الوسطية والديمقراطية
لا تتم الوسطية إلا في جوٍّ ديمقراطي يسمح بحرية الفكر وتبادل الرأي. أما التعصب والتمسك بالرأي فإنه يؤدي إلى التطرف. ولا تعني الديمقراطية النظامَ السياسي فقط وإنما تعني النظام الفكري أيضًا، وسماع الرأي الآخر، وتبادل المشورة، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (الشورى: ٣٨)، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ (آل عمران: ١٥٩). ولا تظهر الوسطية في فكر متطرف. الوسطية تطلب الحدَّ الأدنى في حين أن التطرف يطالب بالحد الأقصى. الوسطية ليست تنازلًا عن الدعوات والمطالب، بل هي حصول عليها من الباب الخلفي، ليس بالتحايل وإنما بالتقارب طبقًا لآية وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: ١٢٥). هكذا تم القضاء على تطرُّف الفِرَق الكلامية قديمًا بالتقريب بينها وتحريك مواقفها ونقلها إلى مواقف أخرى بالآلاف في حروب الفتنة الصغرى والفتنة الكبرى. وقد اختلف الصحابة، وكان الرسول يدعوهم إلى تبادل الرأي.
الوسطية إذن لا تنشأ إلا في جوٍّ ديمقراطي. وما دامت الديمقراطية في أزمة نظرًا إلى أن جذور الاستبداد الديني والاستبداد السياسي لم تُنتزَع بعد، تظل الوسطية بعيدة المنال. وقد حاول أحد المفكرين العرب الحديثين، وهو عبد الرحمن الكواكبي، التعرض للقضية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ولكنها كانت صرخة في وادٍ لم ينتج منها إلا الصدى.
والوسطية تأسيس للفكر العربي الإسلامي في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والإعلامية. فالإسلام السياسي الوسطي هو الذي يمدُّ يدَه إلى بقية التيارات السياسية في ائتلاف وطني واحد دفاعًا عن مصلحة وطنية واحدة. هي الحاضنة السياسية لكل التيارات السياسية علمانية أو دينية، مدنية أو إسلامية. يقرب بين الرأسمالية والاشتراكية، بين الفردية والجماعية. الوسطية الإسلامية هي القادرة على التعامل مع بقية المذاهب الاقتصادية، الشيوعية والماركسية والانفتاح والخصخصة. وهي القادرة على تأسيس المذاهب القانونية ومدارس القانون الإلهي والقانون الطبيعي والقانون الاجتماعي. وهي القادرة على إرجاع الفكر الإسلامي إلى مصادره الاجتماعية وتغيره بتغير المجتمع. وهي أخيرًا القادرة على التعامل مع الفكر الإعلامي حتى يتم التحقق من صدق روايات الأخبار ونبذ المبالغات وترك الأكاذيب.
هذه روح التسامح التي طالما دافع عنها المصلحون المسلمون، وليس روح العزلة والانفصال التي نادى بها المودودي دفاعًا عن المسلمين في الهند الذي كان له أبلغ الأثر في سيد قطب في مناداته بالمفاصلة. فقد كان الوضع النفسي السياسي لا يسمح بالتوسط بل بالتطرف. وهو ما حدث بانفصال باكستان عن الهند. وما زالت القضية مع مسلمي ميانمار لا يقبلهم البوذيون وسطهم، وتُرتكب ضدهم المذابح بين الحين والآخر. ولم تنجح المؤسسات الدولية أو المنظمات الإنسانية في إنقاذهم.
الوسطية إذن كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل. هي حقٌّ من حيث النص وحقٌّ من حيث التوازن في الطبيعة الإنسانية. وهي حقٌّ من حيث الواقع والحاجة حمايةً للسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية. وهي كلمة باطل إذا كان القصد منها إلغاء الصراع الاجتماعي، ومنع حركة التغيير الاجتماعي، وإبقاء البناء الاجتماعي على ما هو عليه. فالوسطية قد تكون حقًّا من حيث النظر، ولكنها قد تُوَظَّف باطلًا من حيث العمل. والخطأ هو نقل تفسير من بيئة إلى أخرى، من بيئة هندية إلى بيئة عربية، من المسلمين كأقلية إلى المسلمين كأغلبية. ونظرًا إلى اضطهاد الحركات الإسلامية في البيئة العربية فقد خرج التفسير تعبيرًا عن الأقلية، حادًّا متطرفًا رافضًا الحوار.