مَن الذي صنع الأخلاق؟١

المشكلة

صنعها الضعفاء ليَحدُّوا بها من سيطرة الأقوياء. (نيتشه)
صنعها الأقوياء ليسيطروا بها على الضعفاء. (ماركس)

كيف يمكن أن يبلغ التضاد هذا الحد بين مفكرين عاشا في عصر واحد، وتحدَّثا عن ظاهرة واحدة، واتخذ كلٌّ منهما إزاء هذه الظاهرة موقفَ التحليل والتشريح والنقد؟ هل يُعْقَل أن تكون الأخلاق من صنْع الضعفاء ومن صنْع الأقوياء في آنٍ واحد، وأن تكون أداةً للسيطرة وللحد من السيطرة في نفس الوقت؟ أليست هناك هُوَّة عميقة لا تُعبَر بين موقفِ كلٍّ من نيتشه وماركس من الأخلاق؟

أود أولًا أن أصرِّح للقارئ بأن القضيتين اللتين بدأتُ بهما هذا المقال ليستا نصين حرفيين مقتبسين من نيتشه وماركس، ولكنهما تعبِّران عن الروح التي تسود تفكيرهما في موضوع الأخلاق، وتلخِّصان بإيجازٍ شديدٍ موقفهما من هذا الموضوع، وأود ثانيًا أن أدعو القارئ إلى أن يُمعِن النظر في هاتين القضيتين، ويرى إن كان من الممكن إيجادُ جسرٍ موصِّل بين كلٍّ من الطرفين؛ ذلك لأن الأفكار في الموضوع الواحد قد تتعارض فيما بينها، ولكن لا بُدَّ أن تكون هناك جسورٌ توصل بينها، ما دام هناك نوعٌ من المنطق يحكم التفكير في كلتا الحالتين، ومَن يدري، فلعلنا نهتدي — من وراء هذا التناقض الحاد — إلى أوجه شبه أو نقاط التقاء بين الموقفين، على أننا لن نستطيع أن ننكر لو اهتدينا إلى نقاط الالتقاء هذه أن ثمَّةَ اختلافًا أساسيًّا بين الموقفين، وعلينا أن نوضح طبيعة هذا الاختلاف ونُبرِز معالمه، ومع ذلك فمن واجبنا ألا نتوقَّف عند هذا الحد، فأمامنا آخِرَ الأمر مهمةٌ أشقُّ وأصعب، هي أن نعلل هذا الاختلاف، ونبحث عن تلك الأرض المشتركة التي يقف كلٌّ من الرأيين السابقين في طرَف منها، ونحاول الإتيان بتفسيرٍ للظاهرة الفريدة التي كانت نقطة البدء في هذا المقال؛ ظاهرة التعارض الأساسي بين مفكرين ناقدين لعصرٍ واحد، حول موضوعِ أصلِ الأخلاق وغايتها، وهكذا يسير هذا المقال بعد عرض المشكلة التي حفزت إلى كتابته في مرحلتين: الأولى محاولة الاهتداء إلى نقاط الالتقاء بين نيتشه وماركس، والثانية تحديد مظاهر اختلافهما، ومحاولة تعليل التعارض الحاد بينهما.

نقاط الالتقاء

أول ما يتكشَّف لنا من تحليل قضيتَي نيتشه وماركس السابقتين، أنهما متفقان على أن الأخلاق «مصنوعة»، وهذا وحدَه اتفاقٌ لا يُستهان به، وعن طريقه يتحدَّد موقفهما إزاء تراث أخلاقي كامل، كان يتخذ من هذه المسألة موقفًا مخالفًا؛ فقد ظل الناس دهورًا طويلة يعتقدون أن الأخلاق ليست «مصنوعة» بل «مطبوعة»، ويؤكدون أن الأخلاق ليست من صنْع البشر، بل هي «موحًى بها»، وكان الموقف الذي اتخذه نيتشه وماركس ثورة حاسمة على هذين الاعتقادين.

إن الإنسان ميَّال بطبيعته إلى صبغ القيم التي يؤمن بها بصبغة أزلية، وتأكيد انبثاقها عن «طبيعة» ثابتة، وقد عملت طرق التفكير العقلية النظرية — منذ عهد سقراط — على دعم هذا الاتجاه، حتى أصبح من العلامات المميزة للتفكير الفلسفي في الأخلاق أن يضع تقابلًا ما بين قواعدِ السلوك المؤقتة التي تصدر عن هوًى عارض أو مصلحة ذاتية، وبين مجموعة من المبادئ التي تتصف بالأزلية والثبات؛ لأنها تنتمي إلى «ماهية» الإنسان، وتنبثق من «طبيعته»، وتتفق مع ما يقضي به «عقله الخالص»، وكان لا بُدَّ من ثورة عقلية شاملة لكي ينتزع الإنسانُ من عقله وَهْمَ الطبيعة الثابتة التي لا تتغير في كل الأزمان، والقيم الأزلية التي تعيش بها البشرية في كل مكان، ومن المؤكد أن نيتشه وماركس كانا من أقوى دعائم هذه الثورة، كلٌّ من جانبه الخاص.

وإذا كان العقل النظري قد عمل على دعم الرأي القائل بوجود مجموعة من المبادئ الأخلاقية الثابتة التي تمتد جذورها إلى طبيعة «الإنسان» بمعناها العام المجرد، فإن الإيمان قد أدَّى من جانبه إلى ظهور رأي له مصدر مختلف، ولكنه يُسْفِر عن نتيجة مماثلة إلى حدٍّ بعيد، هي أن مبادئ الأخلاق آتية من وحي إلهي، أي من مصدرٍ يعلو على البشر، ومن ثم فإن أوامرها لا تُنَاقَش، وليست مما يجوز للإنسان — بعقله المحدود — أن يجادل فيه، وحتى لو بَدَا تعارضٌ ظاهري بين الأمر الأخلاقي الإلهي وبين مصالح الإنسان، فعلى الإنسان أن يظل ممتثلًا لهذا الأمر الذي صدر عن حكمة إلهية تفوق إدراكه. وأقول إن هذا الرأي يؤدي إلى نتيجةٍ مماثلة للرأي السابق؛ لأنه بدوره يجعل الأخلاق الأزلية لا تتبدل، ويرتفع بقيمها فوق مستوى التحوُّل والتطوُّر والتباين والتعدُّد، وكان لا بُدَّ من جرأة ثورية هائلة لكي ينكر نيتشه وماركس الأصل الإلهي للقيم الأخلاقية، ويؤكدان أنها ظاهرة «إنسانية، وإنسانية أكثر مما ينبغي»، تنتمي إلى عالَم التغيُّر والصيرورة، لا إلى مجالٍ إلهي يعلو على الطبيعة.

