القيم الإنسانية بين الحركة والجمود١

في كل عصرٍ من عصور التحوُّل الكبرى تتكرَّر من جديد قصة «دون كيخوته»، فتجد في ذلك العصر نفوسًا تدافع بحرارة وإخلاص عن قيمٍ تجاوزها ركبُ الزمان، وتتوهم أن هذه القيم أزلية مخلدة، وتشن حربًا شعواء على كلِّ من يدعو إلى أي نوع من التجديد أو التغيير فيها، أما الدعوة إلى التخلي عنها وإحلال قيم أخرى محلها، فتلك في رأيها قمة الكفر وأوضح الدلائل على المروق.

وعصرنا هذا عصرُ تحوُّلٍ حاسمٍ في تاريخ البشرية، بل إن الفترة الراهنة من تاريخ العالم قد تكون أهمَ نقطة تحوُّل طَوال ذلك التاريخ، صحيح أن كل عصر يظن نفسه «حاسمًا»، وأن المفكرين في كل زمان كانوا دائمًا يعتقدون أنهم يقفون في مفترق الطرق، ويتصورون الفترة التي يعيشون فيها على أنها أعظمُ أهمية بالنسبة إلى مصير البشر من كل فترة مرَّت بالإنسان من قبل، هذا صحيح كل الصحة، ويبدو أنه يرجع إلى ميلٍ طبيعي في العقل البشري إلى إعلاء شأن العصر الذي يعيش فيه، والنظر إليه على أنه محور التاريخ كله. ومع ذلك فإن القول بأن عصرنا هذا هو عصر التحوُّل الأكبر في تاريخ الإنسانية لا ينبع من أي ميل عاطفي إلى إعلاء الذات، أو أية رغبة متعمَّدة في تأكيد أهمية هذا العصر، وتأكيد أهمية أنفسنا معه، وإنما هو يرجع إلى حقائقَ موضوعيةٍ لا تقبل الخلاف أو الجدل، ويكفي دليلًا على ذلك أن ندرك حقيقتين أساسيتين: الأولى أن هذا العصر هو الذي سيقرر نهائيًّا مصير مشكلة الحرب والسلام، فإن كانت حربٌ فهي الأخيرة، وإن كان سلام فهو السلام الذي لا حربَ بعده. والحقيقة الثانية أن عصرنا هذا هو الذي سيشهد التحوُّل الحاسم للعلاقات البشرية من علاقات استغلال إلى علاقات مشاركة وتضامُن ومساواة، فإذا تذكرنا أن الحرب ظاهرة قديمة قِدَم التاريخ، حتى لقد تحدث البعض عن «غريزة القتال أو الحرب» في الإنسان، أدرجوها ضمن غرائزه المتأصلة التي لا يستطيع التخلص منها، وإذا تذكرنا أيضًا أن استغلال الإنسان للإنسان ظل على الدوام صفةً ملازمة للعلاقات البشرية منذ أقدم عصور التاريخ؛ لأدركنا أننا حين نصف عصرنا هذا بأنه عصرُ التحوُّل الحاسم، فإننا لا نكون في ذلك مغالين على الإطلاق، ولا يكون حكمنا هذا صادرًا عن أي غرور أو رغبة في تأكيد أهمية الذات.

في مثل هذا العصر تعيش القيم المتطلعة إلى الوراء والقيم المتطلعة إلى الأمام جنبًا إلى جنب، ويدور بين هذه وتلك صراع فكري عنيف، تزداد حدَّته بقدْر رغبة القديم في التشبث بآخِرِ معاقله، والجديد الوليد في تأكيد ذاته وإثبات جدارته بالحياة. ومما يزيد هذا الصراع الحاد تعقيدًا أنه لا يتخذ على الدوام شكل تعارض بين قيم رجعية وقيم تقدُّمية، وإنما يتخذ في كثير من الأحيان شكل اختلاف في تفسير قيم واحدة؛ فقد تظل نفس القيم باقية، ولكنها تكتسب مع أنصار الجديد دلالةً جديدة، على حين أن أنصار القديم يتمسكون بدلالتها التقليدية، فيزداد الصراع بين الطرفين تعقيدًا؛ لأن كليهما ينادي بنفس القيم، وإن تكن المعاني الكامنة من وراء هذه القيم المشتركة مختلفة كل الاختلاف.

