الفصل الثامن

الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»

مقدمة

الهُوية الشخصية موضوع بارز وراسخ في الفلسفة، وملائم حقًّا للاستكشاف عبر السينما.1 وإحدى أفضل المعالجات الفلسفية لهذا الموضوع في السينما المعاصرة هي فيلم المخرج كريستوفر نولان «تذكار» (٢٠٠٠).
يروي «تذكار» قصة لينارد شيلبي، وهو رجل يعاني من نوعٍ متفاقم جدًّا من فقدان الذاكرة. يعاني شيلبي من حالةٍ مَرضية يُطلَق عليها فقدان الذاكرة التقدُّمي، وهي حالة طبية موثَّقة حيث يفقد المصاب قدرته على تسجيل ذكرياتٍ جديدة في ذاكرته الطويلة الأمد.2 يُصوِّر نولان حالة فقدان الذاكرة التقدُّمي في «تذكار» تصويرًا دقيقًا إلى حدٍّ كبير؛ إذ نجد حالة شيلبي متفاقمةً لكن قدراته الإدراكية لم تزل سليمة، وذكرياته عن التجارِب والحقائق التي سجَّلها في ذاكرته الطويلة الأمد قبل إصابته الدماغية لا تزال كما هي. كذلك لم تتأثر ذاكرته القصيرة الأمد؛ ما يسمح له بالتركيز على تسلسُلٍ من الأحداث يدوم عدة دقائق. لكن بعد أن تمرَّ بضع دقائق من النشاط الدماغي الواعي المترابط، دائمًا ما ينسى شيلبي تسلسُل الأحداث ويُضطر إلى محاولة التعرُّف مجددًا على بيئته؛ أي معرفة ما قد فعله لِتوِّه، وما يحاول تحقيقه، ومن الذي يتحدث إليه، وغير ذلك من المعلومات. لدى شيلبي قدرة تعلُّم بعض الأشياء عبر التعوُّد القائم على التكرار؛ ومن ثَمَّ لا يُضطر إلى بدء عملية التعرف على محيطه من الصفر في كل مرة. وهكذا يصبح في وسعه فورًا إدراك النمط المنظم لحياته بينما يتنقل بين حلقةٍ وأخرى من حلقات الوعي المترابط. يستخدم «تذكار» أسلوبًا في غاية البراعة لتوضيح عملية الانتقال بين حلقات الوعي المترابط؛ فقد آثر نولان أن تسير أحداث السرد — الجزء الرئيسي منها على الأقل — في الاتجاه العكسي، بحيث يصبح الوضع المعرفي للمُشاهِد أشبه بوضع شيلبي.

يستعرض الفيلم الصراع الذي يخوضه شيلبي سعيًا لعيش حياةٍ مترابطة في ظل هذه الحالة السيئة من حالات فقدان الذاكرة. وبما أن الفيلم ينتمي إلى فئة التشويق، فإن الأسلوب الذي يستخدمه شيلبي لتحقيق غرضه غريب بعض الشيء. هو يسعى للانتقام أو ما يظن أنه انتقام من الرجل الذي هاجمه وهاجم زوجته، فأصابه بتلفٍ دماغي وتعدَّى على زوجته جنسيًّا ثم قتلها. ولأنه عاجز عن خلق ذكرياتٍ جديدة طويلة المدى، تصبح مَهمة تنفيذ خُطة الانتقام هائلة الصعوبة. ولكي يتمكن شيلبي من تنفيذ خُطته يلجأ إلى استخدام العديد من التلميحات المكتوبة والتذكارات. فيستخدم تلميحاتٍ في شكل صور؛ صورة لسيارته (أو ما يَعتقد أنها سيارته) تُعينه على التعرف عليها، صور للأشخاص يسجل عليها بعض الحقائق الأساسية حولهم، ويُدون عليها تعليمات يوجهها إلى نفسه بخصوص كيفية معاملتهم. وقد وَشَم مُختلِف أنحاء جسده بكتاباتٍ تروي الوقائع الأساسية لخُطته الانتقامية، وتعرض الحقائق الجذرية الموثوق بها التي يمكنه استخدامها. (تحذير! العبارة التالية تكشف أحداثًا رئيسية في الفيلم: عندما يقرر شيلبي وشم رقم لوحة سيارة على فخذه في اللحظات الأخيرة للفيلم، يتضح أن ذلك الفعل كان تخطيطًا لارتكاب جريمة قتل!) بينما يتنقل شيلبي بين حلقات الوعي المترابط، لا بد له من إعادة توطين الحقائق الأساسية حول حياته، وسعيه إلى الانتقام داخل عقله، لكنه قد تعوَّد بوضوحٍ على هذه العملية؛ فلا يندهش لرؤية جسده مُغطًّى بالوشم كما قد يحدث لنا إذا استيقظنا في يومٍ ما لنجد جسدنا تَحوَّل على هذا النحو. وهو يعرف كيف يستخدم التذكارات التي جمعها، ويدرك معناها، ويفهم مغزى ملفات التحقيق الشرطية التي بحوزته، أو بالأحرى ما يعتقد أنه مغزاها، والملاحظات الاستقصائية التي أضافها إليها. لكن ما يَعجِز شيلبي عن فعله هو تكوين ذكريات جديدة واضحة — بما فيها، على وجه الأهمية، الذكريات العرَضية أو الذكريات الشخصية — ومن ثَمَّ ليس لديه أدنى معرفةٍ بماضيه المباشر، الماضي الذي نعتبره أمرًا مُسلَّمًا به، والذي يمنحنا شعورًا بترابط الحياة.

