الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر١

في رأيي أن ضرورة التجديد كامنةٌ في صميم الفكر الاشتراكي ذاته؛ فهناك على الأقل مبدآن رئيسيان في هذا الفكر، يحتمان القيام بمراجعة دائمة لأصول النظرية الاشتراكية:
  • أول هذين المبدأين: أن كل نظرية إنما هي انعكاسٌ لواقعٍ معيَّن وتعبيرٌ عنه، وأنها ليست بناءً فكريًّا يرتكز على فراغ، بل إن جذورها تتغلغل دائمًا في الواقع الذي نبتت منه.
  • وثانيهما: أن الواقع في تغيُّر مستمر، وأن التحوُّل قانونُ الحياة في العالم الطبيعي والإنساني معًا.

فإذا جمعنا بين هذين المبدأين، أمكننا أن نقرِّر أن الفكر الاشتراكي ينطوي — ضمن مقوماته الرئيسية التي لا تنفصل عنه — على مبدأ ضرورة مراجعته وتعديله وإعادة النظر فيه، ولو لم نعترف بهذا المبدأ الأخير، لكُنَّا نرتكز في عدم اعترافنا هذا على قضايا تتنافى مع أصول الفكر الاشتراكي نفسه؛ إذ إننا عندئذٍ إما أن نكون ممن ينكِرون تغيُّر الواقع، فنظن أن هذا الواقع قد ثبت وتحجَّر عند وضعٍ معيَّن، وإما أن نكون من القائلين بإمكان وجود نظريةٍ تظل محتفظة بصلاحيتها بالرغم من تغيُّر الواقع الذي ظهرت أصلًا لكي تعبِّر عنه.

على أن لفظ «المراجعة» قد أصبح من الألفاظ المشينة في المصطلح الاشتراكي، وأصبح الاتصاف به وصمةً لا تُغْتَفَر، والواقع أنه إذا كان المقصود من المراجعة هو معنى المروق والخيانة؛ لكان لهذه الطريقة في فهم اللفظ ما يبرِّرها، أما إذا كان المقصود منه مجرد الانحراف عن خطٍّ أصلي أو إعادة النظر فيه، فلست أرى في اللفظ ما يشين؛ إذ إن الخط الأصلي قد ظهر في ظل واقع معيَّن، والواقع دائمُ التغيُّر، فلا بُدَّ من عملية إعادة نظر دائمة في هذا الخط، وإذا أدرك المرء هذه الحقيقة عن وعي، واستوعب مضمونها استيعابًا كاملًا؛ لتبينَ له عندئذٍ أن الوضع المرغوب فيه هو «المراجعة» — بشرط أن تكون مخلصة واعية — وأن الوضع الذي ينبغي أن تنصبَّ عليه الإدانة والاتهام هو التمسُّك المتحجر بقضايا ونظريات تتغير الأرض من تحتها دون انقطاع.

على أن تغيير الواقع الذي يستتبع ضرورة مراجعة النظرية لا يعني أن النظرية ذاتها عميقة، أو أنها تعجز عن أن تقدِّم إلينا أي أساس للتنبؤ؛ ذلك لأن التغيُّر — كما قلنا من قبلُ — حقيقةٌ طبيعيةٌ ترتكز عليها كل فلسفة ذات صبغة علمية، ومن جهة أخرى فإن هناك نوعًا آخرَ من التغيُّر، يمكن أن يُوصف بأنه تغيُّر مفتعل أو متعمَّد، يتم فرضه على الواقع قسرًا من أجل هدم الأساس الذي ترتكز عليه النظرية، والحيلولة دون حدوث النتائج التي تتنبأ بها؛ فالنظرية الاشتراكية تتنبأ بانهيار النظام الرأسمالي، أو على الأقل بتزعزع أركانه؛ نتيجة لحدوث تطوُّرات معيَّنة، تتخذ صبغة التناقض الحاد في داخله، والنظام الرأسمالي حريص على بقائه، ويدرك من جهةٍ أخرى أن تطوُّره لو سار في طريقه الطبيعي فسوف يؤدي إلى تحقيق التنبؤات التي تقول بها النظرية الاشتراكية، ومن هنا فإنه يعمل على تغيير مسار تطوُّره بطريقة مفتعلة حتى يحول دون تحقيق تنبؤاتها، مثل هذا التغيُّر هو بمعنًى معيَّن — أي بالمعنى السطحي الظاهري — تكذيبٌ للنظرية الاشتراكية، ولكنه بمعنًى آخرَ أعمقَ تأييدٌ وتأكيدٌ لها؛ إذ إنه لم ينبعث إلا عن مقاومة النظام الرأسمالي لها، وإدراكه لخطرها على كيانه، أي عن اعترافه الضمني بصحتها.

