التعصب … من زاوية جدلية١

عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانًا متباينة من التعصب؛ فقد حفظ لنا الشعر معلوماتٍ هامة وقيِّمة عن التعصب القبلي، وسجَّل التاريخ — وما زال يسجل — حالاتٍ لا حصر لها للتعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانًا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات — وخاصة في عصرنا الحديث — ضروبًا متعدِّدة من التعصب العنصري أو العِرقي، وفي هذه الحالات كلها كان التعصب يمثل انتماءً زائدًا إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء، وارتباطًا بها يصل إلى حد الاستبعاد التام للآخرين أو كراهيتهم أو التعالي عليهم.

والواقع أن التعصب — بوصفه ظاهرةً بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان — يمكن أن يُعالَج بمناهجَ وأساليبَ متعدِّدة، تبعًا للزاوية التي نتأمله منها؛ ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية؛ في استطاعة هذه العلوم كلِّها أن تلقي أضواءً كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان على إزالة هذه الغشاوة التي أعمت بصيرةَ البشرية رَدَحًا طويلًا من الزمان، ومع ذلك فإن المعالجة الفلسفية لهذه الظاهرة تستطيع أن تكشف عن جوانبَ خفية وأساسية منها، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة، ومن خلال مفاهيمه ومناهجه المميزة، فهناك إذن أبعادٌ لمشكلة التعصب أعمقُ من تلك التي تتناولها العلوم الخاصة، وحين أقول «أعمق» فلست أعني بذلك حكمًا تفضيليًّا، بل إن كل ما أقصده هو العمق بمعناه الأصلي لا المجازي، أعني عمق القاع بالقياس إلى السطح، هذه الأبعاد العميقة التي تَكمُن من وراء كل معالجة علمية خاصة لمشكلة التعصب، تنكشف للتفكير الفلسفي وحدَه، ربما كان أصلحُ منهج يُتبَّع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصبٌ ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، وأعني به المنهج الجدلي أو الديالكتيكي.

إن التعصب — كما هو واضح — يتضمن عنصرين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها — سواء أكانت قبيلة أم وطنًا أم مذهبًا فكريًّا أو دينيًّا — أسمى وأرفع من بقية الفئات، والعنصر السلبي هو اعتقاده بأن تلك الفئات الأخرى أحطُّ من تلك التي ينتمي إليها، وقد يبدو من الأمور البديهية أن يكون هذان العنصران متلازمَين؛ إذ إن اعتقاد فئة معيَّنة بتفوقها يعني آليًّا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدْرًا، ومع ذلك فإن هناك نوعًا من التميز بين وجهَي التعصب هذين، على الرغم من ارتباطهما الوثيق.

ذلك لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طَوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي؛ فالشخص المتعصب هو — قبل كل شيء — ذلك الذي يحتقر فئة معيَّنة أو يتحامل عليها، صحيح أن هذا التحامل ينطوي ضمنًا على اعتقادٍ بأنه أرفع من تلك الفئة التي يتحامل عليها، أو أنه بريء من نقائصها، ولكن هذا لا يعدو أن يكون اعتقادًا مضمرًا فحسب، وفضلًا عن ذلك فكثيرًا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، أو الاعتقاد بأنهم يتمتعون بمزايا يعجز المرء عن بلوغها، وعلى أية حال فإن كراهية الآخرين هي الصفة الغالبة على المتعصب، أما استعلاؤه بنفسه فهو صفة ثانوية، على الرغم من كونها نتيجة لازمة — في معظم الأحيان — عن كراهية الآخرين.

فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساسًا إلى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثرَ مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الجانب الإيجابي في هذه العلاقة الجدلية لا يؤدي بالضرورة إلى التعصب، فتأكيد المرء لذاته أو اعتقاده بسمو الفئة التي ينتمي إليها، لا يترتب عليه بالضرورة ازدراءٌ للآخرين، ولقد سمعنا كثيرًا عن تلك الفلسفة التي تؤكد الأرستقراطية والاستعلاء، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهرًا لا يتمشَّى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته؛ فالرفيع والنبيل حقًّا — عند نيتشه — لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم؛ لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين، ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات — في الفلسفات التي تنحو منحًى ديمقراطيًّا — يزداد بالتكاتف مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم.

