الفصل السادس

الكوكب الدرِّي

٤٤

كان القرنان التاسع والعاشر الميلاديَّان، وما بعدهما بقليل، هما الدرَّةَ الساطعة على طريق تراثنا الفكري، لا لأنه لم يكن قَبلهما شيء ولم يأتِ بعدهما شيء، كلا؛ فلقد شهدنا في طريق رحلتنا الثقافية التي نَرصُد خُطاها في هذا الكتاب، وقبل أن نَبلُغَهما، ضروبًا من التفكير القوي الخصيب المثمِر، لا سيما في ميادين اللغة والنحو، وتحليل الأحكام الشرعية عندما استُثيرت عقولُ المفكِّرين بمواقفَ كانت تَقتضي إصدار الحكم في شأنِ مَن أخطأ خطيئة صُغرى أو خطيئة كبرى، وسوف نَشهد بعد هذَين القرنَين كذلك ضروبًا أخرى من التفكير القوي الخَصيب المثمِر، لكن ما قبل هذَين القرنَين — فيما نتصور في حدود عِلمنا المحدود — إنما كان تمهيدًا لهما، وما بعد هذَين القرنَين كان لهما كالصَّدى والأثَر.

ولقد أسلَفْنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب وقفاتٍ اخترناها من القرن التاسع؛ حركة الترجمة عن اليونان الأقدَمين، ثم العَلَّاف والنظَّام والجاحظ، كما أسلَفْنا كذلك في الفصل الخامس وقفاتٍ أخرى اخترناها من القرن العاشر؛ إخوان الصفا، وأبو حيَّان التوحيدي، وابن جني، وعبد القاهر الجُرجاني (وهذا امتدَّت حياته فترةً طويلة في القرن الحادي عشَر)، لكننا عرَضْنا هذه الوقفاتِ العقلانيةَ كلها، كما تُعرَض اللوحات في مَعرِض الفن؛ كي يقف أمامها الرائي متفكرًا متأملًا، وأما في هذا الفصل الذي نحن الآن في سبيل إنشائه، فسوف نُعْنَى بشيء من الحوار الحادِّ العنيف الذي دارت أرحاؤه خِلال ذَينِك القرنَين (التاسع والعاشر، وهما الثالث والرابع بالتاريخ الهجري)، وعندنا — عند كاتب هذه الصفحات — أن أصدق مِعيار يَقيس لنا الغزارة الفكرية في عصر من العصور، هو ما يتَبادله رجالُ الفكر فيه من أخذٍ ورد، ومن عرض ونقد، فتلك هي علامات الحياة، أما أن يتأمَّل فيلسوف، أو أن يَكِدَّ دارِس، ثم يُسجِّل الفيلسوف تأملاتِه، والدارسُ دراساتِه، في كتاب أو كتب، ثم يَمضي بغير رَجْع للصدى، فذلك قد يكون من قبيل النافع الذي يمكث في الأرض زمنًا طويلًا، لكنه وحده لا يدل على حيوية المثقَّفين في عصره، وقد تَمضي أعوام أو قرون، ثم يتنبَّه لذلك الفيلسوفِ أو ذلك الدارس مَن يُخرِجه من بطون كتبه لِيُلقيَ عليه ضوء النهار فيراه الناس ويُناقشونه فيما ذهب إليه، وعندئذٍ فقط يكون للعمل الفكري أثرُه الحي الفعال.

فإذا قَبِلنا هذا المعيارَ لحيويَّة الثقافة في عصر من العصور، أعني مِعيار الحوار الجادِّ الذي لا مِزاح فيه، نتَج لنا صدقُ ما زعَمْناه، وهو أن تلك الفترة الزمنية من تاريخنا الفكري — القرنان التاسعُ والعاشر الميلاديَّان — هما الكوكب الدرِّي في سمائنا، أو هكذا نرى؛ لشدة ما دار فيهما مِن مجادلة بين أصحاب الرأي.

