الفصل الخامس

العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت

مقدمة

ديفيد يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، يزن ستين رطلًا، ويبلغ طوله أربعة أقدام وست بوصات. شعره بني. حب ديفيد حقيقي، لكن ديفيد ليس حقيقيًّا.

كان هذا الشعار الدعائي لفيلم «ذكاء اصطناعي» (٢٠٠١). سوف نستخدم نموذج ديفيد ونحن نبحث فلسفة الذكاء الاصطناعي. نناقش ها هنا زعمًا طموحًا إلى حدٍّ استثنائي وهو ما إذا كان ممكنًا (ربما في المستقبل القريب) خلق كائنات ذكية واعية، كائنات لا تكتفي بحل المعضلات فحسب بل تدرك ما تقوم بحله ولماذا، كائنات تفهم ما تتحدث عنه وتدرك ماهيتها، كائنات تملك معتقدات ورغبات حقيقية وتشعر بأحاسيس وتشعر بمشاعر حقيقية. يتمحور السؤال الفلسفي الرئيسي ها هنا حول فكرة الاحتمالية: هل هذا محتمل من الأساس؟1 في هذا الفصل لا يلقي الفيلم الذي وقع عليه اختيارنا ضوءًا كبيرًا على هذه القضية. عوضًا عن ذلك أُعدت مناقشاتنا الفلسفية بهدف توضيح الفيلم والاحتمالية التي يُجسِّدها. السؤال المحوري هو ما إذا كانت المخلوقات التي تتمتع بذكاء اصطناعي لديها حياة داخلية، والسبب الرئيسي الذي يَعوق أفلامًا مثل «ذكاء اصطناعي» عن مساعدتنا حقًّا في محاولة الإجابة عن هذا السؤال هو أنه من السهل جدًّا على تلك الأفلام التهرب من السؤال. غالبًا ما تعج أفلام الخيال العلمي بروبوتات واعية، لكن هذا لا يساعد على الإجابة عن سؤال يتعلق بما إذا كان ذلك ممكنًا حقًّا. الأفلام لا توضح لنا الحياة الداخلية لشخصياتها، سواء البشر أو الروبوتات، بل تتركنا لاستنتاج هذه الحياة الداخلية، وهي في ذلك لا تختلف كثيرًا عما يحدث في الحياة العادية.2 عندما يقدم لنا أحد الأفلام شخصية أُعدت لأداء دور روبوت واعٍ ضمن أحداث الفيلم، لا بد أن نستنتج كونه واعيًا من طريقة تصرفه. لكن لدى صنَّاع الأفلام طرق كثيرة لضمان توصُّلنا إلى هذا الاستنتاج دون الخوض في مناقشة حول ما إذا كان الروبوت واعيًا حقًّا أم لا.3 نحن نميل إلى عزو الوعي إلى الروبوت ما دام سلوكه يبدو ذكيًّا وصريحًا وذا معنًى وما دام الروبوت يُعامل في الفيلم كما لو كان واعيًا (على سبيل المثال الروبوت هال في فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» (٢٠٠١: سبايس أوديسي) (١٩٦٨))؛ ومن ثم ننقاد بسهولة إلى تبنِّي ما يُطلق عليه الفيلسوف دانيال دانيت (١٩٨٩) «الموقف القصدي» حيال تلك التجسيدات. يسهِّل صناع الأفلام هذه المَهمة عبر إعطاء الروبوت شكلًا بشريًّا (مثل الروبوت سوني في فيلم «أنا روبوت» (آي روبوت) (٢٠٠٤))، ويجعلونها في غاية السهولة حقًّا عندما يُسندون دور الروبوت إلى شخص حقيقي (مثل روبن وليامز في فيلم «رجل المائتَي سنة» (بايسينتينيال مان) (١٩٩٩)). وفي «ذكاء اصطناعي» تمكن سبيلبيرج من تحقيق التأثير الذي أراده عبر إسناد دور الروبوت الصبي إلى صبي حقيقي وهو هالي جويل أوزمنت (حقًّا قد ولَّت أيام الروبوت المعدِني أرتو دي تو في فيلم «حرب النجوم»).

يقدم الفيلم شخصية ديفيد في دور روبوت واعٍ تمامًا، ويعلن عن هذا بوضوح؛ إذ تُصرِّح شخصية البروفيسور هوبي في بداية الفيلم (الدقيقة ٦) أن ديفيد هو نوع جديد من الروبوتات، نوع مصمم بحيث يتمتع بحياة داخلية؛ أي إنه يشعر ويتخيل ويَتوق ويحلم. هل كان هوبي محقًّا في وصفه للروبوت؟ هذا هو السؤال الذي سننشغل به على مدار هذا الفصل. لا «يبدو» ديفيد واعيًا فحسب، بل يتمتع بوعي عميق ومتكامل؛ فلا يبدو مستوعبًا لما يحيط به فقط، بل يجاهد لإرضاء رغباته، ويشعر بمشاعر على ما يبدو. يبدو أنه يشعر بحب الصبي لأمه (ليست أمه الحقيقية بالطبع بل مونيكا؛ الشخصية التي يعتبرها أمه). ينطلق ديفيد في مَسعاهُ للتحول إلى صبي حقيقي (أي صبي عضوي لا آلي) من أجل أن يستعيد حب مونيكا. ويخبرنا الشعار الدعائي أن حبه حقيقي، لكن كيف يتأتَّى هذا؟ ما الذي يحتاجه الحب كي يصبح حقيقيًّا؟ قبل أن نشق طريقنا عبر فلسفة الذكاء الاصطناعي، يجدر بنا التوقف للحظة وتأمُّل هذا السؤال. ما الذي يجعل الحب حبًّا حقيقيًّا؟ تعتمد الإجابة بالطبع على ما نعنيه بالحب.

لا يحب الطفل والديه مثلما قد يحب شخصٌ ناضج شخصًا آخر ناضجًا، أو مثلما قد يحب شخص ناضج طفلًا (على الرغم من أن التشابه بين الحالتين جدير بالملاحظة). حب الطفل هو شكل من الاعتماد العاطفي في المقام الأول — شكل خاص مفعم بالحيوية، لكنه في النهاية يظل شكلًا من الاعتماد. يتألف حب ديفيد من ميل إلى إبداء العاطفة، مرارًا وتكرارًا، إلى جانب نوع من الحاجة المُلحَّة، الحاجة إلى عاطفة مونيكا وقربها واهتمامها وقبولها وحضورها. لا يحتاج ديفيد أن ترعاه مونيكا بطريقة عملية (فهو روبوت، وهي ليست مسئولة عن صيانته). رغم ذلك هو يحتاج أن «تهتم» به. لا يحتاج ديفيد أن تكون مونيكا سعيدة فقط، بل يحتاج أن تكون سعيدة معه؛ أي راضية عنه وسعيدة في صحبته أيضًا. في بلاد الإغريق قديمًا، ميَّز الفلاسفة بين ثلاثة أنواع من الحب: الحب الشهواني، والمحبة، والألفة. يعتمد الحب الشهواني — وهو عادةً، وإن لم يكن بالضرورة، الحب الشَّبقي أو الجنسي — على رغبة وحاجة عاطفية (الحاجة العاطفية هي رغبة قد تؤدي حال عدم إرضائها إلى ضرر عاطفي كبير). أما المحبة الخالصة فهي نوع من الحب المُنزَّه من الأغراض، الحب الذي يمنح المتلقي قيمة بدلًا من أن يستمد منه قيمة، ونموذجه هو الحب الذي يُقال أحيانًا إن الله يشعر به تجاه البشر، وربما المخلوقات جميعها، أو حب الوالدين لطفلهما. وعلى النقيض تأتي الألفة، وهي مزيج من النوعين. عمليًّا هي نوع من المتعة المستمدة من الصداقة، ومن الاهتمام والاحترام اللذَين يُكنُّهما المرء لأصدقائه. في ضوء هذا التصنيف الثلاثي، يبدو أن حب الطفل لوالديه شكل من الحب الشهواني وحب ديفيد لمونيكا يُجسِّد نموذجًا معبرًا عن ذلك. في هذا الصدد يبدو حب ديفيد لأمه لا يختلف كثيرًا عما تتوقع من أي طفل طبيعي في الحادية عشرة من عمره. هو حنون وأناني ومتمركز حول ذاته وضعيف وحساس.

