عقبات في طريق العلوم الإنسانية١

كان ازدهار الدراسات الإنسانية — وما يزال — مرتبطًا على نحوٍ وثيقٍ بالأزمات التي يمر بها الإنسان نفسه؛ ففي كل عصر يجد فيه الإنسان نفسه أمام مفرق طرق حاسم، أو يرى نفسه عاجزًا عن مواجهة تحديات أقوى منه وأبعد عن سيطرته، أو يشعر بأن زمام الأمور أوشك على الإفلات من يده، وبأن هناك قوًى عاتيةً لا سلطان له عليها، توشك أن تؤدي إلى الدمار، في كل عصر كهذا كان الإنسان يعود إلى نفسه باحثًا منقِّبًا، وكان يُقنِع نفسه بأن حل مشكلاته يكمن في داخله وفي فهْمه لنفسه قبل أن يكمن في الطبيعة الخارجية. وهكذا كانت الأزمات السياسية والكوارث المتلاحقة التي مرت بها أثينا في عصر سقراط مرتبطةً باتجاهه إلى بحث النفس الإنسانية في عبارته المشهورة «اعرف نفسك»، وكانت أزمة العلم الطبيعي والهِزة العنيفة التي أحدثتها الكشوف الفلكية في أوائل العصر الحديث مرتبطةً باتجاه ديكارت إلى البحث في أعماق الذات الإنسانية، واستهلال عهد جديد للفكر الفلسفي، يدور حول المعرفة الإنسانية والمنهج الذي ينبغي أن يتَّبعه العقل الإنساني للوصول إلى الحقيقة، وهو العهد الذي كانت ترمز إليه عبارته المشهورة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وكانت العلاقات الاجتماعية اللاإنسانية التي أدَّى إليها انتشار الثورة الصناعية في أوروبا، هي الأصل في ظهور ذلك الفهم الجديد للمجتمع الذي نادى به ماركس، وأصبح منذ ذلك الحين عاملًا رئيسيًّا من العوامل التي تحدِّد شكل مجتمعنا المعاصر، وكانت الأزمة التي أحدثتها العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر، وإدراك الروابط الوثيقة بين طبيعة الإنسان الحالية وبين أصوله الحيوية الأولى، من العوامل التي ساعدت على تحوُّل دراسة النفس الإنسانية في اتجاه جديد بفضل التحليل النفسي عند فرويد، كما كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في الثلاثينيات من هذا القرن قوةً دافعةً لمزيد من التعمُّق في الدراسات الإنسانية، ولظهور نظريات ومناهج جديدة فيها، وأخيرًا فإن أزمة الحرب والسلام التي يمر بها العالم في أيامنا هذه والتهديد الدائم الذي يتعرض له أولُ جيل بشري أصبح يملك بالفعل من أدوات الدمار ما يكفي لإفناء الحياة على سطح الأرض، هذه الأزمة قد أدَّت إلى مراجعة جذرية لكثير من مفاهيم العلوم الإنسانية ونظرياتها، وإلى بذل محاولات دائبة من أجل تحقيق نوع من التوازن بين فهم الإنسان لنفسه، وبين السيطرة الهائلة على الطبيعة التي حققتها التكنولوجيا المعاصرة.

خلال هذا التاريخ الطويل، كانت دراسة الإنسان تزداد تعمُّقًا في كل مرحلة، وكان لا بُدَّ للرواد الذين مهَّدوا الطريق لسير هذه الدراسة في طريق العلم من أن يكافحوا من أجل التغلُّب على عقباتٍ كانت كفيلة بأن تَحُول دون ظهور أية معرفة علمية بالإنسان، وعلى الرغم من أن هذه العقبات معروفة، وكثيرًا ما يَرِد ذكرها — كلها أو بعضها — في المقدمات التي تُكْتَب للمؤلفات الخاصة بمناهج البحث في العلوم الإنسانية، فإنَّا لا نرى بأسًا من أن نعرض هنا لأهمها؛ وذلك نظرًا إلى ما يلقيه هذا الموضوع من ضوء على المشكلات التي نود أن نناقشها في هذا المقال:
  • (١)

    أولى هذه العقبات نوع من الجمود العقلي أدَّى بالمفكرين إلى أن يرتفعوا بالإنسان فوق مستوى الموضوعات التي يمكن أن تخضع للبحث العلمي المنظم، وحجتهم في ذلك هي الدفاع عن الكرامة الإنسانية، والاحتفاظ للإنسان بمركزه المميَّز في الكون، وتأكيد ضرورة معاملته على نحوٍ يختلف عن ذلك الذي تُعامل به «موضوعات» العالم الطبيعي. على أن مثل هذا الحرص الكاذب على الكرامة الإنسانية كان هو القوة الدافعة من وراء المعارضة التي سبق أن قُوبل بها كبرنيكوس عندما أكَّد أن الأرض — مقر الإنسان — ليست مركز الكون، وليست هي النقطة المحورية التي تدور حولها ومن أجلها كل حوادثه، وبالمثل كان هذا الاهتمام الزائف بمكانة الإنسان «الاستثنائية» و«الفريدة» في الكون من أهم العوامل التي دعت إلى معارضة كل «كاشفي النقاب» عن حقيقة الدوافع الإنسانية، من أمثال فرويد وماركس، وهو نوعٌ من المعارضة لا يَقْوَى على الصمود طويلًا في وجه أي كشف جديد حاسم.