ومع ذلك فإن النظرية الاشتراكية إذا تمسَّكت بطابعها التقليدي، ولم تعمل على مواجهة الواقع الذي تعمَّد النظام الرأسمالي إحداث تغيُّرات مفتعلة فيه، فإنها تكون بذلك قد ساعدت — بطريقة غير مباشرة — على تحقيق أهداف خصومها، وبالتالي على هدم نفسها بنفسها، وبعبارة أخرى فإذا كان كلُّ تنبؤ يرتكز على واقعٍ معيَّن، وإذا كان النظام الرأسمالي قد تعمَّد تغيير الواقع الذي يعتمد عليه التنبؤ الاشتراكي، فإن من الخطأ التمسُّك بحَرفية هذا التنبؤ المبني على واقعٍ تم تجاوزه — حتى لو كان هذا التجاوز قد تم بطريقة مفتعلة — بل إن المسلك الصحيح في هذه الحالة هو التعديل المستمر للنظرية في ضوء الواقع الجديد.

وربما بَدَا للمرء أن هذه عمليةٌ لا نهاية لها؛ إذ إن هذا الواقع الجديد بدوره يمكن تغييرُه، وعندئذٍ يتعيَّن على النظرية أن تعدِّل نفسها من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية، ومن الجائز أن هذا صحيح، بل إن من الممكن أن يذهب المرء إلى حد القول إن نفس عملية وضع نظرية ترسم خطوطًا محددة للثورة الاشتراكية في المستقبل، يمكن أن تُعَدَّ بمعنًى معيَّن معوِّقًا لهذه الثورة ذاتها، من حيث إنها تنبِّه الخَصم إلى نقاطِ ضَعفه الداخلية وتدفعه إلى بذل جهوده من أجل تلافيها، والحيلولة دون تحقيق الظروف التي تَصدُق في ظلها النظرية، كل ذلك قد يكون ممكنًا، ولكنه لا يدعو إلى اليأس أو التوقُّف عن العمل والتفكير، بل إن كلَّ ما يدل عليه هو أن طريق الكفاح أمام الفكر الاشتراكي طويلٌ وشاقٌّ ومتعرِّج، وأن أصحاب النظريات التي تَرسم لهذا الكفاح مسارًا واحدًا يسير في خط مستقيم، غالبًا ما ينتهي بهم الأمر إلى واقعٍ يصدمهم ويكذِّب تنبؤاتهم.

وعلى الرغم من أن ضرورة إعادة النظر في أسس الفكر الاشتراكي تبدو أمرًا واضحًا لا يحتاج إلى تبرير، فإن الكثيرين ممن تتيح لهم تجارِبهم ويسمح لهم مستواهم الفكري، بممارسة نقد النظرية الاشتراكية، يحجمون عن ذلك النقد، أو لا يسيرون فيه إلى الحد الذي ينبغي عليهم أن يمضوا إليه، وبطبيعة الحال فإن أعداء النظرية لا يتردَّدون في توجيه شتَّى ألوان الانتقادات إليها، ولكنا لا نود أن نتحدَّث عن هذا النوع المغرض من النقد، بل إن موضوع اهتمامنا هو النقد النزيه المحايد، فضلًا عن النقد النابع من باطن الفكر الاشتراكي ذاته، مثل هذا النقد الأخير يعاني في عصرنا أزمةً ينبغي له أن يتغلب عليها، وربما أمكننا أن ندرك أسبابَ هذه الأزمة إذا اختبرنا الموقف الذي تتخذه كلُّ فئة من فئات المفكرين القادرين على النقد، إزاء أسس النظرية الاشتراكية.

فهناك فئةٌ من المفكرين تجعل للاتساق المنطقي أهميةً تعلو على كل الاعتبارات العملية، وهذه الفئة لا تتردَّد — حين تجد ما تتصور أنه تناقض في النظرية الاشتراكية — في الانحياز فكريًّا إلى المعسكر الآخر، بحيث إن خصومتها الفكرية البحتة تنتهي بها إلى اتخاذ موقف الدفاع عن الرأسمالية، هذه الفئة التي تبدأ في واقع الأمر بدايةً محايدةً لا تتحكم فيها اعتباراتُ المصلحة أو التحيُّز، تغفل في تفكيرها حقيقةً هامة لا ينبغي أن تغيب عن ذهن أي مفكر نزيه؛ هي أن الاشتراكية حتى لو بدت مفتقرةً إلى الاتساق المنطقي ومنطوية على بعض الصعوبات الفكرية، هي في الوقت ذاته ضرورةٌ عملية، وإن قيمتها العملية هذه ينبغي أن تدفعنا إلى بذل الجهد اللازم من أجل تخليصها من أية صعوبات نظرية تقع فيها، وإذن فموقف هذه الفئة من المفكرين سلبي ومفتقر في حقيقة الأمر إلى تلك النزاهة التي يدَّعيها أصحابها لأنفسهم، وحسبنا أن نذكر أن النظام المضاد — الذي ينتهون إلى الدفاع عنه — ينطوي على مزيد من التناقضات النظرية، فضلًا عن أضراره العملية والإنسانية الفادحة.

وهناك فئةٌ أخرى من المفكرين تدرك عن وعْيٍ هذه الحقيقة التي نبَّهْنا إليها في صدد الفئة السابقة، فتُوجِّه إلى الفكر الاشتراكي نقدًا نظريًّا، ولكنها تؤكد ضرورة التمسُّك بممارسته عمليًّا، هذه الفئة — وإن كانت أشد إخلاصًا من الفئة السابقة — تعاني نوعًا من «الفصام»؛ إذ إن موقفها النظري يسير في جانب وموقفها العملي يسير في جانبٍ آخر، مع أن التجانس بين النظر والعمل شرط لا بُدَّ من تحقيقه لكي يكتمل إيمان الإنسان بالهدف الذي يعمل من أجله؛ فالمفكرون المنتمون إلى هذه الفئة يتخذون إذنْ موقفًا لا يمكن الاستقرار عنده طويلًا، بل ينبغي تجاوزه.