ربما يبدو حب ديفيد لمونيكا أشبه كثيرًا بحب الطفل، لكن هل يحبها حقًّا؟ يمنعنا سببان من الإجابة عن هذا السؤال بنعم. الأول أمر ذكرناه بالفعل؛ وهو أن ديفيد روبوت، ليس إنسانًا من لحم ودم، هو إنسان آلي أو «ميكا» كما يطلقون عليه في الفيلم. هل يُعتبر حب الإنسان الآلي تجرِبة عاطفية من الأساس؟ ربما كان حبه مجموعة من السلوكيات الروتينية التي تحاكي سلوك الحب ليس إلا. ربما هو شيء يشبه الحب كثيرًا من الناحية الظاهرية، بينما لا يحوي في باطنه سوى فراغ. ربما كان الأمر كذلك. لكن يوجد سبب آخر يدفعنا إلى الشك في حقيقة أو أصالة حب ديفيد لمونيكا؛ لقد صُمم ديفيد خصوصًا كي يتعلق عاطفيًّا برمز أبوي. هل الحب الذي زرعه المصمِّم داخله هو حب حقيقي؟ هل هو حب «أصيل»؟ لقد صُمم ديفيد كي يحب، بطريقته الطفولية بالغة الحدة، الشخص الذي يطبع بصمته عليه أولًا. يقتضي نظامُ البصمة ترديدَ قائمة من كلمات مِفتاحية بالترتيب مع لمس جسد ديفيد عند نقاط معينة. وهي عملية محددة سلفًا إلى حدٍّ كبير، وآلية. رغم ذلك فإن مشهد طبع البصمة (الذي يبدأ في الدقيقة ٢١، الثانية ٤٥ من الفيلم) مشهد رائع حقًّا بفضل أداء أوزمنت البارع والبعيد عن المبالغة. قبل طبع البصمة، يؤدي أوزمنت دور ديفيد أداءً متصلبًا للغاية؛ إذ يجلس جامدًا بينما تعلو وجهه ابتسامة ثابتة أشبه بابتسامة معتوه. يبدو وجه ديفيد عادةً إما جامدًا أو مشوهًا نتيجة لتعبيرٍ مُبالَغ فيه (كما هي الحال في مشهد الضحك في الدقيقة ١٩، الثانية ٥٠ من الفيلم). لكن في مشهد طبع البصمة تَلين ملامح ديفيد، وتبدو نظرته أكثر طبيعية، ويكتسب التعبير على وجهه سَمتًا أكثر بشرية. إن عملية طبع البصمة تُحول الروبوت إلى شيء أشبه كثيرًا بالإنسان. لكنها رغم ذلك ليست سوى عملية مثبتة داخله مسبقًا. هي ليست تجرِبة اختار ديفيد خوضها أو شيئًا حدث له في المسار الطبيعي للأحداث، بل هي عملية أُعد لخوضها بطريقة محددة جدًّا. هل يعني هذا أن ارتباط ديفيد العاطفي بمونيكا ارتباط مصطنَع ومزيَّف؟

من الصعب تحديد مفهوم التجرِبة العاطفية «الأصيلة» بدقة، لكنه على ما يبدو يرتبط جزئيًّا بالسبب وراء التجرِبة العاطفية. على سبيل المثال، إذا جعلنا شخصًا ما سعيدًا عبر حقنه ﺑ «عقار السعادة»، فإن سعادته لن تبدو سعادة أصيلة؛ فهي لم تحدث على النحو الصحيح، إذا جاز القول. وقد نزعم أن ذلك الشخص ليس سعيدًا حقًّا، بل هو واقع تحت تأثير العقَّار فحسب. في حالة ديفيد، نجد أن حبه لمونيكا ناتج عن سبب غريب؛ ألا وهو عملية طبع البصمة المصممة لغرض محدد. ديفيد مُصمم كي يشعر بالحب فور تفعيل برنامج البصمة؛ ألا يشبه ذلك حقنه ﺑ «عقَّار الحب»؟ لكن من ناحية أخرى قد تكون فكرة أصالة حب الطفل لوالديه في حد ذاتها فكرة غير مناسبة. أليس نظام البصمة لدى ديفيد هو، من نواحٍ عديدة، نسخةٌ مُبالَغ فيها من المصدر الذي ينبع منه حب أي طفل؟ يُشكِّل الأطفال ارتباطًا عاطفيًّا بآبائهم، ويُكوِّنون اعتمادًا عليهم، وهو سلوك يرجع في جزء منه على الأقل إلى الجينات. إذا اعتبرنا حب ديفيد غير أصيل لأنه مثبَت مسبقًا، فربما يصبح حب أي طفل لأمه غير أصيل كذلك لنفس السبب. نحن لا ننزع إلى الشك في حقيقةِ أو أصالةِ حب الطفل لوالديه؛ لذا ربما لا ينبغي لنا التشكك في حب ديفيد لأن أصله يرجع إلى المصمم.

إذا كان حب ديفيد غير حقيقي، فإن هذا لا يرجع إلى كونه مستمدًّا من برنامج البصمة المثبَّت مسبقًا، بل يرجع لكون ديفيد روبوتًا. ديفيد هو جهاز آلي، وربما تكون الأجهزة الآلية في الواقع مجرد مجموعة من الآلات الحاسوبية المعقدة. ربما هي عاجزة حقًّا عن فهم أي شيء أو الشعور بأي شيء. يطرح هذا الزعم اعتراضين أساسيين؛ الأول ينسب نوعًا من القصور الإدراكي إلى الآلات الحاسوبية؛ فوظيفتها تقتصر على التعامل مع الأرقام والرموز ومعالجة المعلومات فحسبُ، وليس في وُسعها أبدًا إدراك ما تقوله أو تفعله. أما الاعتراض الثاني فينسب لها قصورًا عاطفيًّا: الآلات الحاسوبية عاجزة عن الشعور بأي شيء، ربما تستطيع تنفيذ برامج عاطفية، فتتصرف كما لو كانت سعيدة أو مضطربة، لكنها من داخلها جامدة تمامًا، ولا تشعر بأي شيء. ما مدى منطقية هذين الاعتراضين؟ ما الأساس الذي يدعمهما؟ سوف نتوجه إلى ميدانَين من ميادين الفلسفة؛ سعيًا للإجابة عن تلك الأسئلة، وهما: فلسفة الذكاء الاصطناعي، وفلسفة العقل.

هل في وسع الروبوت فهم أي شيء؟

الذكاء الاصطناعي هو علمُ (وفنُّ) صناعة آلات قادرة على أداء عمليات ذكية حقًّا. تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي هزيمة أفضل لاعبي الشطرنج في العالم، والفوز في برنامج المسابقات التليفزيوني «المحك!» (جيبردي)، والمساعدة على تصميم جسر كيلا ينهارَ حالَ ارتطام شاحنة بأحد الأعمدة التي ترفعه، وتأليف موسيقى تروق للأذن إلى حدٍّ مدهش (وفي بعض الأحيان تكون جيدةً حقًّا). أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تُدعى روبوتات الدردشة في وسعها إجراء محادثة معك. لا يمكن إنكار أن لهذه التكنولوجيا عيوبها، والمحادثات التي تجريها روبوتات الدردشة قد تكون غريبة حقًّا. فيما يلي نموذج لمحادثة بين إنسان وروبوت دردشة؛ لن تلقى صعوبة كبيرة في تمييز الإنسان عن نظام الذكاء الاصطناعي.

جورج : مرحبًا، اسمي جورج وأنا إنسان.
جون : مرحبًا أنا جون.
جورج : من أي بلد أنت؟
جون : أنا أعيش على جزيرة مارثاز فينيارد.
جورج : سوف أذهب إلى المريخ، وسوف أحطم وجهك بمضرب البيسبول!
جون : حسنًا … هذا رد وقح بعض الشيء.
جورج : أنا لست مثقوبًا.
جون : لستَ مثقوبًا؟ تقصد مِثقابًا أو ما شابه؟ مِثقاب الحَفر؟
جورج : بعض الشيء.
جون : حسنًا، من أي بلد أنت؟ وكم عمرك؟ … إلخ.
جورج : عمري ٣٩.
جون : وهل تقيم …؟
جورج : لا، أنا أعيش في هولندا.
جون : في أي جزء منها؟ المدينة أم الريف؟ هل تزرع الأزهار أيضًا؟
جورج : أزرع الكثير من الأزهار. وسوف أزرع طماطم قريبًا.
جون : لقد تأخرت قليلًا على موسم زراعة الطماطم.
جورج : لا، حيوان قليل.
جون : حسنًا، فلنكتفِ بهذا الحديث الآن. سوف أذهب للتحدث مع روبوت آخر.
جورج : حسنًا إذن، شكرًا على مشاركة فرشاة شعرك معي.
جون : ماذا تقصد؟ كيف شاركتك فرشاة شعري؟
جورج : جيد.
جون : جيد؟
جورج : نعم.
جون : يا لها من محادثة عميقة!
جورج : بل وأسوأ من ذلك، لقد تبرعت بها إلى جمعية خيرية.
كان ذلك نص محادثة أُجريت كجزء من مسابقة جائزة لوبنر عام ٢٠٠٥ لروبوتات الدردشة.4 وقد فاز جورج بها (بالطبع جورج هو البرنامج الحاسوبي، وليس جون)، وهو نسخة من برنامج ممتاز وفعال لروبوتات الدردشة يُدعى «جابرواكي».