  • (٢)

    ويرتبط بالعقبة السابقة اعتقادٌ ظلَّ مسيطرًا على الأذهان رَدَحًا طويلًا من الزمان، يرتكز على حقيقةٍ لا يمكن إنكارها، هي التعقُّد المفرط للظواهر البشرية، من هذه الحقيقة استنتج الكثيرون أن أية معالجة علمية لتلك الظواهر لا بُدَّ أن تكون تبسيطًا مفرطًا ومخلًّا، يهبط بها إلى مرتبة «الأشياء» المألوفة المتكررة التي تسير على وتيرة واحدة، ويمكن بسهولة كشفُ نماذجَ للاطراد المنتظم في سلوكها، على حين أن أهم ما في الإنسان هو الاختلافات من فردٍ إلى فرد، لا الصفات المشتركة بين الأفراد، هذه العقبة تفترض مقدمة رئيسية موروثة منذ عهد الفلاسفة اليونانيين الأوائل، هي أنه «لا علم إلا بما هو عام»، ولكن العلوم الإنسانية أثبتت — بفضل مجموعة من المناهج المبتكرة — أن من الممكن قيامَ علمٍ بما هو خاص، أو أن الفردي يمكن أن يكون موضوعًا لدراسةٍ لا تقل في علميتها عن تلك التي تتعلق بما هو عام، وبذلك قضت على الأساس الذي ترتكز عليه هذه العقبة.

  • (٣)

    وأخيرًا فقد اعتقد الكثيرون أن العلوم الإنسانية — حتى لو استطاعت أن تضمن لنفسها مكانةً مساوية لمكانة العلوم الطبيعية — ليست بأفضل وسيلة لمعرفة الإنسان؛ فهناك حدودٌ معيَّنة لا تستطيع هذه العلوم أن تتعدَّاها، وهي إذا تمكنت من معرفة الإنسان فإنما يكون ذلك «من الخارج»، أما التعمُّق الحقيقي في أغوار النفس البشرية، والنفاذ إلى جوهرها الفريد، فإنما يتم على أيدي أوساطٍ أخرى كالأدب والفن والفلسفة، وذهب بعض أنصار هذا الرأي إلى حد القول بأن لمحةً من لمحات دستويفسكي قد تفوق — في فهْمها لحقيقة الإنسان — مجلداتٍ كاملةً في علم النفس، وأن استبصارًا فلسفيًّا عميقًا قد يكشف — بطريقة بسيطة مباشرة — عما تعجز عشراتُ الأبحاث التجريبية عن الوصول إليه.

على أن الفن والأدب لا يمكنهما أن يقدِّما ما فيهما من معرفة عميقة بالنفس البشرية إلا لمن يمر «بتجرِبة» من نوع فريد، هي تجرِبة تذوُّق العمل الفني أو الأدبي والاندماج فيه؛ فالمعرفة المتضمنة فيهما إذن ليست متاحةً للجميع، وإنما هي رهن بتهيؤ المرء لتلقيها، لا عن طريق المران أو التدريب فحسب، بل عن طريق اتصافه بقدْرٍ معيَّن من رهافة الحس وشفافية النفس؛ فهي إذن مقرونةٌ بشروطٍ تجعلها بطبيعتها معرفةً «خاصة» لا تتوافر إلا لفئة معيَّنة من الناس، وربما كانت تتوافر لكل فرد في هذه الفئة ذاتها على نحوٍ يختلف باختلاف أبعاد تجربته الفنية أو الأدبية الخاصة.

أما الفلسفة فإنها — بالرغم من كلِّ ما أسهمت به في إثراء معرفتنا بالإنسان — تُكسِب المشتغلين بها قدْرًا لا مفرَّ منه من الطموح المفرط، يجعلهم يتعجَّلون إصدار الأحكام العامة التي قد تتجاوز بكثير نطاق المعرفة المحققة؛ فالفيلسوف بطبيعته عاجز عن مجاراة المشتغل بالعلم في تواضعه ورضائه بالقليل، واكتفائه بالسير المتدرِّج في أبحاثه، وقناعته بالنتائج غير الكاملة، وتذرُّعه بالصبر والتأني والتمهُّل في الحكم على الأمور، ومن هنا كان من الصعب أن تُتْرَكَ معرفةُ الإنسان في أيدي الفلاسفة وحدَهم؛ لأنهم — مع عدم امتلاكهم للحصيلة العلمية التي أصبحت أمرًا لا غَناء عنه عند معالجة أي موضوع طبيعي أو إنساني — ما زالوا متمسكين بعاداتٍ عقليةٍ تجعلهم يظنون أنفسهم قادرين على أن يحققوا في استبصارٍ خاطفٍ ما يعجز العلماء عن تحقيقه بعد بحثٍ شاقٍّ دءوب، وربما كانت أمثال هذه الاستبصارات قد حدثت بالفعل في حالاتٍ متفرقة، ولكنها لم تَعُد اليوم قاعدة، وهي على أية حال أمر لا يمكن الاعتماد على حدوثه بانتظام، فضلًا عن أن احتمالات الإخفاق في هذا المجال أعظمُ بكثير من احتمالات النجاح.