كان المعتزلة — على اختلاف نظراتهم — هم الطاقةَ المفكِّرة، إذا جاز لنا هذا التعبير؛ فهم الذين يتصدَّوْن للمشكلات الناشئة من مواقف الحياة العَملية، بتحليلاتهم العقلية التي تنتهي بهم إلى نتائجَ بعَينِها، وعندئذٍ يُقبِل على نتائجهم هذه مَن يُقبِل، ويَنفر مِن الناس مَن ينفر، ومِن ثَم تتكوَّن المذاهب وتتفرَّع، ولقد بلَغ المعتزلةُ أوْجَ عزِّهم في أوائل الدولة العباسية، لا سيَّما في خلافة المأمون والمعتصِم والواثق، الذين عرَفوا لهم مكانتهم، ودعَوْهم إلى مَجالسهم، وقدَّموهم على سائر العلماء، فكان للمعتزلة الرأيُ الأول، بل الرأي الأوحد، وها هي ذي «مِحنة» خَلْق القرآن، التي ابتُلِي بها السَّلفيون من أمثال أحمد بن حنبل؛ لمجرد كونهم قد رأَوا في القرآن رأيًا لم يكن هو رأيَ المعتزلة، إذ رأيُ هؤلاء المعتزلة فيه أن كلام الله حادِث، يمكن تحديدُ وقوعه في مجرى الزمن، على حين أن أولئك قد رأَوا أن كلام الله لا بد أن يكون كصاحبه كائنًا منذ الأزل، لا تُحدِّده لحظةٌ زمنية يبدأ عندها (انظر تفصيلات «المحنة» في الفصل الثاني من كتابنا «تجديد الفكر العربي») — ولقد وقَفْنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب مع اثنَين من أعلامهم؛ هما العَلَّاف، والنظَّام.

ولقد علَّمَنا تاريخ الفكر أن موجات المذاهب إنما تَعلو لِتَبلغ مَداها ثم تنحسر، وذلك ما قد حدَث للمعتزلة، فلم يكَد يستوفي الخليفةُ الواثق أجَلَه ويَعقُبه في خلافة المسلمين المتوكِّل، حتى أدبرَ عنهم الدهر؛ إذ ما هو إلا أن يَطمئنَّ أعداؤهم من أهل السنة ومن الروافض (وقد سُموا كذلك لرفضهم خلافةَ إمامة أبي بكر وعمر؛ لأنها حجَبَت الحق عن صاحبه، الذي هو علي بن أبي طالب) إلى أنَّ نَجْم المعتزلة قد بدأ يَخْبو، حتى خرَجوا عليهم بكل ما استطاعوا من قوة في الحجة، وعُنفٍ في الجدل، وحرارةٍ في الحوار.

فلْنوجزِ القول في هذا ثم نُفصِّله بعض التفصيل؛ نوجزه فنقول: إن محور الخلاف بين المعتزلة وأهل السُّنة هو في مسألة صفات الله، فهل ننظر إلى هذه الصفات — كالعلم والقدرة مثلًا — وكأنها كِياناتٌ قائمة برأسها، نتحدث عنها بما نتحدث به وكأنما هي مستقلةٌ عن الذات الإلهية الموصوفةِ بها، أو أن ننظر إليها كما ننظر إلى وظائف الأعضاء، لا تَستقل الوظيفة عن عُضوِها؟ أخذ أهل السُّنة بالنظرة الأولى حتى لأُطلق عليهم اسم «الصِّفاتية» وأخذ المعتزلةُ بالنظرة الثانية؛ ولذلك أُطلِق عليهم — على سبيل التقابُل — اسم «المُعطِّلة» أي الذين يَنْفون عن الصفات استقلالَها، وأما محور الخلاف بين المعتزلة والرافضة فهو في قَبول «التجسيم» لله تعالى أو إنكاره، فالآيات القرآنية التي تُشير إلى الله تعالى بما يُصوِّره جسمًا، كثيرة، فأما المعتزلة فلا يرَون بُدًّا من تأويل أمثال هذه الآيات تأويلًا نتخلَّص به من جوانب «التشبيه» وأما السلفيون الروافض فيُريدون أن يُؤخَذ القرآن بما ورَد في نصوصه بغير تأويل، ولقد تحرَّجوا في التأويل لسببَين؛ أولهما: ما قد ورَد في القرآن مما ظنوه منعًا يحرم تأويل كلام الله؛ كقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ؛ والسبب الثاني: هو أن التأويل مهما تَبلُغْ بصاحبه قدرتُه العقلية، فهو لا يَعْدو أن يكون ظنَّا، ولا يجوز أن تُؤخَذ صفات الله تعالى بالظنون، ومِن «المُشبِّهة» — هكذا يُسمَّى الآخِذون صفاتِ الله الدالةَ على جوانبَ جسيمة بظاهر نصوصها وبغير محاولة تأويلها — أقول إن مِن «المشبِّهة» مَن يذهب مع مذهبه إلى أقصى أطرافه، فيميل نحو الحلولية، بحيث يُجيز أن يظهر الله تعالى مُشخَّصًا فيما شاء أن يتجلى فيه، فقد تمثل — تعالى — لمريم بشرًا سويًّا، على أن حلوله تعالى قد يكون بجزء وقد يكون بكل؛ كما كانوا يقولون.