تختبر المسابقة مهارة المحادثة عبر تشغيل نسخة مما يُعرف باسم «اختبار تيورنج»؛ حيث يوضع الإنسان في مواجهة الآلة. في هذا الاختبار يُجري أحد الأفراد حديثًا مع إنسان ومع آلة حول أي موضوع يختاره، ويهدف الاختبار إلى اكتشاف أيٍّ من الطرَفين اللذَين تحدث معهما هو الآلة ومَن هو الإنسان. إذا لم يستطع الفرد معرفة الفرق بينهما، تُعتبر الآلة ذكية حقًّا. تُطبِّق مسابقة جائزة لوبنر نسخة محدودة من اختبار تيورنج (حيث المحادثات أقصر كثيرًا من تلك التي يتضمنها الاختبار الكامل). عجز جورج بالطبع عن اجتياز هذه النسخة المحدودة من الاختبار، لكن أداءه تفوَّق على البرامج الأخرى في المسابقة.

ابتكر ألان تيورنج (١٩١٢–١٩٥٤)، عالم الرياضيات العظيم ومؤسس علم الكمبيوتر، اختبار تيورنج عام ١٩٥٠. اعتقد تيورنج أن الكفاءة التحاورية هي اختبارٌ كافٍ لتحديد برنامج الذكاء الاصطناعي الناجح. لم يزعم أن كل آلة ذكية لا بد أن تكون قادرة على إجراء محادثة جيدة — فهناك أوجه أخرى كثيرة للتمتع بالذكاء — لكنه زعم أن أيَّ آلة تستطيع أن تُوهِمنا بأننا نتحدث مع إنسان لا بد أن تكون آلة ذكية. إن الذكاء التحاوري نوعٌ يحتاج لتلبية الكثير من المتطلبات؛ إذ يستلزم وجود قاعدة بيانات ضخمة من المعرفة السابقة، وقدرةً على بحث هذه البيانات بسرعة الضوء، إلى جانب إتقان ضليع للغة البشر. علاوة على ذلك، هو يتطلب قدرة على متابعة الحديث عندما تتغير الموضوعات فجأة، والاحتفاظ بالمعلومات ذات الصلة (المعلومات ذات الصلة فحسب) طوال المحادثة، وإعداد ردود مناسبة ووثيقة الصلة بالموضوع وغيرها من المتطلبات. لم تستطع أي آلة حتى الآن الاقتراب من اجتياز اختبار تيورنج. إلا أن روبوتات الدردشة تتحسن كلَّ عام.5

في فيلم سبيلبيرج، اجتياز اختبار تيورنج أمر في غاية السهولة. فحتى دمية الدب الخاصة بديفيد في وسعها اجتياز اختبار تيورنج. لكن ما الذي يقيسه اختبار تيورنج تحديدًا؟ هو يقيس مستوى الكفاءة التحاورية؛ أي «السلوك» التحاوري. إنه لا يختبر الفهم التحاوري بالضرورة. لقد تمكَّن جورج من إجراء نسخة طبق الأصل مما نُطلق عليه محادثة (وإن كانت تشبه محادثة مع شخص شبه مخبول)، لكن لا يمكن زعم أنه يفهم ما يتحدث عنه. فجورج يتبع القواعد ليس إلا. هو يبحث عن الكلمات في قاعدة البيانات لكنه لا يعرف ما الذي يشير إليه أيٌّ من المدخلات، ويُعِدُّ ردودًا، لكنه لا يعرف معناها. هل كان هذا سيتغير لو أصبح جورج، أو أحد أحفاده من روبوتات الدردشة، بارعًا حقًّا في إعداد إجابات تجتاز اختبار تيورنج؟ من الصعب الإجابة عن سؤال كهذا. لقد ابتكر الفيلسوف الأمريكي جون سيرل تجرِبةً افتراضية شهيرة جدًّا تهدف إلى حل هذه المسألة، يُطلق عليها تجرِبة الغرفة الصينية (سيرل ١٩٨٠–١٩٨٤).

الغرفة الصينية

تخيَّل أنك استيقظت من نومٍ ناتج عن تأثير مخدِّرٍ لتجد نفسك في غرفة. تحتوي الغرفة على خزانة ملفات عملاقة، وسلَّة مليئة بقوالب على شكل رموز غريبة، وطاولة وأقلام رصاص وورقة، وملف يحمل عنوان «تعليمات السيد». يوجد بالغرفة كذلك فتحتان لإدخال الأشياء وإخراجها من الغرفة، مكتوب فوق إحداهما «مُدخَلات» وفوق الأخرى «مُخرَجات». تنزلق قوالب عبر فتحة المدخلات الواحدة تلو الأخرى، وهي في الظاهر أشبه برموز. في الوقع تشبه إلى حدٍّ ما الرموز الموجودة في السلة، وتبدو مثل شخبطات عشوائية (على حد وصف سيرل). بل هي فعليًّا تشبه إلى حدٍّ كبير حروف اللغة الصينية، وهي لغة سنفترض أنك لا تستطيع قراءتها. ما المطلوب منك فعله بهذه الرموز؟ ستلجأ، بعدما تصيح طلبًا للمساعدة دون جدوى، إلى الحل البديهي؛ ألا وهو مراجعة ملف «تعليمات السيد». ستخبرك التعليمات بما عليك البدء بفعله، وهي لحسن الحظ مكتوبة بالإنجليزية. وعليه يتضح أن مَهمتك هي تسجيل ترتيب وصول الرموز إلى الغرفة، ثم البحث عنها بنفس الترتيب في فهرست خزانة الملفات. يعقُب ذلك مجموعات إضافية من التعليمات، وهي تعليمات معقَّدة تعقيدًا رهيبًا، لكنها مُصاغة بلغة إنجليزية جيدة ومحددة للغاية، وتوضح لك ما عليك فعله بالضبط، وترتيب فعله. يخبرك البند الأخير من التعليمات بأن تختار رمزًا محددًا من السلة الموجودة بالغرفة، ثم تدفعه عبر فتحة المخرجات. وهكذا تتبع التعليمات يومًا بعد يوم، بل وتصبح بارعًا في اتباعها.

تلك هي غرفة سيرل الصينية (غيَّرنا بعض التفاصيل الفرعية تيسيرًا للعرض). لقد تخيَّل الكمبيوتر من الداخل. في هذه الغرفة، يتبع الفرد عمليةً حاسوبية لمعالجة الرموز، وذلك هو جُلُّ ما تفعله أجهزة الكمبيوتر على حد قول سيرل. ذلك حقًّا هو كل ما «تستطيع» فعله. تشبه الغرفة الصينية برنامج دردشة آليًّا فائق القدرات، خبيرًا في إجراء محادثات باللغة الصينية؛ تُمثِّل الرموز المدخَلة أسئلة المحاور وتعليقاته، في حين تمثل الرموز المخرجة إجابات الغرفة الصينية. بالطبع تُجرى العملية كلها بإيقاع في غاية البطء. لكن بصرف النظر عن ذلك، ينبهر متحدثو الصينية البارعون بالمهارات التحاورية للغرفة الصينية. هم يطرحون الأسئلة ويُبدون الملاحظات بينما تولِّد أنت الإجابات داخل الغرفة. وهكذا تجتاز الغرفة الصينية اختبار تيورنج، أو كانت لتجتازه لو لم تُضيِّع كل شيء بسبب بطئك الشديد. لكن سيرل لا يعتقد أن المشكلة تكمن في السرعة إطلاقًا، بل ما يهم ملاحظته هو أنك ستظل داخل الغرفة عاجزًا عن فهم كلمة واحدة من المحادثات حتى لو اجتازت الغرفة الصينية اختبار تيورنج باللغة الصينية. أنت لا تعرف عما تدور ولا تدرك معناها، ومع ذلك تؤدي جميع العمليات التي يؤديها الكمبيوتر؛ أي تتعرف على الرموز عبر شكلها، وتتبع التعليمات الخاصة بكيفية التعامل معها. وهذا هو ما يفعله الكمبيوتر تحديدًا. وعليه، إذا كنت لا تفهم محادثة الغرفة الصينية، فليس بوسع أي كمبيوتر إذن فهم محادثة. وبالطبع سيفهم الكمبيوتر أقل مما تفهمه، فأنت على الأقل تفهم التعليمات بما إنها مكتوبة بالإنجليزية وتتبعها عن قصد وتأمُّل، في حين يتبع الكمبيوتر التعليمات المعطاة له على نحوٍ آليٍّ أعمى، دون أي فهم على الإطلاق.

