الفصل الثاني عشر

«حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم

مقدمة

ما الدور الذي يلعبه الحظ في الحياة؟ وما «نوع» هذا الدور؟ إذا كنا محبوبين أو ناجحين أو ذوي خُلق أو محطَّ إعجاب الآخرين، فإلى أيِّ مدًى نَدين بهذه الصفات إلى فطرتنا وإلى أيِّ مدًى نَدين بها إلى الحظ؟ إذا كنا بائسين ومُخفقين في حياتنا، أو كنا نتسم بالخسة والدناءة ونحمل آثامًا فظيعة، فإلى أيِّ مدًى يرجع ذلك إلينا وإلى أيِّ مدًى يرجع إلى الحظ؟ ما نوع هذا الحظ؟ ماذا نعني بكلمة حظ أو نصيب؟ فيما يلي نطرح سؤالًا حول قدْر التحكم الذي يملكه الأفراد في حياتهم، بما فيها الجانب الأخلاقي. لقد بحثنا مسألة شبيهة في الفصل السابع بمعاونة فيلم «تقرير الأقلية»، حيث استعرضنا ميتافيزيقا الإرادة الحرة والقدرية. وفي هذا الفصل، نتناول مسألة الحظ من منظور أكثر ميلًا نحو الجانب العملي لا الميتافيزيقي. ودليلنا في هذا المسعى هو فيلم «حياة الآخرين» من إنتاج عام ٢٠٠٦.1

إن «حياة الآخرين» مثال للأفلام التي يمكن مناقشتها من منظور عدد من القضايا الفلسفية المتنوعة، وهي قضايا يعتمد كل منها على الآخر من نواحٍ متعددة. يقدم الفيلم تجسيدًا قويًّا لمشكلة يُطلق عليها الفلاسفة مشكلة «الحظ الأخلاقي»، لا سيما عبر تحول عميل الإشتازي جيرد ويسلر، وعبر عدد من الشخصيات الأخرى كذلك. تصف مارجريت واكر (١٩٩١: ١٤) مفهوم الحظ الأخلاقي بأنه يكمن في «الحقيقة الواضحة والجدلية، على حد زعم البعض، بل والمتناقضة التي تقضي بأن عوامل حاسمة بالنسبة للموقف الأخلاقي للفاعل البشري تخضع للحظ.» هذا صحيح، لكن لدينا الكثير مما يمكن قوله حول الحظ الأخلاقي وتنويعاته.

تعتمد جودة حياتنا، بما في ذلك جودة حياتنا الأخلاقية، فيما يبدو على تلك الأشياء التي تمنحنا إياها الحياة، لحسن الحظ أو سوئه؛ فهي تعتمد على طريقة «تكويننا» فيما يتعلق بسمات مثل قوة الإرادة والذكاء والمشاعر. وتعتمد كذلك على ما تعرَّضنا له عرَضًا من أشخاص وأحداث تَصادف أنْ أثَّرت فينا. اكتسبت مسألة الحظ الأخلاقي أهمية في الفلسفة المعاصرة عبر أعمال برنارد وليامز وتوماس ناجل؛ فقد نشر وليامز بحثًا شهيرًا عام ١٩٧٦ تحت عنوان «الحظ الأخلاقي» مرفِقًا بها بحثًا آخر يتضمن ردًّا من ناجل. كلا البحثين مهمان، وقد أصبحا من كلاسيكيات الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين. سوف نستعين بفيلم «حياة الآخرين» ساعين لاستكشاف أفكار وليامز وناجل الأساسية، وقد نتعلم من الفيلم بعضًا مما يتعلق بالحظ الأخلاقي، حول انتشاره وتنوعه، وحول تطبيقاته في الأخلاقيات والحياة على حدٍّ سواء.

علاوة على ذلك، يطرح الفيلم أسئلة حول طبيعة ومغزى الحرية والخصوصية، جنبًا إلى جنب مع أسئلة حول الفساد والسلطة السياسية الطليقة والحرمان والخوف والتعذيب وحول الوضع البشري عامةً، وكلها موضوعات يتناولها الفيلم في سياقه. كذلك تستحق الخصائص الجمالية للفيلم نظرة أكثر تعمقًا، فيما يتعلق، على سبيل المثال، بالدور البارز فلسفيًّا الذي يلعبه المعمار الذي نشاهده، ويتجسَّد عبر صورة المدينة وغرف التحقيق وزنازين السجن. لا يمكن، ولا يُستحب أيضًا، مناقشة جميع القضايا الفلسفية التي يتضمنها فيلم «حياة الآخرين» في ذات الوقت. مع ذلك يكمن الجزء الأكبر من قوة الفيلم في تجنُّبه عزل الأسئلة المهمة عن بعضها بعضًا بل جمعها سينمائيًّا بطرق تجعل كل سؤال يستلزم الآخر ويطرح سياقًا له؛ ما يجعل الأسئلة تنساب على نحو درامي واحدًا تلو الآخر وتصطحب المشاهدين بإرادتهم عبر أحداث الفيلم؛ فقد أُعدت قصة الفيلم وما صاحبها من دراما، تدعمهما الموسيقى، إعدادًا مميزًا يجعل الأسئلة متضمنة بعضها بعضًا ومترابطة فيما بينها بطرق متعددة. نلاحظ هنا إذن طريقة تبدو بها السينما أقرب للحياة من الفلسفة، بما أن الحياة ترفض، على نحو مزعج، عزل المعضلات الفلسفية بعضها عن بعض، ومعالجة كل منها على حدة. وعلى المنوال نفسه، تُلقي بنا الأفلام الجيدة في خِضم ما تُجسِّده من مشكلات، بطريقة تتعارض مع الكتابة الفلسفية الأكثر رسمية، كما نجد مثلًا في مقالات المجلات المتخصصة؛ ففي الكتابة الفلسفية الرسمية، قد يظل المرء يشعر أن نقاش المسألة الفلسفية المطروحة لم يُعطِ التعقيد الفلسفي للحياة حقه، مهما اتسم هذا النقاش بالشمولية والبلاغة.

أحد الأسئلة المهمة التي يطرحها الفيلم يتعلق بطبيعة النزاهة. فكل شخصية من شخصياته تُجسِّد سبيلًا مختلفًا للتمتع بالنزاهة أو الإخفاق في ذلك. لكن ما هي النزاهة؟ في مقال اشترك مؤلفا هذا الكتاب في كتابته بالتعاون مع مارجريت لا كاز (٢٠٠٣: ١٤، ٤١-٤٢)، نقول:
النزاهة مفهوم عصِيٌّ على التعريف؛ فهي لا تتطابق مع مفهوم الصدق، وتتجاوز بكثير كونها فضيلة يتمتع بها ذوو الشرف والأمانة. تقع النزاهة في المنتصف بين أشكال شتى من الجموح. فمن ناحية تحيط بها حالات مثل تبدُّل المواقف والاستهتار وضعف الإرادة والفساد والنفاق والخداع والعجز عن تأمُّل الذات أو فهمها. ومن ناحية أخرى، نجد حالات مثل التزمُّت والجمود العقائدي والهوَس بفكرة واحدة والتظاهر بالتقوى والانغماس المفرط في الذات، إلى جانب الفراغ والضيق الذي تتسم به حياة تغلق أبوابها في وجه التعددية التي تميز التجرِبة البشرية … يعيش الفرد النزيه في توازن هشٍّ من كل تلك الصفات المفرطة في طابعها البشري … وصف شخص ما بالنزاهة يفترض مسبقًا أساسًا من الآداب الأخلاقية … النزاهة ليست نوعًا من الكمال أو صلابة الشخصية أو النقاء الأخلاقي. هي تتضمن القدرة على الاستجابة للتغير الحادث في قيم المرء وظروفه، إنها نوع من إعادة الخلق المستمرة للذات، ومن تحمُّل المرء مسئولية عمله وفكره. وفهم النزاهة يتضمن النظر إلى الذات على أنها دائمًا قيد التطور، لا على أنها ساكنة وثابتة أو تتضمن «جوهرًا» داخليًّا تُصنع حوله تغيرات سطحية إلى حدٍّ ما … السعي وراء النزاهة يتضمن تحديد المرء لرغباته وقيمه والتزاماته. وهي عمليه تشبه كثيرًا مساعي فهم الذات أو إيجاد معنًى، وإن كانت لا تتطابق معها.2

ونضيف إلى ذلك أن النزاهة ليست صفة متكاملة قد يمتلكها المرء أو لا، فهي تسمح بدرجة من الازدواجية بل وقد تتطلبها في بعض الأحيان. كلٌّ منا يتمتع بالنزاهة ويفتقر إليها أيضًا بدرجة ما. ويمكننا عبر الاستعانة بما ذكرناه من معايير للنزاهة، التي نعترف بكونها ملتبسة، أن نفحص كل شخصية من شخصيات الفيلم كي نحدد مدى ما تُبديه من نزاهة عبر أسئلة من قبيل: أين تُبدي الشخصية قدرًا من النزاهة، وكيف تنجح في ذلك على نحو مميز، وأين تخفق في ذلك ولماذا؛ كل شخصية بطريقتها الخاصة. يمكن القيام بهذه المَهمة على نحو واعٍ، كنوع من التمارين الأخلاقية، أو قد يجد المُشاهِد أن تأملات من هذا النوع حول النزاهة تصاحب بطبيعة الحال انغماسه في أحداث الفيلم.