الذكريات الشخصية أو الذكريات العرَضية هي ذكريات عن تجارِب لا عن حقائق. ذاكرة الحقائق يُطلق عليها الذاكرة الدلالية، أما ذاكرة التجارِب فيطلَق عليها الذاكرة العرَضية، وهما نوعان في غاية الاختلاف من الذاكرة. يُقسِّم الفلاسفة الذكريات العرَضية تقسيمًا إضافيًّا؛ فيُقسمونها إلى ذكريات فعلية (وهي قد تتعرَّض للتشويه بطرقٍ متعددة، لكنها تُسجِّل تجارِب فعلية مرَّ بها الشخص الذي يتذكر) وشبه الذكريات (وهي التي تبدو كما لو كانت تُسجِّل التجارِب الماضية، لكنها قد لا تكون كذلك؛ فربما تُسجِّل تجارِب شخصٍ آخر أو ربما هي ذكريات زائفة تمامًا أو ملفقة، أو قد يتضح في النهاية أنها ذكريات فعلية). شبه الذكريات هي التجارِب التي نتذكر فيها «على ما يبدو» شيئًا حدث لنا.3 الذكريات الفعلية هي ذكريات حول شيءٍ نتذكر أنه حدث فعليًّا لنا، ولا يدخل ضمن نطاقها الذكريات الزائفة (مثل الذكريات التي زُرعت في دماغنا على نحوٍ ما) والذكريات التي تُسجِّل تجارِب الآخرين (على سبيل المثال، قد تتذكر أنك فزت بسباق البيضة والملعقة في حفلة عيد ميلادك السادس، بينما في الواقع كانت أختك هي من فازت بالسباق، وقد استحوذتَ على تجرِبة الفوز الخاصة بها وتملَّكتها). إذا قلنا إن أحدهم لديه شبه ذكرى، فإننا لا نحدد بهذا على الإطلاق ما إذا كانت هذه الذكرى فعلية، أو تبدو فحسب كما لو كانت ذكرى فعلية. وسنعرف عما قريبٍ لماذا يُبرز الفلاسفة هذا الفارق.

ما الذي يستطيع فيلم «تذكار» تعليمنا إياه فيما يتعلق بالقضية الفلسفية حول الهُوية الشخصية؟ للإجابة عن ذلك، نحتاج إلى تحديد المسألة الفلسفية موضع البحث.

المعضلة الفلسفية حول الهوية الشخصية

في الواقع، يوجد الكثير من المعضلات الفلسفية المثارة حول الهوية الشخصية. ندعوك إلى تأمُّل هذه المجموعة من الأسئلة: إلى أي «نوع» من الأشخاص أنتمي؟ ما الذي «يجعلني» أنتمي إلى هذا النوع؟ إلى أي مدًى يمكنني أن أتغير، وفي الوقت ذاته أظل نفسي؟ ما الذي يجعلني شخصًا من الأساس؟ أيمكن أن أُوجَد دون جسد؟ هل يمكن أن يستمر وجودي بعد فناء جسدي؟ هل أظل على قيد الحياة إذا كنت في حالةٍ إنباتيةٍ مستديمة، أم هل تعني هذه الحالة نهايتي فعليًّا (وبِناءً على ذلك، في الحالة الإنباتية المستديمة يظل جسدي حيًّا، لكن وجودي ينتهي)؟ من بين تلك الأسئلة كلها، تطرح مجموعة منها صعوبة استثنائية، وقد جذبت انتباه معظم الفلاسفة. وهي الأسئلة العامة التي تتناول استمراريتنا عبر الزمن وعبر التغيُّر.

الشخص هو فرد واحد، ويظل ذاك الفرد طوال فترة وجوده. ورغم ذلك يتغير الناس طوال الوقت؛ فتتغير عقولنا، بينما نخوض تجارِبَ جديدةً، ونُكوِّن ذكرياتٍ جديدةً، ونصوغ شخصيتنا أو نبدل منها ببطء. في كثيرٍ من الصور الدينية التقليدية التي تُجسِّد الحياة الأخرى، يمثل الموت نوعًا من الانبعاث على وجودٍ جديد؛ فمن خلال الموت يحدث لنا تحوُّل جذري، ورغم ذلك فإننا نظل — بطريقةٍ ما — «أحياءً» بعد موتنا. أهذا ممكن بأي حالٍ من الأحوال؟ ما معنى قولنا بأننا نظل أحياءً في حالةٍ كهذه؟ الإجابة الطبيعية هي القول بأننا نظل أحياءً في حال ما إذا كان الفرد الذي مات هو نفسه الفرد الذي يوجد بعد الموت، بعدما مر بتحوُّل جذري، وأصبح الآن يُغني في جَوقة من الملائكة.4 هذا سؤال حول استمراريتنا؛ أي عن هُويتنا عبر الزمن، وعن هُويتنا على رغم التغيير.
كيف يمكنك القول بأنك تظل نفس الشخص مع مرور الزمن، على الرغم من أنك تصبح شخصًا مختلفًا دون شكٍّ في مراحل حياتك المختلفة؟ كل ما علينا فعله في هذا السياق هو وضع التصنيفات المناسبة، والتزام الحذر في التعامل معها. يُميِّز الفلاسفة بين نوعين رئيسيين من الهُوية: الهُوية الكيفية والهُوية العددية. الهُوية الكيفية هي الهُوية التي يملكها شيئان منفصلان عندما يكونان متشابهَين تمامًا. تخيَّل عُملتَين من نفس الفئة (فئة ١ يورو على سبيل المثال، سُكَّتا عام ٢٠٠٥). سُكَّت العملات وفقًا لشروطٍ صارمة بحيث تضمن أن جميع العملات من نفس الفئة ومن نفس العام متطابقة في كل شيء باستثناء اختلافاتٍ لا تكاد تُذكر. ومع بدء استخدام العملات وتعرُّضهما للبِلى تتبدد هُويتها المتشابهة هذه، لكن العملات التي سُكَّت حديثًا تكاد تكون متطابقة.5 إحدى طرق توضيح هذه الفكرة هي شرحها من منظور الخواص الجوهرية للأشياء. تتضمَّن الخواص الجوهرية للأشياء: حجمها، وشكلها، وكتلتها، وغيرها من الخواص؛ إنها خواص العملة ذاتها. تتعارض الخواص الجوهرية مع الخواص العلائقية: ما إذا كانت العملة في يدي اليسرى أم في يدي اليمنى؛ ما إذا كانت في المملكة المتحدة أم في الإمارات العربية المتحدة … إلى آخره. يمكن اعتبار شيئين متطابقين كيفيًّا بشرطٍ واحد فقط؛ وهو أن يشتركا في جميع خواصهما الجوهرية.