ويؤدي تأكيد الطابع الإنساني للأخلاق إلى نتيجةٍ مباشرة، هي أنه ليس ثمَّة «أخلاق» واحدة، بل هناك كثرةٌ من النُّظم الأخلاقية، أما الأخلاق التي كانت تُعَدُّ أزلية لأنها مرتبطة بطبيعة إنسانية ثابتة، أو بوحي يعلو على تقلبات أحوال البشر، فليست في حقيقتها إلا أخلاق المجتمع أو الحضارة التي يعيش فيها المرء، والتي يميل دائمًا إلى تعميمها بحيث يتصوَّرها صالحةً لكل زمان ومكان، والواقع أن كلًّا من نيتشه وماركس قد جعل للأخلاق نوعًا من الإيقاع الثنائي تتطور بمقتضاه؛ فنيتشه لم يقل إن أخلاق الضعفاء هي وحدَها السائدة، وإنما أكَّد وجود نوع من التناوب الدوري بين «أخلاق السادة» و«أخلاق العبيد»، بحيث تسود هذه تارةً وتلك تارةً أخرى، بل لقد حدَّد نوعًا من التاريخ الدوري للأخلاق، ذهب فيه إلى أن العصر الكلاسيكي القديم كانت تسوده أخلاق السادة، والعصور الوسطى اليهودية والمسيحية تسودها أخلاق العبيد، ويستمر التناوب بينهما إلى أن نصل إلى أخلاق السادة في عصر نابليون، ثم إلى أخلاق العبيد في عصر «الديمقراطية» المعاصر لنيتشه، ولكنه مع ذلك أكد أن الطابع الغالب على الأخلاق الأوروبية — منذ العصر المسيحي — كان طابع أخلاق العبيد، وأن أخلاق السادة كانت تظهر في فتراتٍ قصيرة وسرعان ما يَطْغَى عليها التيار الرئيسي، تيار الضعفاء الذين يفرضون قيمهم الخائرة على الأقوياء ليَحدُّوا من سطوتهم ويأمنوا جانبهم ويقضوا على امتيازهم. ونستطيع أن نلمح إيقاعًا ثنائيًّا مماثلًا في الحركة الديالكتيكية التي تضمنتها فلسفة التاريخ (وفلسفة القيم) عند ماركس، وكلُّ ما في الأمر أن التقابل في هذه الحالة بين طبقةٍ مستغلة وطبقة مضطهدة، منذ عصر الرِّق اليوناني إلى عصر الإقطاع، ثم الرأسمالية المعاصرة، وبعبارةٍ أخرى فلما كانت علاقات الإنتاج هي الأساس الأول لكلِّ ما يسود المجتمع من القيم، وكانت هذه العلاقات بطبيعتها متغيرة وصاعدة من مرحلةٍ إلى أخرى، فمن الطبيعي أن يسري هذا التغيُّر والتطوُّر على النظم الأخلاقية بدورها.

ومن الواجب أن نلاحظ أن الاهتداء إلى هذا الإيقاع الثنائي كان في حالتَي نيتشه وماركس معًا نتيجة بحث تجريبي لا تأمُّل نظري؛ فنيتشه يستهل عرضه لفكرة ثنائية أخلاق السادة وأخلاق العبيد، في كتابه «بمعزل عن الخير والشر» بفقرة مشهورة يقول فيها: «خلال جولاتي بين العديد من النُّظم الأخلاقية — العميقة منها والسطحية — التي سادت الأرض من قبلُ، أو ما تزال سائدة فيها، لاحظت سماتٍ معيَّنةً تتردَّد سويًّا بانتظام ويرتبط بعضها ببعض، حتى توصلت آخرَ الأمر إلى نوعين رئيسيين يفرق بينهما اختلاف أساسي؛ فهناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد.» وتدل هذه الفقرة على أن نيتشه قد اتبع نوعًا من المنهج الاستقرائي في كشفه لهذا الإيقاع الثنائي لتطور الأخلاق؛ إذ إنه استعرض العديد من النُّظم في كل بقاع الأرض، وانتهى من استعراضه هذا إلى السمات العامة للنوعين الرئيسيين، ولسنا بحاجة إلى القول بأن ماركس قد اتبع منهجًا مماثلًا لهذا؛ إذ إن صفة «المادية» التي كان حريصًا على أن ينسبها إلى نظرياته إنما تدل على انبثاق هذه النظريات من عالم التجرِبة الفعلية، لا من عالم التأمُّل المجرد، ولم يكن التطوُّر الأخلاقي الذي أشرنا إليه من قبلُ عنده سوى تعبير عن تطوُّر القيم المصاحب لتحولاتٍ فعلية في علاقات الإنتاج. والحق أن نيتشه وماركس كانا معًا ابنين بارين للقرن التاسع عشر، الذي أسماه البعض عن حق «قرن التاريخ»؛ لأنه هو القرن الذي اتضحت فيه فكرة التاريخ للأذهان بأجلى صورة ممكنة، وأصبحت فيه الظواهر تُرَدُّ على الدوام إلى أصولها التاريخية، ونُزِعَت هالة القداسة عن كلِّ ما كان يُعَدُّ ثابتًا لا يتغيَّر، ابتداءً من الأنواع الحية حتى القيم المجردة.