وإذنْ فلم يكن من العسير على العلوم الإنسانية أن تتغلب على هذه العقبات، وأن تؤكد نفسها بوصفها علومًا تستطيع أن تضيف على الدوام — بطريقة تراكمية منظمة — مزيدًا من المعارف المتعلقة بالإنسان، مستخدمة في ذلك مناهجَ خاصة تَقرُب أو تَبعُد عن المناهج المستخدمة في العلوم الراسخة، التي تعالج موضوعاتٍ يسهل كشف الاطراد المنتظم في ظواهرها.

وليس من أهدافنا في هذا المقال أن نتتبع قصة نجاح العلوم الإنسانية في اكتساب هذه المكانة، ولكنا نستهدف — على العكس من ذلك — تنبيه الأذهان إلى بعض الإشكالات التي لا تزال تعوق سير هذه العلوم، وتمنعها من تحقيق ما ترجوه لنفسها من نجاحٍ في فهم الإنسان، ولسنا نود أن نتحدث عن الإشكالات التي تدركها هذه العلوم عن وعي، وتحاول التغلُّب عليها بجهدٍ دائب منتظم، بل إن هدفنا الحديث عن صعوبات منهجية تعترض طريق العلوم الإنسانية دون أن تكون هذه الأخيرة واعيةً بها كل الوعي، وخطورة هذا النوع من الصعوبات تكمن في أنه يمكن أن يظل ملازمًا للعلوم الإنسانية أمدًا طويلًا، بحيث يظل يهدِّد موضوعيتها ودقتها بالخطر، وإن كانت هذه العلوم تظل طوال ذلك الوقت معتقدة أنها تحقق لنفسها موضوعية ودقة تتزايدان باطراد.

ذلك لأن تلهُّف المشتغلين بالدراسات الإنسانية على اكتساب صفة العلمية، واعتقادهم — عن حق — أن هذه الصفة تشريف وتكريم لأي جهد عقلي يقوم به الإنسان؛ قد أدَّى بهم أحيانًا إلى الوقوع في إشكالات منهجية يصعب كشفها؛ لأنها — في مجال العلوم الأخرى — ليست بإشكالات على الإطلاق، وبعبارة أخرى فقد استُعِيرت من مجال العلوم الطبيعية أو الرياضية مفاهيمُ معيَّنة، وطُبِّقَت بشيء من التسرع في مجال العلوم الإنسانية، فترتب على ذلك نوع من تشويه صورة هذه العلوم، بحيث أصبحت في بعض الأحيان تبدو محاكية لعلومٍ أخرى ذات موضوعات مغايرة، دون أن تكون قادرة على إدراك الصفات التي تنفرد بها موضوعاتها الخاصة، والتي تحتم عليها استخدام مفاهيم مخالفة، أو تعديل المفاهيم المستعارة من المجالات الأخرى، إن لم يكن من استعارتها بُدٌّ.

وسوف أكتفي — لإيضاح وجهة نظري — بفكرتين رئيسيتين، يقوم بينهما ارتباطٌ وثيق، هما فكرة الحتمية وفكرة القانون، وسأحاول أن أثبت أن العلوم الإنسانية حين طبَّقت هذين المفهومين على مجالها الخاص، لم تكن قادرة في كل الأحيان على إدراك ما تقتضيه سماتها المميزة من تعديلات خاصة كان ينبغي مراعاتها عند استخدام مفهومين كهذين ظلَّا مرتبطَين بمجال العلوم الطبيعية أمدًا طويلًا.

فكرة الحتمية

هناك حقيقة لا يستطيع الكثيرون ممن تشغلهم مشكلاتُ العلم ومناهجه أن يدركوها، على الرغم من وضوحها البيِّن، هي أن الاعتراف بفكرة الحتمية من حيث المبدأ لا يتعارض على الإطلاق مع إدراك صعوبة تطبيقها في مجالاتٍ معيَّنة، وأبسط مَثَل لذلك هو مجال علم الأرصاد الجوية؛ فمنذ عهدٍ بعيد تخلَّت الإنسانية عن التفسيرات الأسطورية والغائية لتقلبات الجو، وأصبح هناك اعترافٌ عام بأن ما يطرأ على الجو من تغيُّرات هو أمر خاضع لحتمية دقيقة، وبأن حالة الجو في أية لحظة معيَّنة هي محصلة عوامل متعدِّدة نستطيع — إذا عرفناها معرفة كاملة — أن نتنبأ بدقة بما ستكون عليه الأحوال الجوية في المستقبل القريب وربما البعيد أيضًا، ومع ذلك لا يستطيع أحد أن ينكر — في الوقت ذاته — أن علم الأرصاد الجوية ما زال بعيدًا عن إدراك كل العوامل التي تتحكم في حالة الجو في لحظةٍ معيَّنة إدراكًا كاملًا، وحساب تأثيرها بدقة، بدليل أن التنبؤات الجوية ما زالت معرضة لأخطاء كثيرة، وأن هذه الأخطاء تزداد كلما كان مدى التنبؤ بعيدًا، فهل يمكن أن يُحْكَم على الشخص الذي يؤكد وجودَ حدود لا تتعداها القدرة على التنبؤ بحالة الجو — في الحالة الراهنة لعلم الأرصاد الجوية — بأنه لا يؤمن بسيادة الحتمية في هذا المجال؟ من الواضح أنه لا تعارضَ على الإطلاق بين الإيمان بالحتمية من حيث المبدأ، وبين إدراك الحدود التي لا تتعداها الحتمية في هذا المجال، ومن جهةٍ أخرى فليس من حق المرء أن يستخدم الإيمان بمبدأ الحتمية مبرِّرًا لتأكيد ضرورة الوثوق من التنبؤات الجوية إلى حدٍّ يزيد على ما تسمح به الحالة الراهنة لعلم الأرصاد، وليس من حق مثل هذا الشخص أن يقيس مدى «علمية» الآخرين بمقدار إيمانهم أو عدم إيمانهم بصحة التنبؤات الجوية، ما دام من المعترَف به أن ظاهرةً مثل الحالة الجوية ما زالت من التعقيد بحيث لا يمكن — في ضوء معرفتنا الراهنة — إدراكُ كلِّ أبعادها وجوانبها والعوامل المتحكِّمة فيها إدراكًا تامًّا.