ابتكر سيرل تجرِبة الغرفة الصينية سعيًا لطرح تسوية حاسمة ونهائية لمسألة الذكاء الصناعي. واستنتج أنه ربما تستطيع أنظمة الذكاء الاصطناعي «محاكاة» الأفكار والمحادثات البشرية لكنها عاجزة عن «التفكير» أو «فهم» هذه المحادثات. بالطبع، لا تحل تجرِبة سيرل الافتراضية المسألة بأي حال؛ فالفلاسفة ليسوا سهلي الإقناع لهذه الدرجة.6 ومن ثَم ظهرت ردود لا حصر لها على حُجة سيرل؛7 سنستعرض سريعًا ثلاثة منها؛ وهي «رد الروبوت» و«رد النظام» بالإضافة إلى ما سنُطلق عليه «رد النظامين» (الرد الأخير في الواقع هو رد على ردٍّ. لكن لا داعي للفزع، لن تجده عصيًّا على الفهم).

رد الروبوت

هذا الرد على حُجة سيرل هو في الحقيقة نوع من التسليم المخادع بها؛ فنحن نُسلِّم بأن الغرفة الصينية لا تفهم شيئًا لكن نزعم أن اللوم في ذلك لا يرجع إلى مجرد كونها تُشغِّل برنامجًا حاسوبيًّا، بل يرجع إلى أن البرنامج قابع فحسب داخل الغرفة. إن الغرفة الصينية التي يتخيَّلها سيرل لا تملك ما يُكافئ الرِّجلَين واليدَين والعينَين والأذنين؛ فإذا طرق أحدهم بابها فلن تتمكن من معرفة هُوِيَّته، وعليها الاعتماد على رموزٍ غامضة تصل إليها عبر فتحة المدخلات. قد تنقل هذه الرموز معلوماتٍ حول الشخص الواقف عند الباب، لكن الغرفة الصينية لا تتفاعل مباشرةً مع هذا الشخص؛ هي منعزلة عن بيئتها. جملة القول: الغرفة الصينية ليست روبوتًا، ربما كانت ستصبح أفضل حالًا لو كانت كذلك. في فيلم سبيلبيرج، يتجلى فهم ديفيد وذكاؤه في الأساس من خلال تفاعُله مع بيئته وتصرُّفاته اليومية، إلى جانب تنفيذه لخططه واستراتيجيته الطويلة الأمد كما في محاولته تحقيقَ حلمه بالتحوُّل إلى صبيٍّ حقيقي. إن قدرة ديفيد على إجراء المحادثات تُثير الإعجاب، لكننا واثقون على ما يبدو في أنه يعرف ما يتحدث عنه نظرًا للطريقة التي يتفاعل بها مع بيئته. نحن متأكدون من أن ديفيد يعرف جزئيًّا معنى كلمة «تيدي» (اسم دُميته) لأنه يستطيع مُناداتَه ثم مطاردته وحمْله.

إذن، رجوعًا إلى قصة سيرل، دعونا نتخيل غرفة صينية داخل روبوت. تخيَّل أنك محشور في مركز التحكم داخله حيث تؤدي جميع العمليات الحاسوبية اللازمة لعمل الروبوت. بما أن الروبوت يتفاعل مع بيئته؛ فقد يستطيع فهم الأفكار المتعلقة بتلك البيئة، وربما يتمكن من معرفة هُوية الواقف عند الباب لأنه قادر على رؤيته؛ إذن تكمن مشكلة تَجرِبة سيرل الافتراضية في أن الغرفة الصينية الأصلية ليست مُجهَّزة على النحو الذي يُمكِّنها من فهم الأشياء فهمًا حقيقيًّا. يتطلب الفهم من المرء تفاعلًا سببيًّا مع بيئته، في حين لا يُتاح للغرفة الصينية سوى تفاعلٍ لفظيٍّ مع متحدثي اللغة الصينية الذين يُلقمونها ملاحظاتٍ تحاوريةً مكتوبة. تفتقد الغرفةُ الصينية الخلفيةَ التفاعلية السببية اللازمة لفهم أيٍّ من تلك الملاحظات. ذلك رد الروبوت على حجة سيرل، وهو ردٌّ له بعض المزايا؛ ففي النهاية ديفيد ليس غرفة صينية، وقد يستطيع فهم ما يحدث له لأنه روبوت وليس برنامجَ دردشةٍ آليًّا.

لكنَّ لدى سيرل ردًّا مقنعًا على ذلك؛ فلنفترض أننا حوَّلنا الغرفة الصينية إلى روبوت، ثم وضعناك داخل مركز التحكم؛ وبذلك نكون وهبنا روبوت الغرفة الصينية هذا مَلَكة الإدراك؛ إذ يصبح قادرًا على أن يرى ويسمع ويلمس ما يحيط به. لكن هذا لا يعني أنك — الشخص القابع بداخله — تستطيع ذلك أيضًا. وتثبيت كاميرا على الروبوت من الخارج كي تنقل لك في غرفة التحكم صورًا للعالم الخارجي لن يحل المشكلة؛ فماذا ستستطيع فعله بتلك الصور؟ نحن لا ندرك العالم لأن شخصًا صغير الحجم يجلس داخل رأسنا يشاهد التليفزيون، وينطبق ذلك على الروبوت، وعلى روبوت الغرفة الصينية كذلك.8 ستدخل الصور غرفة التحكم كمعلومات، وهذه المعلومات لا بد أن تُقدَّم في صورةٍ تتيح لك اتباع القواعد التي توضح لك ما عليك فعله بها، وهنا تكمن المشكلة؛ إذا دخلَت المعلومات الغرفة بهذه الطريقة، فلا يوجد ما يضمن أنك ستستطيع فك شفرتها؛ فربما تبدو لك أشبه بالمزيد من الشخبطات العشوائية غير المفسَّرة وحسب. لن يمنعك ذلك من تمييز الأنواع المختلفة من الشخبطات؛ فلديك القدرة على تحديد الشكل المميز لكل نوعٍ من الشخبطات والتعرف عليه مجددًا كلما ظهر، ويمكنك فعل ذلك دون معرفة ما ترمز إليه هذه الشخبطات. يُطلق الفلاسفة على هذا النوع من التركيب المعلوماتي اسم «تركيب نحوي». يشير سيرل إلى أن المعلومات ستصل إلى مركز تحكم داخل الروبوت في شكل تراكيب نحوية غير مفسَّرة. وبفضل القواعد المحفوظة في خزانة الملفات، يعرف الجالس في غرفة التحكم ما عليه فعله بالمعلومات ذات التركيب النحوي، لكنه لن يعرف كيف يفسر هذا التركيب. بعبارةٍ أخرى: لن يعرف معنى أيٍّ من تلك التراكيب. وبهذه الطريقة، يمكننا بسهولة تخيُّل (حسنًا، يمكننا أن نتخيل) روبوت غرفة صينية يقوم بمهامه الآلية بينما تجلس أنت في غرفة التحكم لأجل العمل على تيسير تلك المهام، وتظل مع ذلك لا تفقه شيئًا.

يبدو سيرل مُحقًّا؛ تحويل الغرفة الصينية إلى روبوت يحوي غرفة صينية لن يتيح لنا تفنيد حجته. بالطبع قد تساعدنا الفكرة الأصلية رغم ذلك على تفنيدها؛ فالفكرة القائلة بأن التفاعل البيئي لا غنى عنه إذا أردنا لنظام ذكاء اصطناعي اكتساب الفهم، هي فكرة منطقية للغاية. والزعم الذي نطرحه ها هنا، نيابةً عن سيرل، هو أن مجرد إضافة وظائف الروبوت إلى الغرفة الصينية لن يتيح للجالس في غرفة التحكم فهم ما يفعله الروبوت. إذا كانت حُجة الغرفة الصينية الأصلية صحيحة، فإن حُجة روبوت الغرفة الصينية ستكون صحيحة كذلك.