قبل أن ننتقل إلى بحث بعض المسائل الفلسفية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من «حياة الآخرين» وتساهم في نجاحه وتأثيره، نحتاج أن نذكِّر القراء بحبكة الفيلم التي لا تخلو من التعقيد. وسوف تكون مناقشتنا للفيلم أكثر ميلًا نحو تفسير الأحداث وتفصيلها مقارنةً بملخصات حبكات الأفلام الأخرى الواردة في هذا الكتاب. من المفيد كذلك معرفة بعض المعلومات العامة عن الفيلم، وسوف نذكر بعضًا منها هنا. (وكما نقول عادةً، احرص على مشاهدة الفيلم أولًا قبل متابعة القراءة.) قد يبدو سرد حبكة الفيلم مهمة سهلة نسبيًّا. رغم ذلك يجدر بنا الإشارة إلى أن ملخص الحبكة هذا في فيلم معقد فلسفيًّا قد يفترض مسبقًا الكثير من القضايا الفلسفية الأساسية في الفيلم بل وقد يحكم مسبقًا أيضًا على الشخصيات، إما صراحةً عبر فعلٍ ما على سبيل المثال بأنه «خيانة»، أو عبر حذف بعض عناصر الفيلم؛ كأن يُغفل ذكر بعض الجوانب المهمة أخلاقيًّا في موقف معين. لا يمكن على الأرجح تجنُّب هذا النوع من الافتراضات التي لم تثبُت صحتها. هذا فضلًا عن أن الفيلم يعجُّ بقضايا تتصل بمفاهيم الحرية والخصوصية والسلطة، وتنعكس عبر شخصياته؛3 ومن ثَمَّ تصبح مشاهدة الفيلم، مع أخذ تلك القضايا في الاعتبار، بجانب الأسئلة المطروحة حول نزاهة الشخصيات، منهجًا لمعالجة الفيلم من منظور القضايا الأخلاقية والسياسية التي يطرحها. أما الدور الذي يلعبه الحظ الأخلاقي في حياة بعض الشخصيات فيمدنا بمنهج إضافي سوف نركز عليه في معالجتنا.

«حياة الآخرين»

المكان: ألمانيا الشرقية؛ الزمان: ١٩٨٤، قبل خمس سنوات من سقوط حائط برلين. يزداد اهتمام وزير الثقافة (برونو هيمف) بممثلة (زيلاند) ويبدأ في ابتزازها جنسيًّا، فيخيِّرها بين «ممارسة الجنس معه أو تدمير مستقبلها المهني». ونتيجة لهذا الانجذاب المشئوم ناحيتها، ورغبةً منه في إزاحة حبيبها الكاتب المسرحي (دريمان) من طريقه، يُكَلف عميل من البوليس السري (الإشتازي)4 بمراقبة الكاتب المسرحي وحبيبته الممثلة، اللذين تجمعهما علاقة حب طويلة الأمد. العميل هو النقيب جيرد ويسلر، ورمزه السري «إتش جي دبليو إكس إكس/٧»، الذي يصبح شخصية الفيلم الرئيسية. يتخذ ويسلر موقعه في المكان العلوي من المبنى الذي يقيم به الحبيبان، ويشرع في التصنت عليهما. وأثناء مَهمته يتزايد اهتمامه تدريجيًّا بحياتهما الشخصية، ولاحقًا ينغمس فيها.
يعيش الوزير هيمف في عالم يتيح له تجاهل الآداب الأخلاقية، وأن يطأ بنعليه حقوق الأفراد دون أن يخشى عقابًا، وأن يبرر أفعاله عبر إشارات عرضية، تُشِعُّ نفاقًا، لقضايا الأمن الوطني والقيم الاشتراكية.5 ظاهريًّا، يبدو هيمف أشر المنافقين خطرًا؛ فهو يناصر القيم الاشتراكية كي يتخذها ستارًا لرغباته ومطالبه الفاسدة، لكن توجد قراءة أخرى لشخصيته ترى أنه ليس منافقًا بقدر كونه شخصًا حقيرًا منحلًّا يُرهب الآخرين بما يملكه من سلطة. هو ليس منافقًا؛ لأنه يملك سلطة فرض إرادته دون حاجة لإبداء غير ما يبطن. ما هو النفاق إذن؟ يقول مكينون (١٩٩١: ٣٢٢):

نعتقد أن المنافق هو من يُخفي دوافعه ونواياه، أو يتظاهر بغيرها، في المجالات التي تُعامل فيها الدوافع والنوايا بجدِّيَّة مثل الدين والأخلاق، والسياسة أيضًا على الأرجح … المنافق يدرك بلا شك نواياه الحقيقية، وقراره بإخفائها هو قرار متعمَّد حتمًا … لا بد أنه يرغب في أن يحكم الناس عليه حكمًا مختلفًا أكثر محاباةً له، ولا بد أنه يتخيل مسارَ عملٍ معين مصممًا بحيث تنتج عنه تلك التقييمات ويتولى تنفيذه.

لكن موقف هيمف مختلف؛ فلا حاجة حقيقية لديه لإخفاء دوافعه الحقيقية أو التظاهر بغيرها؛ فالجميع يعرف دوافعه يقينًا، ولا أحد ينخدع بكلامه، ربما باستثناء ويسلر في البداية لكنه سرعان ما يرى هيمف على حقيقته. إذن من غير المرجَّح أن يكون هيمف منافقًا بالمعنى الدقيق الذي عبَّر عنه مكينون. ما نراه هنا هو الواجهة الخارجية للنفاق لا النفاق ذاته، وتلك سمة متغلغلة في الأنظمة الاستبدادية. تلك الواجهة، حيث إظهار الولاء لقيم سياسية أمر إجباري رغم كونه لا يخدع أحدًا، سمة لا بد أن تَحذرها المؤسسات الديمقراطية. بعبارة أخرى، متشائمة نسبيًّا على الأرجح، المؤسسات الديمقراطية مصمَّمة بحيث تضمن على أقل تقدير عدم الحاجة إلى النفاق عندما يكذب المسئولون الحكوميون ويُخفون دوافعهم الحقيقية ويتظاهرون بغيرها.

لا يوجد سبب يستدعي مراقبة دريمان وزيلاند سوى الاهتمام الدنيء لدى هيمف ناحية زيلاند ورغبته في التخلص من حبيبها. مع أن جميع من في ألمانيا الشرقية في هذا الوقت كانوا معرَّضين للمراقبة وللخضوع للتحقيق، وأي شخص بارز يتمتع بدرجة من التأثير هو مرشَّح محتمَل لأن يخضع للمراقبة السرية، كان الفنانون على الأخصِّ مستهدفين. على حد قول فيليبا هاوكر في مراجعتها النقدية للفيلم (٢٠٠٧): «يُبدي الإشتازي اهتمامًا خاصًّا بالشخصيات المبدعة، وبقدرتهم على التشكيل والتقويض والتدمير. إحدى الشخصيات تتحدث عن الكُتَّاب واصفةً إياهم ﺑ «مهندسي الروح البشرية»، وهو تعبير مضلِّل يتضح أن ستالين كان يستخدمه.» ربما يلعب الفنانون دورًا خاصًّا في عملية نشر الأفكار، حتى وإن لم يكن بوسعهم معرفة التأثير الذي سيُحدثه فنهم على وجه التحديد.