وهناك فئة ثالثة تخشى أن يؤدي بها نقد الفكر الاشتراكي إلى النهاية التي انتهت إليها الفئة الأولى، أي الانحياز إلى الموقف المضاد، فتُحجِم عن النقد، لا خوفًا من أي عامل خارجي، بل حرصًا على البقاء في زمرة المفكرين التقدُّميين، هذه الفئة تؤمن بحتمية انتصار الاشتراكية في آخرِ الأمر، وتعلم أن السير في طريق الاشتراكية معناه مسايرة تيار التاريخ ذاته، ونظرًا إلى أنها لا تريد أن تقف في وجه حركة التاريخ، فإنها تمتنع عن الجهر بما تشعر به في قرارة نفسها من ضرورة مراجعة أسسٍ فكرية معيَّنة للنظرية الاشتراكية، وهذا الموقف بعيدٌ كلَّ البعد عن الانتهازية، بل إنه ناجم عن الإخلاص الشديد للمبدأ الاشتراكي ذاته، وعن الرغبة في عدم اتخاذ موقف النقد حتى لا يفيد منه الخَصم في المعركة الضارية التي يشنها على الحركة الاشتراكية، ومع ذلك فإن حركة التاريخ هذه لا تسير آليًّا، وعلى نحوٍ منفصل عن جهود الإنسان من أجل تحقيقها، بل إن سيرها في طريقها الصحيح يتوقف إلى حدٍّ بعيد على قدرتنا على تخليص القوة الدافعة للتاريخ — أعني المبدأ الاشتراكي — من كلِّ ما يمكن أن يبعث فيها أيَّ نوع من الوهن أو التردُّد، وإذن فموقف هذه الفئة بدورها يفتقر آخرَ الأمر إلى الحكمة وبُعد النظر.

كل هذه الفئات إذن تمثِّل اتجاهاتٍ في النقد الاشتراكي تفتقر إلى الاكتمال أو النضج بدرجات متفاوتة، والواجب أن يتسع الفكر الاشتراكي لكل نوع من النقد ما دام هذا النقد مخلصًا لا يصدر بدافع الاصطياد المتعمَّد للأخطاء، بل إن قوة الفكر الاشتراكي وحيويته — في هذه الفترة التي نمر بها من تاريخ العالم — تتوقَّفان على مدى قدرته على مراجعة ذاته، ومقارنة أسسه النظرية بطبيعة الواقع الذي أصبحت هذه الأسس تطبَّق عليه، وتعديل هذه الأسس على النحو الذي يقطع على الخصم طريق استغلال أي تناقض بين الفكر النظري والممارسة العملية.

•••

في ضوء هذا المبدأ العام — أعني الاعتراف بأن المراجعة المستمرة ضرورةٌ حيوية للفكر الاشتراكي، بل هي الموقف الذي يتمشَّى بالفعل مع أسس هذا الفكر — يصبح من واجب الكاتب ألا يتردَّد في الإدلاء برأيه فيما يرى أنه تعديلات لا بُدَّ من إدخالها على الفكر الاشتراكي حتى يكون أقدرَ على مواجهة الخصومة العنيدة للفكر الرأسمالي، وعلى أن يحقق إيجابيًّا رسالته الإنسانية الرفيعة.

ومن المحال أن يتسع مقالٌ كهذا — بطبيعة الحال — لأية مناقشة مفصلة لموضوعٍ على هذا القدْر من الخطورة، فضلًا عن أن هذه المسألة يمكن — بمعنًى معيَّن — أن تُعَدَّ المحور الذي يدور حوله كلُّ ما يصدر من دراسات عن الاشتراكية، ولن يستطيع المرء في مثل هذا الحيز أن يضع رءوسًا لمسائلَ تستحق أن تكون موضوعًا لتفكيرٍ أكثرَ تعمقًا وتفصيلًا؛ فالنقاط التي سنشير إليها في هذا المقال لا تعدو أن تكون طرحًا لأسئلةٍ تحفِّز على مزيد من التفكير، أما الإجابات ذاتها فإن الزمن والتجرِبة والممارسة هي الكفيلة بأن تضع لها أفضل صيغة ممكنة.

فكرة الصراع الطبقي

مفهوم الطبقة من المفاهيم الأساسية في التفكير الاشتراكي، والتقسيم الطبقي الثنائي التقليدي — أعني تقسيم المجتمع إلى مَن يملكون ومَن لا يملكون أو المستغلين والمضطهدين — هو واحد من الأسس الكبرى التي يقوم عليها التفسير الاشتراكي لتطور العلاقات الاجتماعية، ولقد كان الفهْم التقليدي للطبقات، في النظرية الاشتراكية، فهْمًا مبسطًا إلى حدٍّ ما، يرتكز على وجود ثنائية تتخذ أشكالًا متباينة في مختلف فترات التطوُّر الاقتصادي، ويقوم بين طرفيها تناقضٌ حادٌّ هو الذي يحرِّك التاريخ، وآخرُ أشكال هذه الثنائية في العصر الرأسمالي هو التضاد بين الطبقة البورجوازية والبروليتاريا أو الطبقة العاملة، وعلى أساس الصراع بين هاتين الطبقتين في عصرنا هذا تُحدَّد نتيجة الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.