وأخشى أن أقول إن شيئًا من هذا القبيل يحدث في مجال العلوم الإنسانية؛ ذلك لأن هذه العلوم قد كافحت — في مبدأ الأمر — كفاحًا مريرًا من أجل تأكيد انطباق مبدأ «الحتمية» على السلوك البشري، وما زال الكثيرون غيرَ معترفين بهذا الانطباق، أي إنهم ما زالوا يتمسكون بشكلٍ من أشكال ذلك التقسيم المشهور الذي قسَّم به «كانْت» مجالات المعرفة إلى عالمٍ للضرورة — هو عالم الطبيعة — وعالمٍ للحرية — هو عالم الإنسان، ولسنا نود أن نخوض الآن هذه المعركة؛ لأنها ستُغرِقنا في متاهاتٍ كفيلة بإبعادنا عن الفكرة الأصلية التي نرمي إلى إثباتها، ولذلك فسوف نسلِّم بأن الحتمية تسري — من حيث المبدأ — على السلوك الإنساني، وأن هذا السلوك قابل لأن يُتَنبَّأ به إذا ما عُرفت كلُّ العوامل المتحكِّمة فيه معرفةً دقيقة، ومع ذلك — وبرغم التسليم بهذا المبدأ — فإن الظواهر البشرية تَبلُغ من التعقيد حدًّا يستحيل معه — في معظم الأحيان — إدراكُ كلِّ العوامل التي يمكن بواسطتها تطبيقُ مبدأ الحتمية تطبيقًا مؤكدًا.

على أن الأمور التي لا يمكن أن تفوت الملاحظ المدقِّق أن لدى المشتغلين بالعلوم الإنسانية ميلًا إلى تعجُّل التطبيق يزيد بكثيرٍ عن ذلك الميل الذي نجده لدى أصحاب العلوم الأخرى؛ ففي الطب — مثلًا — لا يُسْتَخْدَم عقَّار جديد إلا إذا ثبتت فائدته — في الحالات التي ينطبق عليها — ثبوتًا مؤكدًا، وصحيح أنه قد تحدث من آنٍ لآخرَ حالات سوء استخدام للعقاقير الطبية، أو تعجُّل في تطبيقها، غير أن هذه الحالات تمثِّل الاستثناء لا القاعدة، فضلًا عن أنها لا تعبِّر عن موقف العلماء في هذا الميدان، بل تُمليها المصالحُ التجارية للشركات الساعية إلى الربح أو أيُّ دافعٍ آخرَ غير علمي.

أما في حالة العلوم الإنسانية، فإن هذا الميلَ إلى التطبيق المتعجل — دون أن تكون قد توافرت بعدُ كلُّ الشروط الكفيلة بالاطمئنان إلى أن كافة شروط الحتمية قد توافرت — ظاهرٌ كلَّ الظهور، وصحيح أن هذه العلوم تتخلَّى — في كثير من الأحيان — عن المفهوم التقليدي للحتمية، أعني مفهوم العلاقة الحتمية بين سبب ونتيجة، وتستعيض عنه بمفاهيمَ أكثرَ ملاءمة لمجالٍ معقَّد كمجال الظواهر البشرية، مثل مفهوم الارتباط الإحصائي بين الظواهر، ولكن يظل من الصحيح مع ذلك أن التلهُّف على إخضاع دراسة السلوك البشري للمنهج العلمي — وهو تلهُّف مشروع تمامًا — قد أدَّى في أحيانٍ غيرِ قليلة إلى تسرُّع في التطبيق لم يتوخَّ علماءُ الإنسانيات فيه من الحذر بقدْرِ ما يتوخَّاه علماء الطبيعة أو الطب — مثلًا — حين يشرعون في تطبيق كشف جديد.