ونُفصِّل القول بعض الشيء؛ لنفهم لماذا احتدَّ الخلاف النظري بين المعتزلة من جهة، والسلفيِّين والمشبِّهة من جهة أخرى، بحيث إذا ما أقبلَت الدنيا على المعتزلة نالوا من خصومهم إلى درجة التعذيب والتنكيل، حتى إذا ما دارت الأيام ودالت عنهم الدولة لِتُقبِل على خصومهم ردَّ إليهم هؤلاء صاعًا بصاع. وقد يُحِس القارئ آخرَ الأمر — كما أحسستُ أنا — أن أمر النزاع بين الفريقَين لم يكن يستحق كلَّ هذا الحنَق من فريق على فريق، ولكن لنعلم أنه بمقدار ما يَفوتنا وجهُ الإثارة الذي استوجب ذلك القتال، يَكون قد استحال علينا أن نَعيش مع الأقدَمين فيما امتلأَت به صدورهم من سَعير المشكلات.

إن لِمذهب المعتزلة أصولًا خمسة؛ يقول عنها «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «ليس يَستحق أحدٌ اسم الاعتزال حتى يَجمع القول بالأصول الخمسة» (ص١٢٦)، وهي أصول نعرفها جميعًا لكثرة ورودها في كل كتاب يَعرِض لهم بالحديث:

فأولها: القول بالتوحيد، نعم إن كل مسلم قائلٌ بالتوحيد، لكنهم أرادوا بذلك تخصيصًا في القول لم يُشارِكهم فيه أصحابُ المذاهب الأخرى، من ذلك أنهم رأَوْا نتيجة تلزم عن التوحيد، وهي أن يكون الله قديمًا (= أزليًّا) بذاته، وأما صفاته تعالى فليست كذلك، فإذا كان الله «عالِمًا» فهو عالم بتلك الذات الإلهية نفسِها، لا بأن تكون صفةُ «العلم» قائمةً وحدها ولها من الأزلية ما للذات، قائلين في ذلك: إنه لو كانت الصفات مُشارِكة للذات في القِدم، لشاركَتْها في الألوهية، وفي ذلك كثرةٌ وتعدد لا يَستقيم معهما «توحيد».

وإذا جاز لي أن أُقرِّب هذا القولَ إلى عقول القراء المعاصرين، أجريتُ مشابهة بينه وبين مشكلة حديثة نشأَت في ميدان علم النفس الحديث، وهي خاصةٌ بما كان يُسمَّى «بالملَكات»؛ فقد كان يُظَن أن للإنسان ملَكةً للحفظ — مثلًا — وملَكةً للتفكير الرياضي، وملَكة للُّغات، إلى آخر هذه القدرات التي تتبدَّى كلها أو بعضها عند مختلِف الأفراد، وكان الظن — كذلك — أن كل «ملَكة» من هذه الملكات لها كِيانها المستقل؛ ولذلك كان السؤال وارادًا: كيف نُقوِّي هذه الملَكة أو تلك؟ وقد كانت العملية التربوية في المدارس متأثرة بمثل هذا التصور، إلى الحد الذي جعلها تقيم المناهج الدراسية على أساس هذه «الملكات» وهي فرادى، ثم ظهرَت النتائج العِلمية في ميدان علم النفس الحديث، فإذا هذه الملَكات وهمٌ، وإذا الموجودُ الوحيد هو الكائن العضوي المكتمِل الذي يكون فردًا من الأفراد، وهذا الكائن يَنضج «كلُّه» ويُدرِك «كله» ويُحفَظ أو لا يُحفَظ «كله»، وأحسب أننا ما نزال — برغم هذه النتائج العِلمية الحديثة — نجد صعوبة شديدة في تقبُّل هذه «الوحدانية» العضوية للفرد، بدليل أننا ما زلنا نتصور «العقل» — مثلًا — وكأنه ساكن يَسكن الجسد، لِيُديرَه كيف شاء، أو كأنه سائق السيارة، ليس هو مِن السيارة، لكنه مُسيِّرها، وعبثًا يُحاول بعضُنا أن يَفهم بأن «العقل» إنْ هو إلا حالة سُلوكية توافرَت فيها صفات معينة، ومن ثم فهي الكيان العضوي كله وهو يسلك على ذلك النحو المعيَّن.