فهناك إذنْ تحوُّل أساسي في طريقة النظر إلى موضوع الأخلاق، هو الذي أفضى إلى النسبية التاريخية التي اشترك فيها نيتشه وماركس معًا. هذا التحوُّل يتمثَّل في التخلي التام عن التفكير في «نظرية» الأخلاق، وتركيز الاهتمام على «واقع» الأخلاق؛ فلم يكن نيتشه من أولئك الفلاسفة الباحثين عن «أساس» عقلي للخير الأخلاقي؛ لأن نسبية الأخلاق تَحول دون أي بحث كهذا، ونستطيع أن نطبِّق على موقف نيتشه من الأخلاق كلمةً قالها في مجالٍ آخر، هو مجال تفنيد فكرة الألوهية، وأعني بها عبارته المشهورة: «من قبلُ كان المرء يسعى إلى أن يبرهن على أنه ليس ثمَّة إله، أما اليوم فإن المرء يبين كيف أمكن أن «ينشأ» الاعتقاد بوجود إله.» هذه الكلمة لا تنطبق على فكرة الألوهية وحدَها، بل تنطبق على كلِّ ما له في نفوس الناس منزلة الألوهية والقداسة كالقيم الأخلاقية؛ فمن قبلُ كان الناس يبحثون عن تفنيد (أو تأييد) عقلي للقيم الأخلاقية، أما الآن فيكفي أن نبيِّن أن لهذه القيم أصلًا تاريخيًّا، فيكون في ذلك أقوَى تفنيد للاعتقاد بوحدتها وثباتها، دون حاجة إلى إضاعة الجهد في بحث عقلي تجريدي عقيم. وبالمثل كان تفكير ماركس الأخلاقي عمليًّا في أساسه، ولم يكن للنظريات فيه من دور سوى أن تساعد آخِرَ الأمر على تحقيق النشاط العملي، وتصب في نهر الواقع، وبمثل هذه الروح كان من المستحيل أن تكون للنظرية الأخلاقية أهميةٌ حاسمة في تفكيره، ومجمل القول أننا نجدُ ها هنا نقطةَ التقاء أخرى تجمع بين هذين المفكرين اللذين يبدو رأيهما في الأخلاق — لأول وهلة — متنافرًا إلى حد التناقض؛ فكلٌّ منهما يتجاهل الأخلاق المنتزعة من إطارها الواقعي الأوسع، والتي تبحث في مبادئَ مجردة، وتنفصل عن الإنسان في واقعه العيني، وكلٌّ منهما لا يعرف من الأخلاق إلا وجهها العملي، أو الذي يمكن أن يندمج آخرَ الأمر في المجال العملي.

بل إننا نستطيع أن نمضي في التحليل أبعدَ من ذلك، فنقول إن الأخلاق عند كلٍّ من هذين المفكرين ليست ظاهرة أصيلة مكتفية بذاتها، وإنما هي «بناء علوي Superstructure» يرتكز على أساسٍ آخرَ أعمقَ منه، وهذه الصفة واضحةٌ كلَّ الوضوح في تفكير ماركس؛ إذ إن العوامل التي ترتد إلى أصلٍ اقتصادي — وأهمها علاقات الإنتاج — هي التي تتحكم في كلِّ ما يعلوها من التركيبات الذهنية والمعنوية وضمنها الأخلاق، وقد لا تبدو هذه الصفة في الأخلاق واضحةً لأول وهلة عند نيتشه، ولكنها تتمثَّل لديه بالفعل، وإن كان الأساس الذي يرتكز عليه البناء العلوي عنده أساسًا حيويًّا ونفسيًّا، وليس أساسًا اقتصاديًّا؛ فكل أخلاق في نظر نيتشه مظهرٌ من مظاهر «إرادة القوة» التي هي الدافع الأصلي والمحرك الأول لكل فعل إنساني، إننا نبحث عن الخير، وندعو إلى الفضيلة والعدالة والشفقة، لا لأننا كائنات أخلاقية، بل لأننا نجد في هذه المعاني ما يساعد على اكتسابنا مزيدًا من القوة، وحتى عندما تتجه دعوتنا إلى المسالمة والتنازل عن القوة، يكون هذا مظهرًا تستتر وراءه «إرادة القوة» بخفاء ودهاء؛ فالأخلاق إذن ليست مقصودة لذاتها، والقوة المحركة لها ليست مستمدَّة من مجالها الخاص، بل هي القوة التي تحرِّك كل نشاط إنساني، أعني «إرادة القوة» التي يرتكز عليها كل بناء علوي في مجال القيم.

وقد يعتقد المرء أن دور الأخلاق يغدو ثانويًّا حين تصبح «بناءً علويًّا» على هذا النحو، ولكن الواقع أن للقيم الأخلاقية دورًا أساسيًّا عند كل مفكر ثائر على عصره، وهذا يَصدُق على نيتشه وماركس بنفس المقدار؛ فبقدر ما كان نيتشه قاسيًا في نقد الروح الأخلاقية لعصره — بل في نقد الروح الأخلاقية بوجه عام — كان الدافع الذي أدَّى به إلى هذا النقد أخلاقيًّا في صميمه، إنه يحمل على قيم العصر ويشمئز منها ويصفها بالانحلال، ويدين كل مجتمع سابق، بل يعتقد بأن فكرة «الأخلاقية» ذاتها ينبغي أن تُدان؛ لأن كل أخلاقية إنما هي تكبيلٌ لقوى الإنسان الخلاقة، ومحاولة لحصر روحه المتوثبة في إطارٍ من النُّظم التي تسري على المجموع، ولا تترك للفرد منطلقًا، ولكن من وراء هذا النقد المرير للأخلاق — سواء أكانت أخلاق العصر أم الأخلاقية بوجه عام — دوافع أخلاقية لا شك فيها؛ ففي كلتا الحالتين يستهدف المفكر نوعًا أفضل من الإنسان يؤمن بأنه سيظهر في المستقبل، وما دام الهدف إنسانًا «أفضل»، فإن الأخلاقية تكون هي القوة الدافعة إلى هذا النقد، وإلى هذا الإيمان بالمستقبل.