وعلى ذلك فإن بحثنا في قيم التخلُّف وقيم التقدُّم لا بُدَّ أن يتشعَّب إلى فرعين: أحدهما يتناول المقارنةَ بين أنواعٍ متقابلة من القيم، والآخر يقارن بين معانٍ ووجهات نظر مختلفة لقيم واحدة.

ومن المحال أن يتسع المجال في هذا المقال لبحثٍ شامل أو قريب من الشمول لموضوع عظيم الاتساع كهذا، ومن هنا كان علينا أن نكتفي بتناولِ نماذجَ من القيم الرئيسية، نستطيع أن نستخلص منها بوضوح تلك الصفات المميزة للنظرة الراجعة إلى الوراء، وللنظرة المتطلعة إلى الأمام، وأن ندرك بالتالي طبيعة القيم التي قُدِّرَ لها الزوال، وتلك التي سيُكْتَب لها البقاء.

القيم الفردية، والقيم الجماعية

لا جدالَ في أن جزءًا كبيرًا من الصراع الفكري الذي يدور اليوم بين قوى التقدُّم والتخلُّف، يتركز في التعارض بين القيم الفردية والقيم الجماعية، وكثيرًا ما يتخذ أنصارُ الفردية أسلوب المدافعين عن الكرامة الإنسانية وعن حرمة الشخصية البشرية، وهم في ذلك يقتربون كل القرب من موقف ذلك الفارس النبيل الذي أشرنا إليه في مستهلِّ هذا المقال — أعني «دون كيخوته» — في تعلُّقه الإنساني المخلِص بقيمٍ فات أوانها وانقضى عهدها إلى غير رجعة.

وذلك لأن الفرد — من أية زاوية تتأمله منها — لا يمكن أن يكون ذرة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ — على حد تعبير الفيلسوف الألماني المشهور ليبنتس — وإنما هو ملتقى طرقٍ طولية وعرضية لا حصر لها ولا عدد، إنه أشبه بالنقطة الهندسية التي لا تُعْرَف بذاتها، وإنما تُعْرَف بأنها موضع التقاء خطين أو أكثر، ولا تُفْهَم إلا من حيث هي موضع التقاء فحسب، ولقد دارت مناقشات طويلة حول معنى الفردية وإمكانها من الوجهة الفلسفية، ولست أهدف هنا إلى إضافة أي جديد إلى هذه المناقشات التي أصبحت عناصرها الأساسية مألوفةً لكل مثقف، وإنما أود أن أتناول المشكلة من حيث علاقتها بالقيم الأخلاقية، أي في صلتها بالموضوع الرئيسي لهذا المقال.

إن المبالغة في تأكيد قيمة الفردية يؤدي — سواء شاء المرء أم لم يشأ — إلى نوعٍ من التغليب للروح الأنانية؛ ذلك لأن هناك أنواعًا أساسية من الكفاح لا يمكن أن تتم على المستوى الفردي على الإطلاق، وإذا قام بها أفراد منعزلون فإن النتيجة تكون دائمًا إخفاقًا وشعورًا مريرًا بخيبة الأمل؛ فالكفاح الأساسي ضد الاستغلال والاستعباد بشتى أنواعه (وأقول إنه أساسي لأنه هو وحدَه الذي يمهِّد الطريق لجميع مظاهر التحرر الأخرى) ينبغي أن يتم على مستوى التضامن الجماعي، إن شئنا أن يتحقق له أيُّ قدْر من النجاح، وعلى ذلك فإن إنكار قيم التضامن هذه يؤدي — ولو بطريقٍ غير مباشر — إلى تأكيد حالة الاستعباد، وتأخير لحظة التحرر بالنسبة إلى المجتمع وإلى الفرد ذاته.