ومعنى ذلك أن الوجه الإيجابي في علاقة التعصب — وهو تأكيد استعلاء الذات — لا يمثل جوهر التعصب، وأن النظرة السلبية إلى الآخرين هي الطابع المميز لذلك النوع الشائع من الانحراف.

•••

ولا جدال في أن تلك النظرة السلبية إلى الآخرين ترتكز على اعتقادٍ بوجود نوع من الشر الكامن فيهم، والذي يبرِّر به المتعصب تحامله عليهم، ولعل أول ما يطرأ بالذهن هو أن يبادر إلى الكشف عن زيف هذا الاعتقاد بوجود الشر في الآخرين، ويبحث عن أسبابٍ نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، أو إيجاد منفذ لشعورهم هم أنفسهم بالإثم أو بالعجز أو بالإخفاق، ومن المؤكد أن ظاهرة التعصب تنطوي على شيء من هذا كله، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أَعْقَد من أن تُفَسَّرَ من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يرتكز على القول بأن التعصب علاقةٌ بين ظالم ومظلوم، وهذه العلاقة المعقدة لا يمكن التعبير عنها أو فهمها إلا من خلال منهج جدلي.

ولعل تعقُّد هذه العلاقة يتكشف بوضوحٍ لو ضربنا لها مثلًا مستمدًّا من بلد التعصب المتسق والمنظم، أعني من الولايات المتحدة؛ فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيرًا من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، ويتجنبون الأحياء والمساكن التي يسكنها «الملونون»، مع أن بلادهم الأصلية تتخذ موقفًا مستنيرًا من مشكلة الاضطهاد العنصري، وتنتقد الأمريكيين البِيض انتقادًا مُرًّا على تعصُّبهم، وحين أُتيحت لي فرصة الاطلاع عن كَثَب على أحوال الزنوج، تكشَّف لي السببُ بوضوح؛ فقد وجدت في حياتهم بالفعل عناصرَ منفِّرة، وكانت الأحياء التي يسكنونها أقذرَ من أحياء البِيض إلى حدٍّ يدعو الاشمئزاز، كما كان مسلكُ الكثيرين منهم — على المستوى الشخصي — ينم عن قدْرٍ غيرِ قليلٍ من الانحلال.

عند هذا المظهر الانحلالي يتوقَّف التفكيرُ الذي يسير في اتجاهٍ واحد، فيحكم على الأقلية الزنجية بالشر الكامن، ويجد مبررًا للتفرقة التي تمارسها الأغلبية البيضاء ضدها، ولكن التفكير الجدلي يستطيع أن يتوصَّل — من وراء هذا المظهر السطحي — إلى التعقُّد والتشابك الحقيقي الذي تنطوي عليه علاقة التعصب؛ فانحطاط الزنجي ليس سببًا للتعصب ضده فحسب، بل هو قبل ذلك نتيجة لهذا التعصُّب، وممارسة التعصب تَزِيد من تدهور الجماعة التي يُمارس ضدها التعصب، وبذلك تكتمل عناصر الحركة الجدلية في علاقة التعصب؛ إذ إن مَن يمارس الاضطهاد يعمل — عن وعي أو بغير وعي — على إبقاء مَن يضطهده في حالةٍ يكون فيها جديرًا بأن يُضطهَد، وكلما ازداد الاضطهاد وطال أمدُه، اشتد التدهور الذي يبرِّر الاضطهاد ويخلق له المعاذير، وازداد التباعد والاستقطاب بين طرفي علاقة التعصب.

ومثل هذا يُقال عن شكلٍ آخر من أشكال التحامل، هو اتهام الأقليات بالتقوقع والتساند والتكاتف فيما بينها على حساب تعاونها وتضامنها مع الأغلبية؛ ففي هذه الحالة بدورها تؤدي ممارسة الأغلبية للاضطهاد إلى رد فعلٍ لدى الأقلية يتمثل في مزيد من الانطواء على ذاته والحرص الشديد على مصالح أفرادها، وهذا الحرص يدفع الأغلبية إلى مزيدٍ من الاضطهاد، فتقابلها الأقلية بمزيدٍ من الأفعال «الدفاعية» التي تزيد من كراهية الأغلبية لها، وهكذا تتوالى الحركة الجدلية حتى تصل إلى تضادٍّ بين قطبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.