فهل نستطيع أن نقول مثل هذا عن ماركس؟ أيمكن أن يُوصف تفكيره بأنه أخلاقي في أساسه؟ إن أول إجابة تتبادر إلى الذهن هي أن فلسفة ماركس تتعلق أساسًا بالموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأنها بهذا الوصف واهية الصلة بالأخلاق، وبالفعل فإن الكُتَّاب الذين بحثوا عن آراءٍ أخلاقية في كتابات ماركس، لم يستطيعوا أن يستخلصوا إلا عبارات بسيطة متناثرة، لا تكفي على الإطلاق لإعطاء القارئ أية فكرة عن اتجاهٍ محدَّد المعالم في الأخلاق، ومع ذلك فإذا لم تكن الأخلاق عنده واضحة في صورتها الصريحة المباشرة، فإنها ماثلة في كل كتاباته بصورة هي حقًّا ضمنية، ولكنها تمثِّل قوَّة دافعة رئيسية له، فإدانته للرأسمالية تحمل طابعًا أخلاقيًّا لا تخطئه العين، والعبارات التي استخدمها في حملته عليها تظهر فيها الروح الأخلاقية واضحة؛ إذ هو ينعى عليها ما فيها من ظلم واستغلال واضطهاد وقضاء على إنسانية الإنسان. وبهذا المعنى يمكن القول إن هدفه النهائي من دعوته الاشتراكية إنما هو إعادة الأمور إلى نصابها أخلاقيًّا ومعنويًّا قبل كل شيء، وهنا تتمثل لنا مفارقة غريبة؛ إذ إن هذه الأخلاق — التي هي في عصرنا الحاضر وفي العصور السابقة — مجرد بناء علوي يرتكز على أساس أصلي من العلاقات الاقتصادية، ستصبح هي ذاتها الغاية القصوى من الثورة الاجتماعية التي كان يحلم بها ماركس؛ فبعد أن تتحقق هذه الثورة، وتختفي كل صور استغلال الإنسان للإنسان، سيكون الهدف النهائي للإنتاج الاقتصادي وللمخترعات العلمية والتكنولوجية هو تحقيق أفضل تنظيم ممكن للعمل الإنساني، ولوقت الفراغ الإنساني أيضًا، على النحو الذي يضمن تنمية المواهب الخلاقة للإنسان إلى أقصى حد … أي إن القيم الأخلاقية والمعنوية التي كانت «بناءً علويًّا» في مرحلة الصراع والكفاح ستصبح «غاية قصوى» في مرحلة الانتصار.

وما دمنا قد تحدثنا عن آمالِ هذين المفكرين في المستقبل، فإن هذا الحديث يقودنا إلى سمةٍ أخرى مشتركة بينهما، هي أن هذا المستقبل الذي يعلِّقان عليه آمالهما ليس «عالَمًا آخَرَ» مغايرًا لهذا العالم الذي نعيش فيه، بل إن على الإنسان أن يحقِّق في عالمه هذا كلَّ ما يسعى إلى تحقيقه؛ فليس ثمَّة ازدواج بين عالمَين، وليست هناك حملة على هذه الحياة ودعوة إلى التعلُّق بحياةٍ أخرى تعوِّض الإنسانَ عمَّا فاته في هذه الدنيا، بل إن من أقوى أسباب نقْد نيتشه وماركس معًا للأخلاق الشائعة، أنها تنطوي على بذورٍ «أخروية»، ولا تدفع الإنسان إلى التعلُّق بحياته هذه والوقوف منها موقفًا إيجابيًّا.

ولا جدالَ في أن انتشار هذه الأخلاق «الأخروية» — التي تصرف جهود الإنسان عن نفسه وعن العالَم الذي يعيش فيه — يرجع إلى تأثير المسيحية التي اشترك نيتشه وماركس معًا في مهاجمتها بكلِّ ما أُوتيا من قوَّة وإن اختلفت الأسباب؛ فالأول يهاجم القيم المستمدة من المسيحية؛ لأنها تكبت كلَّ الدوافع الحية في نفس الفرد، وتدعو إلى إنكار الحياة بل إماتتها، والثاني يهاجمها لأنها تتستر على الظلم الاجتماعي، بل تنادي — بصورة غير مباشرة — بأن الوضع القائم في العلاقات بين البشر — بما فيه من تفاوتٍ طبقي ومظالمَ اجتماعية — هو قانون إلهي أو مشيئة عليا لا يستطيع أحدٌ أن يعترض عليها.

بل إننا لو تجاوزنا نطاق هذا التشابه الواضح في حملة هذين المفكرين على المسيحية؛ لأمكننا أن نهتدي إلى تشابهٍ أعمقَ منه بين موقف نيتشه من المسيحية من جهة، وموقف ماركس من الرأسمالية من جهةٍ أخرى؛ فليس خافيًا أن نيتشه جعل من المسيحية خصمه الأول، وكرَّس للصراع معها الجانب الأكبر من كتاباته، وفي مقابل ذلك لم تكن المسيحية هي الخصم الرئيسي لماركس، بل إن الاستغلال الطبقي — الذي يعني الرأسمالية في عصرنا الحاضر — هو العدو الذي اتجهت كتابات ماركس كلها إلى محاربته، ولكن أليس في وُسعنا أن نلمح توازيًا بين هاتين الحملتين؟ إن نيتشه يهاجم المسيحية بقسوة وعنف، لا من أجل عداء باطن يحمله لها، بل لأنها تقتلع الإنسان من جذوره، وتجعله يخلق أصنامًا ثم يعبدها، إن الإنسان في رأي نيتشه يستخلص أرفع ما فيه من قوًى ومن معانٍ روحية ومن آمال وغايات ويضفي عليه طابعًا مشخصًا ويضعه خارجًا عنه، وأعلى منه، بعيدًا في السماء، ثم يخر له ساجدًا. ولكن أليس هذا بعينه ما تفعله الرأسمالية في نظر ماركس؟ إنها تُخْضِع الإنسان لتلك القوة الغاشمة اللاإنسانية التي تقهره وتستذله؛ قوة رأس المال. أليس رأس المال هذا إلهًا اصطنعه الإنسان ثم عبَدَه؟ إن رأس المال المتراكم — آخرَ الأمر — ما هو إلا حصيلة جهد العامل، وفائض قيمة عمله؛ فهو بدوره مستخلَص من داخل الإنسان العامل ومن كدِّه وعَرَقه، ولكنه في النظام الرأسمالي يصبح موضوعًا خارجيًّا، يظل يرتفع ويعلو على الأصل الذي جاء منه، حتى يغدو آخرَ الأمر قوة غاشمة تسلب العامل (الذي خلقه) إنسانيته، وتجعل من عمله سلعةً تُباع وتُشْتَرَى، بل تجعله هو ذاته «شيئًا» لا إنسانًا، إن رأس المال بدوره إله استخلصه الإنسان من دخله ثم رفعه بعيدًا في السماء، وخرَّ أمامه ساجدًا.