وربما كان الأهم من هذه الملاحظة أن علماء الإنسانيات كثيرًا ما ينظرون بعين الريبة إلى كلِّ مَن ينبِّه إلى ظاهرة التعجُّل هذه، وقد يكون لهم في ذلك بعض العذر؛ ذلك لأن هناك مَن يشكِّك في قيمة التطبيقات التي تقوم بها هذه العلوم؛ لأنه غير مؤمن أصلًا بإمكان خضوع الظواهر الإنسانية للبحث العلمي الدقيق، وبالتالي فهو غير مقتنع بأن من الممكن استخلاصَ تطبيقاتٍ منها، ولكنَّ الواجب تجنُّب الخلط بين أصحاب هذا الرأي وأصحاب الرأي المخالف، القائل إن مبدأ قابلية الظواهر الإنسانية للبحث العلمي مبدأ سليم، ومع ذلك فإن تطبيق هذه العلوم ينبغي أن يواكب مستوَى التقدُّم النظري الذي تحققه لا أن يسبقه. ولمَّا كان استكشاف الظواهر البشرية ما زال أمرًا حديث العهد، وما زلنا في أول مراحل البحث في هذا الميدان الشديد التعقيد، فإن للمرء الحقَّ في أن يأخذ على بعض العلوم الإنسانية أنها تتسرَّع إلى حدٍّ ما في التطبيق، فتلجأ إلى «العلاج» بمجرد أن تكتشف نظرية جديدة، وتسارع بتقديم «تفسير» دون أن تكون قد توافرت لديها سوى معطيات قليلة.

وحسبنا — في هذا الصدد — أن نضرب مثلًا بالجهود التي يبذلها أنصارُ التفسير الاجتماعي والاقتصادي للظواهر الثقافية والفنية، وكلِّ ما ينتمي إلى «البناء الأعلى Superstructure» في حياة الإنسان؛ فمن الممكن أن يكون المرء مؤمنًا بتأثير البناء الأدنى في البناء الأعلى، ومعترفًا اعترافًا كاملًا بالمبدأ القائل بوجودِ علاقةٍ متبادَلةٍ بينهما، ولكن لا يلزم عن ذلك أن يَعترف بتطبيق هذا المبدأ في كل حالة على حدة؛ فلكي يُطبَّق هذا المبدأ تطبيقًا صحيحًا لا بُدَّ أن تكون المعطياتُ كاملةً أو قريبة من الكمال، أما في الحالات التي لا نعرف عنها إلا وقائعَ قليلة، فإن من حق المرء أن يعترض على التسرُّع في تطبيق المبدأ، لا لعدم إيمانه به، بل لعدم توافر الشروط الكافية لتطبيقه، ولكن الذي يحدث أن أنصار هذا المبدأ يسارعون بتطبيقه بناءً على أبسط المعطيات، كما هي الحال في تطبيقه على عصورٍ سحيقة في القِدَم، لم تتوافر لدينا عنها سوى معلومات هزيلة، ويظنون أنهم قد وصلوا بذلك إلى كل العوامل المتحكِّمة في الظاهرة موضوع بحثهم، وكثيرًا ما يترتَّب على ذلك أن تُفَسَّر الظاهرة الواحدة تفسيرَين مختلفَين كلَّ الاختلاف في كتابات مفكرَين يؤمن كلٌّ منهما بنفس المبدأ، ويطبِّق نفس المنهج، وما هذا إلا مَثَل واحد — من بين أمثلة عديدة — لظاهرة التعجُّل في التطبيق العملي قبل أن يتوافر الأساس النظري الكافي.

فكرة القانون

ترتبط فكرة القانون بفكرة الحتمية — مفهومة بأعمِّ معانيها — ارتباطًا وثيقًا. ولقد كان من أبرز مظاهر التقدُّم في العلوم الإنسانية، تأكيدُها خضوعَ الإنسان لقوانينَ يمكن صياغتُها واستخدامها في السيطرة على الظواهر البشرية والتنبؤ بما ستكون عليه في المستقبل، وصحيح أن هناك علومًا إنسانية ما زال يدور بشأنها جدلٌ حول إمكان وجود قوانين — بالمعنى العلمي — فيها، ولكن علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ (في بعض مذاهبه على الأقل) يستخدمون فكرةَ القانون منذ عهدٍ ليس بالقريب، ويحققون بذلك نجاحًا لا بأس به في فهم الظواهر التي يتناولونها بالبحث.

ومع ذلك فإن المعنى الذي يُسْتَخْدَم به مفهوم «القانون» في العلوم الإنسانية، يحتاج إلى تخصيصٍ يلائم طبيعةَ هذه العلوم، وإن كان كثير من المشتغلين بها ينظرون إلى معنى «القانون» في علومهم كما لو كان مكافئًا لمعناه في العلوم الطبيعية والتجريبية، وأساس هذا الإصرار على توحيد معنى «القانون» في الحالتين هو الرغبة في ضمان صفة العلمية للدراسات الإنسانية، وهي في ذاتها رغبةٌ مشكورة، ولكن الأماني والغايات — كما نعلم جميعًا — لا ينبغي أن تفرض ذاتها على الواقع أو تحاول تشكيله على هواها، وواقع العلوم الإنسانية يشهد بأن فكرة «القانون» فيها تتخذ — في بعض الحالات على الأقل — معنًى لا يمكن أن يكون مساويًا كلَّ المساواة لمعناها في العلوم الطبيعية.

