعة التجريدية كما تمثَّلت في تطبيق العلم الرياضي على الأبحاث الطبيعية.

ولقد كانت للتفكير الرياضي في فلسفة الغرب جذورٌ قديمة العهد، ترجع إلى أيام فيثاغورس الذي أعلن — لأول مرة — إمكانَ تفسير ظواهر الكون كلها تفسيرًا رياضيًّا، وازدهر هذا التفسير الرياضي للظواهر أيام إقليدس وبطليموس اللذين قاما بأبحاثٍ رائعةٍ كان من الممكن أن تثمر علمًا طبيعيًّا ذا صبغة رياضية دقيقة، ومع ذلك فإن العالم القديم كله لم يُقْدِم على هذه المحاولة، وذلك للأسباب التي أوضحناها في المقال السابق.

وكانت نتيجة ذلك أن الفكر اليوناني نظر إلى العالم الذي نعيش فيه على أنه عالم متغير خدَّاع لا يمكن أن ينطبق عليه علم ذو موضوعات «أزلية» ثابتة كالرياضة؛ فللعلم الرياضي مجاله الخاص المترفِّع على هذا العالم، وهو ينحط ويفقد امتيازه وترفُّعه إذا ما طُبِّق على عالم الواقع المتغير. إن كل شيء في الرياضة ثابت ودقيق، على حين أن كلَّ ما في هذا العالم «تقريبي» فحسب، فكيف تتفق الدقة مع التقريب؟ وكيف يمكن أن يخضع عالم المحسوسات المتغيرة للرياضيات العقلية الثابتة؟ وكيف تنطبق المجردات الرياضية على العالم العيني الواقعي؟ كل ذلك كان بطبيعة الحال مستحيلًا في نظر القدماء؛ إذ إن الهُوة الشاسعة بين مجال الفكر ومجال الفعل أدَّت إلى الفصل القاطع بين مجال عقلي أرستقراطي كالرياضة، ومجال عرضي متغير كمجال الطبيعة، وإذا كان من الجائز أن تنطبق الرياضة على العالم فلا يمكن — في رأيهم — أن يكون ذلك إلا العالم السماوي؛ عالم الأفلاك، أما العالم الأرضي؛ عالم «ما تحت فلك القمر»، فلا مجالَ فيه للدقَّة الرياضية على الإطلاق.

وفي العصور الوسطى لم يطرأ تغيُّرٌ حاسم على العلاقة بين الرياضة وبين عالم الطبيعة، ولم يحاول أحدٌ أن يطبِّق الأعداد والمقاييس والموازين الدقيقة على دراسة العالم المحيط بنا، ويتخذها أساسًا لمعرفةٍ علمية دقيقة؛ ذلك أولًا لأنه لم تكن هناك أدوات للملاحظة، وإنما كان على الإنسان لكي يلاحظ أن يكتفي باستخدام عينيه فحسب، دون استعانةٍ بأية آلة بصرية، ومن جهةٍ أخرى لم تكن هناك لغة أو نظام من الرموز يتيح التعبير عن الملاحظات بدقة، ويساعد على إضفاء صبغة رياضية على العلاقات بين الظواهر المتغيرة، فحتى عصر النهضة الأوروبية لم تكن العمليات الحسابية العادية شيئًا هينًا، وإنما كان من الشائع استخدام أجهزة خاصة لإجراء أبسط عمليات العد، ولمساعدة الذهن المجهَد على إتمام هذه العمليات، ولم يكن الجميع يستخدمون الأرقام العربية التي بسَّطت عمليات الحساب إلى حدٍّ بعيد، بل كان الكثيرون ما زالوا يستخدمون الأرقام الرومانية البدائية المعقدة. وعلى أية حال فإن الخطأ في هذه العمليات لم يكن يعنيهم كثيرًا؛ إذ إن كل شيء كان في نظرهم «تقريبًا»، ولم تكن الدقة الرياضية قد تغلغلت بعدُ في حياة الناس على النحو الشائع في العصر الحديث.

ولقد أدَّت عواملُ معقَّدة إلى حدوث ذلك التحوُّل الحاسم في أوائل العصر الحديث؛ أعني الانتقال من الفصل التام بين الرياضة والطبيعة إلى التوحيد المثمر بينهما.