ولقد ظهر بوضوح — منذ تجرِبة الثورة الاشتراكية الرائدة في روسيا — أن مفهوم الطبقة هذا يحتاج إلى بعض التعديل؛ إذ إن الثورة ظهرت في بلدٍ لا يمثل العمال فيه نسبة غالبة أو قوة ضاغطة تستطيع بمفردها أن تحمل على أكتافها عبء الثورة، وكان اشتراك العمال والفلاحين في الثورة الروسية مؤديًا إلى إدخال تعديل على مفهوم الطبقة، وعلى طبيعة الصراع الطبقي في العصر الحديث، وسُمِّيَت هذه «المراجعة» المبكِّرة باسم «النظرية اللينينية» التي أصبحت عنصرًا جديدًا مضافًا إلى النظرية الاشتراكية، وإن كان نجاحها على المستوى العملي، واندماجها في التيار الرئيسي للفكر الاشتراكي، قد حال دون النظر إليها على أنها «مراجعة» بالمعنى السيئ لهذه الكلمة.

على أن التطوُّرات الأخيرة للتجربة الاشتراكية في مختلف أنحاء العالم قد أَضْفَت على مفهوم الطبقة تعقيدًا هائلًا، بحيث أصبحت الثنائية التقليدية مجرد إطار خارجي عام، توجد في داخله اتجاهاتٌ متشابكة ومعقدة يتحتم على الفكر الاشتراكي أن يواجهها ويعمل لها حسابًا إذا شاء أن يحتفظ بقدرته على فهْم حركة المجتمع الإنساني والتحكم فيها.

فالفكر الاشتراكي التقليدي يرتكز إلى حدٍّ بعيد على فكرة وحدة الطبقة العاملة في مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك فإن هذه الوحدة بعيدةٌ كلَّ البُعد عن التحقق في وقتنا الحالي؛ ذلك لأن الفارق بين مستوى الطبقة العاملة في البلاد الغنية، ونظيرتها في البلاد الفقيرة، يبلغ من الضخامة حدًّا يحول دون تصور أية وحدة في المصالح بينها، ويجعل من الضروري إعادةَ النظر في الدعوة إلى اتحاد «عمال العالم» من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية.

ففي البلاد الرأسمالية الكبرى، أصبح العمال في مجموعهم على مستوًى شبه بورجوازي، بحيث غَدَا من الصعب التأثيرُ فيهم عن طريق الإشارة إلى حالة الفقر التي تزداد سوءًا في ظل النظام الرأسمالي، ومن الواجب أن ننبِّه — كما قلنا من قبل — إلى أن هذا الارتفاع في مستوى معيشتهم ليس ناجمًا عن تطوُّر داخلي في النظام الرأسمالي نفسه، أو عن ميزةٍ يتسم بها هذا النظام وتؤدي به إلى رفع مستوى العمال في داخله، بل إنه في واقع الأمر محاولةٌ دفاعية من النظام الرأسمالي لحماية نفسه، وبالتالي فهو نتيجة غير مباشرة للدعوة الاشتراكية ذاتها، ومن ذلك فإن الأمر الواقع — الذي ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يواجهه — هو أنه لم يَعُد من الممكن مخاطبةُ العامل في الدول الرأسمالية المتقدِّمة عن طريق تنبيهه إلى حالة البؤس التي يعيش فيها، وبعبارة أخرى فإن شعار «أيها العمال، ليس لديكم ما تفقدونه إلا أغلالكم» لا يمكن أن يكون قوةً محرِّكة للعامل الأمريكي أو الألماني الغربي مثلًا؛ إذ إن لديه — إلى جانب أغلاله — الكثير مما يخشى أن يفقده، ولا بُدَّ للفكر الاشتراكي من أن يبحث عن وسيلةٍ أخرى لمخاطبة مثل هذا العامل.

ومن جهة أخرى، ففي البلاد المتخلفة يمكن أن يؤدي الفقر الشديد وانتشار الجهل والانحلال العام الذي يولِّده تراكمُ البؤس جيلًا بعد جيل، إلى ضياع قدْر كبير من صلابة الطبقة العاملة وإصرارها على الكفاح، بحيث يسهل وقوع العمال أو وقوع الأقلية المتزعمة لهم فريسةً للإغراءات والمساومات، وتصبح الطبقة العاملة في عمومها قوةً أقربَ إلى السلبية، يَسهُل التسلُّط عليها وتوجيهها في اتجاهاتٍ تتعارض مع مصالحها الحقيقية، وفي هذه الحالة قد يكون من المفيد التفكير في إعطاء دَورٍ أكبرَ للقوى المثقفة، التي يمكن أن يؤدي وعيُها وفهمها العام للأمور إلى إكسابها مزيدًا من الصلابة في الكفاح من أجل تحقيق الاشتراكية.