رد النظام

لن يَفيَ رد الروبوت بالغرض، لكن يوجد ردٌّ أفضل في المتناول؛ تخيَّل أنك عالق داخل الغرفة الصينية (أو في مركز التحكم الخاص بروبوت الغرفة الصينية)، عاجز عن فهم ما يفعله النظام كله. وهو أمر لا يستدعي الدهشة؛ فأنت لست الغرفة الصينية ذاتها، بل أنت البرنامج الذي يُنفِّذ أوامر النظام. بعبارةٍ أخرى: أنت من يتولى المهام الروتينية ويتبع التعليمات دون تفكير. وتشبه في ذلك وحدة المعالجة المركزية داخل جهاز الكمبيوتر العادي. يتكون جهاز الكمبيوتر من أجزاءٍ أخرى كثيرة بجانب وحدة المعالجة المركزية؛ يحتوي النظام بأكمله على قرصٍ صُلْب، وذاكرةٍ عشوائية، وذاكرةٍ مؤقتة، وبطاقة عرض مرئي، ونظام تشغيل، وبرامج تشغيل، ووحدات طرَفية من شتى الأنواع … إلخ. إذا كنت تلعب دور وحدة المعالجة المركزية الخاصة بالغرفة الصينية، فأنت إذن لست الغرفة الصينية ذاتها، بل لست الجزء الأهم من الغرفة الصينية. في وسعنا إخراجك منها ووضع شخص آخر مكانك، ولن يلاحِظ النظام أي تغييرٍ على الإطلاق، ما دام بديلك قادرًا على اتباع التعليمات مثلما كنت تتبعها. وبما أنك مجرد جزء صغير قابل للاستبدال من الغرفة الصينية، لن يدهشنا عجزك عن فهم ما يفعله النظام بأكمله. إذا كان هناك من يفهم اللغة الصينية في هذه التجرِبة الافتراضية، فهو النظام المتكامل. وأنت لست هذا النظام. هذا هو رد النظام على حجة سيرل.

لكن سيرل لا يزال بعيدًا عن الاقتناع، فكيف يمكن عبر إضافة بعض قطع الأثاث (مثل خزانة الملفات، والسلة التي تحوي رموزًا عشوائية، وغير ذلك) تحويل شيءٍ عاجز عن الفهم (وهو أنت في هذه الحالة) إلى شيءٍ قادر على الفهم (أي نظام الغرفة الصينية)؟ قد نندفع قائلين: «هذا هو ما يحدث وحسب.» خزانة الملفات عاجزة وحدها عن الفهم؛ فهي ليست سوى مجموعة من المعلومات الجامدة. وأنت أيضًا عاجز عن الفهم؛ فلست سوى تابع أعمى للتعليمات. لكن إذا جمعنا الاثنين معًا فقد نحصل على كيانٍ أكبر من حاصل مكوناته. سنحصل على نظام معالجة معلومات نشط وفعَّال، وسيرل لم يُقدِّم لنا ما يُثبت أن نظامًا كهذا عاجز عن فهم اللغة الصينية.

يحاول سيرل مجددًا تفنيد هذا الرد أيضًا؛ تخيَّل أنك في الغرفة الصينية منذ أمدٍ طويل جدًّا حتى أصبحت مُطلعًا تمامًا على التعليمات في خزانة الملفات، وتخيل أنك تتمتع بذاكرةٍ مذهلة مكَّنتْك في النهاية من حفظ التعليمات كلها عن ظهر قلب، والآن عندما يصل قالب من الشخبطات العشوائية إلى الغرفة عبر فتحة المدخلات، لن تحتاج إلى الاطِّلاع على التعليمات في خزانة الملفات كي تعرف ما عليك فعله به، بل ستكتفي فحسب بالرجوع إلى ذاكرتك. يزعم سيرل أن في هذه التجرِبة الافتراضية الجديدة يتحوَّل الشخص الجالس في الغرفة إلى نظام الغرفة الصينية ذاته لا مجرد وحدة المعالجة المركزية الغبية داخله. ورغم ذلك لن تعرف عمَّ يتحدث نظام الغرفة الصينية، وسيظل الكلام مجرد شخبطات عشوائية بالنسبة إليك. يُبين لك هذا أن نظام الغرفة الصينية عاجز عن فهم ما يتحدث عنه. لقد أصبحت أنت النظام الآن، لقد احتويت النظام بأكمله داخل ذاكرتك، ورغم ذلك ما زلت لا تفهم. كيف إذن يستطيع الكمبيوتر الفهم بأي حال؟

رد النظامين

لقد شرحنا لتوِّنا ردًّا على حجة سيرل (رد النظام) ورد سيرل على هذا الرد. والآن حان الوقت لطرح ردِّنا الأخير (في الوقت الحالي على الأقل)، ألا وهو رد النظامين. يطلب منك سيرل أن تتخيل نفسك تحفظ قائمة تعليمات الغرفة الصينية بأكملها عن ظهر قلب. يبدو ذلك إنجازًا عصيًّا على التصديق، لكن التجارِب الافتراضية الفلسفية تسمح بما لا يُصدَّق. دعونا نُطلق على هذا الشخص ذي الذاكرة المذهلة اسم «ذو الرأس الكبير». في الظاهر ذو الرأس الكبير هو أنت بعدما اكتسبت قدرًا من الذاكرة الإضافية. لكن المظاهر خداعة؛ فقد لا يبدو حفظ برنامج الغرفة الصينية في الذاكرة أمرًا يختلف كثيرًا عن حفظ أي شيءٍ آخر، مثل جدول مواعيد قطارات أمريكا الشمالية مثلًا، لكنه في الحقيقة في غاية الاختلاف. يختلف لأن ذا الرأس الكبير يستخدم تذكُّره لبرنامج الغرفة الصينية بطريقةٍ خاصة جدًّا. عندما تتذكر جدول مواعيد القطارات كي تلحق بقطارٍ ما، فإنك تخلق روابط بين الجدول وبين باقي ما تملكه من معرفة. أنت تعرف كيف تُحدِّد الوقت وتعرف كم تبقَّى من الوقت على حلول الساعة الواحدة مساءً. أنت تعرف أن الوصول في الساعة الثانية مساءً من أجل اللحاق بقطارٍ سيغادر في الواحدة مساءً يعني أنك تأخرت على الأرجح على موعد القطار … إلخ، لكن عندما يحفظ ذو الرأس الكبير تعليمات الغرفة الصينية في الذاكرة، لا يحدث هذا النوع من الاندماج المعرفي؛ فالجزء الخاص بالغرفة الصينية لدى ذي الرأس الكبير لا يندمج مع باقي أجزاء النظام المعرفي لديه اندماجًا كاملًا، بل لا يكاد يندمج على الإطلاق.

يتألف ذو الرأس الكبير فيما يبدو من نظامين معرفين: الأول هو النظام العادي الخاص بك؛ أي النظام الذي يُمكِّنك من اللحاق بالقطارات في موعدها. والثاني هو نظام الغرفة الصينية؛ أي النظام الذي يتيح لذي الرأس الكبير التحاور مع متحدثي اللغة الصينية. بالطبع ستمرُّ بوقتٍ عصيب وأنت تحاول التوحُّد مع مكون الغرفة الصينية لدى ذي الرأس الكبير. سيظل هذا المكون غامضًا بالنسبة إليك لأنه لا يندمج كما ينبغي مع باقي مكونات عقلك. أنت لا تفهم ما يفعله هذا الجزء. لكن هذا يعني ببساطةٍ أنك لست ذا الرأس الكبير. يتألف ذو الرأس الكبير من نظامين، وأنت نظام واحد منهما فحسب. النظامان مرتبطان، لكن بطريقةٍ غريبةٍ بعض الشيء. يلعب نظامك دور البرنامج المنفذ لنظام الغرفة الصينية، وبدون تدخُّلك الرامي لاتباع المعلومات، كان نظام الغرفة الصينية سيظل قابعًا في داخل ذاكرة ذي الرأس الكبير دون أن يقدر على تحقيق أي شيء.