جزء من أسلوب عمل عملاء الإشتازي هو معرفة كل ما يمكنهم معرفته عن المواطنين، بما في ذلك حياتهم الخاصة، فلربما رأت السلطات أنه «من الضروري»، لأي سبب كان، تقويض مكانتهم أو التحكم فيهم أو تدميرهم تحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي. يوضح الفيلم أن كلمه «ذريعة» هي الكلمة المناسبة في هذا السياق، فقليلٌ مَن يعتقدون أن الأمن القومي معرَّض للخطر بصرف النظر عما يقولونه سرًّا أو علانيةً. يؤدي انجذاب الوزير ناحية زيلاند إلى إنهاء ما هو أكثر من حياتها المهنية. ويُطلق علاوة على ذلك سلسلة من الأحداث التي تغير حياة ويسلر تغييرًا جذريًّا. ويركز الفيلم في المقام الأول على هذا التغيير الصعب والعميق الذي يطرأ على ويسلر بينما يشاهد ويستمع إلى ما يحدث بين دريمان وزيلاند.

الجزء الأهم والأكثر فعالية من طريقة عمل الإشتازي يعتمد على الخوف. فبما أن عملاء الجهاز عاجزون عن الوجود في جميع الأماكن والأوقات، نجدهم يلجئون إلى استخدام شبكة واسعة جدًّا من المخبرين بغية أن يعجِز الجميع عن تحديد من هو جاسوس ومن ليس بجاسوس. وكان تأثير ذلك في الواقع أن أصبح السكان يراقبون أنفسهم بما أن كل فرد يشك في كون جميع من حوله يتجسسون عليه، وهو شك مُبرَّر. يُجسِّد الفيلم سينمائيًّا هذا الإطار العام الخانق من الشك والخوف، ويعزز المعمار القاسي والسماء الرَّمادية والجو البارد والشوارع الخالية، هذا التأثير. ربما يرى المُشاهِد تلك العناصر باعتبارها امتدادات طبيعية قاتمة للدولة، إلى جانب كونها نوعًا من المصادقة الكونية على الوضع السياسي والاجتماعي والشخصي القائم. يعرف الجمهور، عبر حاشية سينمائية تُعرض مع بداية الفيلم، أن الأحداث تدور قبل خمس سنوات من حدوث تغير جذري؛ ألا وهو سقوط حائط برلين وتوحيد شرق ألمانيا («جمهورية ألمانيا الديمقراطية») وغرب ألمانيا (جمهورية ألمانيا الاتحادية)؛ ففي عام ١٩٩٠، انضمت ألمانيا الشرقية أخيرًا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية. لكن خلال الوقت الذي تدور فيه أحداث الفيلم، وهو تحديدًا عام ١٩٨٤، كان الأمل في حدوث تغير جذري ضئيلًا للغاية؛ فقد بدا أن الحكومة الاستبدادية وأسلوب الحياة الذي أرسته باقٍ للأبد. لا يمكن فهم أفعال الشخصيات إلا في هذا السياق واستنادًا إلى هذه الخلفية. وفي ظل هذه الخلفية يختار ويسلر ويخاطر بحياته ويُجسِّد مفهوم الحظ الأخلاقي. لقد خاطر مخاطرة بالغة؛ هو ضابط ذو مكانة مرموقة في الإشتازي، لكن ضباط الإشتازي أنفسهم يتملَّكهم الخوف إلى حدٍّ كبير. وأبوابهم هي الأخرى قد تُطرق في منتصف الليل، وقد يُعتقلون لأسباب ظنِّية. لا يوجد سبيل قانوني مشروع يُعتمد عليه في ظل هذا النظام الاستبدادي، وذلك هو سر طبيعتهم القمعية. فمن يعرف ما يستحق الخوف أفضل من ضباط الإشتازي أنفسهم؟!

بينما يتنصت ويسلر على أنشطة دريمان وزيلاند ومحادثاتهما الخاصة، يصاحب اهتمامه تدريجيًّا، وعلى نحو ربما فاجأه شخصيًّا، نوعٌ متأنٍّ أو تأملي من الحسد. ليس ذلك النوع من الحسد النابع أساسًا من الرغبة في حيازة ما لدى شخص آخر أو أن تصير مثله، بل هو نوع من الحسرة على افتقاد الجوانب التي تجعل حياة دريمان وزيلاند حياة حافلة. ومن خلال هذه المقارنة، يصبح ويسلر واعيًا فيما يبدو بنوع الحياة التي يعيشها، وطبيعة شخصيته. لقد وُضعت حياته موضع مقارنة مع حياتهما فأصبح يراهما على حقيقتهما، بما يقدمانه من عمل ذي قيمة، يستمتعان به وما يجمعهما من علاقة حميمة يملؤها الحب. يُعد الاختلاف بين شقتهما المريحة والجذابة وبين شقته الخالية من الأثاث التي لا تحمل أيَّ طابع شخصي اختلافًا بارزًا وصادمًا، والفرق بين ممارستهما الجنسية المتَّقدة ولقاء ويسلر العارض مع عاهرة، تتقاضي أجرها على أساس النصف ساعة، وترفض البقاء قليلًا بعد الممارسة الجنسية لأن عميلًا آخر ينتظرها، لهو فرق قاسٍ ومحزن. إن ويسلر بصفته عضوًا في الحزب الشيوعي قد استوعب داخله ما تُجسِّده الدولة من تشكك بارد وفاتر يخلو من الحياة، على نقيض الحيوية والشغف والنزْر اليسير من الأمل لدى دريمان وزيلاند.

رغم ذلك، توجد صفة واحدة لا تنطبق على ويسلر؛ وهي النفاق في صورته الأوضح؛ ففي الأجزاء الأولى من الفيلم، نراه شخصًا يؤمن بهدف الدفاع عن الاشتراكية ضد ما تجلبه المُثل الليبرالية والانغماس الغربي في الملذات من فساد. ويبدو في الظاهر شخصًا مؤمنًا بالفعل بقضية؛ شخصًا ملتزمًا بأداء مهام دنيئة وكريهة إلى أقصى حد؛ لأنها ضرورية لأجل الدفاع عن التجرِبة الاشتراكية العظيمة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وهو في ذلك يتناقض بقوة مع رئيسه في الإشتازي، أنطون جروبتز، وهو شخص انتهازي شكاك لا يهتم إلا بمصلحته الشخصية. من الصعب تخيُّل جروبتز وهو يُبدي تأثرًا كبيرًا بالمراقبة المتلصصة لحياة الآخرين. إن انفتاح ويسلر على تأثير الآخرين على هذا النحو العميق يرجع جزئيًّا إلى أنه ليس شخصًا انتهازيًّا يخدم مصلحته الخاصة. والفيلم يذكرنا بمدى الاختلاف الذي قد يُحدِثه الآخرون دون علم منهم في حياتنا. فموضوعه الرئيسي هو تحوُّل ويسلر عبر إدراكه، في اللحظة الحاسمة، لحقائق مهمة حول نفسه والآخرين، تتعلق بما يقدره وما يعتبره صوابًا، وبالثمن الذي يتأهب لدفعه.

