لمن يغني الشاعر بشعره

ألنفسه أم لغيره؟

مادة الشعر كلمات، والكلمات في نشأتها الأولى رموزٌ تواضع عليها أبناءُ الجماعة الواحدة لترمز إلى شيء سواها، حتى ليستطيع المتكلم أن يُنيبَ كلمة عن مسمَّاها؛ فإذا أراد أن يحدِّث سامعه عن «شجرة»، لم تكن به ضرورة أن يذهبَا معًا إلى حيث يريان شجرة ماثلة أمام بصريهما، بل تكفيه الكلمة بديلًا عن مسماها. ومعنى ذلك ألا تكون كلمات اللغة مقصودة لذاتها؛ إذ هي وسيلة إلى ما عداها، ومن ثَم كانت اللغة في نشأتها الأولى أداةً اجتماعية بالضرورة، فما خُلقت إلا لأن أكثر من شخص واحد قد اجتمعوا على أهداف مشتركة؛ فمنهم المتكلم ومنهم السامع، ولو نشأ إنسان واحد بمفرده في جزيرة معزولة لما تكلَّم.

لكن هذه الأداة اللغوية سرعان ما تحوَّلت عن طبيعتها تلك الأولى إلى طبيعة ثانية، فأصبحت لها طبيعتان، ولمن يستخدمها من الناس حقُّ اختيار إحدى الطبيعتين وفق الغاية التي يريد تحقيقها. فأما هذه الطبيعة الثانية، فهي أن نقف عند حدِّ الأداة اللغوية ذاتها، لا ننفذ منها إلى شيء وراءها، فليست هي في هذه الحالة مستخدمة لتنوب عن أشياء أخرى سواها، بل هي عندئذٍ تُطلَب لذاتها. أرأيت طفلًا يهمُّ بفتح باب مغلق، فيُدير مقبضه، فتُعجبه حركةُ المقبض في يده، فيتحول عن غايته الأولى إلى غاية ثانية، لا يكون فيها المقبض وسيلة إلى ما عداه، بل يُطلب لذاته وللنشوة المتولدة عنه، فهكذا اللغة؛ فإمَّا استخدمتَها لما خُلقت له أول الأمر، وهو أن تُشير إلى أشياء وتنوب عن أشياء، وإما استخدمتَها غايةً في ذاتها يمتعك سماعُها بغض النظر عن دلالاتها الخارجية.

والشعر هو هذه الحالة الثانية؛ فلئن كانت مادة الشعر كلمات، إلا أنها كلمات نُسِّقت على نحوٍ يمتع السمع لما فيه من صفات ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هي واقعة فعلًا في دنيانا التي نعيش فيها، فإذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابقٌ، فهو تطابق غير مباشر، وليس هو كالتطابق الذي يكون بين اللغة والأشياء في أحاديث التفاهم التي نألفها في حياتنا اليومية الجارية، فإذا قال المتنبي عن نهاره:

فإن نهاري ليلةٌ مُدلهمَّة
على مقلة من فقدكم في غياهب

فلا ينصرف قوله إلى المعاني مباشرة التي تُراد بالألفاظ في أحاديثنا الجارية، وإلا فنهاره — من حيث الواقع الماثل أمام الأبصار — ليس ليلة، بل هو نهار، ومقلته ليست في غياهب بل هي مقلة مغمورة في ضوء الشمس. إذن فما الذي أظلم واسودَّ أمام عينيه؟ إنه ليس العالم الخارجي الواقع، بل هو نفسه الداخلية التي إن ضاقت رحابُها واحلولكت جنباتُها، فهو وحده الذي يحسُّ بهذا الضيق، وهو وحده الذي يُدرك تلك الغياهب المعتمة فيها.

هكذا تحوَّلت مهمة الألفاظ من جانبين، فلا هي مستخدمة هنا كما أريد لها عند نشأتها الأولى، وهي أن تكون رموزًا مشيرة إلى أشياء، بحيث يكون بين الطرفين تطابقٌ تام، ولا هي مستخدمة ليسمعها سامع غير المتكلم نفسه، أو هكذا حالها في ظاهر الأمر، اللهم إلا إذا أظهر لنا التحليلُ شيئًا آخر، كما سنبيِّن بعد قليل.