فهل لا يوجد سبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهل يتحتم أن يظل طرفا هذه العلاقة في تباعد وتنافر يتزايدان بلا انقطاع؟ إن المنطق السليم يقنعنا بأن المشكلة ليست مما يستعصي حلُّه، وبأن هذا الحل لا بُدَّ أن يبدأ بجهودٍ تبذلها الأغلبية لا لأنها هي الأفضل، بل لأنها هي المسيطرة، وهي التي تملِك زمام المبادرة؛ فمن الممكن أن تسير الحركة الديالكتيكية في الاتجاه العكسي، وأن يتضاءل التباعد والتنافر إذا خَطَت الأغلبية خطوة تقرِّبها من الأقلية، وتعيد إليها ثقتها بنفسها، وعندئذٍ يحق لنا أن نتوقَّع خطوة مماثلة من الطرف الآخر، ويستمر التقارب باطراد، فيسحق في طريقه بذور التعصب.

•••

إن من الشائع — عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب — أن يُقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولًا، وإن تَعصُّبَ هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيًّا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية، ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية، غير أن هناك حالاتٍ قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف؛ أعني حالات يبدأ فيها التعصب لدى الأقلية، وتضطر الأغلبية إلى القيام بردود فعل دفاعية ضدها، أو إلى ممارسة تعصب مضاد أشد وأعنف من التعصب الأصلي.

وقد شهد عصرنا الحاضر نموذجًا فريدًا لهذا اللون من التعصب في روديسيا وفي جنوب أفريقيا؛ حيث تمارِس أقليةٌ بيضاء من أصلٍ أوروبي اضطهادًا جماعيًّا شاملًا ضد أغلبية أفريقية من سكان البلد الأصليين؛ ذلك لأنه على الرغم من وجود أوجه تَشابُه قوية بين هذا النوع من الاضطهاد العنصري وبين نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بينهما فارقًا بنائيًّا لا يصح تجاهله، هو أن الأول تعصبٌ عدواني من الأقلية تجاه الأغلبية، على حين أن الأغلبية في الحالة الثانية هي التي تمارس التعصب على أقلية مغلوبة على أمرها، ولا شك في أن تعصب الأقلية ضد الأغلبية أشدُّ ألوان التعصب شراسة؛ إذ إن هذه الأقلية تدرك أنها — من الوجهة العددية على الأقل — في مركز الضَّعف، ومن ثَم فهي تعوِّض ضَعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالةٍ لا تسمح لها بالانقضاض عليها، ومن هنا كانت أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر هي تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب أفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين.

على أن تاريخ اليهودية يمكن أن يُعَدَّ مثلًا صارخًا — امتد عبْر مئاتٍ طويلة من السنين — لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية، ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن — في أية حالة من الحالات — أقليةً حاكمة مسيطرة على زمام الدولة كما هي الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب أفريقيا، وإنما كانت أقليةً ضعيفة من الوجهة السياسية، ومع ذلك فقد كانت — وهي في حضيض الضَّعف — تمارس نوعًا من الاستفزاز يدفع المجتمع الذي توجد فيه إلى اضطهادها رغمًا عنه.

ذلك لأن أسطورة شعب الله المختار — مهما قيل عنها — تقوم بدورٍ حقيقي في التراث اليهودي، صحيح أن المستنيرين من أبناء هذا التراث يحاولون تفسيرها بمعانٍ غيرِ عنصرية، ولكن هناك شواهد قاطعة على أن هذه الأسطورة تكوِّن جزءًا لا يتجزأ من التكوين العقلي لليهودي العادي، وتدفعه إلى أنواعٍ من السلوك لا بُدَّ أن تؤدي آخرَ الأمر إلى التصادم بينه وبين مجتمعه.

وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبشَ فداء» يُفرِّغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الإخفاق — وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه في حالاتٍ معيَّنة على الأقل — فإن وقوع الاختيارِ على الأقلية اليهودية بالذات طَوال ألوف السنين لكي تكون «كبشَ الفداء» هذا؛ هو أمرٌ يدعو إلى التأمُّل العميق، ويدفعنا إلى البحث عن جذور التعصب في هذه الأقلية ذاتها قبل أن نبحث عنها في المجتمع المحيط بها.

فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر ردُّ فعلٍ من جانب الأغلبية على الأقلية، إنه في حقيقته اضطهادٌ مضاد، أما الاضطهاد الأصلي فهو ذلك الذي تمارسه الأقلية اليهودية، وهو — بطبيعة الحال — اضطهادٌ صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضَّعف، ولكنه ينقلب إلى وحشيةٍ مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، كما هي الحال في مذابح فلسطين المشهورة. وعلى ذلك فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، لقلنا عنه إنه تعصبٌ مضاد، أو إنه في معظم حالاته ردُّ فعل، أما الفعل الأصلي والتعصب الأساسي، فيرجع إلى خرافاتٍ وأساطيرَ استفزازية عنيدة على الدوام تكون جزءًا لا يتجزأ عن التراث اليهودي.

ولعل أبلغَ دليل على ما نقول هو أن اليهود — مهما كان مقدار ضعفهم في مجتمعٍ ما — يرفضون الاندماجَ في هذا المجتمع، ويَعدُّون هذا الاندماج علامةً على انهيارهم، فيعملون على مقاومة هذا الانهيار بكلِّ ما يملكون من قوة.

ذلك لأن الاندماج في الأغلبية والحصول على نفس حقوقها على قدمِ المساواة هو الحلم البعيد الذي تكافح من أجله الأقليات المضطهدة في جميع أرجاء العالم، وحسبنا شاهدًا على ذلك كفاح زنوج أمريكا في سبيل المساواة في فرص العمل والتعليم والحقوق السياسية، وسعيهم الدائب من أجل أن يسمح لهم المجتمع بأن ينصهروا فيه ويكونون جزءًا لا يتجزأ منه، أما في حالة الأقلية اليهودية فإن الاندماج يُعَدُّ في نظرها أفظع الجرائم التي يمكنها أن ترتكبها في حق ذاتها، إنه خيانةٌ للتراث اليهودي، وضياعٌ لكلِّ ما هو مميِّز «للشعب المختار»، ومن هنا كانت صعوبة التعامل مع الأقليات اليهودية، وحتمية تحوُّل هذا التعامل إلى اضطهادٍ حتى في المجتمعات التي لم تكن تنوي ممارسة هذا الاضطهاد أصلًا؛ إذ إن هذه المجتمعات لو مَنحت الأقلية اليهودية حقوقَها المتساوية وعملت على إدماجها فيها وإذابتها ذوبانًا تامًّا؛ لقُوبل هذا الإدماج بمقاومة عنيفة منها، ولو تركتها تعيش على هامش الجماعة الكبيرة لارتفع صراخها بالشكوى من الاضطهاد!

وواقع الأمر أن وجود نوعٍ من الإحساس بالظلم والاضطهاد كان — ولا يزال — جزءًا لا يتجزأ من القوة الدافعة التي ساعدت اليهود على التماسك والاحتفاظ بتراثهم على مر العصور، وإذا وعينا هذه الحقيقة جيدًا؛ لتبين لنا أن الوصول إلى تسويةٍ نهائية على أساس التعايش السلمي مع دولةٍ قائمة على أساسٍ عنصري مثل إسرائيل، هو أمر يكاد يكون في حكم المستحيلات، ليس فقط بسبب الأطماع المتزايدة التي تنتمي إلى صميم بناء هذه الدولة، بل لأن قادتها يدركون أن حالة السلام الدائم هي أكبر خطر يمكن أن يتعرض له كِيان الشعب اليهودي في إسرائيل؛ فهذه الحالة كفيلة بأن تقضي على الدينامية العدوانية النشطة لدى هذا الشعب، وتهدِّد تماسكه الداخلي وتضامنه مع الطوائف اليهودية في الخارج، وتمزق المتناقضات التي ينطوي عليها هذا التجمع المصطنع الذي لا يوحِّده إلا الشعور بالخطر، ولما كانت تصريحات القادة اليهود — على مر العصور — تكشف عن وعيهم المكتمل بهذه الحقيقة، فإننا نستطيع أن نتنبأ منذ الآن بأن دولةً مثل إسرائيل لن تكفَّ عن إثارة القلاقل والمشاكل من حولها، حتى ولو تهيأت لها في المنطقة كلُّ أسباب السلام، وذلك على الأقل من أجل الاحتفاظ بتماسكها وفاعليتها عن طريق الاحتفاظ بجذوة الإحساس بالخطر متقدة على الدوام.