ولكي أوضح فكرتي أود أن أضرب لها مثلًا بفكرة قوانين التاريخ في النظرية الماركسية، وأول ما ينبغي أن نتنبه إليه هو أن كلمة «التاريخ» ذاتها تجريدٌ لفظي، وأن تجسيم التاريخ — وكأنه شيء أو كِيان متحرك — ينطوي في ذاته على قدْرٍ غير قليل من التجاوز، كما ينبغي أن نتنبه إلى أن التاريخ — حسب تعريفه — يتعلَّق بالماضي، وأننا حين نتحدث عن «حركة التاريخ في المستقبل» — على سبيل المثال — فنحن — من الوجهة المنطقية الخالصة — نرتكب خطأين: أولهما استخدام لفظ يرتبط في ماهيته بالماضي، للدلالة على المستقبل، وثانيهما تجسيم المجردات وتشخيصها وتحريكها على النحو الذي أشرنا إليه من قبل.

وإذا تركنا جانبًا هذه الملاحظات — التي قد يراها البعض شكلية — وانتقلنا إلى فكرة قوانين التاريخ — كما تُصاغ في النظرية الماركسية — لتبين لنا أن القانون يحتم قيامَ الصراع بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال، نتيجة لاشتداد التناقض بينهما، ويحتم انتصار الطبقة العمالية في نهاية الأمر، ويؤكد حتمية القضاء على رأس المال، هذا القانون يتسم بسمات خاصة، تحول دون تشبيهه — آليًّا — بالقوانين الطبيعية:
  • (١)

    أولى هذه السمات أنه مبني على استقراء ناقص؛ ففي النظرية الماركسية يُبرَّر هذا القانون على أساسِ أنه كان هناك تناقض مماثل بين الأرقاء ومسترقيهم في العصور القديمة، وبين الفلاحين المعدمين والإقطاعيين في العصور الوسطى، وأن هذا التناقض انتهى — في الحالتين — بانتصار الطبقة المقهورة، وبتحرك التاريخ خطوة إلى الأمام، تسود فيها قيمٌ أكثرُ تقدُّمية من تلك التي سادت المرحلة السابقة، وإن كانت بدورها تفضي إلى تناقض جديد، وقياسًا على ذلك فإن «قانون التاريخ» ذاته يحتم انتهاء التناقض الثالث بين العمال والرأسماليين بانتصار الأولين وظهور شكل جديد من أشكال علاقات الإنتاج.

    ولو سلَّمنا بكل مقدمات هذا الاستدلال دون مناقشة، فسوف نجد مع ذلك أن هذا «القانون» يرتكز على حالتين سابقتين مماثلتين، ويقيس الثالثة عليهما، ومن الواضح أنه ليس يكفي في حالة العلوم الطبيعية تكوينُ قانون من ملاحظة حالتين فحسب، وفضلًا عن ذلك فإن التماثل ليس تامًّا بين الحالات الثلاث في المجال التاريخي؛ إذ إن كل حالة تقوم في سياق مختلف عن الحالة الأخرى، وتختلف في تفاصيلها عنها إلى حدٍّ غير قليل، فاستقراء الماضي إذن لا يُعَدُّ في هذه الحالة أساسًا كافيًا لاستخلاص «قانون»، إذا كنا نود أن نحتفظ لكلمة «القانون» بمعناها العلمي المألوف.

  • (٢)

    وفي الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب النظرية الماركسية — وهي في هذه الحالة «المادية التاريخية» — أن انتصار الطبقة العاملة أمرٌ مؤكَّد بحكم «قانون تاريخي» حتمي، فإنهم — حتى أشدهم تحمُّسًا — يؤكدون أن هذه الحتمية ليست آلية تفرضها الحوادث ذاتها سواء شاء الإنسان أم لم يشأ، بل هي حتمية تقوم فيها الإرادة الإنسانية بدور أساسي.

    ولقد كان تأكيد أهمية الإرادة الإنسانية على هذا النحو أمرًا لا مفرَّ منه؛ إذ إن الكثيرين قد أساءوا فهم المادية التاريخية بحيث تصوروا أن «حركة التاريخ» تسير آليًّا في صالح الطبقات المغلوبة على أمرها، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو في نظرهم إلى بذل جهد كبير في الكفاح من أجل تحقيق أهدافهم؛ إذ إن «حركة التاريخ» ستحقق لهم هذه الأهداف تلقائيًّا، وما عليهم إلا أن ينتظروا حتى يحقق لهم التاريخ ما يبتغون؛ لذلك كان لزامًا على مفكري المادية التاريخية أن يصححوا هذا الفهم، ويؤكدوا أن للقانون التاريخي معنًى خاصًّا، بحيث يستحيل أن يتحقق هذا القانون ما لم تتدخل الإرادة الإنسانية من أجل ضمان تحقيقه.

    على أن هذا التصحيح لمعنى القانون في مجال التاريخ الإنساني كفيلٌ بأن يجعل هذا القانون شيئًا فريدًا بحق؛ ذلك لأن أهم ما يميز القانون العلمي هو استقلاله عن الإرادة الإنسانية، وحدوثه سواء شاء الإنسان أم لم يشأ؛ فإلى أي حدٍّ يستحق أن يُسمَّى قانونًا ذلك الذي لا يتحقق إلا بمساعدة الإرادة الإنسانية؟ وأين هي النقطة التي يمكن عندها تحديد دور الحتمية التاريخية المؤدية إلى ظهور القانون، ودور الإرادة الإنسانية التي تساعد على تحقيق القانون؟ وهل هناك حقًّا — إلى جانب إرادة الإنسان — أيُّ عاملٍ آخرَ «خفي» يوجِّه الحوادث في اتجاه معيَّن؟ أم إن الإرادة الإنسانية هي التي تقوم فعلًا بكل شيء؟ وإذا صح أن إرادة الإنسان هي العامل الوحيد المتحكِّم في توجيه دفة التاريخ الإنساني، فما قيمة الإشارة إلى «القانون» في هذه الحالة؟ ألن يكون في وُسع هذه الإرادة أن تكسِر القانون إذا شاءت وتوجهه في اتجاه آخر؟