ولكن لعل العامل الاجتماعي والاقتصادي من أكثرها أهمية وطرافة؛ فقد كان ظهور طبقة التجار في عصر النهضة الأوروبية، وازدهار هذه الطبقة في المدن الأوروبية على حساب طبقة النبلاء الإقطاعيين، باعثًا للحاجة إلى تطبيق الحسابات الرياضية على المعاملات النقدية التي كان يقوم بها هؤلاء التجار؛ ذلك لأن إدارة الأعمال التجارية تقتضي معرفةً واسعةً بالعد والحساب، وتحتاج من رجل الأعمال إلى نظرةٍ تجريدية صارمة، بدونها لا يكون ناجحًا في أعماله، وحين يشيع التعامل بالنقود ويتغلغل في حياة الناس اليومية، ويَحُلُّ محل المقايضة بالسلع، يكون معنى ذلك مزيدًا من التجريد؛ إذ إن النقود أشبه بالرموز الرياضية، من حيث إنها لا تعني في ذاتها شيئًا، بل إنها تكتسب معناها كله مما يُستعاض به عنها في التعامل النقدي.

وهكذا اكتسبت الأعمال التجارية صبغةً مجرَّدة بفضل انتشار المعاملات المالية، واستخدام الكميات والمقادير النظرية الخالصة في حسابات التجار.

ومن جهةٍ أخرى فقد كان العلم ذاته يسير في اتجاهٍ مماثل يرمي إلى الاهتمام بالعلاقات الرياضية بين الأشياء لا بالصفات النوعية أو الكيفية الكامنة فيها، واتجه العلماء تدريجيًّا إلى اتخاذ الدقة الرياضية والتجريد الكامل مثلًا أعلى يهدفون إلى تحقيقه في كل بحث في الطبيعة، ولا شك في أن الأدوات العلمية التي استعان بها علماء القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت من أهم الوسائل التي ساعدت على توطيد دعائم النظرة التجريدية إلى الأمور، وبالتالي على تمهيد الطريق — عقليًّا — للثورة الصناعية الحديثة، ويمكن تقسيم هذه الأدوات — بوجه عام — إلى أدوات مكانية وأخرى زمانية؛ فالميكروسكوب والتلسكوب أداتان تعملان على تقريب المكان وتكبيره واختصار مسافاته، وعلى مضاعفة حدة حاسة الإبصار، وتوسيع نطاق العالم المكاني الذي نتعامل معه. ونتيجة لاستخدام هذه الأدوات المكانية أخذ العقل الإنساني يدرك — لأول مرة — أن الطبيعة المحيطة به امتداد هائل متجانس، لا يوجد فيه تفاوت في القيمة أو المرتبة بين ما هو أعلى وما هو أدنى، أي بين عالم السموات وعالم الأرض، بل إن المادة المنتشرة في الكون بأَسْرِه متشابهة، وحركاتها كلها تخضع لقوانين واحدة يمكن التعبير عنها رياضيًّا.

أما الساعة فهي أداةٌ زمانية أتاحت للإنسان أن يدرك الوقت — لأول مرة — إدراكًا دقيقًا، وأن يقسِّمه إلى فتراتٍ قصيرة محددة بدقة، والواقع أن اختراع الساعة الميكانيكية كان من أهم العوامل التي مهَّدت الطريق للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، ليس فقط لأنها هي ذاتها أنموذجٌ كامل للآلة المكتفية بذاتها، التي تسير بدقة ونظام دون أن تحتاج إلا إلى أقل قدْرٍ من التدخل الخارجي، بل أيضًا لأنها كوَّنت في الناس عاداتٍ فكرية وعقلية جديدة تساعد على توطيد دعائم فكرة الآلية في الأذهان؛ فاختراع الساعة كان مرتبطًا أوثقَ الارتباط بحياة حضرية أو صناعية تقتضي تنظيمًا دقيقًا للأعمال والمواعيد، أما البيئات الزراعية، أو تلك التي تسودها العقلية الزراعية الريفية، فتكتفي بتحديدات تقريبية للزمان، والمواعيد فيها لا تعدو أن تكون «في ساعة الظهيرة» أو «عند حصاد القطن»؛ فالوقت الذي تعرفه هذه البيئات هو الوقت المعاش لا الوقت المحسوب، ومن هنا فإن الساعة الميكانيكية قد أحدثت تغييرًا حقيقيًّا في حياة الناس وأفكارهم ونظرتهم إلى الأمور، ولا يمكن أن تنحصر أهميتها في كونها اختراعًا جديدًا مفيدًا فحسب؛ فبفضل الساعة دخل الناس عصرًا جديدًا شعارُه أن يكون كل شيء «منتظمًا كالساعة»، عصرًا لا يمكن أن يكتفي فيه الإنسان بالتحديد المرِن غير الدقيق للوقت أو المواعيد «التقريبية»، وبفضل الساعة أصبح الزمان شيئًا مجردًا مُقاسًا بدقة لا شيئًا يحياه المرء، وكما يقول «لويس ممفورد»: «فعندما ينظر المرء إلى النهار على أنه فترةٌ مجردة من الزمان، لا يذهب إلى الفراش في نفس الوقت الذي تأوي فيه الطيور إلى أوكارها في ليل الشتاء، وإنما يخترع الشموع والمداخن والمشاعل وضوء الغاز والمصابيح الكهربائية لكي يستفيد من كل الساعات التي تدخل في نطاق النهار، وعندما ينظر المرء إلى الزمان، لا على أنه تجارِب متعاقبة بل على أنه مجموعة من الساعات والدقائق والثواني، تظهر عاداتُ إضافة الوقت وتوفير الوقت … وهكذا أصبح الزمن المجرَّد هو الوسيط الجديد للحياة، ونُظِّمَت الوظائف العضوية ذاتها على أساسه؛ إذ أصبح المرء يأكل، لا لأنه يشعر بالجوع، بل عندما تنبئه الساعة بذلك، وينام لا لأنه يشعر بالتعب، بل عندما تأذن له الساعة بذلك … وإذن فنحن قد نستطيع أن نتصور العصر الصناعي الحديث بلا فحم ولا حديد ولا بخار، ولكنا لا نستطيع تصوُّره بلا ساعات.»