يكفي هذا فيما يخص الهوية الكيفية؛ فهي ليست نوع الهوية الذي يثير اهتمامنا. نحن لا ندرس ها هنا هوية التوائم المتطابقة أو الأشخاص الذين يكاد يكون تشابههم متطابقًا، بل نهتم باستمرارية هُوية الفرد الواحد عبر الزمن ورغم التغير؛ ولهذا الغرض علينا طرح فكرة الهُوية العددية. الهُوية العددية هي هُوية كيانٍ واحدٍ على مر الزمن. فلتفترض أن لديك خمس عملات متطابقة كيفيًّا في جيبك، أخرجتَ واحدة ونظرتَ إليها ثم أعدتَها إلى جيبك، وبعد أن هززتَ مجموعة العملات بعض الشيء في جيبك أخرجتَ واحدة من جديد. تبدو العملة هي نفسها، لكن أهي حقًّا كذلك؟ السؤال ها هنا بصدد الهوية العددية للعملات. هل التقطتَ عملةً واحدةً مرتين أم التقطت عملتين مختلفتين (رغم كونهما متطابقتين كيفيًّا)؟ من الحقائق المحزنة حول اللغة الإنجليزية أن الكثير من الأساليب التي نُعبر بها عن الهُوية (عبارات مثل «مماثل ﻟ» و«مطابق ﻟ» وغيرها) يخلط بين الهُوية العددية والهُوية الكيفية. هذا يعني أنه علينا التزام الحذر حيال طرق تفسيرنا للادعاءات حول الهوية، لكن مفهومَي الهُوية العددية والهُوية الكيفية ليسا بالغَي الصعوبة. وهما يسجلان أفكارًا في غاية الاختلاف.

نظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية

مَهمتنا الفلسفية هي تحديد معايير لهُويتنا العددية عبر الزمن ورغم التغيير. تخيَّل أن أعضاءك الجسدية أُزيلت واحدًا تلو الآخر، ووُضع مكانها أعضاء اصطناعية تعمل بنفس طريقة أعضائك الحية العضوية؛ أطرافك حلَّ محلَّها أطرافٌ آلية، قلبك حل محلَّه مِضخة، عيناك حل محلَّهما كاميرا، الخلايا العصبية في دماغك حل محلَّها محولات دقيقة خاصة حساسة شبكيًّا، إلى آخره. (فقط تخيَّل إمكانية حدوث ذلك.) هل أصبحتَ في هذه الحالة إنسانًا آليًّا أم أنك قد متَّ؟ إذا كان معيار هويتك العددية هو استمرارية جسدك الحي، فيجدر بنا القول إنك في حالة تحولك التدريجي إلى إنسان آليٍّ قد مت، واستُعيض عنك بشيء جديد؛ بديل آلي. بصرف النظر عن ميزاته هو ليس أنت. على الجانب الآخر، إذا كان معيار هويتك العددية هو عامل أقل دقة، مثل استمرارية جسدك (سواء كان عضويًّا أم لا) فسوف نستنتج حينئذٍ أنك أصبحتَ إنسانًا آليًّا. فوجودك لم ينتهِ عندما حل محلَّ ذراعك ذراعٌ آلي. ووجودك لن يتوقف إذا حل محل إحدى خلاياك العصبية محول دقيق. إذن، عبر تعميم تلك الأفكار البديهية، يمكننا القول بأن وجودك لا يتوقف عندما يحل محل جسدك بأكمله أجزاء تؤدي نفس الوظائف. عبر تفسير عملية الاستبدال الآلي على هذا النحو، تصبح إنسانًا آليًّا.

كيف نقرر أي تفسير من تفسيرات سيناريو الإحلال الآلي هو التفسير الصحيح؟ يعتمد الأمر كله على معيار الهوية العددية الذي نعتقد أنه ينطبق علينا. لكن كيف يمكننا تحديد المعيار الصحيح؟ فقد اتضح وجود عدد لا بأس به من المعايير المرشحة، كيف إذن نختار من بينها؟ أحد أكثر الطرق الواعدة لتحري هذه المسألة هو إجراء تجارِب افتراضية. في تجرِبة افتراضية حول الهوية الشخصية، نتخيل سيناريو تغيير جذري ونستشير حدْسنا لمعرفة ما إذا كان الشخص الذي مر بهذا التغيير قد ظل على قيد الحياة أم لا. يقدم لنا حدْسنا تلميحات حول تصورنا للهوية الشخصية. وإذا كانت أفكارنا البديهية قوية ومتماسكة، ويتشارك فيها نطاق واسع من الأفراد، ويُعتمد عليها (على سبيل المثال، إذا لم تكن مشوهة أو متلاعَب بها من خلال طريقة سردنا للقصة)، فإنها إذن دليل جيد يساعدنا على معرفة تصورنا عن الهوية الشخصية. الأفكار البديهية القوية والمعتمَد عليها يجب أن تُرشدنا إلى الظروف التي في ظلها يحافظ الناس على هويتهم عبر التغيير.

إجراء التجارِب الافتراضية طريقة مهمة لإجراء التحليل المفاهيمي. إنها طريقة لاكتشاف الحدود الخارجية للمفاهيم ذات الأهمية. لقد عرضنا تجرِبة افتراضية — تجرِبة الإحلال الآلي — قبل بضع فقرات. هل ترى البقاء على قيد الحياة بعد عملية الاستعاضة عن أجزاء جسدك ببدائل آلية أمرًا بديهيًّا؟ ربما لا. بالتأكيد يعتمد الأمر على «مدى» نجاح عملية الإحلال بأكملها، وماهية المقياس الذي يُستخدم. ماذا لو فشل بديلك الآلي في تذكُّر أيِّ شيء عن حياتك السابقة؟ (فلتفرض مثلًا أن الذاكرة اتضح أنها مشفَّرة، ليس بداخل الوصلات بين الخلايا العصبية — الوصلات التي يمكن استنساخها عبر المحولات الدقيقة — بل بداخل خاصية ما غامضة لدى خلايا الدماغ العضوية التي ضاعت عندما حل محلَّ الخلايا محولاتٌ غير عضوية.) في هذه الحالة، لا يبدو بقاؤك على قيد الحياة بعد العملية أمرًا بديهيًّا على الإطلاق. بالتأكيد، سيرى الكثير من الناس أن العجز عن تذكُّر أي شيء عن حياتك الماضية يعني بديهيًّا أنك لم تبقَ على قيد الحياة بعد عملية الإحلال. قد يبدو أن شيئًا جوهريًّا قد فُقد أثناء التحول من الدماغ البشري إلى الدماغ الآلي. ماذا لو لم يمتلك بديلك الآلي وعيًا على الإطلاق؟ ماذا لو كان يمشي ويتحدث مثل شخص واعٍ، لكن داخله ظلام مُطبِق (إذا جاز التعبير)؟ (على سبيل المثال، قد يتضح أن الوعي ليس خاصية من خواص تدفق المعلومات داخل دماغك، لكنه خاصية غير جسدية مرتبطة على نحو ما بالطبيعة العضوية لجهازك العصبي المركزي.) في هذه الحالة، يتجلى فشل العملية؛ ففي إحدى مراحلها مات المريض على طاولة العمليات.