أما الهدف من «إعادة تقويم القيم» فهو — في كلتا الحالتين — «تحطيم الأصنام» وإعادة الإنسان إلى جذوره التي اقتُلِعَ منها، واسترداد ما سُلِبَ منه واغترب عنه حتى طغى عليه، إن كلًّا منهما يعلن — في كل ما كُتِبَ — أن شمس الآلهة المصطنعة في أفول، وأن مملكة الإنسان لا بُدَّ أن تعود.

مظاهر التناقض وطريقة تجاوزه

لقد بدأتُ مقالي بقضيتين متناقضتين لمفكرَين متعاصرَين حول موضوع واحد، ولكن التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء التناقض الظاهر كشف لنا — رويدًا رويدًا — عن عدد كبير من نقاط الالتقاء بين هذين المفكرين، حتى ليحسب القارئ — بعد الصفحات السابقة — أن نيتشه وماركس متفقان — في موضوع الأخلاق — على كل شيء، ولكني لا أود أن أترك لدى القارئ أي انطباع كهذا؛ فالتضاد بين موقف هذين المفكرين قائم، وكلُّ ما في الأمر أن من ورائه نقاطَ التقاء هامة يستطيع التحليل الذي ينفذ إلى ما وراء ظاهر أقوالهما أن يتوصَّل إليها، ومع ذلك فإن نقاط الالتقاء هذه لا تنفي التعارض الأساسي بينهما، وبالتالي فإنها — حتى لو استطاعت أن تخفِّف من حدة التناقض الذي نبهْنا إليه في مستهل هذا المقال — لا يمكنها أن تقدِّم حلًّا للإشكال الأساسي، وهو: كيف وصل مفكران يعيشان في عصر واحد وتدفعهما رُوح نقدية واحدة، إلى مثل هذين الرأيين المتعارضين بصدد موضوع واحد؟

أما أن الاختلاف بين نيتشه وماركس يظل — على الرغم من نقاط الالتقاء السابقة — اختلافًا أساسيًّا، فهذا ما يتضح من أن كلَّ ما اتفق فيه المفكران لا يمس موقفهما الأساسي، وهو أن الأخلاق — عند أحدهما — من صنْع الضعفاء للحد من سيطرة الأقوياء، وعند الآخر من صنْع الأقوياء للسيطرة على الضعفاء.

ولعل أول خطوة ينبغي أن نخطوها في هذا الصدد هي أن نتساءل: مَنْ هم الأقوياء والضعفاء في كلتا الحالتين؟ إن الأقوياء عند نيتشه هم «الممتازون بطبيعتهم»، أما عند ماركس فهم الطبقة المسيطرة اقتصاديًّا وبالتالي سياسيًّا، وهذا اختلاف أساسي، اختلاف «الطبيعة» عن «العرف»، إن جاز أن نستخدم هذا التقابل المشهور لدى فلاسفة اليونان؛ فالأقوياء عند نيتشه هم أصحاب الامتياز الكامن، الذين تؤهلهم طبيعتهم لأن يسيطروا، أما عند ماركس فامتيازهم يرجع إلى وضعٍ اجتماعيٍّ معيَّن، لا إلى أية صفات كامنة فيهم، وفي مقابل ذلك فإن الضعفاء عند ماركس هم المضطهدون الذين كان يمكن أن يصبحوا أفرادًا ممتازين لو أُتيحت لهم الفرصة، وكلُّ ما في الأمر أن ظروفًا خارجة عن إرادتهم وضعتهم في مركز الضعف، ولكن الأمل في خلاص البشرية كلها منعقدٌ على ثورتهم، أما عند نيتشه فإن الضعفاء «وضيعون» بطبيعتهم، وضَعفهم ذاته يُولِّد فيهم شرًّا كامنًا، وربما كان هو ذاته متولدًا عن الشر الكامن فيهم.

وعلى أساس هذا الإيضاح نستطيع أن نضع مشكلتنا الأصلية بصورة أكثرَ تحددًا، فنقول إن الضعفاء — في رأي نيتشه — يخشون سطوة الأقوياء الذين هم بطبيعتهم ممتازون، ويبغضون كلَّ ما هو رفيع وكلَّ ما يبرز فوق المستوى العادي «للمجموع»، فيصطنعون نظامًا من الأخلاق يكفل الحد من هذه السيطرة، والقضاء على كل امتياز طبيعي؛ نظامًا يدعو إلى «العطف» و«المشاركة» و«الرحمة» وغيرها من القيم التي لا تهدف — آخرَ الأمر — إلا إلى حماية الضعفاء من الأقوياء بانتزاع مخالبهم، إنهم ينشرون قيم «الكثرة» و«المجموع»؛ لأنهم يخشون «الفردية» التي تكشف ضَعفهم، وتجعلهم يبدون أقزامًا. أما ماركس فيرى — على العكس من ذلك — أن الأقوياء المسيطرين هم الذين يعملون على نشر أخلاق الاستكانة والرضا والزهد لكي يضمنوا سكوت المضطهدين ورضاءهم بالظلم الواقع عليهم. إنهم يحتمون وراء هذه الأخلاق ويستترون خلفها؛ لأنها تدفع عنهم نِقمة المظلومين، وتسلبهم روح الثورة، فهل تقدمنا بعد هذه الخطوة كثيرًا إلى الأمام؟ إن التضاد أصبح أكثرَ وضوحًا بلا شك، ولكن حدَّته لم تخفَ على الإطلاق، فما زلنا نعجب كيف جعل أحد المفكرين من الأخلاق وسيلةً للحد من ثورة الأقوياء، وجعلها الآخر وسيلةً للحد من ثورة الضعفاء، وما زال الموقف في عمومه وفي تفصيلاته محيرًا كما كان منذ البداية.

