الوسطية كظاهرة اجتماعية
نشأ التيار الإسلامي المتطرف في الظروف السياسية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية على درجات متفاوتة؛ فمنذ اغتيال مؤسس جماعة الإخوان الإسلامية حسن البنا عام ١٩٤٨م، حتى إعدام سيد قطب مفكر الجماعة عام ١٩٦٦م، مرورًا باضطهاد أبرز أعضاء الجماعة حتى ثورة يناير ٢٠١١م، والاعتقال والتعذيب واقعان عليهم، حيث بلغت الذروة عام ١٩٥٤م في العهد الناصري، ثم عام ١٩٨٠م في عهد كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل والتحالف الضمني مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم اعتقالُ الإسلاميِّين والناصريِّين والشيوعيِّين وكلِّ أطياف المعارضة في عهد الانقلاب على الناصرية والوقوع في شباك الانفتاح الاقتصادي والاقتصاد الحر. ثم خرج الإسلاميون من السجون والمعتقلات من «ليمان طرة» و«أبو زعبل» وهم ناقمون على المجتمع رافضون أيَّ نظام سياسي إلا نظامًا يحكم بما أنزل الله، وإلا كان المجتمع كافرًا منافقًا فاسقًا. وهم لم يجدوا فرصة لمقابلة العنف بالعنف إلا انتهزوها حتى أتَت ثورة يناير ٢٠١١م.
لم تستطع الدولة الوطنية وريثة حركات التحرر الوطني أن تكون حاضنةً لكل التيارات السياسية السابقة، الإخوان والشيوعيِّين والليبراليِّين، بل اصطدمَت بهم، وحلَّت تنظيماتهم، وحظرت إعادة تكوينها. فتكوَّنَت سرًّا تحت الأرض. وظلت تنتظر الوقت المناسب للظهور فوق الأرض حتى ضعفت الدولة وتحولت إلى دولة استبدادية. وكانت هزيمة يونيو «حزيران» ١٩٦٧م قاصمةً للنظام. وتوفي القائد والزعيم والمعلم والملهم إلى الأبد. وبعد وفاته انقلب النظام على نفسه. واستُعملت الجماعات الإسلامية ضد النظام السابق بعدما أطلق سراحها، حتى كامب ديفيد، فانقلبَت تلك الجماعات على النظام حتى اغتيال الرئيس أنور السادات؛ فأُدخِلَت السجون من جديد حتى ثورة يناير ٢٠١١م. ووصلَت هذه الجماعات إلى السلطة، في الرئاسة ومجلس الشورى ومجلس الشعب والمحافظات، وفي الهيئة التأسيسية للدستور، حتى تمت «أخونة» المؤسسات في البلاد، فاصطدمَت بالسلطة القضائية حول استقلال القضاء.
حدثَت مراجعات كثيرة داخل السجون مع أعضاء الجماعات نفسها، إما مع أنفسهم وإما مع بعض رجال الأمن، حتى رشدوا إلى أنفسهم وعقلوا، وخفَّت حدةُ انفعالاتهم. و«توسط» موقفُهم بعيدًا من التطرف، وخرجوا من السجون «يؤمَن» جانبُهم بصرف النظر عن صدق مواقفهم وتطابقها مع النفس أو ترك عقائدهم المتطرفة واندماجهم في رجال الأمن أو عودهم إلى الجماعة كي يُشحنوا من جديد؛ لأن الموقف «السياسي» الذي أنتج سيد قطب لم يتغير، موقف الاضطهاد النفسي الاجتماعي وإبعادهم من الحكم أو إدخالهم في انتخابات غير مؤثرة أو فعالة نظرًا إلى طابعها الاستبدادي، وتهميش النظام السائد الغالب كلَّ الفرق السياسية الأخرى يمينًا أو يسارًا. وهذا ما يسمى البيئة الجيوسياسية المؤثرة في تأسيس الإخوان المسلمين، «المصلحية السياسية في سلوك الإخوان المسلمين». فالتطرف أو التوسط بطبيعة الحال خيارات مصلحية، مثل كل التيارات السياسية، ومصلحية فردية، رجال الأعمال، أو مصلحية طبقية أو مصلحة شعبية أو مصلحة الوطن. فالمعرفة مصلحة كما يقول هابرماس. ولما كانت المجتمعات العربية غير مستقرة منذ سقوط الخلافة حتى الربيع العربي مرورًا بالدولة الوطنية، وبالقومية العربية، فإن التطرف يصبح أكثرَ تعبيرًا عن تقلباتها، تطرفًا نحو الاستبداد العسكري أو الاستبداد الديني. فالأوضاع المتطرفة لا تُنتج تنظيمات وسطية، بل تنظيمات سرية تحت الأرض تمارس العنف.