الآن لا ينبغي لك الاعتقاد بأن الوعي خاصية غير جسدية أو أن الذاكرة البشرية مشفَّرة داخل خاصية عضوية كامنة من خواص الخلايا الدماغية كي تتعلم درسًا مهمًّا من الأفكار الافتراضية التي عرضناها في الفقرة السابقة. إذا كان الفشل في الاحتفاظ بالوعي أو الفشل في الاحتفاظ بالذاكرة يعني نهاية وجودك؛ فذلك يكفي لدعم رؤيتنا. إن ما يسجله مفهوم الهُوية الشخصية على ما يبدو هو وجودنا «الواعي» المستمر. (ربما كان الوجود الواعي المستمر ضروريًّا، لكنه غير كافٍ لاستمرارك. سنحتاج إلى إجراء تجارِب افتراضية أخرى للتحقق من هذا.)

إن الرؤية الأكثر شيوعًا على الأرجح للهُوية الشخصية تعتمد على الأفكار البديهية التي ناقشناها لتوِّنا في الفقرة السابقة. ويُطلق عليها عادةً نظرية الاستمرارية النفسية للهُوية الشخصية. تزعم النظرية، في صيغتها المبسطة، أن معيار الهُوية العددية للفرد هو استمرارية الوعي. لكن توجد مشكله ها هنا؛ وهي أن وعي الفرد أبعد ما يكون عن الاستمرارية؛ إذ تقاطعه على سبيل المثال فترات النوم. إذن «استمرارية الوعي» لا يمكن أن تعني «تدفقًا غير متقطع للوعي». لكي ننقذ النظرية، لا بد أن تتفتَّق أذهاننا عن رؤية مختلفة لاستمرارية الوعي. ما الذي يربط الحلقات المنفصلة من تدفق الوعي غير المنقطع على النحو الملائم؟ الإجابة الواضحة، وربما الأفضل، هي الذاكرة: الذاكرة العرَضية. عندما تستيقظ من النوم تنغمس فورًا في حياتك الواعية المستمرة من خلال الذاكرة العرَضية. قد لا تتذكر آخر شيء تحديدًا مررتَ به قبل أن تخلُد إلى النوم، لكنك تتذكر بعضًا من أحداث اليوم السابق، وتصل ذلك اليوم باليوم الجديد عبر التجرِبة التي تتذكرها. من خلال تبنِّي هذه الطريقة في النظر إلى القضية، نضع الصيغة التالية من نظرية الاستمرارية النفسية، والتي سنُطلق عليها الاستمرارية النفسية القوية:

الاستمرارية النفسية القوية

تُكوِّن مجموعة من مراحل الفرد (أي الفترات الكاملة من تدفق الوعي غير المتقطع) فردًا مميزًا من منظور الهُوية العددية — أي فردًا فريدًا من نوعه — بشرط واحد فقط؛ أن تكون كل مرحلة منها متصلة بالمرحلة التي تسبقها مباشرة عبر الذاكرة العرَضية.

تواجهنا بعض المشكلات الفنية التي علينا التعامل معها قبل اعتبار الاستمرارية النفسية القوية صيغة مقبولة من الأساس. ظل معروفًا لوقت طويل أن صياغة نظرية على النحو الذي استخدمناه لتوِّنا قد يؤدي إلى دائرة مفرغة إن لم نتوخَّ الحذر. لقد وضعنا النظرية من منظور الذاكرة العرَضية، هل نعني بذلك الذاكرة العرَضية الفعلية أم شبه الذاكرة العرَضية؟ (تذكَّر أن الذكريات الفعلية هي ذكريات عن تجرِبة حدثت بالفعل للشخص المتذكِّر، أما شبه الذكريات فهي ذكريات تبدو على هذا النحو، لكنها قد لا تكون كذلك.) لا يمكن أن تكون الذاكرة الفعلية؛ إذا كانت نظريتنا تزعم أن الهُوية الشخصية تتكون من مراحل-الفرد التي تربطها ذاكرة عرَضية فعلية، فهذا يعادل القول بأن الهُوية الشخصية تتألف من مراحل-الفرد التي تربطها ذكريات عن تجارِب خاضها الفرد محل الحديث ولم يخضها أي شخص آخر على وجه الخصوص. بهذه الطريقة، تئُول بنا الحال إلى تعريف الهُوية الشخصية من منظور الذاكرة العرَضية الفعلية، وتعريف الذاكرة العرَضية الفعلية من منظور الهُوية الشخصية. تلك حلقة مفرغة لا يمكن قبولها. من أجل توخِّي الحذر إذن، علينا أن نَصوغ نظرية الاستمرارية النفسية من منظور شبة الذاكرة. والآن يمكننا أن نضع معيار الهوية العددية من منظور ارتباط مراحل-الفرد من خلال شبه الذكريات. تكوِّن مجموعة من مراحل-الفرد فردًا مميزًا بشرط واحد فقط أن تكون كل مرحلة منها تتصل بالمرحلة السابقة لها عبر شبه ذكريات اكتُسبت على نحو صحيح. وسنحتاج في هذه المرحلة نظرية حول «كيفية اكتساب الذكريات على نحو صحيح»، بما يُجنِّبنا الدفع بنظريتنا الجديدة إلى دائرة مفرَغة. قد نزعم على وجه التقريب، لأغراض صياغة نظريتنا، أن الطريقة الصحيحة لاكتساب شِبه ذكرى تتضمن سرد قصة سببية حول نشأة الذكرى، وهي أن تجرِبةً ما تسببت في تغييرٍ دائم في الجهاز العصبي نَتج عن تسجيل ذكرى على النحو الطبيعي. وحدوث هذه العملية على النحو الطبيعي لا يفترض مسبقًا أي شيء حولَ هُوية صاحب التجرِبة أو صاحب الذكرى التي سُجلت في الجهاز العصبي. إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فسنكون قد وجدنا طريقة لتجنب الحلقات المفرَغة وإنقاذ النظرية. وبما أن التحدث عن شبه الذكريات سيعقِّد الأمور للغاية، فإننا سنتجاهل هذه الإشكالية فيما تبقَّى من المناقشة. لكن من المفيد معرفة أننا نقدِر على إنجاز هذه المَهمة، وأنه من الممكن إنقاذ النظرية من السقوط في حلقة مفرَغة. لا يزال يوجد العديد من المسائل المتبقية؛ فمَهمة صياغة نظرية الاستمرارية النفسية القوية على نحو دقيق تمامًا وبعيد عن فخ الحلقات المفرَغة، لم تتمَّ بعدُ. لكن أصبح في وسعنا الآن تقديم المبادئ الأولية للنظرية.