تلك إذنْ كانت أهم العوامل التي أدَّت إلى إيجاد الجو العقلي الملائم لقبول فكرة الآلية، وتحويل أذهان المفكرين من الاعتقاد بوجود هوة لا تُعْبَر بين الفكر والفعل، إلى الإيمان باندماج هذين المجالين، وبأن أفضل استخدام للعقل البشري هو تطبيقه على الطبيعة من أجل زيادة رفاهية الحياة الإنسانية في هذا العالم.

ذلك لأن العقل البشري لم يكن يستطيع أن يتهيأ لدخول عصر الآلة إلا إذا اقتنع بأن وظيفته ليست هي التحليق في آفاقٍ منفصلة عن عالمه الواقعي، وأيقن بأن مهمته الحقيقية هي كشف أسرار هذا العالم ذاته، ذلك هو الشرط الأول الذي ينبغي أن يُفْتَرَض مقدمًا قبل أن يتسنَّى للبشرية الانتقالُ إلى عهد الآلية والتصنيع، وقد يبدو هذا الشرط بديهيًّا بسيطًا، ولكن العالم القديم — بكلِّ ما فيه من فلسفات عميقة — لم يستطع أن يحققه، وظل مقتنعًا بأن وظيفة العقل هي مفارقة الطبيعة لا التغلغل فيها، ومن هنا لم يظهر كبلر وجاليليو وكبرنك بعد إقليدس وبطليموس مباشرة، بل كان لا بُدَّ من مُضِي ما يقرب من ألفي عام قبل أن تواصل الحركة العلمية مسيرَها.

كذلك لم يكن في وُسع العقل البشري أن يتقبل فكرة الآلية ويتعمقها لو لم يكن يتخذ من الرياضيات أنموذجًا للعلم الدقيق، ويطبِّق كشوفها في حل مشكلات الطبيعة، ولا يكتفي بأن يجعل منها ترفًا عقليًّا يعينه في سعيه إلى الترفُّع عن الطبيعة والانفصال عنها؛ فالرياضة علمٌ لا غَناء عنه للقيام بتلك الحسابات الدقيقة التي يفترضها كل اختراع آلي، وفضلًا عن ذلك فإن تجرُّد الرياضة وانضباط سيرها بدقة كاملة يُعَدُّ هو ذاته أنموذجًا للانتظام الذي يجب أن تسير عليه الآلة ذاتها.

وأخيرًا فلم تكن الآلة لتحتل موقعها في حياة الإنسان لو لم يكن قد تعلَّم — في فترةِ انتقالٍ من العصر الإقطاعي إلى العصر التجاري — كيف ينظِّم حياته تبعًا لتوقيتٍ منظَّم دقيق لا مجال فيه للاختلافات الفردية، ولو لم تكن الكشوف الطبيعية والفلكية والجغرافية والأدوات العلمية الجديدة التي أتاحت هذه الكشوف، قد علَّمته كيف ينظر إلى المكان المحيط به على أنه امتداد لا نهائي متجانس، تسري عليه نفس القوانين ويخضع كله لمبادئَ علمية واحدة.

وعندما أُتيح لهذه الشروط الأساسية أن تتحقَّق، أصبحت الآلية حقيقةً ماثلة في الأذهان، وأصبح الفكر الفلسفي — الذي كان يحاربها بلا هوادة في العالم — يعمل من تلقاء ذاته على تقديم المبررات لها وإعطائها المركز الذي تستحقه في مذاهبه النظرية، وهكذا أصبحت فكرة الآلية سائدةً حتى قبل أن تظهر الآلات ذاتها في الأفق، وكان من الواضح أن عقل الإنسان يتهيأ لظهورِ نمطٍ جديد من الحياة، وأسلوب جديد في الإنتاج تقوم فيه الآلة بالدور الأساسي، ولن يتسع المجال هنا للكلام عن كلِّ ما قاله فلاسفة العصر السابق على الثورة الصناعية في موضوع الآلية، بل يكفينا أن نشير إلى المكانة التي احتلها مفهوم الآلة في ذهن واحد أو اثنين من كبار مفكري ذلك العصر، بوصفه أنموذجًا للدور الذي أصبحت هذه الفكرة تؤديه في العصر الجديد.