قلتُها ألف مرة وسأقولها ألف مرة أخرى، لا أملُّ التكرار، ولا ألتمس من القارئ المعذرة عنه، وهي أن واحدية الكلمة الواحدة كثيرًا ما تخدع من لا يكون على حذر، فيظن أن واحدية الكلمة تستتبع بالضرورة واحدية الشيء المشار إليه بتلك الكلمة؛ فإذا قلنا كلمة «شعر» — وهي كلمة واحدة — فلا بد أن تكون هنالك حقيقة واحدة عن الشعر، فنأخذ في البحث عنها، والصواب هو أن الكلمة تنضوي تحتها أسرة بأكملها، إن كان بين أفرادها شبهٌ يُبرر انضواءها تحت تلك الكلمة الواحدة، فكذلك بين أفرادها من أوجه الخلاف ما يحتم علينا أن نميِّز بينها فردًا من فرد، إذا أردنا لأنفسنا دقة في التفكير.

والأسرة الكبيرة التي نُطلق عليها كلمة «شعر» هي أسرة أفرادها القصائد التي قالها الشعراء، والقصيدة الواحدة إن كانت لها أخت توءم تُطابقها كلَّ المطابقة، فقدتْ مميزًا من أهم مميزات الشعر — بل مميزات الفن على اختلاف أنواعه — وهو التفرد الذي لا يقبل التكرار، لا في ماضٍ ولا في حاضر ولا مستقبل، وإذن فتباينُ أفراد الأسرة هنا أمر محتوم، وليس هو بالعرض الذي قد يحدث أو لا يحدث دون أن يتأثر الموقف بحدوثه.

فإذا ألقينا على أنفسنا السؤال الذي جعلناه عنوانًا لهذا المقال: لمن يتغنَّى الشاعر بشعره؟ كان لزامًا علينا أن نستدرك مُسرعين: أي شاعر تريد، وبأية قصيدة من قصائده؟ إذ لا يكفي أن نحدد الخصيصة الأساسية للكلام حين يكون شعرًا، بأن نقول إنه الكلام الذي لا يُراد به الإشارة إلى الواقع كما يقع، أقول إن ذلك لا يكفي، بل لا بد لنا أن نُضيف إليه أوجه التباين التي تجيء على ذلك الأساس المشترك، كما يتفرع من الجذع الواحد فروع ليس أحدها شبيهَ أخيه في كل شيء.

فإذا نحن وجَّهنا بصرنا إلى «أفراد الأسرة» — أعني قصائد الشعر — لكي نُجيب عن سؤالنا، ألفيناها تقدِّم لنا إجاباتٍ ثلاثًا على الأقل.

فهنالك القصيدة التي يتحدث بها الشاعر إلى نفسه، كأنها النجوى، وهنالك القصيدة التي يتوجه بها الشاعر إلى سامع أو إلى سامعين، ثم هنالك الشعر الذي يكون فيه الشاعر لا متكلمًا ولا سامعًا؛ إذ يخلق من عنده متكلمًا وسامعًا، كما يحدث في الشعر المسرحي حين يدور الحوار فيه بين شخصين ليس الشاعر نفسه أحدهما.

هذه حالات ثلاث، الثانية والثالثة منهما ليستَا محلَّ اختلاف في الرأي؛ لأنهما بحكم الفرض حالتان مقصودٌ بهما آذان تسمع؛ فالشعر المسرحي لا تتحقق طبيعتُه إلا بافتراض جمهور يشهد مسرحًا فيسمع ما يقوله الممثلون في حوارهم، وكذلك الشعر غير المسرحي الذي يتوجه به الشاعر متعمدًا إلى سامع؛ كشعر المدح، وشعر الهجاء، وكالشعر الذي ينشده صاحبه ليستنهض به شعورَ سامعيه، وهكذا. وأحسب أن هذا الضرب من ضروب الشعر يحتوي على الكثرة الغالبة من الشعر العربي قديمه وحديثه، وليس بنا حاجة إلى ضرب الأمثلة، فافتح ما شئت من ديوان، تجد — في الأعم الأغلب — شاعرًا يخاطب خليفةً أو يوجِّه الخطاب لقومه أو لأعداء قومه.