شيء كهذا — فيما أتوهم — كان وراء ما اختلف عليه المعتزلة مع أهل السُّنة، فالمعتزلة يُريدون أن يتصوَّروا الذات الإلهية واحدةً وَحدانية مُطلَقة، وهذه الذات الواحدة غيرُ المنقسمة، تَعلم «كلها» وتَقدِر «كلها» وهكذا، وبين ما يترتَّب على هذا التوحيد الخالص أن نَنفي عن الذات الإلهية كلَّ تشبيه مهما تَكُن صورته، فإذا وجَدْنا شيئًا من التشبيه في آيات الكتاب وجَب تأويلها، وأن ننفيَ كذلك إمكانَ رؤيته تعالى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فلم يَكُن مثلُ هذا التوحيد الخالص المجرد بالشيء المقبول، بل لم يكن لِيُفهَم إلا عند ذَوي النظرات الفلسفية التي مِن طبعها تجريدُ الأفكار تجريدًا يَبعد بها عن المتعين المألوف، فرفضه جماعة المشبهة من أهل السُّنة ومن غُلاة الشيعة على السواء، لكن كلًّا مِن هذَين أراد أن يتصور الباريَ بصفاته الواردة في القرآن، فإذا قيل «يد الله» و«وجه الله» و«نور السموات والأرض» وغير ذلك من الصور المجسدة، أخذوا تلك الصور بحَرْفيتها ولم يُؤوِّلوها. على أن أهم ما وقَفوا عنده وقفة كانت لها رجةٌ كبرى، صفة «الكلام»؛ فبِناءً على نظرة المعتزلة إلى الصفات، مُحال أن تنفرد هذه الصفةُ بوجود مستقلٍّ عن الذات، بحيث يوضع «الكلام» في «كتاب» ثم نَزعم أن هذا الكلام المكتوبَ على صفحات الورق هو هو بعينه ما كان قائمًا مع الله منذ الأزل؛ ذلك مُحال عند المعتزلة، وإذن فلا بد أن يكون هذا الكلام المرئيُّ المسموع — الذي نَراه مطبوعًا في المصاحف والذي نَسمعه ممن يَتْلون آيات الكتاب — أقول إن هذا الكلام كما نراه أو نسمعه لا بد أن يكون حادثًا كسائر الحادثات، حدَث أولَ ما حدث عند نُزوله على لسان جبريل على النبي عليه السلام، وأما فريق المشبِّهة الذين لا يَجِدون حرَجًا من أخذ الأمور بما جاءت به وكما جاءت، فلا يُقرُّون أن يكون كلامُ الله صفةً قائمة بالذات الإلهية، لا نُبصِرها ولا نَكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها، وإلا فماذا يكون هذا الذي نراه مكتوبًا في مصاحف القرآن ونسمعه مقروءًا إذا لم يكن هو كلامَ الله بالمعنى المقصود؟ لذلك فلا يتردد هؤلاء في الإيمان بأن ما بين دفَّتَي الكتاب هو كلام الله، بهذه الصورة المسموعة نزل به جبريل، وبهذه الصورة المكتوبة مُثبَت في اللوح المحفوظ، وبهذه الصورة يَسمعه المؤمنون في الجنة، يَسمعونه من الباري جل وعلا، بغير واسطة ولا حجاب، ولو لم يكن الأمر كذلك فكيف نَفهم قوله تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وقولَه لموسى عليه السلام: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَوَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًاإِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِيوَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وبين أن تكون صفةُ الكلام كما تصوَّرها المعتزلة، وأن تكون كما تصوَّرها السلفيُّون والمشبِّهة؟ فارقٌ لم يقف عند حدود الاختلاف النظري بين المفكِّرين، بل جاوزَ ذلك ليكون اختلافًا قد يُؤدي إلى السَّجن والتعذيب والتشريد، وهنا نُعيد ما أسلفناه، وهو أن المعتزلة حين تمكَّنوا من السلطان في عُهود المأمون والمعتصم والواثق، أنزَلوا ما أنزلوه بالأئمة القائلين بوجهة النظر المضادة، فلما ذهب سُلطانهم بعد ذلك، لم يكن ضدَّ طبائع الأمور أن يَنهض أصحابُ النظرة السلفية والمشبِّهة بالانتقام.

ذلك كان أولَ أصول المعتزلة، وهو «التوحيد» وما تفرع عن الاختلاف في فَهمِه وتصوُّره من نتائجَ نظرية وعَملية على حد سواء، وأما الأصل الثاني من أصولهم الخمسة فهو القول «بالعدل»؛ فقد تصور المعتزلةُ «العدل» الإلهي على نحوٍ خالَفوا به الآخرين، وإن هذا السياق لفُرصة مُواتية يُفيد منها القارئُ إذا أراد، فيرى كيف أن المعنى الواحد قد يكون مقبولًا عند الجميع من حيث اللفظةُ الدالَّة عليه، فمن ذا يَرفض فكرة «العدل» سواءٌ كان من جهة الله أو من جهة الإنسان؟! لكن ادخُل في تفصيل المراد باللفظة، بأن تُحدِّد ما ينبغي تَوافرُه ليصحَّ إطلاقُ الكلمة على الله تعالى — أو على الإنسان إذا كان الإنسان هو موضعَ الحديث — فها هنا يَأخذك العجَب كيف يتَشقَّق الرأي، فيُصبح ما كان يُظَن أنه معنًى واحد لا اختلاف عليه، عدةَ معانٍ متباينة، لكلٍّ منها فريقٌ يناصره.