وعلى أية حال، ففي عالم اليوم من التغيُّرات ما يجعل من الضروري على المفكرين الاشتراكيين أن يُعيدوا النظر في فكرة التعارض الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا، وفي الشعارات التي تَجعل من هذه الطبقةِ الأخيرةِ القوةَ التقدُّمية الوحيدة التي يمكنها أن تحمل لواء الدعوة الاشتراكية، وليس معنى ذلك أن هذه الشعارات باطلة، بل معناه أن الواقع الحالي — في تعقُّده الشديد — يحتاج إلى مراجعة وتعديل لهذه الأفكار التي ظهرت في ظل واقعٍ أبسطَ بكثير.

ولقد أدَّى التفاوت الشديد بين مستوى الطبقات العاملة في البلدان المختلفة إلى جعْل الفوارق القومية — في بعض الأحيان — أشدَّ تأثيرًا من الفوارق الطبقية؛ فالدول نفسها أصبحت تكوِّن طبقاتٍ فيما بينها، وهناك دولٌ «رأسمالية» حتى بطبقاتها العاملة ودول أخرى «بروليتارية» حتى بطبقاتها البورجوازية، ويؤدي التباينُ الهائل في المستوى العلمي والتكنولوجي بين هذه الدول إلى مزيدٍ من التعقيد في معنى الصراع الطبقي؛ إذ إن طبيعة هذا الصراع وأهدافه لا بُدَّ أن تختلف في حالة الدول المتخلفة، بل إن من الواجب — حتى في الدول الاشتراكية ذاتها — أن تكون أساليبُ التطبيق في دولةٍ متقدمة ثقافيًّا وتكنولوجيًّا — مثل تشيكوسلوفاكيا — مختلفة إلى حدٍّ بعيد عن أساليب التطبيق في دولةٍ مثل بلغاريا، ومثلُ هذه المرونة في تطبيق المبدأ الاشتراكي ذاته كان يمكن أن تؤدي إلى الحيلولة دون وقوع كثير من المصاعب التي تتردد على الأسماع في هذه الأيام.

مشكلة السياسيين والخبراء

ومن المشكلات الهامة التي تستحق التفكير والمراجعة، مشكلةُ العلاقة بين الجهاز السياسي والجهاز الفني أو جهاز الخبراء في النظم الاشتراكية، فحتى الآن كان الاتجاه السائد هو أن تكون للجهاز السياسي السلطة العليا الموجهة، ولجهاز الخبراء سلطةُ التنفيذ في الحدود التي يَرسُمها الجهاز الأول، ولا جدال في أن الدوافع التي أَمْلَت هذا الوضع — في البداية — كانت تغليب المصلحة العليا للأهداف الاشتراكية العامة على أي اعتبارٍ آخر، ولكن الخبرة الطويلة في تطبيق هذا النظام كشفت — في حالات غير قليلة — عن صعوباتٍ لم يكن من الممكن التنبُّه إليها في المرحلة الأولى من مراحل التطبيق، وهي مرحلة تتسم عادة بقدْرٍ غير قليل من المثالية؛ ففي كثير من الأحيان أدَّى إعطاء السلطات الرئيسية للجهاز السياسي إلى تجاهلٍ أو إهمالٍ لآراء الخبراء، وإلى تهاونٍ من جانب هؤلاء الأخيرين، حين يجدون أن خبراتهم لا تجد لنفسها مجالًا تمارس فاعليتها فيه، ومن جهةٍ أخرى تحوَّل الجهاز السياسي في بعض الأحوال إلى فئةٍ محترفة تستهدف المحافظة على مصالحها الخاصة، وتضع هذه الغاية فوق أي اعتبارٍ آخر، ومثل هذا التحوُّل يمكن أن يُلْحِقَ ضررًا كبيرًا بالمرافق التي تحتاج إدارتُها إلى خبرة وكفاءة فنية، فضلًا عن أنه يهبِط بمستوى العمل السياسي ويشوِّه صورته في أعين الناس.

فأمام الفكر الاشتراكي إذن مهمةٌ حيوية، هي أن يعيد النظر في العلاقة بين سلطة الأجهزة السياسية وسلطة أجهزة الخبراء، ويعيد تخطيط الحدود بينهما في ضوء الخبرة المكتسبة من تجارِبِ دولٍ عديدة، واضعًا نُصْب عينيه أن التعارض القديم بين هذين الطرفين قد بُولغ فيه، وأن هذه المبالغة ألحقت في بعض الأحيان أضرارًا فادحة بالأهداف الحقيقية للعمل السياسي والإنتاج الاجتماعي في آنٍ واحد.