    ولكي أزيد هذه النقطة الأخيرة إيضاحًا، أود أن أشير إلى حقيقةٍ أعتقد أنها غابت عن ذهن كلِّ مَن قرأت لهم من أنصار المادية التاريخية؛ فتسلسل التفكير في هذه النظرية يسير على النحو الآتي: هناك قانون تاريخي يحتِّم انتصار الطبقة العاملة في صراعها مع الرأسمالية، ولكن هذا القانون لا يسير على نحوٍ آلي، بل لا بُدَّ من أن تتدخل الإرادة الإنسانية — ممثلة في كفاح الطبقة العاملة — من أجل تحقيقه، ولولا هذا الكفاح لما استطاع القانون أن يتحقق، والأمر الذي غاب عن أذهان هؤلاء المفكرين هو أن القول بأن الإرادة الإنسانية هي التي يتحقَّق من خلالها قانون التاريخ، يترتَّب عليه أن الإرادة الإنسانية قادرة — لو شاءت — على كسر القانون أو عدم تحقيقه، وبعبارةٍ أخرى فإن القانون إذا كان رهنًا بالجهد الذي يبذله الإنسانُ من أجْل وضعه موضعَ التنفيذ، فإنه يمكن أن يُلْغَى لو اتجه جهدُ الإنسان إلى عدم تنفيذه، ما دام القانون لا يملك بذاته قوَّة تُمكِّنه من تحقيق ذاته.

    هذه الحقيقة البسيطة لها — في رأيي — أهمية قصوى في فهم تاريخ القرن العشرين؛ ذلك لأن هذا التاريخ إذا كان سجلًّا لكفاح الطبقات المقهورة من أجل تحقيق الاشتراكية، فهو أيضًا سجلٌ لكفاح الطبقات المالكة والرأسمالية من أجل الحيلولة دون تحقيقها، ولم يكن في وُسع «قانون التاريخ» في هذه الحالة أن يُغلِّب كفاحًا على كفاح، بل إن الانتصار في كل حالة كان يتوقَّف على مقدار الجهد الذي تبذله إرادة الإنسان، وإذا كنا نعترف بأن تدخُّل الإنسان قادرٌ على تحقيق حتمية التاريخ، فيجب أن نعترف أيضًا بأن التدخل في الاتجاه المضاد قادر على إلغاء تأثير هذه الحتمية أو إبطاله، وليس تاريخ مقاومة الرأسمالية طَوال القرن العشرين إلا سلسلة متصلة من المحاولات الواعية التي تبذلها إرادة مضادة، لإلغاء تأثير القانون التاريخي الذي تؤكِّد نظرية المادية التاريخية أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على الرأسمالية، ومن الواضح أن قدرة الرأسمالية على البقاء قد جاوزت بكثير الحد الذي كان يتوقَّعه ماركس أو لينين أو غيرهما من أقطاب المادية التاريخية، بل إنه لم تظهر حتى الآن أيةُ بوادر تدل على قرب انهيارها، وربما كان العكس — في السنوات العشر الماضية — هو الصحيح، فعلام يدل هذا كله؟ إنه يدل على تلك الحقيقة التي لم يعمل لها أقطاب المادية التاريخية حسابًا، وهي أن إرادة الإنسان إذا كانت هي شرط تحقيق الحتمية التاريخية، فإنها تستطيع — إذا اتجهت وجهة مضادة — أن تغيِّر عن عمدٍ مسار التاريخ في اتجاهٍ مغاير للاتجاه الذي تشاؤه إرادة الطبقة العاملة، أي تستطيع — إذا اكتملت لها القوة الكافية — أن تُبطِل تأثير «القانون التاريخي»، وليست هذه دعوةً إلى اليأس على الإطلاق، بل إنها لا تعدو أن تكون تنبيهًا للإنسان المكافح إلى أن كلَّ شيء يتوقَّف على إرادته، وعلى مدى صلابته في الكفاح، وإلى أن «حتمية التاريخ» لن تنفع المتخاذل، ولن تعوِّض تقصيره في الدفاع عن حقوقه، أو في السعي إلى تحقيق مطالبه، بل إن مسار التاريخ يمكن أن ينقلب عليه إذا لم يبذل الجهد الكافي في توجيهه نحو الغاية التي ينشدها؛ إذ ليست للتاريخ قوة «سحرية» خارج نطاق إرادة الإنسان.