فلقد قلنا من قبلُ إن نيتشه وماركس متفقان في موقفهما إزاء المسيحية، ولكن هل هما متفقان إلى الحد الذي بدا لنا للوهلة الأولى؟ إن المسيحية عند نيتشه تقيم نوعًا من المساواة المصطنعة بين الناس «فالكل إزاء الله سواء»، وهي على هذا النحو تكبِّل الامتياز الطبيعي وتقضي على القيم الأرستقراطية، التي تقوم على الشعور بالترفع عن العامة والوقوف بمبعدة عنهم. وعلى العكس من ذلك يتهمها ماركس بأنها تتستر على الفوارق الطبقية واللامساواة الاجتماعية، وتُدافع عن التفاوت بين الناس، بل إنها حين تجعل هذا التفاوت أمرًا مقدَّرًا بقوة إلهية، تعمل في واقع الأمر على تثبيته وجعله منتميًا إلى «طبيعة الأشياء»، وليس هناك تضاد أقوى مما يعبِّر عنه هذان الموقفان، ويترتَّب على ذلك أن القيم الواحدة تتخذ في كلا الموقفين دلالةً مختلفة كلَّ الاختلاف؛ فالزهد واحتقار الجسد والعالَم الأرضي هي عند نيتشه أخص صفات أخلاق الضعفاء، وهي وسيلتهم إلى إثبات وجودهم إزاء تفوُّق الأقوياء، أما عند ماركس فهي سمة أساسية لأخلاق الأقوياء والحاكمين يفرضونها على المحكومين ليضمنوا خضوعهم وسكوتهم، وفكرة الازدواج بين عالمَين — عالم فانٍ وعالم أزلي — هي في رأي نيتشه سمة مميزة لأخلاق العبيد، بينما هي عند ماركس أداةٌ هامة من الأدوات التي يسيطر بها أصحاب السلطان على المعدمين والمحرومين.

إنه إذن تضاد كامل في النظر إلى نفس القيم، ولا بُدَّ لهذا التضاد من تفسير، ولا جدالَ في أن هناك تفسيرًا ألحَّ على ذهن القارئ — طوال العرض السابق — هو أن هذا التضاد تعبير عن تعارض أساسي بين فلسفتين: إحداهما أرستقراطية والأخرى ديمقراطية بطبيعتها؛ فنيتشه من حيث هو مفكِّر يتجه بطبيعته إلى تأكيد الفوارق بين الأذهان، ويعجب بكلِّ ما هو فخور مترفع متكبر يتعالى على «المجموع»، ويعيش في القرن التاسع عشر بروح مفكِّر أرستقراطي ينتمي إلى العصر التراجيدي اليوناني، كان لا بُدَّ أن يحمل بكل قواه على نفس القيم التي أعلاها ورفع من قدْرها مفكِّر مثل ماركس، تتجه دعوته قبل كل شيء لصالح الجماعات لا الأفراد، ويرى أن رسالة الفكر هي تغيير المجتمع البشري من «الطبقية» إلى «اللاطبقية»، ويؤمن بأن الأمل في تحقيق هذه الرسالة معقود على نفس الطبقات المضطهدة ذات المصلحة في هذا التغيير.

ولكن هل يكفي هذا التفسير، الذي يُرْجِع التضاد بين آراء هذين المفكرين في الأخلاق إلى التعارض الأساسي في مزاجهما وفي اتجاههما الفلسفي العام؟ هل ينبغي أن نطمئن تمامًا إلى هذه النتيجة، ونحكم بأن نيتشه وماركس قد وصلا إلى رأيين متنافرين في مصدر القيم الأخلاقية وفي الغاية التي تستهدفها هذه القيم؛ لأن نظرةَ كلٍّ منهما إلى العالم كانت مختلفة، وموقف كلٍّ منهما إزاء مشكلات العصر كان متباينًا؟ في اعتقادي أننا قد نستطيع أن نحلَّ بهذا التفسير جزءًا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل مع ذلك قائمًا دون حل؛ ذلك لأن نيتشه وماركس لم يكونا يعبِّران فقط عما يفضِّلانه، وعما يودان أن تكون عليه الأمور، بل كانا يصفان أيضًا ما هو واقع بالفعل؛ ففي كلِّ ما عرضناه قبل الآن من آراء، كان هذان المفكران يتخذان موقف العالم الذي يستقرئ تاريخ القيم الأخلاقية البشرية ليصل من هذا الاستقراء إلى حكمٍ على تطورها الماضي واتجاهها في المستقبل، ولو كان كلٌّ منهما قد اقتصر على التعبير عما يتمنَّى أن تكون عليه القيم الأخلاقية؛ لجاز عندئذٍ أن يكون في اختلاف مزاجهما الفكري تفسيرٌ كافٍ للتعارض الأساسي في وجهتَي نظرهما، ولكنهما كانا يتحدثان أيضًا من وجهة نظر الواقع لا المثل الأعلى، وكان كلٌّ منهما يحاول أن يجيب — بطريقة الباحث العالم لا بطريقة المتأمِّل الحالم — عن سؤالنا الأساسي: «مَن الذي صنع الأخلاق؟» فكيف تعارضَا إلى هذا الحد في وصف ظاهرةٍ واحدة؟ إننا نسلِّم بأن مزاج المفكر واتجاهه الفكري العام له — دون شك — دوره حتى عندما يتخذ المرء لنفسه هدف الوصف المجرد، لا عندما يحلم بما يتمنَّى تحقيقه فحسب، ومن المؤكد أن الموضوعية الكاملة في هذا المجال مستحيلة، وأن تصوُّر كلٍّ منا لما ينبغي أن يؤدي إليه التطوُّر في المستقبل يتحكم — إلى حدٍّ ما — في تشكيل نظرته إلى ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر، ولكنا نقول: «إلى حدٍّ ما»؛ لأن هذا التأثُّر بالاتجاه الفكري الذاتي يمكن أن يُحْدِثَ نوعًا من التباين بين المفكرين حين يصفان ظاهرة واحدة، ولكنه لا يكفي لإيجاد تناقض كامل بين أوصافهما هذه؛ ولهذا قلنا من قبلُ، إننا قد نستطيع أن نَحُل بهذا التفسير جزءًا من المشكلة، ولكن الجزء الأكبر منها يظل بلا حل.