تحدي «تذكار»

ليست التجارِب الافتراضية هي السبيل الوحيد لبحث تصورنا عن الهُوية الشخصية.6 فسَمْت الخيال العلمي بعيد التصور الذي يُميِّز تجارِب الفكر قد يَحِد من موثوقيتها. ومن الصعب غالبًا تحديد طريقة التفكير، وكيفية تطبيق مفاهيمنا، في مواقف لا يمكن عرضها إلا باستخدام مصطلحات خيالية عامة للغاية. على سبيل المثال، اضطُررنا إلى دعم تجرِبة الإحلال الآلي الافتراضية بمجموعة من الافتراضات الفلسفية كي نستطيع التحرك بها قُدمًا. (ماذا لو لم تكن الذاكرة مخزنة في الحساسية الشبكية للخلايا العصبية؟ ماذا لو لم يكن الوعي ناتجًا عن تدفق المعلومات داخل الدماغ؟) إذا استطعنا الاعتماد على حالات من الحياة الواقعية لاختبار نظرياتنا عن الهُوية الشخصية عوضًا عن التجارِب الافتراضية الغريبة، تصبح مَهمتنا أسهل. يُعيدنا هذا الحديث إلى فيلمنا. لا يقدم «تذكار» حالة من الواقع، لكنه تجسيد خيالي لحالة حقيقية؛ ألا وهي مرض فقدان الذاكرة التقدمي المتفاقم. ويُثبت لنا أن الصياغة التي قدمناها لتوِّنا لنظرية الاستمرارية النفسية خاطئة.

لينارد شيلبي عاجز عن فعل ما تتطلبه منه هذه النظرية؛ هو عاجز عن ربط حلقة من الوعي المتدفق غير المتقطع بالحلقة التي تليها من خلال الذاكرة العرَضية. يختبر شيلبي كل مرحلة من مراحل-الفرد كما لو كانت منفصلة تمامًا عن جميع الحلقات التي تسبقها بدءًا من وقت إصابته. فآخر شيء يتذكره (أو يظن أنه يتذكره) هو مشهد احتضار زوجته. رغم ذلك، وبينما نشاهد الفيلم، يبدو واضحًا لنا أن شيلبي هو شخص واحد قائم بذاته على مدار القصة، وتلك قناعة يدعمها عدد من العوامل؛ فهو لديه خُطة ثابتة، ومجموعة متسقة من السمات والميول النفسية، وجسد وصوت واحد من البداية للنهاية. ويتضمن العديد من أجزاء الفيلم تعليقًا صوتيًّا على الأحداث بصوته، وهو لا يواجه أي صعوبة في التحدث عن نفسه بوصفه لينارد شيلبي، وفي تخمين مجمل أحداث حياته، حياته هو. يعامله الآخرون بالفيلم باعتباره شخصًا واحدًا. وعلاوة على ذلك، يتذكر شيلبي حياته قبل إصابته الدماغية. على ما يبدو لا يوجد ما يدفعنا إلى الشك في كون شيلبي شخصًا واحدًا على مدار الفيلم. رغم ذلك يخفق شيلبي في الوفاء بشرط الاستمرارية النفسية فيما يتعلق بالهوية الشخصية، والذي وصفناه في الفقرات السابقة. إذن تلك رؤية خاطئة للهُوية الشخصية. لقد أثبت الفيلم ذلك! (أو أعطانا مبررًا جيدًا للاعتقاد فيه؛ نادرًا ما يتمكن الفلاسفة من بلوغ مرحلة إثبات فرضية ما إثباتًا نهائيًّا.)

ما الخيارات التي تبقَّت لدينا؟ فلنتأملْ عناصر الفيلم التي تدعم قناعتنا بأن لينارد شيلبي فرد واحد متفرد، على الرغم من التقطُّع المزمن لوعيه. فيما يلي نطرح خمسة احتمالات رئيسية:
  • (١)

    لدى شيلبي خُطة حياتية مترابطة؛ وهي السعي مخلصًا للوصول إلى قاتل زوجته. (ظهور تهديد لهذه الخطة هو ما يدفع إلى خداع ذاته خداعًا قاتلًا في الفيلم؛ فهو مستعد لفعل أي شيء تقريبًا لحماية خُطته والروايات التي تدعمها.) وبما أنه قد وضع هذه الخُطة، وتمكَّن من اتباعها بتصميم لا يهدأ، ننزع إلى اعتبار شيلبي فردًا واحدًا يتبع مسارًا متسقًا عبر حياته، ولا نميل إلى تفسير الفيلم كشاهد على تفكك الشخص الذي كانه شيلبي في يوم من الأيام. رغم ذلك، لا يُعتبر وجود خُطة مترابطة أمرًا ضروريًّا أو كافيًا لضمان الهوية الشخصية. فمن الممكن أن يمتلك كلٌّ من الفرق والمنظمات والمجموعات خُططًا مترابطة طويلة الأمد، وقد ينجرف الناس مع تيار الحياة دون هدف وبلا خطط.

  • (٢)

    العنصر الثاني هو تمتُّع شيلبي بمجموعة من الميول والسمات الشخصية الراسخة. وهو من هذه الناحية شخص متسق على المستوى النفسي حتى لو لم يكن يستوعب حياته كتيار واعٍ مترابط. رغم ذلك، ليست الميول النفسية هي السمات المناسبة لجعل الناس أفرادًا، ولا تصلح وحدَها لتحقيق هذا الغرض. قد يتشارك الناس في الميول؛ ومن ثَم لا يمكن اعتبارها كافية لتحديد الهُوية العددية. (تذكَّر أننا نبحث هُوية شيلبي العددية، لا هُويته الكيفية.) وقد يغير أحد الأشخاص ميوله النفسية بشتى الطرق (نتيجة لتجرِبة اعتناق ديانة جديدة على سبيل المثال)، إذن يبدو أن الميول النفسية عنصر غير ضروري لوجود الهُوية.