التنمية والإنسان

ولقد اكتسب الفكر الاشتراكي — ولا سيما في الآونة الأخيرة — من التجارِبِ ما يسمح له بأن يعيد النظر في مشكلةٍ أساسية من المشكلات التي تواجهه، ألا وهي العلاقة بين هدف التنمية الاقتصادية وبين القيم الإنسانية بوجه عام؛ ذلك لأن الفكرة الاشتراكية ظهرت أصلًا من أجل تحقيق أهدافٍ إنسانية رفيعة، والقوة الدافعة لكبار الاشتراكيين كانت ردَّ اعتبارِ الإنسان من بعد أن حالت عواملُ الظلم والاستغلال طويلًا بينه وبين تحقيق إمكانياته بحريَّة، وبعبارةٍ أخرى فالفكر الاشتراكي يتميز منذ عهوده الأولى بنزعة إنسانية واضحة كلَّ الوضوح، ومع ذلك فإن من أكبرِ الانتقادات التي يوجِّهها خصومُ هذا الفكر إليه في هذه الأيام — والتي يجيد هؤلاء الخصوم استغلالها ويجنون منها فائدةً كبرى — تجاهلُه للإنسان، فكيف استطاع أعداء الاشتراكية أن يوجهوا إليها نقدًا كهذا؟

من الأمور المسلَّم بها أن عملية بناء الاشتراكية قد اقترنت — في بعض الدول — بنوعٍ من الضغط القاسي الذي يصعب على الإنسان أن يتحمله، وإذا كانت الغاية في هذه الحالة سليمة، فإن الوسيلة يمكن أن تُلْحِقَ بالغاية أفدحَ الضرر؛ ذلك لأن هذا الضغط الزائد على قوة تحمُّل الإنسان يفترض في أفراد المجتمع نوعًا من الغيرية، والتضحية في سبيل الأجيال التالية، لا يستطيع كلُّ الناس اكتسابَه في ظل القيم التي ظلت البشرية تعيش عليها حتى اليوم، وما زال من الحقائق المؤكدة حتى اليوم أن لدى كل إنسان ميلًا إلى أن يشاهد في حياتَه جزءًا على الأقل من ثمار الجهود التي أفنى عمره في بذلها، ويتمتع بها معنويًّا وماديًّا، وقد عرف مفكرو النظام الرأسمالي كيف يستغلون نقطة الضَّعف هذه، وربما كان جزء كبير من الاضطراب الذي تعانيه بعض التجارِب الاشتراكية راجعًا إلى هذه المسألة بالذات.

ومن جهة أخرى، فإن هذا الضغط الزائد على طاقات الإنسان، وكذلك الحاجة إلى توجيه المجتمع حسب خطة مرسومة مقدمًا، أثار تعارضًا آخرَ مع النزعة الإنسانية، يتمثل في تقييد بعض الحريات الأساسية، والحق أن المفكر النزيه لا يملِك إلا أن يشعر بالحيرة حين يجد بعض النظم الاشتراكية تعطي الرأسماليين المستغلين كل الفرص التي تتيح لهم أن يعلنوا من أنفسهم حماةً لحرية التفكير والتعبير وغيرها من الحقوق التي كافح الإنسان من أجلها قرونًا عديدة. وأقول إن هذا الأمر محيرٌ للمفكر النزيه؛ لأن مثل هذا المفكِّر يعلم حقَّ العلم مدى زيف الحرية المزعومة في المجتمعات الرأسمالية، ومدى الخبث والدهاء اللذين يشكِّل بهما النظام الرأسمالي اتجاهاتِ الرأي العام في بلاده من خلال كافة أجهزة الإعلام، التي هي في الوقت ذاته مرافقُ ذات مصالح رأسمالية معروفة، هذه حقيقة واضحة، ومع ذلك فإن كل شيء يبدو — على السطح — كما لو كان يسير تلقائيًّا بحريَّة تامة، أما في تلك التجارِب الاشتراكية التي نتحدث عنها، فإن الاعتراف بتقييد الحرية علنيٌّ صريح، مما يعطي الخصوم فرصةً — هم أبعدُ الناس عن استحقاقها — لكي ينادوا بأنهم هم وحدَهم الحريصون على حرية الإنسان.

فهل كُتِبَ على الفكر الاشتراكي أن يقف عاجزًا إزاء مشكلة الحريات التي يسميها — على نحوٍ غيرِ مقنع تمامًا — باسم الحريات الليبرالية، ويجعل منها جزءًا من تكوين النظام الرأسمالي وحدَه، ويعطي بذلك للخصوم سلاحًا لا يحلمون به؟ هل سيظل هذا الفكر يحكم على نفسه بالابتعاد عن النزعة الإنسانية التي كانت هي مصدر قوَّته الأولى؟ وإلى متى سيظل يسمح لأعداء الإنسان باتهام الاشتراكية بأنها لا تعيش إلا داخل جدرانٍ أُغْلِقَت نوافذُها وأُوصِدَت أبوابُها بإحكام؟ أليس التفكير في وسيلةٍ للخلاص من هذا المأزق أقدسَ رسالة ينبغي أن يكرِّس لها مفكرو الاشتراكية جهودهم في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ نضالهم؟