•••

أما التعليل الصحيح لهذا التضاد فيكمن — في رأيي — في حقيقة أساسية ينبغي أن تتضح للأذهان بصدد كل أخلاق، وهي أن مَن يصنعها ليس هو بالضرورة من يستخدمها أو يطبِّقها في حياته، بل إنه قد يصنعها لكي يطبِّقها طرَفٌ آخرُ مغايرٌ له تمامًا، بحيث لا تكون القيم عندئذٍ تعبيرًا عن المصدر الذي أتت منه، بل تعبيرًا عن الطرف الذي تتجه إليه، ولنقُلْ بتعبيرٍ آخر، إن كل أخلاق مسيطرة تخلق أخلاقًا أخرى نقيضة لها، توجهها إلى مَن تُمارَس عليهم هذه السيطرة، فإذا كانت العلاقات في فترة معيَّنة علاقاتِ قوةٍ واستغلال واضطهاد، فإن القيم التي تنتشر على أوسعِ نطاقٍ لا تكون عندئذٍ قيمَ القوة والسيطرة، بل قيم الخضوع والاستكانة، أو لنقُلْ — مستخدمين تعبيرات نيتشه — إن العصر الذي يسيطر عليه «السادة» ليس هو عصر أخلاق السادة كما تُوهِّم، بل هو عصر أخلاق العبيد؛ لأن أيسر طريق يضمن للسادة الاحتفاظ بتميُّزهم وتفوُّقهم هو أن تنتشر «أخلاق العبيد».

ولنطبِّقْ هذا الحكم العام على فترات محددة في تاريخ الأخلاق كما حدَّد معالمه نيتشه؛ لنرى إلى أي حدٍّ تختلف الصورة التي تتكون نتيجةً لهذا التطبيق عن الصورة التي رسمها نيتشه.

فالمجتمع اليوناني الكلاسيكي كانت تسوده — في نظر نيتشه — قيمُ السادة وأخلاق الأقوياء، ولكن إذا صحَّ هذا فكيف نستطيع أن نفسِّر أن الاتجاه الأخلاقي الرئيسي عند سقراط وأفلاطون — وأرسطو إلى حدٍّ ما — كان اتجاهًا تظهر فيه معاني الزهد وإعلاء القيم الروحية — بمعناها التجريدي المنفصل عن العالم المادي — فوق كلِّ ما عداها من القيم؟ كيف نفسِّر قول أفلاطون «أو سقراط» إن «الجسم مقبرة النفس»، وتأكيد أرسطو أن الحالة المثلى لحياة الإنسان هي حالة التأمُّل العقلي المجرد؟ إن هذه — دون شك — سماتً أساسية لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، فكيف يحل هذا التناقض؟ إن الحل الوحيد الذي يهتدي إليه نيتشه هو أن يُعَدَّ تيار سقراط وأفلاطون وأرسطو — هذا التيار الرئيسي في الفكر اليوناني — شذوذًا يخرج عن طبيعة الروح اليونانية، وهكذا يخفق في الربط بين أقوى اتجاه فكري في المجتمع اليوناني وبين «أخلاق السادة» التي رآها مميزة لهذا المجتمع، وتعليل هذا الإخفاق هو أنه يأخذ الأخلاق حسب قيمتها الظاهرة، أما لو طُبِّقَت عليها القاعدة العامة التي أوضحناها من قبلُ، وهي أن كل أخلاق مسيطرة تخلق نقيضها؛ لأصبح كل شيء واضحًا ومتسقًا؛ فأخلاق هؤلاء الفلاسفة هي بدورها أخلاق للسادة، ولكنها خلقت نقيضها؛ فإلى جانب دعوتهم إلى الزهد واحتقار الجسد، هناك تبرير لنظام الرِّق ومحاولة لإثبات أنه ينتمي إلى «طبيعة الأشياء»، وتلك في صميمها أخلاق الطبقة المسيطِرة المنتفعة بهذا النظام، إن السادة يدافعون عن النظام الذي يكفل لهم عبيدًا يخدمونهم، ولكنهم — بوصفهم سادة — لا يمكن أن يقفوا ليعلنوا صراحة قيم الاستعلاء والكبر والتفوُّق والامتياز، بل إنهم ينشرون أخلاق الزهد؛ لأنها كفيلة بتغطية الامتهان الأساسي للإنسان، الذي دافعوا هم أنفسهم عنه وحرصوا على تبريره.

ولننتقلْ إلى مرحلة أخرى في تاريخ الأخلاق، وهي مرحلة الأخلاق اليهودية المسيحية. إن نيتشه يصف هذه المرحلة بأنها انتصارٌ لأخلاق العبيد، أخلاق الشفقة والمحبة والرحمة والمساواة التي ينتزع بها الضعفاء مخالبَ الأقوياء، ولكن هل كانت هذه التعاليم بعينها هي التي سادت بالفعل مجتمعَ العصور الوسطى؟ ألم يكن الإقطاعيون والبابوات وكبار رجال الكنيسة يمارسون أشد أنواع الاضطهاد على عامة الناس، وينعمون بامتيازاتهم وتفوُّقهم؟ ألم يكونوا بالفعل «سادة» بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ؟ ألم تكن أخلاق العبيد — في هذه الحالة — مجرَّد نقيض يخلقه السادة لكي يحتفظوا بسيطرتهم؟ إن نيتشه ذاته ينبهنا إلى ذلك الانقلاب في القيم، الذي بدأ بالديانة اليهودية، واستمر في المسيحية، والذي كان انقلابًا ضد الأرستقراطية الوثنية، في هذا الانقلاب أصبح هناك تكافؤٌ في المعنى بين ألفاظ: الغني والقوي والشرير والفاجر، وتكافؤٌ آخرُ بين الضعيف والطيب والقديس، ويفسر نيتشه هذا التحوُّل في القيم بأنه مظهر لأخلاق «العبيد»، ولكن هل العبيد بالفعل أصحاب المصلحة في هذه القيم الجديدة؟ وهل تُعَدُّ هذه القيم تعبيرًا عن انتصارهم؟ لا شك أن نيتشه كان ساذجًا حين تصور ذلك، ولو تعمَّق فيما وراء السطح الخارجي لهذه الظاهرة لوجد أن الأمر على عكس ما اعتقد؛ فحين تقول إن الغني والقوي هو الشرير والفاجر، تريد إبعادَ الناس عن الغني، وبثَّ النفور في نفوسهم منه، حتى لا يطمعوا في أن يحققوا الغنى أو القوة في أنفسهم، وحتى يتركوا الغني وشأنه (وكفاه عقابًا أنه شرير وفاجر، وأن العذاب الأبدي ينتظره في العالم الآخر)، فأنت إذنْ تحمي الغني والقوي بطريقٍ غيرِ مباشر، وحين تقول إن الفقير والضعيف هو الطيب والقديس، تعني بذلك أن الفقر والضَّعف حالةٌ مثلى ينبغي الرضا بها، بل السعي إليها، وبذلك تشجِّع الفقير على أن يظل فقيرًا، أليس هذا بعينه هو ما يريده «السادة»؟ لنتأملْ صورة كاهن العصور الوسطى وهو يعظ الناس بالزهد في متاع الدنيا، ويمنِّيهم بحياة أبدية ينعمون فيها بكلِّ ما حُرِمُوا منه في هذا العالم … هذا الكاهن الذي هو ذاته قوي مسيطر يستمتع بعيش رغد، ويعيش من كد الآخرين، أهو يتحدث عندئذٍ بلسان السادة أم بلسان العبيد؟ ألم يكن مصدر الخطأ — في هذه الحالة بدورها — أن نيتشه أخذ الأخلاق بقيمتها الظاهرية، ولم يفرِّق بين أولئك الذين صنعوا الأخلاق وأولئك الذين تخاطبهم هذه الأخلاق وتُوجَّه إليهم؟