  • (٣)
    العنصر الثالث الذي يشجعنا على تمييز شيلبي كفرد هو الطريقة التي يَعتبر بها شيلبي نفسه فردًا، ويَعتبره بها الآخرون في الفيلم أنه كذلك. يتحدث شيلبي بصوت واحد، ونحن كثيرًا ما نسمع هذا الصوت من خلال التعليق الصوتي على الفيلم، ولا يلتبس علينا كونه الصوت نفسه (بالطبع التمتع بنفس الصوت ليس ضروريًّا ولا كافيًا لضمان الاستمرارية). يشير شيلبي إلى نفسه بوصفه لينارد شيلبي، نفس الشخص الذي كان عليه بالأمس أو من عشر دقائق أو عشر سنوات. أليس اعتبار شيلبي نفسه فردًا عنصرًا حاسمًا؟ هل لديه سلطة تقرير ما إذا كان سيستمر في الوجود رغم كل ما قد حدث؟ قد ننجذب إلى الإجابة بنعم، لكن في الواقع رأي شلبي ليس عاملًا حاسمًا. فنحن لا نملك هذا النوع من السلطة على استمرارنا الشخصي. على سبيل المثال لا يُعتبر المرء امتدادًا لنابليون لمجرد أنه يظن نفسه نابليون. إن استخدام شيلبي المستمر لضمير المتكلم لا يُرسِّخ كونه فردًا واحدًا إلا في حالة كون كل استخدام للضمير يشير فعليًّا إلى الفرد نفسه، وفي حالة لينارد شيلبي، تُثار تساؤلات حول ذلك. وعلى نحو مماثل، حقيقة أن الآخرين في الفيلم يعاملون شيلبي باعتباره فردًا واحدًا — الرجل الذي فقد ذاكرته — لا يثبت أنه فرد واحد إلا في حالة كون جميع هذه الاستخدامات لضمائر المخاطب والغائب، إلى جانب استخدام أسماء «ليني» و«لينارد شيلبي»، تشير جميعها إلى فرد واحد. وهذا تحديدًا هو ما نسعى إلى إثباته.7
لا يتبقى أمامنا الآن سوى خيارين: (٤) استمرارية جسد شيلبي. و(٥) ارتباط شيلبي بوعيه السابق بإصابته الدماغية من خلال الذاكرة العرَضية. (بالطبع يوجد خيار آخر؛ وهو فقدان الأمل في إثبات استمرارية شيلبي كفرد، لكن من المفترض أن يكون هذا خيارنا الأخير؛ نظرًا لأن الاستمرارية الذاتية هي طريقة طبيعية وتلقائية لتفسير الفيلم.) لنتأمل المسألة من زاوية استمرارية الجسد. هل يحق لنا زعم أن كل ما يحتاجه شيلبي كي يستمر، رغم إصابته بهذه الحالة المتفاقمة من فقدان الذاكرة التقدمي، هو امتلاكه الجسد نفسه يومًا تلو الآخر؟ هل الهُوية الشخصية تقتصر على هُوية الجسد على مر الزمن؟ يؤمن بعض الفلاسفة أن هذا هو الحل الأمثل.8 مع ذلك، من الصعب أن يرضيَنا حل كهذا؛ فهو يستبعد الكثير من الاحتمالات التي تبدو ذات قيمة حقيقية. على سبيل المثال، ربما من المستحيل فيزيقيًّا انتقال وعي أحد الأشخاص إلى جسد شخص آخر وتملُّكه (أو إلى جرَّة لحفظ رَماد الموتى كما في فيلم «جميع أجزائي» (أول أوف مي) للمخرج كارل راينر (١٩٨٤)) لكن في وسعنا تصوُّر هذه العملية، وفي هذا السيناريو لن ينتابَنا بداهةً شكٌّ في أن الهُوية ستتبع الوعي لا الجسد. وعلى المؤمنين بنظرية الاستمرارية الجسدية إيجاد سبيل يقبله العقل لتجريد تلك البديهيات من قوتها، وتلك مَهمة في غاية الصعوبة.

وفي ظل غياب سبيل جيد يمكِّننا من الدفاع عن نظرية الاستمرارية الجسدية، لا يتبقى لنا سوى عنصر واحد لتفسير استمرارية شيلبي. شيلبي هو شخص واحد على الرغم من تقطُّع وعيه؛ لأن كل مرحلة من مراحل-الفرد (أي فترات تدفق الوعي اللامتقطع) التي يمر بها تحتفظ بخلفية مشتركة من ذكريات حياته قبل الحادث. ذكريات شيلبي عن زوجته المحتضرة، عن ممازحته لها حول الكتاب الذي تقرؤه (تقرؤه للمرة الثانية)، عن مداعبته لها بقرص فخذها (أم أكانت هذه ذكرى عن إعطائها حقنه الأنسولين؟) عن تجوُّلها في أرجاء المنزل يعلو وجهها تعبيرٌ شارد مطمئن؛ تلك الذكريات، وذكريات أخرى شبيهة لا حصر لها، هي ما يضفي على حياة شيلبي تفرُّدها، وما يجعل خُطته للانتقام خُطةً وضعها رجل واحد، لا لجنةٌ تضم مجموعةً من نُسخ مستقبلية لشيلبي. تخيَّل قصة الفيلم لو كانت تتضمن حرمان شيلبي من ذكرياته العرَضية التي تسبق إصابته. سيبدو حينها أشبه بسلسلة من الحلقات الواعية المختلفة تربطها ببعضها واجهة خارجية: جسد يغطيه الوشم، ملف شرطي، صورة لسيارة مسروقة. لن يوجد حينها أي شيء يمكن تمريره من فرد منفصل إلى آخر.