وإنما الذي يحتاج إلى تحليل هو الشعر الذي يبدو وكأنما صاحبه يخاطب به نفسه، فعندئذٍ يحقُّ لنا التساؤل لمن يتغنَّى الشاعر بمثل هذا الشعر؟ أيتغنَّى به لنفسه حقًّا كما يبدو في ظاهر أمره؟

وأول ما يردُ على الذهن من هذا القبيل شعرٌ يتغزَّل به الشاعر في حبيبته؛ فقد يظن للوهلة الأولى أنه شعر غنائي بأدق معنًى لهذه الكلمة. والمعنى الدقيق للشعر الغنائي هو أن يكون أمره مقصورًا على خواطر الشاعر ومشاعره من حيث هو فرد واحد بذاته. لكن أليس يتضمن الغزل طرفًا آخر غير الشاعر المتغزل؟ ثم أليس يتوجَّه الشاعر في هذه الحالة — نظريًّا على الأقل — إلى حبيبته التي يتغزل فيها، متمنِّيًا أن تقرأ هذا الشعر الذي قاله فيها أو أن تسمعه؟ أكان عمر بن أبي ربيعة يخاطب الهواء وهو ينشد:

ليت هندًا أنجزتنا ما تَعدْ
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدَّتْ مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
ولقد قالت لجارات لها
ذات يوم وتعرَّتْ تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
— عمركن الله — أم لا يقتصد؟
فتضاحكن وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
حسدًا حُمِّلنه من أجلها
وقديمًا كان في الناس الحسد

كلَّا، بل هو يوجِّه خطابه صريحًا إلى هند. هذا إلى أن الشاعر المتغزل في حبيبة بعينها، حين ينشر شعرَه في الناس، فإنما يقدم شعره لغة يتخاطب بها سائرُ المحبين ممن يريدون أن يقولوا ما قاله هو في حبيبته، لكنَّ مواهبهم لا تُسعفهم، فيستخدموا موهبته للتعبير عن ذوات أنفسهم.

وإذن فلنترك شعر الغزل، لنتناول لونًا آخر لا نجد فيه إلا الشاعر برأسه، فلا حبيبَ يتودد إليه، ولا عدوَّ يهجوه، إنما هنالك فؤاد مفرد ينفس عن مكنونه، ولنضرب لذلك مثلًا قصيدة «نفثة» للعقاد:

ظمآنُ ظمآن لا صوبُ الغمام ولا
عذبُ المدام ولا الأنداءُ ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا
معالم الأرض في الغَمَّاء تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا
نيني، ولا سحر السُّمَّار يُلهيني
غصَّانُ غصَّان لا الأوجاع تبليني
ولا الكوارث والأشجان تبكيني

•••

أسوانُ أسوان لا طبُّ الأساة ولا
سحر الرُّقاة من اللأواء يشفيني
سأمانُ سأمان لا صفو الحياة ولا
عجائب القَدَر المكنون تعنيني
أُصاحبُ الدهر لا قلبٌ فيسعدني
على الزمان، ولا خِلٌّ فيأسوني
يديك فامحُ ضنًى يا موت في كبدي
فلستَ تمحوه إلا حين تمحوني

هذا الشاعر ظمآن لا يرويه شيءٌ، حيران لا يهديه شيء، يقظان لا يلهيه شيء، غصان لا يُبكيه شيء، أسوان لا يشفيه شيء، سأمان لا يعينه شيء، وهو في حالته هذه وحيد ليس إلى جانبه قلب يسعده ولا صديق يواسيه، فلم يبقَ أمامه من سبيل إلا الموت.

