تمهيد

يهدف هذا الكتاب إلى تعريف القراء بمجموعة متنوعة من القضايا الفلسفية عبر عدسة السينما، فضلًا عن قضايا أخرى تتعلق بطبيعة السينما ذاتها، جامعًا بذلك بين موضوعين لا يجتمعان في أغلب الكتب الصادرة حديثًا والتي تتناول الفلسفة والسينما. السينما وسيلة عظيمة القيمة لاستكشاف موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكنها لا تخلو من أوجه الخطر والقصور. وإبرازُ الطرق التي في وسع السينما استخدامها لإضفاء حالة من الغموض الفلسفي، عبر الاستعارات وغيرها من الصور البلاغية، وذلك للتأثير في المشاعر أو مغازلة شتى الأهواء؛ هو جزء ذو أهمية من أي منهج للتحليل السينمائي الفلسفي. وسنحاول بين دفَّتَي هذا الكتاب النظر إلى المناقشات الفلسفية السينمائية بعين النقد.

ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: في الفصل الأول من الجزء الأول سنناقش إمكانيات السينما كوسيط فلسفي؛ لماذا تشكِّل السينما وسيلة جيدة لمعالجة القضايا الفلسفية؟ وكيف يمكن تدعيم النقاشات الفلسفية من خلال السينما؟ وفي الفصل الثاني سنناقش بعض القضايا الفلسفية التي تطرحها السينما ذاتها. وبينما يركز هذا الفصل على قوة السينما وأهميتها، فإنه يطرح كذلك قضايا فلسفية محورية أخرى حول السينما والمشاهدة السينمائية. ونناقش عبر صفحات الكتاب المزيد من القضايا التي تتعلق بطبيعة السينما والمشاهدة السينمائية، من خلال طرح أسئلة من قبيل: لماذا تستهوينا أفلام معينة؟ كيف تحقق لنا الأفلام إمتاعًا؟ كيف نستطيع اكتشاف تلاعب فيلمٍ ما بحكمنا الفلسفي، وكيف ندرك البديهيات التي بنينا عليها هذا الحكم؟ كيف نستطيع استغلال نقاط الالتباس التي تعجُّ بها الأفلام لأغراض فلسفية؟ (مع مراعاة الحذر بالطبع في معالجة كلٍّ من الأفلام والفلسفة.)

أعددنا الفصول في الأجزاء من الثاني حتى الرابع كي تُقرأ عقب مشاهدة الأفلام المرشَّحة، وبعد قراءة الجزء الأول. يركِّز الجزء الثاني على الأفلام التي تثير تساؤلات حول نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وتتناول موضوعات مثل الشكوكية وعلم الوجود والذكاء الاصطناعي والزمن (لا سيما السفر عبر الزمن). ونناقش في الجزء الثالث أربعة أفلام تتصل بما قد نُطلق عليه بوجهٍ عام «الحالة البشرية»، حيث نركز على الإرادة الحرة والهوية الذاتية والموت ومعنى الحياة. نقدم كذلك بحثًا متعمقًا نسبيًّا لطبيعة المشاهدة السينمائية؛ إذ يركز الفصل التاسع على أفلام الرعب لا سيما أفلام الرعب الواقعي. فنتساءل عما يجذب الجمهور إلى تجرِبة الرعب؛ أي إلى مشاعر الخوف والتقزز. في حين يهتم الجزء الرابع بقضايا الأخلاق والقيم، حيث نركز على الأفلام التي تعالج بدورها الموضوعات التالية: دوافع عيش حياة أخلاقية، والحظ الأخلاقي، وأخلاق الواجب، ونظرية العواقبية (العبرة بالنتيجة)، وأخيرًا نظرية الفضيلة.

إن هدف كتابنا هو إلقاء نظرة عامة على موضوعات في صميم علم الفلسفة، من منظور الكتابات الأخيرة في مجالَي الفلسفة والعلاقة بينها وبين السينما. فنتناول كلًّا من فلسفة السينما والفلسفة في الأعمال السينمائية. هذان الجانبان من الكتاب يدعم كلٌّ منهما الآخر. وقد كانت فكرة الجمع بينهما هي الأساس الذي بُني عليه هذا العمل. لقد اخترنا الأفلام بِناءً على محتواها وجودتها وإمكاناتها الفلسفية. بعبارة أخرى تخيَّرنا أفلامًا تتناول قضايا فلسفية تناولًا مشوَّهًا ومبتسرًا في بعض الأحيان، لكنه يساعدنا كذلك في أوجه أخرى على إدراك القضايا الفلسفية المتضمنة، ومعها ندرك شيئًا ما عن قيمة الفلسفة. وحيثما استطعنا استخدمنا أفلامًا لا تكتفي بتسليط الضوء على الفكر الفلسفي، بل تضيف إليه.

سنستعين بأفلام كلاسيكية وأخرى معاصرة، وقد اخترنا كلًّا منها لتسليط الضوء على مجموعة بعينها من الأسئلة الفلسفية، أحيانًا بطرق غير مألوفة مع أفلام غير متوقَّعة، حيث سنناقش أفلامًا مشهورة وذات شعبية، إلى جانب أفلام أخرى أقل شهرة. وفي نهاية كل فصل نورد قائمة مختصَرة بقراءاتٍ إضافية مقترَحة وقائمةً تضم أسئلة لمتابعة النقاش الفلسفي.

يطمح هذا الكتاب في المقام الأول إلى التأمل الفلسفي من خلال الأفلام، وإلى التفكير في الأفلام من منظور فلسفي. وتتناول الفصول قضايا حاضرة في الأفلام من المنظورين الفلسفي والسينمائي كذلك. الأفلام وسيط صالح للنقاش الفلسفي من عدة أوجه؛ إذ يمكن استخدامها لتسليط الضوء على قضايا فلسفية، وكوسيلة لاختبار نظريات فلسفية أو إجراء تجارِب فكرية فلسفية، وكمصادر لمعضلات أو ظواهر مثيرة للاهتمام تستدعي الاستقصاء الفلسفي، وكطريقة لفهم مغزى قضايا فلسفية أو تحديد الاحتمالات الفلسفية. يدفعنا التفكير المتأمِّل في السينما إلى دروب الفلسفة عبر طرح أسئلة عن طبيعة الأفلام ذاتها وطبيعة المشاهدة السينمائية تحديدًا. في بعض الأحيان نستخدم نظريات فلسفية لتفسير الأفلام، وفي أحيان أخرى نستخدم الأفلام لتسليط الضوء على النظريات الفلسفية. كل هذه الطرق لمشاهدة الأفلام والتأمل الفلسفي يطرحها هذا الكتاب. إن الفلسفة لا تطرح منظورًا فريدًا للسينما، بل إن الأفلام ذاتها هي مساعٍ، مضطربة غالبًا وفي غاية البراعة أحيانًا، للاستقصاءات الفلسفية.

لا يزال المجال الذي يجمع بين السينما والفلسفة مجالًا حديثًا نسبيًّا. وما توصلنا إليه في هذا الكتاب لم يكن ليتحقق دون الجهود الرائدة لأولئك الفلاسفة والمنظِّرين السينمائيين الذين ساعدوا على إرساء الفلسفة والسينما كمبحثٍ جدير بالاهتمام ودائم التطور، وفي سبيله — قطعًا — للازدهار. وحتى في المواضع التي اختلفنا فيها معهم، فقد تعلمنا منهم بكل تأكيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