يدرك ويسلر في مرحلة مبكرة أن دريمان ظل، حتى تلك اللحظة، مواطنًا مخلصًا. (يتبدل ولاء دريمان كذلك مع أحداث الفيلم.) ويتضح له، فيما يشبه الصحوة، أن مهمة المراقبة التي كُلف بها تتعلق بابتزاز الوزير جنسيًّا لزيلاند، لا بالأمن القومي. يجاهد ويسلر لحيازة قدر يسير من النزاهة والحرية رغم كل ما يواجه من صعاب وفي ظل كآبة عامة، داخلية وخارجية، تطوِّق البلد بأسره (أي عالم أبطال الفيلم)، والتي نجح الفيلم إلى حدٍّ كبير في إعادة خلقها عبر تصوير عالم يتعرض فيه من يَقمعون ويُقيدون ويُروِّعون الآخرين إلى القمع والترويع كذلك. وهكذا يتحول من عميل محترف بلا قلب يعمل لصالح الدولة، كما يصوره الفيلم في البداية، إلى شخص آخر مختلف اختلافًا ملحوظًا، شخص أفضل. أولًا: كان على ويسلر تحديد ما يقدره، ما يرغب به ويعتقد أنه الصواب. ثم عليه — في وجه خصم شرس وخوف مبرَّر وغياب مخيف لأيٍّ ممن قد يلجأ إليهم كي يستمد تأييدًا لآرائه — أن يحاول بطريقة ما الحياة على النحو الذي يراه واجبًا أو الذي يرغب به على الأقل. لقد وجد نفسه في موقف يمنحه نوعًا من التكفير عن خطاياه، وقد نجح، وهو أمر يُحسب له، في إدراك طبيعة هذا الموقف عن حق واغتنامه.6
يضع الفيلم كل شخصية من شخصياته الرئيسية أمام أشرِّ مخاوفها خطرًا. فلننظر على سبيل المثال إلى نموذج الكاتب المسرحي دريمان. يعيش دريمان في شقة أنيقة مع زيلاند؛ لقد تمكن حتى الآن من إرضاء مسئولي الحكومة عبر كتابة مسرحيات ملهِمة حول الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بصداقة بعض من زملائه الكُتاب على الأقل، وربما احترامهم له. يتخلص دريمان تدريجيًّا من أوهامه حول الدولة بينما يرى تأثيرها على زملائه الكُتاب؛ فقد دفع النظام — ممثَّلًا في شخص هيمف، وهو نفسه وزير الثقافة الذي يبتز زيلاند جنسيًّا — صديقه ألبرت جيرجسكا إلى الانتحار عبر منعه من العمل وإفقاره. يلعب هذا الحدث دورًا محوريًّا في تحوُّل دريمان من فنان يعمل فيما يُطلق عليه «السجن المخملي» (وهو موقف مريح وداعم للفنانين شريطة أن يلتزموا بالقواعد الأيديولوجية للنظام) إلى ناقد للنظام.7

يوافق دريمان على تحدي السلطات والمساعدة في تهريب مقال له حول مدى انتشار حالات الانتحار في جمهورية ألمانيا الديمقراطية — وهي ظاهرة تتستَّر عليها الحكومة — إلى الصحيفة الألمانية الغربية دير شبيجل. يتستر ويسلر بانتظام على أنشطة دريمان؛ فقد رتَّب لنقل زميله إلى مهمة أخرى، وبدأ يسلِّم مجموعة من التقارير الزائفة (المضحكة غالبًا) حول نشاط دريمان (حسب التقارير، يكتب دريمان مسرحية عن لينين).

يتكشَّف الموقف في النهاية نتيجة لافتنان الوزير بزيلاند؛ إذ عزم، منذ رفضها له، على تدميرها. لقد نما إلى علمه أنها تعاني نوعًا من إدمان المخدرات، وأنها تبتاع عقاقير محظورة. وعليه، يعتقلها جروبتز، بأمر من الوزير، متذرِّعًا بتلك التهمة، ويستخدمها في الضغط عليها كي تُفصح عن مؤلف مقال دير شبيجل. تُهدَّد زيلاند بالسجن وفقدان مستقبلها المهني، فتعرض عليهم التجسس لصالح الإشتازي، بل وتعرض على جروبتز خدمات جنسية. لكن جروبتز، الذي لا تشغله سوى حياته المهنية، يهتم فحسب بما تعرفه عن مؤلف مقال المجلة. تَذْكر زيلاند في النهاية أن دريمان هو من كتب المقال، في مشهد لا نراه، لكنها تحجب معلومات ضرورية عنه؛ فلا تُفصح عن مخبأ الآلة الكاتبة التي استخدمها في كتابة المقال، وهي دليل حاسم يحتاجه جروبتز لاعتقال دريمان وسجنه. يُفتش عملاء الإشتازي شقة دريمان فلا يجدون للآلة الكاتبة أثرًا؛ ما يؤدي إلى فرض ضغوط أكبر على زيلاند؛ إذ يجلب جروبتز ويسلر (الذي أصبح جروبتز الآن يشك في كونه عميلًا مزدوجًا) كي يستجوبها. فتلك هي فرصة ويسلر الأخيرة كي يُبرئ ساحته أمام جروبتز، رئيسه في العمل؛ لا بد أن ينتزع منها معلومات حول مكان الآلة الكاتبة. وهكذا نتابع، في واحد من أكثر مشاهد الفيلم حزنًا (الدقائق من ٤٠ إلى ٤٤ من الساعة الثانية)، عملية الاستجواب حيث يحاول ويسلر استخلاص المعلومة من زيلاند، بينما يحاول، دون نجاح، طمأنتها خُفيةً عبر إشارات تُلمِّح إلى أن كل شيء سيصير على ما يرام (يتضح فيما بعدُ أن خطة ويسلر هي نقل الآلة الكاتبة قبل إرسال العملاء للبحث عنها)، تخفق زيلاند في فهم أيٍّ من تلك الإشارات. يحاصرها ويسلر أثناء التحقيق، ويجعل الوضع يبدو كما لو أنه لا يوجد خيار أمامها سوى الوشاية بدريمان. يكذب ويسلر عليها، فيدعي أن دريمان سيُسجن استنادًا إلى أدلة اكتشفوها بالفعل، ويخبرها أنه لا بد لها من إكمال خيانتها له حتى النهاية وإلا فستواجه السجن بتهمة حنث اليمين. يناشد حاجتها العميقة إلى فنها، ويرجوها أن «تتذكر جمهورها». تتفاقم الضغوط على زيلاند إلى حد لا يُطاق مع مصادرة الشرطة لعقاقيرها وما تمر به من محنة مروعة في إحدى زنزانات الإشتازي، فتستسلم سريعًا دون صخب.

تبحث قوات الإشتازي عن الآلة الكاتبة، فلا تجدها في المكان الذي ذكرته زيلاند؛ لقد نقلها ويسلر. تندفع زيلاند، فيما يعتبره بعض المشاهدين مشهدًا مصطنعًا بعض الشيء، خارج الشقة قبل أن يتضح فشل عملية البحث، وتسير متعمدة قبالة شاحنة على الطريق. يشير انتحارها (عند فحص المشهد عن كثب نكتشف أنها سارت متعمدة في طريق الشاحنة) إلى فشل خطة ويسلر في أحد أهم جوانبها. لقد أنقذ دريمان، لكنه لعب دورًا مساعدًا في موت زيلاند. عقب الإخفاق في إيجاد الآلة الكاتبة، وفي مواجهة حادث وفاة لم يتوقعه عملاء الإشتازي أنفسهم، تَصدُر أوامر بإنهاء عملية مراقبة دريمان، ويُصدِر جروبتز قرارًا بخفض رتبة ويسلر.

يُجسِّد باقي الفيلم اكتشاف دريمان، عقب ست سنوات ونصف، ما حدث فعلًا أثناء تلك الأحداث الفظيعة. لقد افترض أن زيلاند قد نقلت الآلة الكاتبة وأنقذته. لكن لقاءً مع هيمف، الذي لا يزال يعيش حرًّا طليقًا في ألمانيا الجديدة، يُغيِّر من تصوراته. يكشف له هيمف عن عملية المراقبة، التي لا تزال أجهزة التصنت المستخدمة بها موجودة بشقته. والآن أصبح في وسع دريمان الاطلاع على ملف الإشتازي الخاص به؛ حيث يكتشف أن ويسلر كان يحميه سرًّا، وأن زيلاند لم يكن بوسعها نقل الآلة الكاتبة، في حين كان لدى ويسلر فرصة القيام بذلك. يطلع دريمان كذلك على ما أعقب المهمة من خفض لرتبة ويسلر. وبناءً على تلك الاكتشافات، يهدي كتابه الجديد «سوناتا لأجل رجل طيب» إلى ويسلر مستخدمًا رمزه السري لدى الإشتازي. يصور المشهد الأخير في الفيلم ويسلر عندما يكتشف هذا الإهداء: «إلى إتش جي دبليو/إكس إكس ٧، عرفانًا بجميله». وبينما يبتاع الكتاب يسأله البائع ما إذا كان يرغب في تغليفه كهدية فيجبيه: «لا، إنه لي» (الدقيقة ٧ من الساعة الثالثة). وتعرض اللقطة الختامية للفيلم صورة ثابتة لوجه ويسلر (الذي يبدو أقل تجهمًا، وأكثر استرخاءً، وتتجلى عليه بوضوح علامات التأثر بل تكاد تزينه ابتسامة!) تصحبها موسيقى شاعرية بعض الشيء (تختلف اختلافًا بسيطًا عن باقي موسيقى الفيلم)، وتُجسِّد هذه اللحظة كنوع من الخلاص المؤجل. إن كفاح ويسلر لحماية هذا الفنان المنشق قد لاقى اعترافًا على الأقل، من الفنان نفسه في هدوء دون علم أحد تقريبًا.