أتحدَّث الشاعر هنا إلى نفسه؟ نعم، ولكن حديثه إلى نفسه لا يستنفد عناصر الموقف كلها، فعندما ثقل العبءُ على صدره أراد أن يُزيحَه بهذا الذي نطق به شعرًا، وإلى هنا لم يكن يعنيه أن يكون في الوجود كلِّه سواه، فهو يهمُّ بإلقاء الحمل الذي أثقله، ويلتمس إلى ذلك ما تسعفه به موهبتُه من وسائل، غير عابئ أن يتلقَّاه زيد من الناس أو عمرو، لكنه، أما وقد استراح من حمله، فعندئذٍ يرد الناس الآخرون إلى خاطره، فينشر فيهم قصيدتَه ليقرأها من هو في مثل حالته فينفِّس بها عن كربه، ولينقدها ناقد فيعلم الشاعر من خلال نقده كيف جاءت نفثتُه.

فالشعر كائنة ما كانت صورته، يجاوز حدودَ الشاعر إلى سواه، وهنا ينشأ سؤالٌ أراه أخطر سؤال وأعوص سؤال في عالم النقد الأدبي، وهو إذا جاوز الشعر قائله إلى سامعه، أفلا يتضمن هذا أن يكون في كلماته شحنة منقولة من طرف إلى طرف؟ وإذا كان هذا هكذا، أفلا تكون اللغة هنا مقصودًا بها الإشارة إلى ما عداها؟ فكيف جاز لنا — إذن — في أول هذا المقال أن نفرق بين طريقتين في استخدام اللغة، في إحداهما تكون اللغة أداةَ إخبار فلا تكون شعرًا، وفي الأخرى تكون اللغة مقصودة لذاتها فتحقق أهم خصائص الشعر؟

وينحلُّ هذا الإشكال حين نعلم أن الشعر إذ ينقل شيئًا من قائله إلى سامعه، فهو لا ينقل خبرًا معينًا عن شيء أو عن فرد معين، بل ينقل حالة من الحالات الخالدة التي ما تنفك تتكرر كأنما هي قانون سرمدي في الكون وفي الناس من الأزل إلى الأبد، فإذا كانت قصيدة العقَّاد السالفة الذكر قد «نقلت» إليك شيئًا، فليس هو إخبارها بأن شخصًا معيَّنًا اسمه العقَّاد مرَّت به حالة ذات يوم، كان فيها حيران سأمان؛ إذ لو كان ذلك قصارى إخبارها، لما زادت على أي خبر آخر يرويه راوية عن العقَّاد؛ كأن يقول لك إنه رآه في اليوم الفلاني يأكل شواء في مطعم عام، كلَّا! ليس هذا هو ما تُخبر به القصيدة، بل إنها لتهيئ لك بهذه اللحظة العابرة التي مرَّت بواحد من الناس، عدسة تنظر خلالها إلى ما جُبلت عليه الفطرة الإنسانية الحسَّاسة من حيرة وقلق ما دامت حية، وإنها لحيرة وإنه لقلق لا يزول إلا مع الموت.

حقيقة خالدة ندركها عن طريق موقف جزئي، هذا هو ما يؤديه الشعر؛ فألفاظ القصيدة — كما ترى — لا تُستخدم للدلالة على معانيها مباشرة، بل إنك لتقف عندها، تتملَّى الصورة الفريدة التي تُقيمها أمام بصيرتك، فتستمتع بها ما شئتَ وما شاءت لك، ثم تتركها، فإذا هي قد خلَّفت وراءها صدًى هو صدى هذه الخبرة التي غزرت في نفسك عن حقائق الوجود.

وقد يقول هنا قائل: أليس العلم يُعطينا هو الآخر حقائق خالدة عن جوانب الوجود، هي هذه القوانين التي نراها في علوم الفيزياء والكيمياء والحياة وما إليها؟ فماذا يكون الفرق في ذلك بين الشعر والعلم؟ والفرق هو أن العدسة التي يقدمها العلم لترى خلالها، قوامها صياغة رياضية فيها كم وليس فيها كيف، وأمَّا عدسة الشعر فصياغة تسوق لك تفصيلات حالة بعينها، فيها كيف وليس فيها كم. وأمَّا بعد ذلك فالعلم والشعر كلاهما يُنبئانك عن الحق الذي يدوم ما دام وجود البشر.

فليتغنَّ الشاعر لنفسه أو لغيره، فهو في كلتا الحالين ينشد للناس أناشيد الحقائق الخالدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