وآخرُ مرحلة نشير إليها هي تلك التي كان يعيش فيها نيتشه ذاته، أعني أواسط القرن التاسع عشر، إن هذه المرحلة — بدورها — هي في رأيه مرحلةُ أخلاق للعبيد تسودها قيم الشفقة والعطف على الغير وحب الجار، ولا يجد الفرد المنعزل ذو الروح المستقلة فيها مكانًا لنفسه. ولكن أكان القرن التاسع عشر كذلك بالفعل؟ ألم تكن العلاقات الاجتماعية في هذه الفترة المبكرة من فترات العهد الصناعي أشبهَ بشريعة الغاب في ابتعادها التام عن كل إنسانية وتعاطف بين البشر؟ صحيح أن هناك أخلاقًا رسمية — أو ظاهرية — مشابهةً لما يسميه نيتشه بأخلاق العبيد، ولكن ألم تكن الممارسة الفعلية أقربَ كثيرًا إلى أخلاق السادة كما حدَّدها هو ذاته؟

هناك إذن تفاوتٌ أساسي بين الأخلاق كما ينادي بها، أو كما تظهر على السطح، وبين الأخلاق كما تُمارَس بالفعل. ومن الواضح أن نيتشه حينما تحدَّث عن الأخلاق على أساس أنها «من صنْع الضعفاء» كان المقصود في هذه الحالة هو الأخلاق كما تظهر على السطح، أما حين وصف ماركس الأخلاق بأنها من صنْع الأقوياء، فإن حديثه كان منصبًّا على الأخلاق كما تُمارَس فعلًا، أعني الأخلاق التي يوجِّهها الأقوياء إلى الفقراء لتخديرهم، ولكي يظلوا هم أنفسهم أحرارًا في ممارسة سيطرتهم كما يشاءون، وعلى أساس هذا التقابل نستطيع أن نفهم بسهولة لماذا كانت القيم الأخلاقية الواحدة — في العصر الواحد — تُعَدُّ تارةً قيمًا يفرضها الأقوياء على الضعفاء (وجهة النظر الفعلية)، وتارة أخرى قيمًا يفرضها الضعفاء على الأقوياء (وجهة النظر الرسمية).

هذا التضاد بين الأخلاق «الرسمية» والأخلاق «الفعلية» — في داخل المجتمع الواحد — يُعبَّر عنه عادةً بأنه تضاد بين «الواقع» و«المثل الأعلى»، وما دام هذا التضاد قائمًا فلا يمكن القول إن الإنسان أصبح أخلاقيًّا بحق. إن هذا التضاد تعبيرٌ عن نفاق أساسي ما زال يشوب نُظم الإنسان الأخلاقية، وقد اعتدنا أن نَعُدَّه ضرورة محتومة، ولكنه ليس في حقيقة الأمر ضروريًّا على الإطلاق، فلماذا لم يكن الواقع مثلًا أعلى؟ ولماذا لم يكن المثل الأعلى واقعًا؟ أليس معنى بقاء هذا التضاد أن هناك تداخلًا بين الأخلاقية واللاأخلاقية، بحيث تكون دراسة تاريخ الأخلاق هي في الوقت ذاته دراسة لتاريخ اللاأخلاقية في نفس الإنسان؟

إن الإنسان لا يصبح أخلاقيًّا بحق إلا بقدْرِ ما تخفُّ حدة التعارض بين الواقع والمثل الأعلى. ولن تبلغ الأخلاق أعلى مراحلها إلا باندماجها في السلوك العملي، وتلاشيها في مجال العلاقات الإنسانية الفعلية. وبعبارة أخرى فإن الأخلاق تبلغ أعلى درجات اكتمالها باندماجها في كلٍّ أوسعَ منها، هو مجال السلوك العملي في كل صورة، إنها تكتسب — بهذا الفناء في مجال العمل — أقصى ما تطمح إليه من حياة.

ولكن هذه مرحلة لا تَقبل التفسير من خلال المقدمات النظرية للمفكرَين اللذين اتخذنا من آرائهما محورًا لهذا المقال؛ فلو تحققت الأخلاقية المثلى كما كان يدعو إليها نيتشه، ووصل الإنسان إلى مرحلة «ما فوق الإنسان»، أو إذا بلغ المجتمع تلك المرحلة التي تطلَّع إليها ماركس، وأصبح مجتمعًا لا طبقيًّا بحق؛ فعندئذٍ لن يكون في وُسعنا أن نفسِّر هذه الحالة المثلى من خلالِ مفاهيمِ كلٍّ من هذين المفكرَين، ولنختم مقالنا هذا بسؤالٍ كما بدأناه بسؤال:

إذا كان ما يميز «الإنسان الأرقى» عند نيتشه هو السمو والعلو والامتياز، فكيف سيشعر بترفُّعه هذا حين يأتي عهده، ويختفي مَن يُمارس عليهم هذا الترفُّع؟

وإذا كانت الطبقية الاجتماعية — عند ماركس — هي مصدر كل قيمة أخلاقية، فعلى أي شيء سترتكز الأخلاق حين يصبح المجتمع لا طبقيًّا؟

١  الفكر المعاصر، العدد ٣٨، أبريل ١٩٦٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