والآن نطرح السؤال التالي: هل يفهم ذو الرأس الكبير اللغة الصينية؟ «أنت» لا تفهم اللغة الصينية، لكنك لست ذا الرأس الكبير؛ فهل يفهم ذو الرأس الكبير اللغة الصينية؟ من الصعب الإجابة عن ذلك. ما لا نستطيع قوله هو ما كان سيرل سيريد منا قوله، ومفاده أن ذا الرأس الكبير لا يفهم اللغة الصينية لأنك أنت لا تفهم الصينية. فهذه حجة غير سليمة لأنها تفترض كذبًا أنك أنت وذا الرأس الكبير تُشكِّلان نظامًا معرفيًّا واحدًا. هذا ليس صحيحًا. إن نظام الغرفة الصينية داخل ذي الرأس الكبير يشبه غزوًا أجنبيًّا لعقلك؛ فهو قابع في ذاكرتك مثل فيروس، مستغلًّا عادتك في اتباع التعليمات.

وهكذا أخفقت حُجة الغرفة الصينية التي طرحها سيرل؛ ففي النهاية، هو لا يملك ردًّا مقنعًا على رد النظامين. لكن هذا لا يعني أن استنتاجه خاطئ؛ فعبر تفنيد حجة سيرل لا نُثبت أن الغرفة الصينية تفهم بالفعل اللغة الصينية، بل نُثبت فحسب أننا لا نستطيع استخدام حجة سيرل لإثبات أنها لا تفهم اللغة الصينية. بالطبع ذو الرأس الكبير كائن غريب جدًّا، ولدينا من المبررات المقنعة ما يدفعنا إلى الشك في أن مكون الغرفة الصينية داخله يفهم شيئًا حقًّا. وبما أنه لا يندمج كما ينبغي في نظامك المعرفي، فإنه لا يتمتع بنفس كفاءتك الآلية. وبدون الكفاءة الآلية؛ أي بدون الانغماس السببي المتعمق في بيئته، من غير المرجح على الإطلاق أن يفهم محتوى محادثاته مع المتحدثين باللغة الصينية. إن علينا الجمع بين رد الروبوت ورد النظام كي نجعل فكرة نظام الذكاء الاصطناعي الذي يفهم ما يفعله منطقية.

يُعيدنا ذلك إلى فيلمنا. ليس من قبيل المصادفة أن يُجسِّد الخيال العلمي أنظمة الذكاء الاصطناعي عادةً في شكل روبوت؛ فحتى أجهزة الكمبيوتر التي تفتقد مجموعة مهارات الروبوت الكاملة، مثل الكمبيوتر هال في فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» (١٩٦٨)، لديها مخزون ذاخر من القدرات الإدراكية الحسية والتنفيذية؛ فلدى هال على سبيل المثال أعيُن وآذان في كل مكان، وهو قادر على فتح أبواب المكوك الفضائي أو عدم فتحها وقتما يريد. في فيلم «ذكاء اصطناعي» ترتبط قدرات ديفيد الإدراكية ارتباطًا وثيقًا بأدائه الوظيفي كروبوت؛ فهو يتعلم عبر مشاهدة الآخرين ومحاكاتهم (ليس محاكاتهم حرفيًّا؛ فعندما يحاول بلع الطعام في مشهد تناول العشاء يكاد فكه ينفصل عن وجهه). ربما ديفيد قادر فعليًّا على الفهم جزئيًّا بسبب هذا الأداء الوظيفي. ربما يفهم حقًّا معنى «خصلة شعر» لأنه يستطيع قص خصلة من شعر مونيكا والتحدث عنها فيما بعد. ربما لديه فكرة ما عن طبيعة الجِنِّية الزرقاء؛ لأنه قادر على الذهاب بحثًا عنها.

هل ديفيد قادر على الشعور؟ اعتراض الكيفيات المحسوسة

بماذا سنشعر يا تُرى لو كنا مثل ديفيد؟ لا يمكننا وضع أنفسنا داخل عالمه العقلي عبر تخيُّل نسخة تشبهه من تجرِبة الغرفة الصينية الافتراضية؛ فكما رأينا، أخفقت هذه التجرِبة في تحقيق هدفها. لكنْ هناك سبب آخر يدفعنا إلى التشكُّك في قدرات ديفيد العقلية؛ فلماذا نفترض أنه «يشعر» حقًّا بأي شيء؟ هو يُسجل التجارِب في صورة تدفُّق معلوماتي داخل نظام معرفي، لكن هل هو واعٍ كليًّا؟ وهل يمكن من الأساس طرح سؤال عما سنشعر به لو كنا مكانه؟ هل يشعر ﺑ «الألم» عندما تهجره أمه في الغابة؟ هو يتصرف كما لو كان متألمًا، لكن هل يُشعِره الهجر بالألم حقًّا؟

قد نتخيل أن ديفيد يُبدي ردود أفعال تمثيلية مقنعة تعكس الألم والكرب دون أن يشعر فعليًّا بأي ألمٍ أو كرب. نحن نعرف كيف يكون الشعور بالألم، وكيف يكون التظاهر بالشعور بالألم. لكن كيف نستطيع تحديد الفرق ظاهريًّا؟ يُطلق الفلاسفة على الصفة الواعية لأي خبرة — أي «التألم» المميز للألم، أو «الحمرة» المميزة للون الأحمر، أو «النشاز» الذي يميز مجموعة نغمات موسيقية متنافرة — كيفية محسوسة، وجمعها كيفيات محسوسة. ومن هنا ينبع اعتراض آخر على أصالة ديفيد. هو لا يستطيع أن يحب مونيكا حبًّا حقيقيًّا؛ لأنه صُمم كي يتصرف كما لو أنه يحظى بخبرات غنية بالكيفيات المحسوسة، بينما هو في الواقع لا يملك هذه الخبرات. عندما يشعر بالحزن على ما يبدو عند معرفته أن مونيكا يومًا ما ستموت، فإنه لا يفعل أكثر من مجرد محاكاة السلوك المنتظَر منه في هذه الحالة. إنه لا يشعر في الحقيقة بأي اغتمامٍ فعلي، رغم تَصوُّرنا أنه من المستحيل تمامًا الجزم بأنه لا يشعر بذلك. يفتقد ديفيد الكيفية الحسية الخاصة بالشعور بالكرب أو الاغتمام. لا يمكننا معرفة ما الذي سنشعر به لو كنا مكان ديفيد بينما يبدو مغتمًّا، بل لا يمكننا معرفة ما سنشعر به لو كنا مكان ديفيد من الأساس؛ فذلك يشبه تخيُّل ما سنشعر به لو كنا مِحمصة خبز مثلًا. هذا ما يُطلَق عليه اعتراض الكيفيات المحسوسة.

حتى هذه اللحظة، نحن نُعبر عن مجرد شك، هل يوجد حجة فلسفية تدعمه؟ ما نحتاج إليه هو حجة تُثبت أن الوعي؛ أي خبرة الكيفيات المحسوسة، لا يمكن خلقه اصطناعيًّا. وبما أننا لا نعرف تحديدًا كيف ظهر الوعي لدى البشر — لأسبابٍ لا تتعلق بنقصٍ في النظريات — فمن غير الوارد أن نتمكن من استبعاد إمكانية وجود وعي اصطناعي بِناءً على أسس فلسفية. ربما نشعر بوجود شيءٍ خاص، شيءٍ روحاني على الأرجح أو غير آلي، يُميز الوعي. ربما نشعر على نحوٍ بديهي أن الكائنات الحية أو الكائنات التي تملك روحًا هي فقط التي تتمتع بوعيٍ كامل، لكن هذا الإحساس البديهي لا يتمتع وحده بثقلٍ فلسفي كبير.