ففي كتابات الفيلسوف الفرنسي الكبير «رينيه ديكارت» تحتل فكرة الآلة مكانة عظيمة الأهمية؛ إذ إن النماذج البسيطة التي شاهدها منها قد أقنعته بإمكانياتها الهائلة، وهو يصف هذه النماذج بقوله: «إننا نرى ساعات ونافورات صناعية وطواحينَ وما شابهها من الآلات التي صنعها البشر، ومع ذلك فهي لا تَعْدَم القدرةَ على التحرُّك بذاتها على شتى الأنحاء.» فإذا كان في وُسع الإنسان أن يصنع آلاتٍ على هذا القدْر من الدقة، أفلا يكون في استطاعة الطبيعة ذاتها أن تصنع آلاتٍ أدق؟ أليس من المحتمل أن يكون جسم الحيوان — بل الإنسان ذاته — آلة دقيقة الصنع؟ ألا يجوز أن تكون الطبيعة ذاتها والكون بأسرِه آلةً هائلة عظيمة التعقيد؟ تلك هي الاحتمالات التي بحثتها فلسفة ديكارت بالتفصيل، والتي تعبِّر عن جوٍّ عقلي مغاير تمامًا للجو الذي ظهرت فيه فلسفة اليونانيين.

وكان الفيلسوف الألماني «ليبنتس» أشدَّ جرأة من ديكارت ذاته في التنبيه إلى مزايا فكرة الآلية في الفلسفة؛ إذ وصل به الأمر إلى حدِّ الكلام عن اختراع «آلة مفكرة»، وكان يعتقد أن التفكير البشري كله يمكن أن يُرَدَّ إلى مجموعة أفكار أولية بسيطة يمكن تَعدادُها، وأن هذه الأفكار تكون «أبجديةَ العقل البشري»، أي إنها أشبه بالحروف التي تتكون بتجمعها كلمات اللغة بأسرِها، فإذا أمكن معرفةُ صفاتِ كلٍّ من هذه الأفكار؛ لاستطعنا تصوُّرَ كلِّ تجمعاتها، والعلم الذي يبحث في هذه التجمعات الممكنة هو الذي يفتح الباب للمعرفة حتى تتسع إلى أبعد الآفاق، وهو الذي يؤدي في النهاية إلى وضْع قواعد ثابتة للغة عالمية هي لغة العقل البشري بوجه عام، وقد طبَّق ليبنتس بدوره فكرة الآلية على تصوُّره للكائنات الحية وللكون في مجموعه، وكان متحمسًا لفكرة الاختراع، وقد أسهم هو ذاته فيها باختراع آلة حاسبة كان يفخر بها كلَّ الفخر.

ولسنا نود أن نعدِّد الأمثلة؛ إذ إن الاتجاه واضحٌ لا شك فيه، وهو يدل دلالة واضحة قاطعة على أن الفلسفة في بداية العصر الحديث قد تلاءمت مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة، وأصبحت متمشية مع الظروف المختلفة التي أخذت تلوح في أفق حياة الإنسان الحديث، وعلى الرغم من أن كثيرًا من المشكلات التي عالجتها هذه الفلسفة تبدو مجرد امتداد لطريقة التفكير السائدة في العصور القديمة والوسطى، فمن المؤكَّد أن تغييرًا أساسيًّا قد طرأ على الأذهان، وأن الحياة الجديدة لم تَعُد تحتمل الفصل بين مجال الفكر ومجال العمل، أو بين العقل والواقع الطبيعي، وأن زوال الحواجز الاجتماعية بالتدريج قد أدَّى إلى زوال الفروق بين الميدان النظري والميدان العملي، والقضاء على أرستقراطية العقل وتجرُّده وترفُّعه عن مشكلات العالم الطبيعي. وفي ظل هذه الفلسفة التي تؤمن بأن العلم ينبغي أن ينفع الحياة، وبأن غاية المعرفة هي السيطرة على الطبيعة؛ أصبح الجو العقلي في بداية العصر الحديث مهيئًا لظهور الآلة وبداية المرحلة الصناعية في التاريخ.

١  مجلة الكاتب، العدد ٥٩، فبراير ١٩٦٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