ولقد كان المقابل الاقتصادي لمبدأ الفردية هو تأكيد دافع الربح؛ ففي الحضارة الرأسمالية تسير الفكرتان جنبًا إلى جنب، بحيث يؤكد المفكرون والأدباء من جهةٍ قيمةَ الفردية، ويقوم الاقتصاد من جهةٍ أخرى على مبدأ تشجيع حافز الربح في الأفراد إلى أقصى مدًى ممكن، ولقد أصبح من الشائع في هذه الحضارة أن يُنظر إلى قيمة الفردية ومبدأ الربح على أنهما وجهان — أحدهما أخلاقي والآخر اقتصادي — لحقيقة واحدة، ومع ذلك فلا جدال — في رأيي — أن هناك تناقضًا صارخًا بين هذين المبدأين، حتى إن تأكيد أحدهما يؤدي حتمًا إلى القضاء على الآخر.

ولكي نكشف هذا التناقض، علينا أن نتساءل: ما الذي يعنيه تأكيد دافع الربح في المجتمع الرأسمالي؟ إنه يعني اعتقادًا ضمنيًّا بأن أقوى الدوافع المسيطرة على الفرد هو تحقيق منفعته الذاتية، ولو كان ذلك على حساب الآخرين، إنه ينطوي على اعتراف صريح بأن الإنسان أناني بطبعه، وبأن الاعتبارات المعنوية أو الأخلاقية لا يمكنها أن تكون حافزًا كافيًا لجهد الإنسان ونشاطه، على حين أن الاعتبارات المادية هي الأقدر على أن تحفِّزه إلى الفعل وبذل المجهود … ولسنا الآن بسبيل مناقشة مدى صحة هذه النظرة إلى طبيعة الإنسان (وهي النظرة التي يراها البعض تعبيرًا صريحًا عن «الواقع المؤسف»، ويؤكد البعض الآخر أنها ليست صحيحة على الإطلاق، وإنما هي وليدة أوضاع وعلاقات معيَّنة ظلت سائدة في المجتمع البشري حتى اليوم، وليس هناك ما يمنع من تغييرها جذريًّا في المستقبل) وإنما الذي يعنينا من هذا هو التناقض الصارخ الذي تكشف عنه هذه النظرة، بين الأساس الاقتصادي والبناء المعنوي أو الأخلاقي للحضارة الرأسمالية التي تسود فيها؛ ذلك لأن محور الدعوة الأخلاقية في المجتمع الرأسمالي هو تأكيد كرامة الفرد، وفلسفة هذا المجتمع ودعايته تنصبُّ على تأكيد أن الحضارة الأخرى — أعني الحضارة الاشتراكية في شتَّى مظاهرها — تقضي على الكرامة الفردية وتجعل من الأفراد «أرقامًا» في مجتمعٍ من «النمل والنحل»، والأهم من ذلك أن المجتمع الرأسمالي نفسه هو الذي يطالب لنفسه بحق الدفاع عن القيم الروحية، ويتهم المجتمع المقابل له بتأكيد المادية واتخاذها محورًا لنشاط الإنسان في كل الميادين.

وهنا يظهر لأعيننا بكل وضوح مدى التناقض في بناء عالم القيم في المجتمع الرأسمالي؛ ذلك لأن هذا البناء يرتكز على مبدأ اقتصادي يفترض ضمنًا أن غاية الإنسان الكبرى هي تحقيق الربح والمصلحة الذاتية، وهي غاية مادية صرف، ولكن واجهة البناء تتخذ شكلًا روحيًّا رفيعًا، يُنصِّب فيه المفكرون أنفسهم مدافعين عن كرامة الإنسان وجدارته، وعلى حين أن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الحضارة هو المادية في أوضح وأصرح صورها، فإن المحور الذي تدور حوله الدعوات الفكرية والمذاهب الفلسفية فيها هو الروحانية في أرفع مظاهرها، ومثل هذا التناقض الصارخ علامةٌ من علامات الانهيار؛ إذ إن الفكر الواعي لا بُدَّ أن يتنبه إليه، ويعمل على إزالته، وهذا لا يكون إلا بتغييرٍ حاسمٍ لبناء القيم من أساسه.