إن من الأمور المسلَّم بها أن أيدي خصوم الاشتراكية تتدخل بكلِّ ما تملك من قوة لكي تثير الصعوبات أمام أي نظام اشتراكي تستطيع أن تمارس مؤامراتها عليه، ولكن هناك حقيقة ينبغي على الفكر الاشتراكي أن يعترف بها ويواجهها صراحة، وهي أن هذا التآمر وهذا التخريب إنما يستغل أخطاء موجودة بالفعل، وبقدْرِ ما يجد التآمر صدًى في نفوس الجموع الكبيرة من الناس — حتى أصحاب المصلحة الحقيقية في بقاء النظام الاشتراكي منهم — تكون هذه الأخطاء أفدحَ وأخطر، وفي مثل هذه الأحوال لا ينبغي أن تقتصر مهمة الفكر الاشتراكي على التنديد بتآمر الخصم وتخريبه، بل ينبغي عليه أن يبحث بصدق وأمانة وصراحة في أصل العيوب ونقاط الضعف التي استطاع التآمر أن يستغلها، والتي لولاها لما استطاع أن يجد لنفسه منفذًا، وكلما كان الفكر الاشتراكي أسرع إلى كشف أخطائه الداخلية ومعالجتها قبل أن تستفحل، كان ذلك خيرًا ألف مرة من الانتظار حتى يفلت الزمام، ومعالجة الداء في آخر لحظة بطريق البتر.

سياسة التعايش السلمي

وأخيرًا فلعل من أهم المسائل التي تشكِّل تحديًا جبارًا أمام الفكر الاشتراكي في أيامنا هذه بالذات، مسألة حدود سياسة التعايش السلمي، وأوضح دليل على خطورة هذه المسألة أن الآراء منقسمة حولها داخل المعسكر الاشتراكي إلى ما يزيد عن أربعة اتجاهات يمكن تمييزها بوضوح، والإشكال الذي يواجهه مبدأ التعايش ذاته والذي يحتم بالتالي إعادة تقدير حدود هذا المبدأ ومدى إمكان استمرار تطبيقه، هو أن فكرة التعايش — التي كان المقصود منها في الأصل تقليم أظافر المعسكر الرأسمالي — بإشاعة جوٍّ سلميٍّ يتنافى مع مصالح الرأسمالية التي لا تزدهر إلا في جوٍّ يسوده التوتر والعدوان، هذه الفكرة قد تحوَّلت في السنوات الأخيرة إلى أداةٍ تخدم المعسكر الرأسمالي.

ولسنا نرى ما يدعو إلى تقديم أي شرح مفصَّل للطريقة التي استطاع بها المفكرون المدافعون عن الرأسمالية أن يقلبوا مبدأ التعايش من أداةٍ لتوريط نظامهم إلى أداة لخدمة مصالحهم، تُسبِّب لأصحاب هذا المبدأ وواضعيه أنفسهم حرجًا شديدًا، لكن يكفينا أن نشير إلى أنهم — مع احتفاظهم بنوعٍ من التعايش السلمي على مستوى الدول الكبرى — ينتهزون كل الفرص لخرق هذا التعايش على كل المستويات الأخرى، أعني لإيجاد حالة من التوتر المستمر، تهدِّد بقيام حرب شاملة وإن لم تكن تؤدي إليها بالفعل، هذا التوتر يعطي القوى العدوانية حرية العمل، ويشل في الوقت ذاته حركة القوى ذات المصلحة في السلام؛ لأن تدخلها لا بُدَّ أن يزيد من التوتر إلى الحد الذي يهدد السلام العالمي تهديدًا فعليًّا، ومن هنا كانت حرية الحركة الواضحة التي اتسمت بها سياسة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي استطاعت بفضلها أن تُلْحِقَ بالمعسكر الاشتراكي وبمعسكر الحياد الإيجابي نكساتٍ على جبهات متعدِّدة.

هناك إذن حاجةٌ مُلِحَّة إلى إعادة تقويم سياسة التعايش السلمي واختبارها في ضوء التجارِب الأخيرة، لا سيما وأن هناك ثورةً على هذه السياسة داخل المعسكر الاشتراكي نفسه، ولكن مما يزيد المسألة تعقيدًا أن اتِّباع هذه السياسة يبدو أمرًا لا مفر منه ما دام المعسكر الرأسمالي — وعلى رأسه الولايات المتحدة — لا يزال هو المتفوق اقتصاديًّا وعسكريًّا؛ فالمواجهة المباشرة مستحيلة ما دام الخصم سيلجأ فيها — إذا وجد نفسه في مأزق شديد — إلى استخدام كلِّ ما يملك من قوة، وعلى هذا الأساس يبدو المعسكر الاشتراكي مضطرًّا إلى الأخذ بشكلٍ من أشكال سياسة التعايش السلمي، إلى أن ينقلب الميزان الاقتصادي لصالحه، وبعبارة أخرى فهناك نوع من المهادنة السياسية والعسكرية، يجري خلالها العمل على أشدِّه من أجل تعويض النقص وسد الفراغ في الميدان الاقتصادي، وبهذا المعنى يبدو التعايش السلمي مرحلةً مؤقتة تمنح المعسكر الاشتراكي مهلة يستطيع خلالها أن يَلحق بالمعسكر الرأسمالي ثم يسبقه في الميدان الحقيقي الذي سيقرر نتيجة المعركة، وهو ميدان الإنتاج الاقتصادي، فإذا ما تحقق له هذا السبق؛ أمكن أن تُحَلَّ كل المشكلات الأخرى دون عناء.