  • (٣)

    فإذا كان القانون التاريخي «موضوعيًّا»، فإنه لا يكون كذلك إلا بمعنًى خاصٍّ تمامًا؛ فموضوعيته «مصنوعة» بواسطة الإرادة الإنسانية، ومن الممكن أن يُثار في هذا الصدد سؤال على قدْرٍ كبير من الأهمية، وأعني به: هل يمكن أن تكون هناك موضوعيةٌ «تُصْنَع»؟ وماذا يعود للموضوعية من معنًى حين لا تعود مفروضةً بموجب المنطق الداخلي للحوادث ذاتها؟ هذا — على أية حال — سؤال لا أود أن أخوض فيه الآن — بالرغم من أهميته البالغة — حتى لا يفلت من أيدينا الخيط الرئيسي للمناقشة، ولكني أود أن أتناول المسألة من زاويةٍ أخرى، هي: ما قيمة «القانون التاريخي» — في هذه الحالة — إذا كان حدوثه أو عدم حدوثه متوقفًا على إرادة الإنسان؟ أي بعبارة إذا كانت الإرادة الإنسانية هي العامل الحاسم والوحيد المتحكِّم في توجيه دفة التاريخ؟

    قد يكون أول ما يتبادر إلى الذهن — إجابةً عن هذا السؤال — هو أن القانون التاريخي لا تعود له في هذه الحالة فائدة، ولكن الواقع أن فكرة وجود قانون تاريخي يحتِّم انتصار الاشتراكية على الرأسمالية لها فائدة عملية كبرى؛ إذ إنها قوة دافعة تحفز الجماهير على الكفاح وتشجِّعها عن طريق إقناعها بأن حركة التاريخ تساعدها في كفاحها، أو بأن كفاحها مساير لحركة التاريخ، وهي في هذا الصدد تؤدي وظيفةً مشابهة لوظيفة فكرة المشيئة والقدرة الإلهية بالنسبة إلى المؤمنين المجاهدين؛ فالقدرة الإلهية تفعل من خلال كفاح المجاهدين أنفسهم، ومن المستحيل أن تساعد هذه القدرة على انتصار مؤمن متخاذل، أي إن مصير المجاهدين يتقرَّر — في نهاية الأمر — بالجهد الذي يبذلونه في كفاحهم، ومع ذلك فإن شعور المجاهد بأن القدرة الإلهية في صفِّه، يقدِّم إليه قوة دافعة كبرى في كفاحه، كما يشل حركة خصومه إذا اقتنعوا بأن الإرادة الإلهية ليست في صفِّهم؛ فالمبدأ في الحالتين واحد، وهو في أساسه مبدأ ذو هدف «عملي» قبل كل شيء، وبالاختصار فإن فكرة «القانون التاريخي» فكرةٌ تشجيعية قد لا يكون لها في الواقع نفسه كِيان، ولكن تأثيرها يتحقق كما لو كانت ذات وجود وتأثير واقعي؛ بفضل قدرتها الحافزة وحدَها.

  • (٤)
    فإذا صحَّ هذا التحليل كان معناه أن فكرة القانون التاريخي يتداخل فيها ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون، وأنها ليست وصفًا لما هو واقع بقدْرِ ما هي إشارة إلى ما هو واجب، أي إنها فكرة غائية أكثر مما هي وصفية؛ فالقانون في هذه الحالة تعبيرٌ عما نريده أن يكون، أي إنه نوع من التفكير المبني على الرغبة والتمنِّي Wishful Thinking، وكل هذه — في صميمها — معانٍ غير علمية لا صلة لها بالمعاني المألوفة التي تتضمنها فكرة القانون في العلم البحت. وهكذا فإن فكرةُ القانون التاريخي — التي أَمْلَتْها الرغبة في تحقيق الموضوعية في مجال الظواهر البشرية، وإخضاعها للمنهج العلمي الدقيق — تتضمن بالضرورة عواملَ خارجية عن مجال العلم البحت، وتخدم أغراضًا وغايات عملية في صميمها.

    هذا التحليل لا يعني على الإطلاق أننا نرفض الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها القائلون بحتمية انتصار الاشتراكية بناءً على قانون علمي موضوعي، بل يعني أن الألفاظ المستخدَمة في أمثال هذه العبارة — كلفظ الحتمية، أو لفظ القانون — ينبغي أن تُفْهَم على أن لها — في هذا المجال الإنساني — معنًى يختلف اختلافًا كبيرًا عن معناها في العلوم الطبيعية، ومن الواجب أن تستقر في أذهاننا هذه الاختلافات الأساسية حتى لا نحاول اقتباس مفاهيم العلم الطبيعي وتطبيقها آليًّا على مجال الإنسان، ولو لم تبادر العلوم الإنسانية إلى إدراك هذه الحقيقة عن وعي لظلت إلى الأبد أسيرة «تطلعاتها» إلى العلوم الطبيعية ومحاكاتها لها.

    ومجمل القول أنني حاولت في هذا المقال أن أسير — على طريقتي الخاصة — في نفس الاتجاه الذي يبدو أن العلوم الإنسانية كلها تتجه إليه في الفترة الحالية من تاريخها، اتجاه البحث عن مفاهيمَ خاصة لهذه العلوم، أو تحديد معانٍ جديدة للمفاهيم التي تستعيرها من مجالات العلوم الأخرى، بعد أن اقتربت نهاية ذلك العهد الذي كانت فيه العلوم الإنسانية تنبهر بالعلوم الطبيعية وتقتبس فيه مفاهيمها ومناهجها دون تمييز.

١  الفكر المعاصر، العدد ٥٩، يناير ١٩٧٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