ولا يقتصر تطبيق مبدأ «حافز الربح» هذا على العلاقات بين الأفراد فحسب، بل إن المجتمع الرأسمالي يطبِّقه على العلاقات بين الدول وبين الأجيال أيضًا؛ فالاستعمار هو بهذا المعنى تطبيقٌ مباشر لهذا المبدأ على مستوى الدول؛ إذ إن نفس العلاقات التي تربط بين صاحب العمل وبين العامل من جهة — في ظل مبدأ حافز الربح — هي التي تربط بين الدولة الاستعمارية وبين مستعمراتها من جهة أخرى، وكما أن من غير الطبيعي من وجهة النظر الإنسانية أن يصبح الفرد الواحد من أصحاب الملايين على حساب شقاء الألوف من العاملين، فإن من غير الطبيعي أيضًا أن تصبح الدولة الواحدة خيالية الثراء على حساب شقاء عشرات الدول المنتجة الأخرى، ولا بُدَّ — في هذه الحالة الأخيرة — من أن ينسب هذا التفاوت بين ثروات الدول إلى أوضاعٍ غير طبيعية في علاقاتها، وهي أوضاع تخضع بدورها لمبدأ «حافز الربح» وتعبِّر عن فكرة الاستغلال أوضحَ تعبير، وهنا أيضًا نجد تناقضًا بين الأساس المادي الصريح لهذا النوع من العلاقات الدولية، وبين الواجهة الظاهرية لبناء القيم المعبِّرة عن هذه العلاقات، حيث يشيع الحديث عن «الإخاء»، و«التضامن»، و«التحالف من أجل التقدُّم» وكلها تركيباتٌ معنوية زائفة تتناقض مع الدعامات الفعلية التي ترتكز عليها، ولا بُدَّ للتخلص من هذا التناقض من تغيير بناء القيم بأسره.

وأخيرًا فإن الروح الفردية المتطرفة تؤدي إلى مظهرٍ آخرَ من مظاهر الأنانية، هو أنانية الأجيال المتعاقبة؛ فالافتقار إلى التخطيط الطويل الأمد — في المجتمعات الرأسمالية — يعني أن كل جيل يفكِّر في نفسه فقط، ولا يعبأ بما سيئول إليه أمر الأجيال التالية، وبالفعل نجد في أرقى البلاد الرأسمالية مفكرين ينبِّهون إلى خطورة الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية دون حسابٍ للمستقبل، وإلى الفوضى التي تؤدي إلى تضخم الإنتاج في سلعٍ ثانوية الأهمية، ولكنها تدرُّ ربحًا، وتضاؤل الإنتاج في سلعٍ عظيمة الأهمية، ولكن ربحها قليل، أما سياسة التخطيط البعيد الأمد فهي لا تعني إلا شيئًا واحدًا، هو أن الجيل الحالي يفكِّر في الأجيال المقبلة بطريقةٍ أساسها إنكار الذات ويقبل التضحية من أجلها بكثير من مطالبه، وهكذا فإن التخطيط هو — من الناحية الأخلاقية — تعبيرٌ عن نوع من «الغيرية» على مستوى الأجيال المتعاقبة، على حين أن ما يُسمَّى «بالإنتاج الحر» إنما هو تعبير عن أنانية الجيل الحاضر وجشعه الذي يحول بينه وبين التفكير في المصالح البعيدة المدى للأجيال المقبلة، وفي هذه الحالة بدورها يتناقض الهيكل المعنوي للمجتمع — الذي تنتشر فيه أفكارٌ مثل «حرية الإنتاج» و«حرية العمل» — مع التركيب الحقيقي الذي تسوده الفوضى والقيم الأنانية، ويتحتَّم إحلال قيمٍ جديدةٍ محلَّ القيم «الفردية» — على مستوى الأجيال المتعاقبة بدورها — من أجل القضاء على هذا التناقض.

في كل هذه الحالات ينتهي الأمر بالفيلسوف الداعي إلى الفردية إلى تأكيد قيمة الأنانية في صورةٍ من صورها، على الرغم من أن نواياه قد تكون حسنة، ورغبته قد تكون حقيقية في اتخاذ دعوته هذه وسيلةً لتأكيد كرامة الإنسان، ومن هنا كان عليه أن يراجع موقفه المعنوي بأسره إذا شاء ألا يكون وسيلةً لخدمة قيم التخلُّف، وإذا أراد أن يكون تفكيره عاملًا على إعلاء مكانة الإنسان بحق.