وأخيرًا فلعل أهم الأسئلة التي يثيرها التفكير الجدلي في ظاهرة التعصب، هو السؤال عما إذا كان التعصب منتميًا إلى البناء الأعلى superstructure أو إلى البناء الأدنى أو الأساس infrastructure، أعني عما إذا كان التعصب ظاهرةً تُفسَّر بذاتها، أم لا تُفْهَم إلا من خلال ظواهرَ أخرى أكثرَ أولويةً منها؟

ونستطيع أن نقول — بوجه عام — إن التعصب كان يُفسَّر بذاته في العصور القديمة التي كانت كل الأسس فيها خافية، وكانت الأبنية العلوية فيها هي كل شيء، أما في عصرنا هذا، عصر الكشف عن الأسس الخبيثة، وفضح الأسباب الحقيقية المستورة، فقد أصبح التعصب يُرَدُّ دائمًا إلى أصولٍ أخرى أسبق منه وأقدر على تفسيره.

ولقد قام علم النفس بدور هام في الكشف عن الجذور العميقة للتعصب في النفس البشرية، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن تفسيرات علم النفس ذاتها تُعَدُّ — في نظر الكثيرين — منتميةً إلى البناء العلوي، على الرغم من أنها تتركز على الجذور الخفية اللاواعية لظاهرة التعصب، أما البناء الأساسي الذي يقدم تفسيرًا كافيًا لهذه الظاهرة، فهو في نظر هؤلاء البناء الاقتصادي؛ فالتعصب — تبعًا لهذا التفسير — لا يعدو أن يكون مظهرًا من بين مظاهر استغلال الإنسان للإنسان، سواء في المجتمع الزراعي أم في المجتمع الصناعي، إنه التبرير الأيديولوجي للاضطهاد الواقع على فئاتٍ معيَّنة يستغل المجتمع طاقتها دون أن يمنحها حقوقها المشروعة.

وليس في وُسعنا أن نجزم إن كان هذا التفسير صالحًا للانطباق على كل حالات التعصب التي شهدها البشر على مر التاريخ، ولكن الأمر المؤكد هو أن النظرة الفاحصة إلى مظاهر التعصب في عالمنا المعاصر تقنعنا بأن هذا هو التفسير الأكثر انطباقًا على الواقع الذي نعيش فيه؛ فالحكم على الزنوج بالدونية هو الذي يجعل الأغلبية البيضاء في أمريكا، والأقلية البيضاء في روديسيا وجنوب أفريقيا، تستغل عملهم بأبخس الشروط، وتبرِّر لنفسها ذلك بضمير مستريح.

والاعتقاد بأن الشعب اليهودي شعبٌ مختارٌ وعده الله منذ ألوف السنين بأرض فلسطين هو الذي يبرر للصهيونية طردَ العرب من ديارهم واستغلال مَنْ بقي منهم أسوأ استغلال بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية.

•••

فإذا صح أن التعصب — في عالمنا المعاصر — هو في أساسه تبريرٌ ظاهري لعلاقة الاستغلال التي تمارسها فئةٌ قوية على فئةٍ أخرى تحتل — لسبب أو لآخر — مركزًا أسوأ، كانت النتيجة الحتمية المترتبة على هذا هي أن الكفاح ضد التعصب لا يمكن أن يكون كفاحًا إصلاحيًّا يتم على مستوى الوعظ الأخلاقي، بل هو في أساسه كفاح أيديولوجي واجتماعي وسياسي يؤلِّف جزءًا لا يتجزأ من إطارٍ أوسع، هو نضال الإنسان المعاصر في سبيل التحرُّر من كافة أشكال الاستغلال.

١  الفكر المعاصر، العدد ٧٤، أبريل ١٩٧١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