أنواع الحظ

إذن، ما الدور الذي يلعبه الحظ في هذا القصة؟ يلعب الحظ أدورًا كثيرة بالتأكيد؛ لكن نظرة أعمق إلى هذا السؤال ستدفعنا إلى دراسة بعض النقاشات الفلسفية المؤثرة حول الحظ ودوره في الحياة، لا سيما في جانبها الأخلاقي. يصبح أي شيء خاضعًا للحظ، حسن الحظ أو سوئه، إذا كان يؤثر على أمر مهم بالنسبة لنا وإذا كان خارجًا عن نطاق سيطرتنا. ويميز توماس ناجل (١٩٧٩) بين أربعة أنواع مهمة من الحظ. أولًا: قد يكون المرء محظوظًا أو غير محظوظ في ظروفه. لقد كان من سوء حظ زيلاند أنها جذبت انتباه الوزير هيمف جذبًا شهوانيًّا. يُطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظًّا ظرفيًّا. ثانيًا: قد يكون المرء محظوظًا أو سيئ الحظ في شكله أو شخصيته أو طبعه أو مواهبه، وما إلى ذلك. علينا أن ندرك أن الناس ليسوا متحكمين تمامًا بكل جانب من جوانب شخصيتهم أو سماتهم المميزة، وذلك عنصر حاسم في حكمنا على الآخرين. (مع ذلك، سنزعم في الفصل الرابع عشر أن المرء يملك كذلك قدرًا من السيطرة على ما يتمتع به من فضائل ورذائل.) ويطلق ناجل على هذا النوع من الحظ حظًّا بنيويًّا. الحظ الظرفي والحظ البنيوي كلاهما عنصران متغلغلان كليًّا في حياتنا، ويؤثران تأثيرًا استثنائيًّا على مدى صلاح حياتنا أو ما تتمتع به من قيمة أو ما تستحقه من احترام وتقدير. القليل منا يُختبر إخلاصه مثلما اختُبر إخلاص زيلاند لدريمان، وكثير من الناس يحيَون حياة صالحة لا تشوبها شائبة لا لسبب سوى أنهم لم يتعرضوا لمواقف غير عادلة كتلك.

رغم أهمية وتغلغل هذين النوعين من الحظ، فإنهما لا يزعجان الفلاسفة بقدر ما يزعجهم نوع ثالث؛ نوع يُطلق عليه ناجل الحظ الناتج.8 قد يكون المرء محظوظًا أو تعس الحظ في نتائج أفعاله؛ فنحن نضع الخطط ونحكم على أنفسنا بناءً على مدى حكمة وجودة خططنا، لكن النجاح هو في الحقيقة المعيار الأهم وكثير من الخطط التي كانت ستلقى استنكارًا حال فشلها تلقى مديحًا لأنها نجحت. يستشهد برنارد وليامز (١٩٨١) في هذا السياق بالرسام بول جوجان، الذي هجر عائلته كي يمارس الرسم في جزر جنوب المحيط الهادي (يتلاعب وليامز بتفاصيل القصة؛ ولذا يعترف أن مثاله يطرح نسخة خيالية من حياة جوجان) إذا لم تتضح عبقرية جوجان في فن الرسم، فإن قراره بهجر عائلته كان سيلقى رد فعل سلبيًّا للغاية. وبسبب نجاحه نتسامح أكثر، وربما لدينا ما يُبرر ذلك، مع قراره، ويصبح لدينا مبرر للشعور بالامتنان لأنه اتخذ هذا القرار، أو هكذا يرى وليامز. حسب رؤية ناجل، تمتع جوجان بحظ ناتج حسن. وإذا كنا نعتقد أن هذا يؤثر إيجابًا على الحكم الأخلاقي على فعله، فسوف يُطلق على حظه الحسن حظًّا أخلاقيًّا حسنًا.
تُحيِّر احتمالية الحظ الأخلاقي الفلاسفة؛ لأنه يُفترض ظاهريًّا أن نتحمل مسئولية الأمور التي بوسعنا التحكم فيها فحسب. لا ينبغي أن تكون الأخلاق خاضعة للحظ، لكنها تبدو، في كثير من الحالات، وعلى نحو بديهي، مسألة خاضعةً كليًّا للحظ. تأمَّل على سبيل المثال حالة بستاني يعمل في حديقة يُسيِّجها سور طويل. ينظف البستاني الحديقة عبر قذف الحجارة الكبيرة فوق الحائط نحو طريق يقع على الجانب الآخر من السور. لا يستطيع البستاني تحديد موقع سقوط الحجارة، فربما تسقط على رأس أحد المارة في الطريق؛ ومن ثَمَّ هو يتصرف برعونة. إذا كان محظوظًا في نتائج أفعاله، فإن الحجارة لن تصطدم بأحد، ولن يتعرض أي شخص للأذى. وسيصبح الخطأ الذي ارتكبه البستاني هو أنه سلك سلوكًا طائشًا. لكن تخيَّل أن شخصًا ما أصيب بحجر أكبر من المعتاد من تلك الحجارة المقذوفة عبر السور، وتسبب في قتله؛ سيكتسب الخطأ حينها بُعدًا أكثر خطورة بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. لقد أصبح البستاني قاتلًا (ليس عن عمدٍ بالتأكيد). سوء الحظ يجعله قاتلًا، وحسن الحظ يجعله أحمق ليس إلا. يبدو إذن أن الحظ يلعب دورًا عظيمًا في موقفنا الأخلاقي لأنه يؤثر على مدى الخطأ الذي نرتكبه وطبيعته.9
في فيلم «حياة الآخرين»، نرى هذا النوع من الحظ الأخلاقي الناتج في الأحداث المرتبطة بزيلاند؛ فهي، تحت ضغط شديد، تخون حبيبها، خيانةً كانت ستُعرِّض دريمان لنتائج كارثية، مثل اعتقاله وسجنه. من وجهة نظر زيلاند، سيحدث ذلك لا محالة نتيجةً لخيانتها. لكن كما رأينا، تدخَّل ويسلر ونقل الدليل الحاسم (الآلة الكاتبة المُدانة)؛ ما منع حدوث تلك النتيجة. بالطبع هذا من حسن حظ دريمان. لكنه من حسن حظ زيلاند أيضًا؛ فقد تجنبت العواقب الأخلاقية الكاملة لخيانتها.10 إن خيانتها فعل سيئ، لكنها خيانة غير مجدية لا خيانة مدمرة للحياة. ومن المستبعد أن يُحكم على خيانة غير مُجدِية بنفس قسوة الحكم على خيانة مدمرة للحياة. إذا كان الحظ الأخلاقي ظاهرة حقيقة، فإن ميلنا الطبيعي للحكم على خيانة غير مُجدِية حكمًا أقل قسوة من حكمنا على الخيانة المدمرة للحياة يصبح صحيحًا؛ فالخيانة غير المُجدِية أقل ظلمًا من الخيانة المدمِّرة للحياة.11 لقد عانت زيلاند من سوء حظ ظرفي كبير، لكن في النهاية حَظيت بقدر ضئيل من حسن الحظ الأخلاقي. للأسف لم تحيَ طويلًا لتشهد ذلك.