الثبات والتغيير

ومن البديهي أن الإيمان بالتقدُّم هو ذاته أحد القيم الأساسية في كل مذهب تقدُّمي، على حين أن إنكار التقدُّم من أوضح صفات المذاهب الفكرية المرتكزة على قيمٍ متخلفة، على أن فكرة التقدُّم تفترض مقدمًا فكرةً أخرى، هي فكرة التغيُّر؛ لأن التقدُّم لا يكون حقيقة أساسية إلا في فلسفةٍ تؤمن بإمكان التغيير وضرورته، فما هو موقع فكرة التغيُّر بالنسبة إلى قيم التقدُّم؟ وعلى أي نحوٍ ترتبط بها؟

نستطيع أن نقول إن الإيمان بالتغيُّر هو الشرط الأول الضروري لكل القيم التقدُّمية؛ فلقد أتى على الناس حينٌ من الدهر كان الإيمان بالتغيُّر يُعَدُّ فيه مظهرًا من مظاهر النقص، وكان كلُّ ما هو كامل يُوصف بالثبات والأزلية، في ذلك الوقت كانت القيم المحافظة هي السائدة، وكانت الثورة والرغبة في التغيير تُعَدُّ خروجًا على النظام الأزلي للكون، ولم يكن من المستغرب أن نجد في فلسفة أفلاطون أقوى دفاع عن فكرة ثبات القيم، وأن يكون أفلاطون في الوقت ذاته هو الداعية الأكبر إلى تركيب سكوني ثابت للمجتمع، تؤدي فيه كلُّ طبقة من طبقات المجتمع ما تصلح له — بحكم تكوينها الطبيعي — من الأعمال، ولا يحق لها فيه أن تتطلع إلى أعمال الطبقات الأخرى؛ ذلك لأن الارتباط بين فكرةِ أزلية القيم وبين ثبات التركيب الاجتماعي، هو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أية إشارة خاصة، ومنذ ذلك الحين أصبح من سمات التفكير المحافظ المرتكز على قيمٍ متخلِّفة: الإيمان بأن الكمال مرتبط بالثبات، وبأن التغيُّر نقص، وأصبح هذا النوع من التفكير — الذي ظلَّ مسيطرًا على الأذهان عصورًا طويلة — ينظر إلى الإنسان على أن له طبيعةً ثابتة لا تتغير، ويؤكد أن القيم الأساسية أزليةٌ لا تتبدل، ويساعد بالتالي على توطيد دعائم الاستغلال القائم بتأكيد استحالة تغييره.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون عصر التحوُّل الاجتماعي الجذري — أعني القرن التاسع عشر — هو ذاته العصر الذي تأكدت فيه فكرة التغيُّر في جميع المجالات، وعلى رأسها مجال القيم؛ ففي نفس الوقت الذي أخذت فيه فكرة التاريخ والزمانية تحل محل فكرة الثبات والأزلية بوصفها أساسًا لتفسير الظواهر، في نفس هذا الوقت كانت تحدث — على المستوى العملي — تغييراتٌ اجتماعية هائلة تبشِّر بقرْب حدوث ثورة شاملة في علاقات القوى بين البشر، وعندئذٍ بدأت تظهر لأول مرة حقيقةٌ هائلة كانت هي المقدمة العملية الكبرى لكل ثورة، هي أن النُّظم الاجتماعية ليست أزليةً منزَّلة من السماء، وإنما هي من صنْع الإنسان ومن خَلْقه، وفي وُسعه أن يعدِّل منها ما يشاء، بل إن الإنسان نفسه ليست له طبيعة ثابتة، ولا تحكمه مجموعةٌ ثابتة من القيم وإنما هو كائن قابل للتشكُّل إلى غير حد، ولا يقف شيء في وجه قدرته على التغيير.

