الوسطية وصورة الآخر
القضية في التيار الإسلامي المتطرف وتصوره للتيار العلماني، وفي التيار العلماني المتطرف وتصوره للتيار الإسلامي؛ إذ يتصور التيار الإسلامي المتطرف التيار العلماني بأنه غربي وافد، وليس نابعًا من تراث الأمة. فهو ينكر الأديان، وأقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان، ويُنكر الغيبيات، ولا يقوم بتأدية الشعائر. لا يؤمن بالدولة الدينية طبقًا لآية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (المائدة: ٤٤)، ومرة أخرى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة: ٤٥)، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (المائدة: ٤٧)، ولا يؤمن بالعقائد أو الغيبيات مثل الأخرويات. في حين أن التيار الإسلامي الوسطي المعتدل، مثل التيار العلماني، يقوم على تحقيق مصالح الناس، المصالح العامة، المصالح المرسلة طبقًا للقاعدة «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.» وأن المباح له الأولوية على المحرم ثم المندوب وهو المباح في الفعل المتروك لحرية الفاعل. أما المحرم فهو مباح حين الضرورة طبقًا لقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات». والواقع أن الحضارة الإسلامية ترفض كلَّ وافد إلا بعد التحقق من تطابقه مع العقل والواقع والتجربة الإنسانية، وهي مقاييس الصدق في المنهج الإسلامي. وقد قبل البعض الوافد اليوناني والفارسي دون أيِّ حرج، ليس تقليدًا أو تبعية بل تبنِّيًا بعد المراجعة والتمحيص والنقد، وقبول ما اتفق، ورفض ما اختلف. وتكرر الأمر نفسه مع الوافد الغربي منذ القرن الثامن عشر عند الشيخ حسن العطار، وفي القرن التاسع عشر عند رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي، وكل حركة التنظيمات في تركيا إجابة عن سؤال شكيب أرسلان: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ رؤية الأنا في مرآة الآخر.
ونظرًا إلى العداء التقليدي بين الإسلام والغرب منذ الاستشراق حتى الاحتلال، ظل العلماني يمثل الغرب داخل البلاد، وافدًا من الخارج؛ بينما ظل الإسلامي التقليدي ممثلًا للموروث من الداخل محافظًا على الهوية الوطنية ضد كل مظاهر التغريب. ونظرًا إلى أن الثقافة العربية ما زالت مزدوجة المصدر بين وافد وموروث لم تُحقِّق وحدتها بعد، فقد ظل التطرف هو الغالب على التيارَين بين فرح أنطون وشبلي الشميل من ناحية الوافد، ورشيد رضا من ناحية الموروث. وانطفأت الحركة الإصلاحية، الأفغاني ومحمد عبده، واشتد الاستقطاب بين الثقافتَين الإسلامية والغربية إلى درجةِ شقِّ الصف الوطني كما هو الحال في مصر وتونس.
والقضية الأخرى هي صورة التيار الإسلامي عند التيار العلماني المتطرف أنه تقليدي، يؤمن بالغيبيات، ولا يهتم إلا بالشعائر. ويؤمن بالدولة الدينية، وليس بالدولة المدنية، وما ينتج منها من تطبيق للحدود. ولا يهتم إلا بالمظاهر، الذقن والجلباب. مع أن الإسلام ليس كذلك. فإذا كانت العلمانية هي العقلانية وحقوق الإنسان والحرية والعدالة والمساواة، فهذه مقاصد الشريعة وهي ليست وافدة من الغرب. أما الغيبيات فما يثبت منها يُقبل، وما يُنفى منها يتم الشك فيه، وذلك طبقًا للمنهج العلمي. وكثير من قواعد العلم التجريبي إنما وصلت أوروبا عبر الترجمات من العالم الإسلامي، من الأندلس وصقلية وبادوا غربًا، وبيزنطة شرقًا. فكل تيار ينقد صورة مشوهة للتيار الآخر لا وجود لها، صورة صنعها هو وصدَّقها، من دون التحقق من حقيقة هذا التيار.
وفي الوقت نفسه قام رواد الإصلاح بإبراز الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل والثورية في الإسلام. فجوهر الإسلام هو الثورة ضد الظلم والاستبداد، وضد سوء توزيع الثروة في البلاد، ضد الأغنياء لمصلحة الفقراء. وجاء الأفغاني وعبَّر عنه بأنه «ضد الاستعمار في الخارج، والقهر والظلم في الداخل». فالإسلام توجَّه نحو المجتمع، وإصلاح حال الناس، وتغيير الواقع لما هو أفضل.
كانت العلمانية في الغرب ضرورة حتى لو كانت ضد الدين؛ فقد كان الدين كنيسة وكهنوتًا يتعاون مع الملوك والأباطرة والإقطاع والاستبداد. وكانت هي تقوم على العقل، ثاني مقصد من مقاصد الشريعة، وعلى العلم إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: ٢٨)، وعلى الحياة، وهي المقصد الأول من مقاصد الشريعة، وعلى التقدم لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (المدثر: ٣٧)، وهو جوهرُ تطورِ الوحي من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. وهو النسخ الكلي. أما النسخ الجزئي فهو في آخر مرحلة على مدى ثلاثة وعشرين عامًا مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦). فكلما يتقدم الواقع يتقدم الوحي طبقًا له وبإعادة صياغته وتعديل أحكامه. والعدالة الاجتماعية والمساواة في العلمانية تعادلان قول الرسول «ما آمن بي مَن بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به.» و«أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله.» والحرية وهي وظيفة التوحيد: «أشهد»، أي قول الحق والصدق، «لا إله» أي رفض كلِّ آلهة العصر المزيفة، الشهرة، المال، الجنس «إلا الله»، أي استثناء الله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع.
الإسلام أشبه بلاهوتِ التحرير في أمريكا اللاتينية الذي يحرِّر الإنسان من القيود الاجتماعية والسياسية كافةً. وقد أحدث ثورةً في شبة الجزيرة العربية بتوحيدها وتكوين دولة وسط إمبراطوريَّتَي الفرس والروم ووراثتهما كقوة جديدة ثالثة بازغة وسط قوتَين قديمتَين متهالكتَين، والإعلان عن مرحلة جديدة في مسار التاريخ. فصورة الإسلام في مرآة العلمانيِّين ليست صحيحة. كما أن صورة العلمانية في مرآة الإسلاميِّين ليست صحيحة. كل فريق يشوِّه صورة الآخر حتى يسهل الطعن فيها ورفضها إما بتكفير الإسلاميِّين للعلمانيِّين وإما بتخوين العلمانيِّين للإسلاميِّين.