الحظ والندم

حتى الآن لاحظنا التأثير المحتمل للحظ على الحكم الأخلاقي الصادر من طرف ثالث، وقد ركزنا على النماذج الأبسط للحظ الأخلاقي. إلا أن بحث بيرنارد وليامز الأصلي «الحظ الأخلاقي» يتناول قضايا أكثر تعقيدًا وأقل مباشرة في إطار بحثه لنقطة مختلفة نسبيًّا. كان وليامز مهتمًّا بطبيعة حكم الفرد بأثر رجعي على قراراته الحياتية المؤثرة. يلعب نموذج جوجان دورًا حاسمًا ها هنا؛ فالسؤال المحوري من وجهة نظر وليامز لا يتعلق بما إذا كان قرار جوجان بهجر عائلته من أجل امتهان الرسم في جزر جنوب المحيط الهادي أصبح مبررًا أخلاقيًّا على أثر نجاحه الفني أم لا. بل انشغل وليامز بما إذا كنا قادرين، بالنظر إلى الماضي، على تبرير قرار مهم لأنفسنا، ناهيك عن الآخرين، وكيفية ارتباط تلك العملية في أغلب الأحيان بنجاح المشروع أو الهدف الذي يشكل المشروع جزءًا منه أو فشله. إن نجاح المشروع أو فشله أمر قد لا يكون لنا سيطرة كبيرة عليه، هذا إن وُجدت من الأساس. لكنه يحدد مع ذلك كيف نُقيِّم هذا القرار، والأهم من ذلك ما إذا كنا سنندم ندمًا شديدًا على اتخاذه.

يشرح وليامز رؤيته (١٩٨١: ٣٥-٣٦) في الفقرة التالية (التي تنطوي على بعض الصعوبة):

توجد قرارات … معينة، تتعلق بمشروعات مهمة تؤثر على مسار حياة المرء حيث يتوحد الفاعل مع المشروع الذي تُتخذ هذه القرارات في سبيله توحدًا من شأنه أن يجعله يقَيِّم القرار حال نجاح المشروع من حياة تَدين بجزء بارز من أهميتها بالنسبة له إلى هذا النجاح في حد ذاته. وإذا فشل، قد لا يتمتع هذا القرار بالضرورة بذلك القدر من الأهمية في حياته. إذا نجح الفاعل في مشروعه، فمن غير المنطقي أن يرحب بالنتيجة بينما يندم على القرار من الأساس. وإذا فشل، فسيقيم القرار كفرد اتضح له عدم جدوى المشروع الذي اتُّخذت في سبيله القرارات، وهو أمر … لا بد أن يثير لديه أعمق مشاعر الندم … على هذا النحو يصبح القرار مبرَّرًا للفاعل لا للآخرين بالضرورة عن طريق النجاح.

عندما نتخذ خيارات حياتية جوهرية، كما فعل جوجان وكما فعل ويسلر في النهاية، نبدأ ما يشبه مشروعًا؛ أي أمرًا تتنوع طرق ودرجات نجاحه أو فشله. ونجاح هذا المشروع أو فشله أمر لا يخضع بالكامل لتحكُّمنا. علاوة على ذلك، تحدد القرارات الحياتية الجوهرية ما سنصبح عليه مستقبلًا، وهذه الذات المستقبلية هي من ستحكم على اختيارنا بأثر رجعي. قد يبدو هذا الكلام أشبه بفخ؛ على سبيل المثال، إذا اختار أحد الأشخاص الانضمام إلى طائفة دينية، فربما تؤثر هذه الطائفة — وستؤثر على الأرجح — على القواعد التي سيحكم وفقًا لها على قراراه بالانضمام إليها. سوف يتسبب انتماؤه لطائفة في تشويه حكمه إلى أن ينفصل عنها آخر المطاف. لكن وليامز لا ينشغل بهذا النوع من الخدع في الفقرة التي اقتبسناها لتوِّنا، بل يهتم بالأوضاع التي ستحيط بالفرد، في المستقبل، بينما يتخذ حكمًا بشأن خياراته الحياتية الأساسية، وبما إذا كان ينبغي له الندم عليها أم لا.

لكي نتجنب مواقف الندم العميق، لا بد أن نكون محظوظين من ناحيتين على الأقل. أولًا سنحتاج في معظم الحالات إلى قدرٍ من الحظ (أو إلى غياب سوء الحظ على الأقل) كي نضمن نجاح أهم مشروعاتنا. ثانيًا: لا بد أن نكون، في المستقبل، في موضع يمكِّننا من تقدير ذلك النجاح مثلما تصورناه أول مرة تقريبًا، وهو أمر لا يخضع بالضرورة لسيطرتنا. لم يكن بوسع جوجان التأكد تمامًا أن مشروعه الرامي لأن يصبح فنانًا عظيمًا سيلقى نجاحًا، ولم يكن بوسعه كذلك التأكد بما لا يدع مجالًا للشك أنه سيظل يحب الرسم بشغف وإخلاص. فماذا لو أصابه الملل من الرسم وأصبح يعتبره لهوًا فارغًا يناسب الهواة الساعين للهرب من متطلبات حياة كريمة كادحة؟ الخيارات الأساسية إذن محفوفة بالمخاطر، وقد ينتج عنها إخفاق كبير. (ينتقي وليامز مثالًا على اختيار فِشَل فشلًا ذريعًا من رواية تولستوي «أنا كارينينا»، حيث اختارت آنا ترك زوجها، وحاولت تأسيس حياة مع عشيقها، فرونسكي.)

لا تتساوى جميع الإخفاقات. يقارن وليامز بين الفشل المحتمل لموهبة جوجان أو مزاجه الفني وبين احتمالية إصابته بمرض وهو في طريقه إلى جنوب المحيط الهادي. يصف وليامز الإخفاق الأول بأنه إخفاق جوهري للمشروع، بينما يصف الثاني بأنه إخفاق غير جوهري. فيما يلي يقدم وليامز مقارنة بين النوعين (١٩٨١: ٣٦). القرارات الحياتية الرئيسية ليست:

مجرد قرارات محفوفة حقًّا بالمخاطر … لها نتائج مهمة. لا بد أن تكون النتيجة ملموسة بطريقة خاصة، طريقة تؤثر تأثيرًا مهمًّا في تصوُّر الفاعل عما يحمل أهميةً في حياته؛ ومن ثم يحدد موقفه عند تقييم هذا القرار بأثر رجعي. نستنتج من هذا أن مثل هذه القرارات هي بالتأكيد قرارات تنطوي على نوع من المخاطرة، نوع يساعدنا على شرح أهمية الاختلاف بين الإخفاق الجوهري وغير الجوهري فيما يخص المشروعات المرتبطة بها. في حالة الإخفاق الجوهري، يتضح أن المشروع الذي تمخض عنه القرار بلا قيمة، ولا يصلح كأساس داعم لحياة الفاعل. في حالة الإخفاق غير الجوهري، لا يتضح هذا، وعلى الرغم من حتمية اعتراف الفاعل بالفشل، فإن المشروع لا يُجرد من قيمته، وقد يساهم، في صورة تطلُّع جديد ربما، في إعطاء معنًى لما تبقَّى من حياة المرء. في حالة الفشل غير الجوهري يعجِز الفاعل — بينما يفكر بأثر رجعي ويبدي مشاعر الندم الأولية — عن التوحد توحدًا كاملًا مع قراره؛ ومن ثم لا يجد مبررًا لما فعله؛ لكنه في الوقت نفسه ليس منفصلًا تمامًا عن قراره، ولا يمكن أن يعتبره مجرد خطأ كارثي؛ ومن ثَم لن يجد نفسه في النهاية بلا مبررات.

عندما تخفق مشروعاتنا الرئيسية إخفاقًا جوهريًّا، ينهار الأساس الداعم لأحد الجوانب المحورية من حياتنا. ولا يبقى لدينا ما يبرر الأذى الذي ربما أوقعناه بالآخرين في خضم سعينا لتحقيق هذه المشروعات. أما في حالة الفشل غير الجوهري لمشروع رئيسي، يظل المشروع معقولًا من وجهة نظرنا ولا يمكننا اعتباره «خطأً كارثيًّا». لا يعتقد وليامز أن جوجان يستطيع تبرير سلوكه لعائلته التي هجرها، فليس مطلوبًا منهم أن يقولوا لأنفسهم: «حسنًا، لقد اتضح في النهاية أنه رجل عبقري مبدع. من الأفضل أنه هجرنا ولم يعبأ بمصيرنا وارتحل إلى الجزر.» لكن إذا اتضح أن رحلته إلى جنوب المحيط الهادي كانت مغامرة خيالية بلا قيمة، فلن يجد جوجان ما يقوله دفاعًا عن قراره أمام نفسه وأمام الآخرين. إن الحظ الأخلاقي في قصة جوجان يتمثل في حقيقة تجنبه لهذا المصير تحديدًا.