فالثورة والتقدُّم يتوقف مصيرهما على الإيمان بفكرةِ قابلية الإنسان وما يضعه من النُّظم للتغيير، ومن المؤكد أن آمال الإنسان في تطوير حياته وتحسين أحوال معيشته لا تعود تعرف حدودًا منذ اللحظة التي يدرك فيها أن طبيعته ذاتها قابلةٌ للتغيير، وليس أدل على مدى التحوُّل الهائل الذي طرأ على موقف الذهن البشري في هذا الصدد، من أن عصرنا الحالي أصبح يَعُدُّ التطوُّر والتغيُّر مظهرًا من مظاهر الكمال، ويرى في الثبات علامةً من علامات النقص؛ فالظواهر التي تنتمي إلى مجال العلم والمعرفة والنُّظم الاجتماعية ومظاهر الخلق والإبداع بكافة أنواعه، كلُّ هذه أصبح التغيُّر والنمو دليلًا على حيويتها وقدرتها على مسايرة الزمن، أما صفة الثبات التي كانت منذ عصر أفلاطون حتى عهدٍ قريب تُعَدُّ أهم معيار للحقيقة في مجال المعرفة، وأكبر دليل على الاستقرار في مجال العلاقات الاجتماعية؛ فقد أصبحت تعني التحجُّر والجمود، وتُعَدُّ عائقًا في وجه تحقيق الإنسان لكلِّ ما فيه من إمكانات.

أخطاء التقدُّميين

على أن كثيرًا من المؤمنين بالقيم التقدُّمية يقعون — دون وعي منهم — في أخطاءٍ موروثةٍ من تلك العهود الطويلة التي كان الثبات والأزلية يُعَدَّان فيها قيمةً عليا لكل الظواهر التي تتصل بالإنسان، من أهم هذه الأخطاء التقيدُ المفرط بالسلطة؛ فمن أوضح الصفات المميزة للتقدُّميين في عصرنا هذا، التجاءُ الكثيرين منهم إلى نصوص ثابتة يَعدُّونها مرجعًا أخيرًا وحَكمًا فاصلًا في كل المشكلات التي يدور حولها أي خلاف، والحجة التي يتذرعون بها هي أن هذه النصوص ذاتُ طابع تقدُّمي في أساسه، ومع ذلك فمن الواضح أن النص التقدُّمي عندما يصبح مرجعًا نهائيًّا، وعندما يتخذ سلطة أخيرة لا تناقش، يتحول إلى أداةٍ تخدم أغراض التخلُّف؛ ذلك لأن الإيمان العميق بالتغيير، وبأن الواقع المتطور نفسه هو المعيار النهائي لكل حقيقة، يحتم علينا ألا نقف من النص موقفَ التقديس الخاشع مهما كانت درجة تقدُّميته، وأقصى ما يمكننا أن نفعله إزاءه هو أن نتخذه دليلًا هاديًا، أما إذا أصبح متعارضًا مع التجرِبة الفعلية للمجتمع (وهو أمر لا بُدَّ أن يحدث بمضي الوقت) فلا مفر عندئذٍ من التضحية بالنص ومجاراة الواقع، وفي اعتقادي أن الخطأ الذي يرتكبه كثيرٌ من التقدُّميين في هذا الصدد إنما يرجع إلى تحمسهم البالغ للحقيقة الجديدة التي كشفها لهم النص التقدُّمي، وهي حقيقة تبهر عيونهم وقد تعطِّل — إلى حين — مَلَكة التفكير النقدي لديهم، وهذا أمر مُشَاهد بالفعل في كل عصور التحوُّل الكبرى؛ ففي الفترات الأولى بعد ظهور الأديان كانت القاعدة الشائعة هي التمسُّك بحَرْفية النص الديني، واتهامُ كلِّ مَن يحاول إيجاد تفسير مستنير له بالمروق والخروج عن الدين، ولكن استمرار التطوُّر أدَّى في معظم الحالات إلى التخفيف من هذا التزمُّت، وإلى النظر بعين التسامح والفهم إلى كثير من «الخوارج» و«المارقين»، ومثل هذا لا بُدَّ أن يحدث — وهو قد بدأ يحدث بالفعل — في مجال التفكير السياسي بدوره؛ فالإيمان الحقيقي بالتطوُّر لا بُدَّ أن يخلِّص الأذهان من عادة الاستشهاد — في كل صغيرة وكبيرة — بنص جامد، والاعتقاد بأن أي خلاف في الفكر النظري أو التطبيق العملي يمكن أن يُحَلَّ بالرجوع إلى ما ورد عنه في الكتب، حتى لو كانت هذه الكتب وثائقَ كبرى للفكر التقدُّمي.