الاستجابة إلى تحدي «تذكار»

تأمُّل فيلم «تذكار» يقودنا إلى إعادة تقييم نقدي لنظرية الاستمرارية النفسية للهُوية الشخصية. قد تتكون الهُوية الشخصية — أي استمرارية الشخص الواحد عبر الزمن ورغم التغيير — من مجموعة من مراحل الفرد تربط بينها الذاكرة العرَضية، لكن «تذكار» يثبت لنا أن هذه الروابط قد تكون روابط غير مباشرة إلى حد كبير. يتذكر شيلبي حياته قبل إصابته الدماغية، لكنه لا يتذكر ما حدث له منذ عشر دقائق. ومع ذلك ربما يكفي هذا لضمان استمرارية هويته عبر الزمن. نعرض ها هنا صيغة لنظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية، وقد أجرينا تعديلًا عليها كي تتلاءم مع التحدي الذي يطرحه الفيلم:

الاستمرارية النفسية الضعيفة

الشخص هو مجموعة من مراحل الفرد، ترتبط كل مرحلة منها (باستثناء أول مرحلة) عبر ذكريات عرَضية بمرحلة فردية واحدة سابقة على الأقل.

ما مدى معقولية نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة؟ يشغل بالَ الفلاسفة مشكلةٌ أخرى تتعلق بنظريات الاستمرارية النفسية للهُوية الشخصية، وعلى ما يبدو تعمل نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة على تفاقم هذه المشكلة. نتحدث ها هنا عن مشكلة الانشطار. تخيَّل شخصًا منقسمًا إلى اثنين، شخصًا تحوَّل إلى تيارين من الوعي، يرتبط كل منهما عبر الذاكرة العرَضية بتيار وعي واحد، يرجع إلى ما قبل الانقسام.9 أهو شخص واحد أم شخصان؟ لا يمكن أن يكون شخصًا واحدًا وشخصين في آنٍ واحد. يزعم بعض الفلاسفة أنه في هذا الموقف يوجد شخصان: بالرغم من أن هذا الأمر لم يتضح إلا عند الانشطار، ظل هناك شخصان منفصلان طيلة الوقت.10 لكن فلاسفة آخرين يعتبرون هذه الرؤية مفرِطة في الغرابة. إن حالة شيلبي مثال على انشطار هائل، من بعض النواحي. فمع كل بضع دقائق يبرُز تيار من الوعي غير متصل بتيارات الوعي المحيطة به عبر الذاكرة العرَضية. ولا يظل هذا التيار موجودًا لفترة كافية تسمح له بالتنافس مع تيارات الوعي الأخرى، لكنه غير متصل بالتيارات الأخرى القريبة منه. حسب نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، لا تتمخض حالات الانشطار عن شخص واحد أبدًا. لا يبدو هذا غريبًا في حالة شيلبي؛ إذ لا يتداخل أيُّ تيارين من تيارات الوعي لديه، وكل تيار منها يرجع أصله إلى سلف مشترك؛ وهو تيار الوعي لدى شيلبي قبل إصابته. رغم ذلك، قد تنطوي حالات الانشطار على ما هو أغرب بكثير. ماذا سيحدث عندما ينقسم شخص ما إلى تيارين منفصلين متزامنين من الوعي (يصحبهما جسدان)؟ حسب نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، يظل الشخصان شخصًا واحدًا بصرف النظر عما يفعله كل تيار. لا ترتبط التيارات بعضها ببعض من خلال الذاكرة العرَضية، لكنها ترتبط عبر الذاكرة العرَضية بسلف مشترك. وهكذا يصبح تيار وعيٍ ما رئيسَ البنك الدولي على سبيل المثال، بينما يصبح تيار وعي آخر أحد لصوص البنوك. أيمكننا حقًّا القول بأن رئيس البنك الدولي هو لص بنوك؟ (ربما يمكننا ذلك.) يبدو أننا في حاجة الآن إلى إعادة صياغة لنظريتنا. ربما كانت نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة شرطًا ضروريًّا للهُوية الشخصية، لكنه غير كافٍ. بعبارة أخرى، ربما تقترح نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة شرطًا لا بد أن يفيَ به جميع الأفراد، لكن يوجد شرط آخر لا بد لهم أن يفُوا به أيضًا. فيما يلي نقدم اقتراحًا لهذا الشرط:

الاستمرارية النفسية الضعيفة مقيدة الفاعل

الفرد هو مجموعة مراحل فردية بحيث إن (١) كل مرحلة فردية (باستثناء المرحلة الأولى) ترتبط عبر ذكريات عرَضية بمرحلة فردية واحدة سابقة على الأقل و(٢) لا تنقسم المجموعة أبدًا إلى مجموعتين فرعيتين متزامنتين «أ» تؤدي كل منهما وظيفة الفاعل على نحو مستقل عن الأخرى «ب» ولا يرتبط بعضهما ببعض عبر الذكريات العرَضية للمراحل داخلهما.

هل ستفلح نظريتنا الجديدة المنقحة؟ علينا الاعتراف بأنها مصممة خصوصًا على ما يبدو كي تلائمَ حالتنا؛ فالشرط رقم (٢) موضوع لا لغرض سوى استبعاد حالات الانشطار المختلفة عن حالة شيلبي. وسوف نحتاج إلى نظرية توضح طبيعة العمل كفاعل مستقل (نظرية لا تعتمد على وجود اختلاف في الهُوية). ربما يمكننا تقديم مثل هذه النظرية. سنحتاج كذلك إلى مبرر منفصل لقبول القيود على الفاعل المقترحة ها هنا.

يرى الفلاسفة الدارسون للهُوية الشخصية أن كلًّا من نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة، ونظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة المقيدة الفاعل، لا تدعمهما أدلةٌ كافية. (لكن لا يوجد سبب بعد يدفعنا إلى التخلي عنهما!) لقد قدمنا كلتا النظريتين في المقام الأول لتوضيح عملية الاستجابة لتحدياتٍ من قَبيل التحدي الذي يطرحه فيلم «تذكار» ومدى صعوبة ذلك التحدي. قد يكون ملاذنا الأخير هو قبول صيغة من صيغ فرضية الاستمرارية الجسدية (تذكر أن استمرارية شيلبي الجسدية كانت سمة من سماتٍ عدَّة بالفيلم تدعم قناعتنا بأنه فرد واحد فريد من نوعه)؛ ربما الفرضية التي تربط هُوية الفرد بهُوية جسد حي. (غالبًا ما يُطلق عليها النظرية الجسدية.)11 بالطبع لهذه النظرية إشكاليتها الخاصة؛ ففي هذا المجال، تظل القضية في النهاية هي تحديد المشكلات التي نظن أن في وسعنا التعايش معها. وفي الفلسفة، نادرًا ما تمنحنا إجابة ما كل ما نريده.