ولكن هذا التصوير للموقف يكشف لنا عن تعقيدات هائلة في الصراع الراهن بين المعسكرين؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي يدرك بدوره هذه الحقيقة، ويعمل كلَّ ما في وُسعه للحيلولة دون تحقُّق الظروف التي قد تساعد الخصم على التفوُّق عليه، وليس التوتر الذي يَخلقه والحروب الصغيرة والمتوسطة التي لا يَكفُّ عن إثارتها سوى محاولات لزيادة عبء التسلُّح على العالم الاشتراكي والعالم الثالث، أي على المعسكر صاحب المصلحة في السلام، ومن الواضح أن التفوُّق الاقتصادي الراهن للمعسكر الرأسمالي يسمح له بتحمُّل أعباء التسلح والرفاهية الاجتماعية في آنٍ واحد، على حين أن هذه الأعباء تَحُدُّ من قدرة المعسكر الاشتراكي على تحقيق الرفاهية، فضلًا عن أنها تؤخِّر عملية لحاقه بالعالم الرأسمالي في الميدان الاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن التعايش السلمي في ظل التوتر الراهن لا يحقق الغرض المقصود منه، وهو أن يعطي المعسكر الاشتراكي فسحة من الوقت يستطيع خلالها أن ينال بالتدريج قَصَبَ السبق في البناء الاقتصادي.

ومن جهة أخرى فإذا حاول النظام الاشتراكي أن يضاعف من جهده حتى يستطيع تحمُّل أعباء التسلح والنمو الاقتصادي معًا، فإنه سيصطدم حتمًا بذلك العامل الإنساني الذي أشرنا إليه من قبل، وسيضطر إلى اتخاذ مزيد من تدابيرِ الضغط المادي والمعنوي، وهذا وحدَه عامل من عوامل تأخير التفوق المنشود.

إنها إذن صورةٌ معقَّدة غايةَ التعقيد، وهي نوع من المعادلة الصعبة ذات الحدود المتعدِّدة، وفي اعتقادي أن الفكر الاشتراكي يستطيع أن يجد لنفسه مخرجًا من هذا المأزق لو واجهه في تعقُّده وتشابُكه مواجهةً صريحة، وتلك على أية حال من التحديات الكبرى التي تقابل هذا الفكر في المرحلة الراهنة من تاريخه.

•••

إن مراجعة الفكر الاشتراكي لنفسه في ضوء التطوُّرات الأخيرة ضرورةٌ لا مفر منها، بل هي المعيار الحقيقي الذي يكشف عن مدى إخلاص هذا الفكر لأهدافه، أما التمسُّك الحرفي بالنظريات التقليدية دون محاولةٍ لتجديدها تمشيًا مع ظروفِ عالمٍ سريعِ التغيُّر، فلا يؤدي إلا إلى تشويهٍ للفكر الاشتراكي، وللتجربة الاشتراكية ذاتها، وفي اعتقادي أن تحقيق تجرِبة اشتراكية مشوَّهة أشدُّ ضررًا حتى من العجز عن تحقيق أي نوع من التجرِبة الاشتراكية؛ ذلك لأن من السهل أن يخلط الناس بين الصورة المشوهة وبين مبدأ الاشتراكية ذاته، فيكون في ذلك ما يعوق ظهور أي تطبيق صحيح لهذا المبدأ في المستقبل.

إن طريق الاشتراكية هو طريق التاريخ، ولكن التاريخ لا يصنع نفسه بنفسه، ولا يكشف عن مساره إلا لأولئك الذين يحسنون التفكير فيه، ويتبينون اتجاهه من خلال ذلك الضباب الكثيف من التعقيدات التي تخفي معالمه، ولن يكون في وُسع أي مفكر أن يساير حركة التاريخ لو سار معها رَدَحًا من الزمن ثم تصوَّر أنه اهتدى إلى الطريق، وظل سائرًا بعد ذلك في خط مستقيم لا يلتفت يمنة ولا يسرة. كلَّا، إن أعين العقل ينبغي أن تظل مفتوحة على الدوام، ومسار التاريخ في هذا العالم المعقد الذي نعيش فيه شديد التعرج والالتواء، واتجاهه يزداد تعقيدًا كلما بَدَا لنا أننا نقترب من الهدف، ولا بديل لكل مفكر تقدُّمي من أن يبذل كلَّ ما أُوتي من قوة لكي يحلل الواقع المعقد الذي نعيش فيه، ويتجاوز في تحليله هذا مرحلةَ الحلول السهلة والإجابات السريعة والتفسيرات المُعَدَّة سلفًا.

في هذا الطريق الشاق الطويل الذي ينبغي سلوكه من أجل تحقيق الاشتراكية، لن يكون في وُسع أحد أن يدَّعي أنه توصَّل وحدَه إلى كل الإجابات عما يعترضه من المشكلات، ولكن حسْب الفكر أن يثير التساؤلات وينبِّه إلى خطورة العقبات، أما الاهتداء إلى الإجابات الصحيحة، والسعي العملي من أجل تحقيقها، فتلك مهمةُ أجيال إنسانية كاملة.

١  الفكر المعاصر، العدد ٤٤، نوفمبر ١٩٦٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