أما الخطأ الآخر الذي يقع فيه كثير من التقدُّميين فهو الاعتقاد بأن التغيُّر ينبغي أن يسري على القيم المتخلفة وحدَها، على حين أن القيم التقدُّمية — عندما تتحقق لها السيطرة — ستظل ثابتة، أي بأن الهدف النهائي لكل تطوُّر هو تحقيق مجتمع اشتراكي مكتمل العناصر، بالمعنى الذي نفهمه الآن لهذه الكلمة. هذا الاعتقاد في رأينا غير صحيح لسبب جوهري هو أن التطوُّر لا يعرف غايةً نهائيةً يقف عندها؛ فمنذ اللحظة التي نعترف فيها بأن الإنسان كائن قابل للتشكل، وبأن التطوُّر الدائم يكون جزءًا من طبيعة الحضارة البشرية، يصبح من الضروري أن نمتنع عن تحديد أية نهاية لعملية التغيُّر والنمو التي تطرأ على أنظمة المجتمعات وعلى نواتج العبقرية البشرية، ومعنى ذلك أن غاية التطوُّر — عند من يؤمن حقًّا بالقيم التقدُّمية — ليست هي الاشتراكية وحدَها، وليست أي نظام آخرَ يستطيع العقل البشري أن يتصوَّره في مرحلته الراهنة، إن الاشتراكية هي في واقع الأمر نقطةُ بداية تطورات هائلة لا بُدَّ أن تتلوها، وهذه التطوُّرات سوف تُسْفِر قطعًا — خلال المستقبل البعيد للبشرية — عن أنواعٍ من التنظيم لا نستطيع الآن أن نتكهَّن بها ولو على صورة تقريبية، وكلُّ ما يمكن تأكيده بشأنها هو أنها — من الوجهة السلبية — ستخلو تمامًا من جميع مظاهر الاستغلال؛ ففي التطوُّر العلمي المذهل الذي تزداد سرعته بمضي السنين، تُفْتَح في كلِّ يوم إمكاناتٌ جديدة أمام الإنسان، وإذا اقترن ذلك بتنظيمات اجتماعية تتخلص تمامًا من الاستغلال، فإن النتيجة تكون ظهورَ عهود جديدة للإنسان لا يستطيع أشدُّ الناس إغراقًا في الخيال أن يتخيلوها، والمهم في الأمر أن هذا التطوُّر لن يسير حتمًا حسبما تقرِّره الكتب أو الدراسات النظرية، وإنما سيسير مسترشدًا بالتجرِبة ويأتينا على الدوام بالجديد الذي لم يكن نحلم به.

الحرية حالة أم عملية؟

ولست أود أن أطيل الحديث عن ذلك النوع الآخر من القيم الذي يتمسك به التقدُّميون والرجعيون في آنٍ واحد، ولكنهم يختلفون أساسًا في تحديد معانيه، وهو النوع الذي وعدتُ القارئ في بداية المقال بالحديث عنه؛ فلدينا لهذا النوع أنموذج واحد عظيم الأهمية، تغنينا معالجته عن الكلام في القيم الأخرى المنتمية إلى هذه الفئة، ذلك الأنموذج الواحد هو قيمة الحرية.

ففكرة الحرية تكوِّن جزءًا أساسيًّا من مجموعة القيم التي لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها، وإن يكن فهْمه لها يختلف من النقيض إلى النقيض تبعًا لفلسفته العامة في الحياة، وهكذا يدعو أنصار التخلُّف وأنصار التقدُّم معًا إلى الحرية، ويعدُّونها قيمةً رئيسية تتوِّج حياة الإنسان المعنوية، ولكن الاختلاف بينهما في تفسير معناها يصل إلى حد التضاد التام، بحيث لا يعود هناك عنصرٌ مشترك بين هذه الحرية وتلك سوى اللفظ فحسب.