أسئلة

  • يستخدم نولان تقنية خاصة كي يضع مشاهديه في حالة أشبه بحالة بطل «تذكار»، لينارد شيلبي، ألا وهي جعل جزء مهمٍّ من أحداث الفيلم يسير في اتجاه عكسي. هل نجحت هذه التقنية من جميع النواحي؟ كيف تختلف معايشة الجمهور للأحداث السردية عن معايشة شيلبي لها؟ هل نبالغ في تفسير الترابط النفسي لدى شيلبي نتيجة لهذا الاختلاف؟ ما تأثير هذا على تحدي «تذكار»؟

  • وفقًا لنظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية، من المهم أن تكون الذكريات عرضية. لماذا لا يمكننا استخدام الذاكرة الدلالية كمعيار بدلًا من الذاكرة العرضية؟

  • لا تشترط نظرية الاستمرارية النفسية للهوية الشخصية دقة الذكريات العرضية، لكنها تشترط ألا تكون زائفة. ما الفرق بين ذكرى غير دقيقة وذكرى زائفة؟ ولماذا نعتقد أن لهذه المسألة تأثيرًا؟

  • هل فسرنا تجرِبة الإحلال الآلي الافتراضية تفسيرًا صحيحًا؟ هل أثبتت التجرِبة أن استمرارية الجسد الحي ليست شرطًا لازمًا لوجود الهوية الشخصية؟

  • هل يوجد سبيل ما يمكِّننا من الثبات على اعتقادنا بصحة نظرية الاستمرارية النفسية القوية في مواجهة نموذج لينارد شيلبي؟ هل يمكننا إثبات أن شيلبي عاجز عن التصرف كفرد مميز على مدار الفيلم؟ كيف يمكننا تفسير أفعاله وردود فعلنا عليها دون افتراض وجود هوية شخصية لديه؟

  • لقد زعمنا في هذا الفصل أنه رغم تفسير نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة لحالة شيلبي، فإنها تعجِز عن تفسير ردود فعلنا البديهية لحالات الانشطار. ودفعَنا هذا إلى طرح تفسير هجين للهُوية الشخصية ألا وهو نظرية الاستمرارية النفسية الضعيفة مقيدة الفاعل. هل تتطلب حالات الانشطار تفسيرًا كهذا حقًّا؟ ألا يمكننا القول بأنه في عالم ينقسم فيه الناس مثل الأميبا، كان سيتعين علينا تعديل مفهومنا عن ماهية الفرد، وتصورنا عن الهُوية الشخصية تعديلًا جذريًّا؟ هل لا بد أن تنطبق مفاهيمنا على كل موقف محتمل منطقيًّا، وأن تنطبق على نحو مُرضٍ لحدْسنا؟

  • جميع نظريات الهُوية الشخصية التي ناقشناها في هذا الفصل هي نظريات «رباعية الأبعاد» (يُطلق عليها في بعض الأحيان «نظريات الامتداد الزمني»). وهي تنظر إلى الهُوية عبر الزمن باعتبارها علاقة بين أجزاء زمنية (مراحل الفرد). يوجد تفسير آخر للهُوية ينافس هذا التفسير، ويُعرف باسم «الديمومة اللحظية». من منظور الديمومة اللحظية، الأفراد (والأشياء عمومًا) ليست حاصل مجموعة من الأجزاء الزمنية، بل هم أفراد ثلاثيو الأبعاد، حاضرون حضورًا كاملًا في كل لحظة من لحظات وجودهم. هل بوسع نظرية الديمومة اللحظية تقديم تفسير أفضل لحالات شيلبي من تفسير النظرية الرباعية الأبعاد؟

هوامش

(1) See the introduction to Martin & Barresi (2003) for a survey of this history.
(2) Anterograde amnesia results from damage to the brain that is restricted to the hippocampus and surrounding tissue. The two most famous cases of anterograde amnesia are the patient known as HM and Clive Wearing. For more information about the condition, see Thompson & Madigan (2005), chapter 5.
(3) Recall Total Recall, discussed in chapter 3. In this film, Quaid remembers his wedding to his wife Lori. His experience is a quasi-memory. It seems to him that he remembers his wedding. It is also a false memory, having been invented and implanted in him by Cohaagen and his team of villains.
(4) Interestingly, some philosophers reject this answer. They argue that what matters for our survival is not identity per se, but something weaker: psychological connectedness. Parfit (2002) argues for this conclusion.
(5) The eighteenth-century German philosopher Gottlieb Leibniz argued that no two things in the world could ever be perfectly qualitatively identical. He called this thesis the identity of indiscernibles. See Forrest (2010).
(6) Many films run thought experiments in personal identity, including body-swap films such as Freaky Friday (1976 and again in 2003); narratives of possession such as All of Me (1984), or, even more conclusively, Fallen (1998); and films that play with the idea of false memory such as Total Recall (1990). Christopher Nolan runs another remarkable thought experiment in personal identity in The Prestige (2006).
(7) Another, related, aspect of the film encourages our individuation of Shelby: its remarkable narrative structure. The film is divided into two narrative streams, one in color and the other in black and white. One narrative stream—the one depicted in color, and so seeming to be the more realistic stream—runs backwards: the first segment we see in the film coincides with the final stretch of Shelby’s consciousness in the narrative time-frame; the second segment we see is the second-last stretch of Shelby’s consciousness, and so on. This allows us to identify with Shelby to a remarkable extent because we share much of his confusion. He doesn’t know why he suddenly finds himself in a motel bathroom with a bottle of whiskey in his hands. The audience doesn’t know why he is there either. (The scene occurs at 0:52.) Both discover part of the solution when they see what happens next. Identifying with Shelby encourages our individuation of him. But, again, this won’t stand up to philosophical scrutiny as genuine evidence of Shelby’s persistence through the narrative. For that we need to turn to more basic facts about him and his situation.
(8) See, for example, Williams (2002).
(9) Such a division is illustrated beautifully in another film by Christopher Nolan, The Prestige (2006).
(10) See Lewis (2003).
(11) See Olsen (2002).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