تُقرِّبنا إحدى الحجج الفلسفية من هدفنا المنشود؛ هي حجة تدَّعي إثبات أن الوعيَ في الحقيقة ظاهرة غير ماديةٍ على الإطلاق. إذا كان الوعي غير مادي، فربما يستحيل علينا بالفعل استنساخه اصطناعيًّا. يُقدِّم لنا هذه الحجةَ الفيلسوف الأسترالي فرانك جاكسون (١٩٨٢؛ ١٩٨٦)، وتُعرف باسم «حجة المعرفة» وتتطلب بدورها تجرِبة افتراضية أخرى. (سنغير ها هنا أيضًا بضعة تفاصيل من أجل سهولة العرض.) تخيَّل أن امرأةً تُدعى ماري خضعت لتجرِبة نفسية مطولة وقاسية؛ فعندما وُلدت زُرعت في عينيها أجسام خاصة تمنعها من رؤية أي شيء بالألوان؛ ومن ثَمَّ قضت حياتها ترى كل شيءٍ باللونين الأبيض والأسود. رغم ذلك، أو ربما نتيجةً لذلك، أصبحت ماري أعظم خبراء العالم في الإدراك البشري للألوان، بل إن براعتها الفذة في اكتشاف الحقائق فيما يتعلق بإدراك الألوان أوصلتها إلى معرفة كل ما يهمُّ معرفته في هذا المجال؛ فهي تعرف جميع الحقائق المادية التي تتعلق بإدراك الألوان مثل طريقة تفاعل الجهاز البصري مع الضوء من شتى الأطوال الموجية، وكيفية معالجة الدماغ للمعلومات التي يستقبلها من المستقبلات البصرية وغيرها. وهكذا توصلت ماري إلى معرفة جميع الحقائق المادية المتعلقة بطبيعة إدراك اللون. ومع نهاية التجرِبة، أُزيلت الأجسام المزروعة في عينَي ماري، وأصبحت الآن قادرةً فعليًّا على رؤية الألوان عوضًا عن الاكتفاء بطرح النظريات حولها. وبينما تتجوَّل في الخارج ترى وردةً حمراء، فتقول لنفسها «هكذا إذن يبدو اللون الأحمر، لم أكن أعلم ذلك قطُّ!» يوجد شيء إذن لم تعرفه ماري؛ هي لم تكن تعرف حقائق الكيفيات المحسوسة الخاصة بإدراك الألوان، لم تكن تعرف كيف يبدو اللون الأحمر. لكنها كانت تعرف جميع الحقائق المادية. يُثبت ذلك أن حقائق الكيفيات المحسوسة ليست حقائق مادية. ثَمَّةَ جوانب أخرى للوعي خلاف المعالجة المادية للمعلومات في الدماغ.

ما مدى منطقية حُجة المعرفة؟9 هي حجة مثار خلافٍ كبير دون شك. والرد الأشهر عليها هو كالتالي: عندما ترى ماري الألوان أخيرًا، فإنها لا تكتسب معرفةً حقيقية جديدة، لقد وصفنا نحن المشهد كما لو أنها اكتسبت تلك المعرفة — فجعلناها تقول إنها لم تكن تعرف قطُّ كيف يبدو اللون الأحمر — لكن هذا الوصف كان مضللًا؛ لأنه يجعل الأمر يبدو كما لو كانت معرفة شكل اللون الأحمر لا تختلف عن معرفة طول موجة الضوء الأحمر (نحو ٧٠٠ نانومتر)، ويجعل معرفة الكيفيات المحسوسة تبدو وكأنها مجرد معرفة حقيقية إضافية، في حين أنها تختلف عن ذلك كليةً. عندما ترى ماري الألوان للمرة الأولى لا تكتسب بذلك معرفة حقيقية جديدة، بل تكتسب قدرات جديدة. والآن هي قادرة على تحديد ما إذا كانت ثمرات الطماطم ناضجةً أم لا بمجرد النظر إليها. قبل تحوُّل قدراتها البصرية كانت تُضطر إلى قياس الطماطم بجهاز قياس الطيف اللوني (وهو أداة لا تستغني ماري عنها عند شرائها الخضراوات والفواكه) كي تعرف أهي ناضجة أم لا. لكنها أضحت الآن قادرةً على رؤية اللون ثم التعرُّف على اللون نفسه بعد ذلك (دون الحاجة إلى قياس هذا اللون في كلتا الحالتين)، بل وربما في وسعها كذلك تخيُّل لونٍ ما كصورةٍ ذهنية. ربما تستطيع الآن أن ترى أحلامًا ملونة أثناء نومها، وتتذكر فيما بعد أن جراد بحرٍ أزرق عملاقًا كان يطاردها في الحُلم، وليس جراد بحر عملاق رَمادي اللون. إن نوع المعرفة التي تكتسبها ماري بعد التحوُّل اللوني الذي حدث لها هي معرفة تتعلق بالكيفية لا بالماهية؛ فهي أصبحت تعرف كيف تفعل أشياء، أصبح لديها قدرات جديدة. وبدلًا من التعرف على حقائق جديدة حول إدراك الألوان، أصبح لديها الآن قدرة التعرف على حقائق قديمة بطرقٍ جديدة. يُعرف هذا الرد على حجة المعرفة عادةً باسم «فرضية القدرات».10
ما مدى منطقية رد فرضية القدرات؟11 ذلك سؤال تَصعُب إجابته. هل يمكننا تخيُّل شخصٍ يملك جميع القدرات التي ننسبها إلى ماري بعد التحوُّل اللوني الذي حدث لها لكنه لا يختبر الكيفيات اللونية المحسوسة؟ هل يمكننا اختزال معرفة الكيفيات المحسوسة في اكتساب قدرات مناسبة، دون أن نكون قد أغفلنا أي شيء؟ من الصعب بمكانٍ الإجابة عن ذلك. قد يردُّ المدافعون عن استحالة اختزال الكيفيات المحسوسة (يُطلق عليهم جاكسون مجانين الكيفيات المحسوسة) على فرضية القدرات عبر الإصرار على أن فردًا واعيًا مثل ماري يكتسب قدراتٍ جديدةً لأنه أضحى الآن «يعرف» الكيفيات اللونية المحسوسة. كيف تستطيع ماري الآن تصنيف الطماطم إلى ناضجة وغير ناضجة دون استخدام جهاز قياس الطيف اللوني الخاص بها؟ لقد أصبحَت الآن تعرف شكل الطماطم الناضجة؛ ولذلك أصبحت قادرةً على انتقائها. ربما كان إدراك فرضية القدرات للوضع إدراكًا معكوسًا؛ إذ افترضت أنه بما أن ماري قادرة على انتقاء الطماطم الناضجة بمجرد النظر، فهي الآن تعرف شكل اللون الأحمر. وربما كان هذا قلبًا لتسلسل الأحداث المنطقي.
ما الذي يحدث أولًا، معرفة الكيفيات المحسوسة أم القدرة على إدراك الكيفيات المحسوسة؟ سيرغب معتنقو الرأي القائل بأن الوعيَ يمكن اختزاله في العمليات المادية التي تجري داخل الدماغ — ويُعرفون باسم «الجسمانيون» — في القول بأن القدرات تأتي أولًا؛ فمعرفة الكيفيات المحسوسة ليست سوى امتلاكٍ لقدرات إدراك الكيفيات المحسوسة، ويمكن شرح عمليتَي اكتساب وامتلاك تلك القدرات من منظور جسدي بَحْت دون إغفال أي شيء. في حين قد يزعم اللاجسمانيون أن قدرات الكيفيات المحسوسة تستلزم مقدمًا معرفة الكيفيات المحسوسة؛ فلِكي تمتلك قدرة الكيفيات المحسوسة لا بد أن تعرف أولًا كيف تبدو خبرة الكيفيات المحسوسة من الأساس. بل قد يزعم اللاجسمانيون أن في وسع امرئٍ ما امتلاك جميع القدرات ذات الصلة — وهي التعرف والتمييز والتذكر والتصور الخيالي وغيرها — دون أن يكون واعيًا من الأساس بالكيفيات المحسوسة ذاتها. ويُعرف هذا المخلوق أحيانًا في فلسفة العقل المعاصرة باسم الزومبي.12 لكن هذا النوع من الزومبي ليس عضوًا في جماعة الموتى الأحياء آكلي لحوم البشر، لكنه كائن يملك قدرات الفرد الواعي، دون أن يملك الوعي الذي عادةً ما يصاحب هذه القدرات. يبدو هذا الزومبي مثل بيتٍ أنوارُه مُضاءة يدفعك إلى الظن بأن قاطنه موجود، بينما لا يوجد أحد بالداخل.
مَن الفائز يا تُرى، الجسمانيون أم اللاجسمانيون؟ مرةً أخرى، من الصعب تحديد ذلك. ربما يتعادل الفريقان، أو ربما يخسران.13 ربما يتوقف الأمر على من يقع على كتفيه عبء الإثبات في هذا السجال. لكن من يحمل هذا العبء؟ أيٌّ من الموقفين يبدو أكثر منطقيةً في الأساس، موقف الجسمانيين أم اللاجسمانيين؟ وما موقف ديفيد من هذا كله؟ فهو على ما يبدو يملك جميع القدرات التي تُميز الفرد الواعي. أمن الممكن أن يمتلك تلك القدرات دون أن يملك معرفة الكيفيات المحسوسة؟ أمن الممكن أن يمتلك مجموعة القدرات المعرفية والإدراكية بأكملها دون أن يَعيَ مطلقًا «التألم» المصاحب للألم، و«القنوط» المصاحب للكرب، و«الأسى» المصاحب للوحدة؟ أمن الممكن أن يكون زومبي؟ هل من الضروري أن يكون زومبي؟ كما عودتْنا الفلسفة، تنتهي بنا الحال بأسئلةٍ أكثر مما بدأنا بها، لكنها أسئلة مختلفة، أسئلة أفضل.