حظ ويسلر

من نواح عدة، تثير شخصية ويسلر في «حياة الآخرين» اهتمامًا أكثر من جوجان؛ فهو يخوض مخاطرات عظيمة، لكنه، على عكس جوجان، لا يخرج منها ظافرًا منتصرًا. رغم ذلك ينجح ويسلر ويحالفه الحظ بطرق واضحة وأخرى أقل مباشرة وأكثر إثارة للاهتمام على حدٍّ سواء. يتخذ ويسلر في خضم الأحداث قرارًا حياتيًّا جوهريًّا؛ فهو يهجر السردية التي تربط أجزاء حياته المفككة، فيهجر إيمانه بأهمية وحقيقة دوره في جهاز الإشتازي. ويشجعه سلوك هيمف وجروبتز على ذلك، في حين ينمو داخله احترام وإعجاب بدريمان وزيلاند. لا يتحول ويسلر نفسه إلى مُنشَق، وبعد خفض رتبته يستمر في العمل بالإشتازي (في قسم مراقبة الخطابات في السرداب) حتى انهيار جدار برلين. تزداد حياة ويسلر صعوبة دون شك بعد انهيار الجدار بسبب دوره السابق في الإشتازي على الأرجح. وهو الآن يعمل ساعيًا للبريد، ونراه يحمل الخطابات عبر شوارع برلين الرَّمادية القبيحة التي تشوهها الرسومات الجدارية، حيث يبدو وحيدًا ومتضائلًا. (قارن حياته الآن بحياته عندما نراه للمرة الأولى في الفيلم؛ إذ كان وقتها في ذروة تألقه المهني، محققًا ألمعيًّا بارعًا يعطي محاضرة لمجموعة من الطلاب يتطلعون إليه بنظرات يملؤها الإعجاب.) لماذا إذن نعتبره محظوظًا؟

قرر ويسلر حماية كاتب مُنشَق، وقد نجح في هذا. لكنه سعى كذلك إلى حماية زيلاند وأخفق في هذا المسعى. لا بد أنه مُثقَل بالندم حيال مصيرها استنادًا إلى دوره في تحققه. يُطلق وليامز على هذا النوع من الندم «ندم الفاعل»، وهو يختلف عن وخز الضمير الذي ينطوي على إحساس قوي بإخفاق أخلاقي عميق لدى المرء؛ ربما لا ينبغي لويسلر الشعور بوخز عميق للضمير على سلوكه في هذا الشأن تحديدًا. لقد استجوب زيلاند، وقد أدى هذا، على نحو غير متوقع، إلى انتحارها، لكنه لم يكن أمامه خيار أفضل في هذه المسألة. لقد فعل كل ما في وسعه، وخاض مخاطرة كبرى كي يمحوَ قدر ما يستطيع من الضرر الذي تسببت به أفعاله. رغم ذلك، كان ويسلر سببًا مباشرًا في ضياع زيلاند، وسوف يتضاءل في نظرنا إذا تعامل مع هذه الحقيقة باعتبارها نوعًا من الحظ السيئ ليس إلا، أو إذا تملَّص منها بأن يقول: «لو أنني لم أستجوبها، لاستجوبها شخص آخر أقل تعاطفًا بكثير معها.» من المفترض أن يشعر ويسلر بندم الفاعل فيما يخص دوره في استجواب زيلاند (وبتأنيب حقيقي للضمير حيال دوره في استجواب متهمين آخرين).

لم يكتفِ ويسلر بقرار حماية شخص ما، بل فعل ما هو أكثر. لقد اختار حماية مفاهيم لم يكن يرى لها قيمة حقيقية قبل هذه اللحظة، مفاهيم مثل حق المعارضة السياسية، وحق الخصوصية، وحق المرء في العيش بالطريقة التي يرغب فيها دون أن تحكم الدولة في ذلك. يتضح من تصرفات ويسلر (الذي لا نَطَّلع أبدًا على أفكاره) أنه تحوَّل إلى اعتناق تصور ليبرالي لمجتمع عادل، وتخلى عن الطموحات الاشتراكية لتجرِبة ألمانيا الشرقية. ويعبر هذا عن إعادة توجيه جذرية لرؤيته، ويعكس على الأرجح تقديره المتنامي لما تزخر به الحياة من تجارِب ثرية في ظل أوضاع ليبرالية. ربما بلغ ويسلر مستوًى أعمق بينما يعيد صياغة قيمه الأساسية؛ فربما ألهمه تذوقه الجديد للفن وما شهده من علاقة متَّقدة تسودها الحميمية والاهتمام في حياة دريمان وزيلاند المشتركة كي يعقد العزم على أن يحيا بدوره حياة أكثر ثراءً بالتجارِب والتواصل وبالشغف. لا يقدم الفيلم إجابة حاسمة عن هذا السؤال بأي شكل من الأشكال. (يظل ويسلر شخصية مبهمة، ويظل، لدواعي المفارقة، رجلًا منعزلًا، لا يُعرب أبدًا عن دوافعه، ولا يكشف عن أفكاره ومواقفه الأساسية إلا من خلال أفعاله.)

على أي حال، ينحاز ويسلر إلى الجانب الآخر، وبينما يقوم بذلك يخاطر بالتعرض للفشل، بكلا نوعيه الجوهري وغير الجوهري. مثال على الفشل غير الجوهري في حالة ويسلر هو عجزه عن حماية دريمان. (تخيَّل سيناريو تؤدي فيه التقارير الزائفة غير المتقَنة التي يُعِدُّها ويسلر إلى تعريض دريمان للخطر بدلًا من حمايته.) كان الفشل غير الجوهري سيؤدي إلى ندم حقيقي، لكن من نوع يختلف عن الندم الناتج عن الفشل الجوهري. أما احتمالية الفشل الجوهري فتكمن في مخاطرة ويسلر عند انحيازه إلى الجانب الآخر بفقدان مبرر حياته في المستقبل. تخيَّل أن القيم التي تبنَّاها عند تحوُّله أضحت فيما بعدُ جوفاء في عينه، ربما أصبح يرى الكاتب المنشق شخصًا يُحدث صخبًا نابعًا من انغماسه في ذاته وشعوره بأهميتها حول أشياء تافهة؛ أو بعبارة أخرى، أصبح يراه خائنًا حقًّا. تخيَّل أنه أصبح يرى صعود التيار الليبرالي في ألمانيا فشلًا في حد ذاته؛ نوعًا من تخلِّي الحكومة عن دورها في رعاية المواطنين وضمان المساواة والتآخي بينهم، واختيار طائش للوحشية النيوليبرالية لتحل محل نظام معيب حقًّا، لكنه قابل للإصلاح، من القيم الاشتراكية. يخاطر ويسلر بفشل جوهري، لكن هذا الفشل لا يحدث لحسن حظه. يبدو المشهد الأخير من الفيلم مصطنعًا وعاطفيًّا في نظر البعض، لكنه يشير في الواقع، إشارة واضحة وعملية، إلى نجاح ويسلر في مشروعه للتحول الذاتي. لقد أصبح شخصًا يستطيع تقبل تعبيرات الشكر الصادرة من رجل أنقذه يومًا ما عن طيب خاطر ودفع ثمنًا لا يُستهان به في سبيل ذلك. لقد استحق ويسلر تلك اللحظة. (ومن المهم ملاحظة أن هذه اللحظة لا ترمز إلى تطهُّر دولة ألمانيا الشرقية أو جهاز الإشتازي الذي أفسدها، بل تتمحور في الأساس حول إمكانية ظهور شخص مثل ويسلر.)