ولقد أسهب المفكرون في إيضاح مفهومَي الحرية عند أنصار التقدُّم والتخلُّف إلى حدٍّ لا يعود من الممكن معه إضافة أية فكرة جديدة إلى هذا الموضوع في مثل هذا الحيز الضيق، ومع ذلك فربما كان من المفيد أن نقدِّم إلى القارئ صيغةً موجزة تعبِّر بدقة عن التضاد بين النظرة التقدُّمية والنظرة الرجعية إلى قيمة الحرية، هذه الصيغة هي أن الحرية في التفكير الرجعي «حالة»، وفي التفكير التقدُّمي «عملية»؛ فعندما يتحدَّث الداعون إلى قيم التخلُّف عن الحرية، يَعنون بذلك حالةً معيَّنة يتصف بها الإنسان، ويدور كل الخلاف الميتافيزيقي بين أنصار الحرية وأنصار القهر أو الجبرية حول السؤال الآتي: هل هذه الحالة أم عكسها هي التي تلازم الإنسان؟ أعني هل يُعَدُّ الإنسان بحكم تركيبه وتكوينه كائنًا حرًّا أم مجبرًا؟ مثل هذا السؤال لا يحتمل إجابة وسطًا، وإنما هو يقرِّر أحد الأمرين على نحوٍ مطلق، فإما أن تكون للإنسان حرية كاملة أو لا تكون له حرية على الإطلاق، أما الداعون إلى قيم التقدُّم فإنهم يتحدثون عن الحرية على أنها عملية نامية متطورة، تسير مع تاريخ الإنسان بالتدريج ولا يمكن أن تقف عند حدٍّ أو تُكْتَسب كاملة، وهكذا تتمشَّى النظرة «السكونية» إلى الحرية — عند أنصار القيم المتخلفة — مع موقفهم العام في الدفاع عن الثبات والأزلية وإنكار حقيقة التغيُّر، على حين أن المفهوم «الحركي» للحرية عند أنصار القيم المتطورة يتلاءم تمامًا مع فكرة التغيُّر والتقدُّم التي وصفناها من قبلُ بأنها جزء أساسي من البناء التقدُّمي للقيم، بل إن التقدُّم في معناه الحقيقي إنما هو نفس العملية التي تنمو بها الحرية، وتتحقق بها سيطرة الإنسان على الكون وتنميته لمواهبه وقدراته، وبهذا المعنى تكون الحرية عمليةً مستمرة، لا تَعرف حدًّا نهائيًّا تتوقَّف عنده، وتظل تنمو طوال تاريخ الإنسان؛ ففي كل اختراع جديد — من العجلة الخشبية إلى الصاروخ الموجَّه — مزيدٌ من الحرية، وفي كل مرض يَقهره الإنسان مزيدٌ من الحرية، وفي كل عائق طبيعي يتغلب عليه الإنسان مزيدٌ من الحرية، وبالاختصار فإن الإنسان لا «يكون» حرًّا، وإنما «يصبح» حرًّا على قدْرِ ما يبذل من الجهد وما يحقِّق من التقدُّم.

هذه بعض القيم الفلسفية الرئيسية في مفاهيمها التقدُّمية والرجعية، ومن الواضح أن الاختلاف في هذه المفاهيم ليس مجرد خلاف نظري أو فلسفي، وإنما هو خلاف في النظرة الكاملة إلى العالم، وفي الطريقة التي يحكم بها الإنسان على حاضره ومستقبله، والسؤال الذي يجب أن نوجِّهه لأنفسنا في هذه المرحلة من تاريخنا هو: إلى أي حدٍّ استطاعت أذهانُنا أن تتخلَّى عن قيم التخلُّف وتتحوَّل إلى قيم التقدُّم؟ وإلى أي حدٍّ أمكنها أن تجعل من هذه القيم الأخيرة، لا مجرَّد أقوال تُسْرَد بل أسلوبًا كاملًا في الحياة؟

١  الطليعة، العدد ٢٩، سبتمبر ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