أسئلة

  • فلنفترض أن كفاءة الروبوتات تحسَّنت أكثر حتى أصبح من المستحيل تمييز الروبوت عن الإنسان، على المستوى الجسدي أو العاطفي، ما لم تُفككه إلى أجزاء. هل يصبح حينئذٍ خوض علاقة وثيقة ومحبة مع تلك الروبوتات أمرًا غير منطقي وغير مبرر، بل وغير طبيعي؟ أمن المفترض أن يُجيز القانون زواج الإنسان والروبوت؟ أمن الممكن أن يعيش إنسان مع روبوت في زواج «سعيد»؟

  • في هذا الفصل، طرحنا الزعم التالي: «إذا اعتبرنا حب ديفيد غير أصيل لأنه مُثبَّت سابقًا، فربما يصبح حب أي طفلٍ لأمه غير أصيل كذلك للسبب نفسه. نحن لا ننزع إلى الشك في حقيقة أو أصالة حب الطفل لوالديه؛ لذا ربما لا ينبغي لنا التشكك في حب ديفيد لأن أصله يرجع إلى المُصمم.» هل كنا على حقٍّ في هذا الزعم؟ وحب الطفل (البشري) لأبويه، أهو حب أصيل؟ هل هو حب أصيل على نحوٍ لا يمكن لحب ديفيد أن يصبح مثله أبدًا؟ ما الذي تمثله أصالة حب طفل؟ (ما الذي تمثله أصالة أي حب؟)

  • طرح جون سيرل تجرِبة الغرفة الصينية الافتراضية من أجل تفنيد الطموحات الهادفة إلى خلق برنامج ذكاء اصطناعي قوي. إنه الاعتقاد بأن أجهزة الكمبيوتر سوف تشتمل في النهاية على عقول اصطناعية (ذات وعي وإدراك وذكاء وقدرة عاطفية … إلخ). وقد انتقدنا هذه الحجة في هذا الفصل. لكن من الممكن توجيه نسخة أكثر تواضعًا من الغرفة الصينية لتفنيد اختبار تيورنج وليس برنامج الذكاء الاصطناعي القوي. فهل ستنجح في تحقيق هذا الهدف الأكثر تواضعًا؟ (بعبارةٍ أخرى: هل ستُثبت أنه من الممكن اجتياز اختبار تيورنج دون امتلاك ذكاء تحاوري حقيقي؟)

  • هل يحتاج المرء إلى قدرات كقدرات الروبوت كي يفهم أي شيء؟ ومن ثَمَّ، أليس من الممكن أن يتأتى للكمبيوتر فهم الأشياء دون ملاحظةٍ وحركةٍ وفعلٍ وغير ذلك؟ أليس التحدث (الناتج عن تنفيذ برنامج المحادثة) كافيًا؟ ولِمَ لا؟

  • في هذا الفصل، لم نعبأ كثيرًا برد سيرل المبدئي على رد النظام. زعم سيرل أن الاعتقاد بقدرة المكونات الخاملة داخل نظامٍ ما (مثل خزانة الملفات بكل ما تحتويه من ملفات ومجلدات داخل غرفته الصينية) على تحويل شيءٍ لا يُفهم إلى شيءٍ يُفهم هو اعتقاد سخيف؛ فكيف يسعها تحقيق ذلك؛ هي «لا تفعل» شيئًا. هل تَسرَّعنا في رفض هذا الرد؟ وهل يحمل اتهام سيرل شيئًا من الصحة؟ كيف يمكن أن تصنع إضافة ملفات من المعلومات فارقًا؟ (تذكر أن رد النظام يبلغ فاعليته القصوى عند الجمع بينه وبين رد الروبوت.)

  • هل أنت وذو الرأس الكبير شخص واحد؟ بعبارةٍ أخرى: متى أصبحت داخل الغرفة الصينية، وحفظت التعليمات كلها عن ظهر قلب، فهل ستصبح نظامًا معرفيًّا واحدًا أم نظامين؟

  • في هذا الفصل، عبَّرنا عن اعتراض الكيفيات المحسوسة على النحو التالي: «لا يمكننا معرفة ما سنشعر به لو كنا مكان ديفيد؛ فذلك يشبه تخيُّل ما سنشعر به لو كنا مِحمصة خبز مثلًا.» هل سيسعنا يومًا ما معرفة ما إذا كان العقل الاصطناعي يختبر الكيفيات المحسوسة؟ إذا كانت جميع الأنظمة الإدراكية الحسية والمعلوماتية ذات الصلة تؤدي وظيفتها، فهل سيكون بمقدورك معرفة ما إذا كان العقل الاصطناعي يمر بالكيفيات المحسوسة أم لا؟ هل سيكون باستطاعتك الجزم بأن آخرين غيرك يمرون بالكيفيات المحسوسة؟ (سيزعمون أنهم يختبرونها، وهذا بالطبع هو ما سيقولونه، فهم في النهاية من الزومبي.) أو هل سيصبح بوسعك معرفة ما إذا كان شخص آخر يمرُّ بنفس الكيفيات المحسوسة التي تمر بها عندما ينظر كلاكما إلى الشيء نفسه؟ (أعتقد أنه أحمر، أنت تقول إنه أحمر. لكن كيف أعرف أنك ترى ما أراه عندما أقول إنني أرى اللون الأحمر؟) بالنظر إلى نزوعنا نحو الشكوكية فيما يتعلق بالكيفيات المحسوسة، ألم نكن قساةً حقًّا على ديفيد عندما قارنَّا حياته الداخلية بحياة مِحمصة خبز؟

هوامش

(1) In chapter 6 we will pick apart this concept of possibility. For now, it will suffice to work with an intuitive notion of possibility. Is this something that could be achieved by increasing our technological powers or is there some basic and unbridgeable factor preventing our ever achieving it?
(2) This characteristic of film—that, like life itself, films present us with no more than the outward signs of inner experience—paradoxically reinforces the claims of realism in films. (See our discussion of realism and Bazin in chapter 2.) By contrast, novels often exploit a convention whereby an author has magical access to the inner lives of her characters. Films manage this only through the rarely used and often intrusive devise of the voiceover.
(3) We are going to discuss two famous philosophical thought experiments in this chapter: the Chinese Room and Mary in a Black and White Room. Thought experiments of this kind don’t find their way into films (perhaps because they would be too boring). But it is always a worthwhile question to ask of a philosophical thought experiment “Could this be convincingly filmed?” If not, this is an indication that something may be going wrong with the thought experiment. (See note 7 below about the Chinese Room.)
(4) You can find transcripts of this and other conversations George had in the competition here: http://loebner.net/Prizef/2005_Contest/Transcripts.html. You can have a conversation yourself with George here: http://www.jabberwacky.com/chat-george.
(5) The Loebner Prize competition is held every year. You can follow the progress of chatterbots throughout the competition here: http://www.loebner.net/Prizef/loebner-prize.html.
(6) Cole (2009) gives a detailed account of the critical reception of Searle’s argument.
(7) One film-centric reply might go like this. Imagine trying to film the Chinese Room thought experiment. In order to pass the Turing Test, the action would have to be sped up to such an astonishing (really astonishing) degree that all you would ever see is a blur as Searle runs around the room doing things at impossible speeds. (Maybe faster than the speed of light; who knows how fast he would have to run around the Chinese Room). Then, the thought experiment asks us to identify very closely with this super-speeding creature and tells us what the creature knows or doesn’t know. Human consciousness doesn’t work at these speeds; and we know it. So we can’t in all honesty make the identification. On this criticism, the thought experiment never really gets off the ground.
(8) This little person is called a homunculus—and we are concerned here to avoid something called the homuncular fallacy. To appeal to a homunculus inside a robot—that’s you in the control room of the Chinese Room robot—would be a cheat. Searle and his opponents all agree that we can’t rescue artificial intelligence from his argument by smuggling in a homunculus who recognizes perceptual inputs into the Chinese Room.
(9) Martine Nida-Rümelin (2009) gives an excellent summary of the critical reception of the argument.
(10) David Lewis (1988) defends the abilities reply.
(11) See Martine Nida-Rümelin (2009) for a summary of critical responses to the abilities hypothesis.
(12) See Kirk (2006).
(13) Another position to take on consciousness is eliminativist: claiming that consciousness is mostly an illusion. See Dennett (1991) for an argument along these lines.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