من الواضح أن ويسلر لا يندم على قراره من منظور الشخص الذي أصبح عليه فيما بعد. لكن هذا الوضع لم يكن قطُّ أمرًا يقينيًّا. لا أحد يعرف ذاته بما يكفي، وبالتأكيد لم يكن ويسلر يعرف ذاته بما يكفي، كي يصبح مُتَيقنًا من نتيجة كهذه. وقد حظي ويسلر بمساعدة طارئة في طريقه. لقد ساعده تحوُّل مجتمعه بعد سقوط الجدار، واختياره كان نفسه الاختيار الذي اكتسب مشروعية بعدما اعتنقه الكثيرون. إن مجتمعه الجديد أصبح يشاركه مفهومه الليبرالي المُكتشَف حديثًا عن العدالة، وتنكُّره لماضيه المهني هو تحديدًا الموقف الذي سيرحب به الجميع تقريبًا في ألمانيا الجديدة. لم يعد ويسلر يتعرض للاستنزاف على يد مؤسسة تعامله باحتقار لا شك فيه، وهي مؤسسة الإشتازي. والأهم من ذلك، أنه فهم نفسه فهمًا صحيحًا. لقد نجح في التحول إلى شخص قادر على تأمُّل عملية إعادة التقييم الجذرية التي خاضها ودعمها ونبذ أي هاجس حول تصرُّفه بطريقة خائنة وغير مهنية. خسر ويسلر خسارة عظيمة، لكنه اكتسب احترامًا لذاته يفوق في قوته ما كان يحظى به من قبل. ورغم ذلك كان ويسلر معرَّضًا لخسارة هذا الاحترام كذلك.12
إذا كنا محقين بخصوص الطابع التحويلي الذي يميز قرار ويسلر بحماية دريمان، فإن الفيلم يوضح بدقة مقارنة وليامز بين الإخفاق الجوهري وغير الجوهري وما ينتج عنهما من استناد النجاح الأخلاقي لحياتنا بقوة إلى أشياء ليس بوسعنا التحكم بها. تَشكك بعض الكتاب في منطقية تغيُّر شخصية ويسلر أثناء أحداث الفيلم؛ إذ يفترضون أن «من انتمى لجهاز الإشتازي، سيظل دومًا منتميًا له.» في حين بلغ آخرون حد الزعم بأن تطهُّر ويسلر يُقصد به تبرئة الإشتازي، أو على الأقل تخفيف المسئولية الملقاة عليه، مثلما يُصوَّر مثلًا عملاء الإشتازي على أنهم عالقون في وضع صعب، وأنهم يتبعون الأوامر وحسب. تقول هاوكر (٢٠٠٧):

توجد بعض المواقف يُبدي فيها فون دونرسمارك (مخرج الفيلم) اهتمامًا أكبر على ما يبدو بعرض شخصية ويسلر، مستخدمًا مزيجًا من المفارقة والسوداوية، بوصفه شخصًا مثاليًّا حالمًا، شخصًا مؤمنًا إيمانًا حقيقيًّا ويملك القوة على تطهير نفسه والآخرين. ثمة أمر مزعج حيال هذه النزعة في الفيلم، أمر يؤدي إلى ضياع سياق القصة؛ أي عالم الإشتازي، وتبدده.

رغم ذلك، وبالنظر إلى أن ويسلر هو الوحيد الذي يمر بهذا التغير — قطعًا لا يمر به هيمف وزير الثقافة المثير للاشمئزاز ولا جروبتز — قد نزعم أن صناع الفيلم يتفقون على لا معقولية تغيُّر كهذا. لكن هذا لا يعني استحالته، وإذا كان هذا التغير الجذري مقبولًا كأمر طبيعي، فلن توجد إذن قصة تستحق أن تُروى. إن نجاح «حياة الآخرين» وقوته يعتمدان على لا معقولية التغير الذي خاضه ويسلر. لكن اللامعقولية لا تعني الاستحالة. التحول الذاتي الناجح يتطلب حظًّا، وفي بعض الأحيان يحالف الناس الحظ. بالطبع لم يكن تحول ويسلر مجرد مسألة حظ، لكن الحظ لعب دورًا في حياته. فربما لم يقابل قطُّ الكاتب والممثلة، ربما لم يُعجب بهما على الإطلاق، ربما أخطأ تمامًا في فهم ذاته؛ فاعتقد أنه اكتشف أمرًا عميقًا وذا أهمية بينما هو في الحقيقة مفتون فحسبُ بشخصين ساحرين من محبي الفن. لكنَّ أيًّا من ذلك لم يحدث. لقد فضل الحظ في النهاية عميل الإشتازي الصارم والمنعزل الذي تحوَّل إلى شخص أفضل.

أسئلة

  • هل السؤال «ماذا كنت سأفعل في موقف كهذا؟» سؤال فلسفي مهم؟ أهو سؤال فلسفي من الأساس؟

  • ما هو «الحظ البنيوي»؟ ما مدى أهميته في تقييم المسئولية الأخلاقية؟

  • كيف يرتبط الندم بمشكلة الحظ الأخلاقي؟

  • هل ويسلر رجل نزيه؟

  • هل أحبت زيلاند دريمان؟ هل خانته؟

  • ما التداعيات التي قد تفرضها قضايا الخصوصية والمراقبة والسلطة الاستثنائية للدولة في «حياة الآخرين» فيما يتعلق بسلوك الحكومات الديمقراطية الليبرالية، لا سيما في متابعتهم «للحرب على الإرهاب»؟

هوامش

(1) Das Leben der Anderen (2006), directed by Florian Henckel von Donnersmarck.
(2) The quotation is from pages 14, and 41-42 but some of the sentences have been rearranged here. For an account of integrity in relation to the “fragile self” see Cox, La Caze & Levine (2003).
(3) See Havel (1985 [1978]) for a paper relevant to The Lives of Others. Havel gives both a theoretical and practical account of the nature and workings of what he terms the “post-totalitarian” state and something of how people lived and functioned in it. He distinguishes states like the German Democratic Republic and his own Czech state at the time from previous dictatorships and totalitarian states.
(4) The Ministry for State Security, (German: Ministerium für Staatssicherheit) known as the Stasi. The Stasi had one spy for every 66 citizens and, according to one report, an additional 189,000 informers. That is about one in 100 informers, including about 12,000 West German informers, in a country of 16 million. “[P]olitical ideals served as the primary motivation for people to turn in their neighbors, friends and acquaintances to the secret police. Financial incentives played only a minor role and blackmail was rare” (http://www.dw-world.de/dw/article/0,,3184486,00.html, March 11, 2008, retrieved July 13, 2010).
(5) See Feder (1982); Martin (1986); McKinnon (1991).
(6) One aspect of Wiesler’s transformation, which we have not emphasized here, is his growing experience of art. The first really notable alteration in him is observed (at 0:52) when he listens in on Dreyman playing a piano piece, “Sonata for a Good Man,” in honor of his friend Albert Jerska, who had just committed suicide. Earlier, Wiesler steals a book of Brecht’s poetry from Dreyman and (at 0:50) we listen in as he reads a poem about aesthetic attentiveness. The role of art in political and ethical transformation is an important theme of the film, though not one developed with philosophical depth.
(7) See Haraszti (1987).
(8) The fourth kind of luck Nagel calls causal luck. It is the kind of luck we examined when we discussed free will in chapter 7.
(9) This example was used by Adam Smith in his Theory of Moral Sentiments (1759). Smith thinks that the gardener who kills negligently ought to be hanged; the lucky gardener ought to be chastised or fined.
(10) Of course, the mitigating circumstances surrounding Sieland’s betrayal of Dreyman are profound. Throughout the course of the movie’s action, she has been abused, raped, threatened, and lied to by agents of the state.
(11) We are merely illustrating the phenomenon here. There is considerable controversy about how to respond to cases like this. Moral theorists inspired by Kant tend to reject the possibility of moral luck (see chapter 13 for a discussion of these kinds of theories). Virtue theorists may respond to the cases in various ways, accepting that exhibitions of virtue and vice are not properly subject to resultant luck; but saying that such luck has significant effects on a person’s assessment of their lives anyway. (See chapter 14 for a discussion of these kinds of theories.)
(12) Contrast Wiesler’s success with morally unlucky Briony Tallis in the movie Atonement (2007). As a 13-year-old she changes the course of several lives including her own when she accuses her older sister’s lover of a crime she knows he did not commit–though at the time she is unable to fully acknowledge she knows he did not commit it. From that point on her life is focused on and absorbed by an irrevocable, basic, and consuming regret. She has made a horribly risky significant decision with which she cannot possibly identify, and so endorse, in the future. Her failure is an intrinsic failure. She cannot possibly justify those harmful actions to herself from the perspective of the person she becomes. Briony suffers what many unconsciously fear; a life consumed by and given over to regret. She has done something that can never be made right. The Lives of Others focuses on Wiesler’s transformation, but, considering how many lives he must have wrecked in his Stasi career, is he not more like Briony than the audience is encouraged to believe? The difference seems to be that Wiesler’s atonement is real, Briony’s is imaginary.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