يقول المعتزلة: إن «العدل» الإلهي لا يُفهَم على وجهه الصحيح إلا إذا كان الإنسانُ قادرًا على اختيار أفعاله ليكون مسئولًا عن اختياره، ثم يأتي الحساب «العادل» فيُثيب مَن أحسن ويُعاقِب من أساء، لكن هل يَمضي هذا القول المستقيم بغير معارضة؟ كلا؛ لأننا لو قَبِلناه، فماذا نصنع عندئذٍ بالآيات الكثيرة الدالة على أن الأمر فيما يفعله الإنسانُ إنما هو بيد الله؟!

إن المعتزلة لم يَكونوا قد أرسَلوا هذا القول إرسالًا بلا مُبرِّر، بل قالوه لِيَردوا به على القائلين بالجَبْر، وعلى مَن بلَغَت به الجُرأة من الرافضة أن يَنسبوا وقوع الظلم إلى الله تعالى، أما الجبرية فلعلَّها قد بلغَت أقصى تطرُّفها على يدَيْ جَهم بن صفوان في منتصف القرن الثامن الميلادي، وتولى الردَّ عليه مُعتزِلو الموجة الأولى، وأما الروافض فهم الذين نراهم على مسرح الأحداث مُتحالفين مع أهل السُّنة برغم ما بين الفريقَين من خلاف، ليُشددوا الهجمة على المعتزلة بعد أن زال عنهم سُلطان التأييد أو تأييدُ السلطان، ولقد رأينا يكف أخذ الروافض «بالتشبيه»، حتى لقد قال عنهم «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «وأما جملة قول الرافضة فهو أن الله عز وجل ذو قدٍّ وصورة وحدٍّ، يتحرك ويَسكن، ويدنو ويبعد، ويَخفُّ ويَثقل» (ص٥-٦). ونَذكر عنهم الآن قولهم في أن طريق الإنسان مرسومٌ له، بخيره وبشرِّه على السواء، مما حدا بالمعتزلة أن يَرُدوا بفكرتهم عن «العدل» الإلهي ماذا يكون، يَروي عنهم «الخياط» في «الانتصار» فيقول: إن رأيهم في القدَر هو «أن الكافر كفَر لعلة وبسببٍ من قِبَل الله، ألجَآه إلى الكفر، بل ألجَآه إلى كفره واضطرَّاه إليه وأدخَلاه فيه، وإن الله يَشاء كلَّ فاحشة ويريد كل معصية» (ص٦).

وأما الأصل الثالث من أصول المعتزلة، فهو القول بالوعد والوعيد، ويُراد بالوعد أن يُثاب مَن خرج من الدنيا على طاعة وتوبة، ويُراد بالوعيد أن يُعاقَب مَن خرج من الدنيا من غير توبة عن كبيرة ارتكبها.

وإن هذا الأصل عن الثواب والعقاب لَشديد الصلة بالأصل الرابع، وهو القول بالمنزلة بين المنزِلتَين، وهو قولٌ يُراد به أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه فاسق، والفسق حالةٌ تُغايِر الإيمانَ والكفر معًا؛ فهي في منزلة بين المنزِلتَين، ولعل هذا المبدأ قد كان نقطةَ البدء للمذهب المعتزليِّ كلِّه، ولقد أفَضْنا القول فيه، عندما تحدَّثنا (في الفصل الثاني والفصل الثالث) كيف أن القتال بين عليٍّ ومعاوية قد أثار في أذهان الناس مشكلة قضائية مُلحَّة، وهي: محال أن يكون الطرَفان المتقاتِلان على صواب فلا بد أن يكون أحدُهما — على الأقل — مخطئًا، لكنه في هذه الحالة خطأٌ قد أودى بأرواح مئات الضحايا مِن خيرة الناس، فماذا يكون الحكمُ فيمن يَثبت أنه هو المخطئ من الطرَفين؟ إنه مرتكب جريمة كبرى، أفلا يكون قد كفر بسببها؟ ها هنا ثار الجدل، وبسَطْنا لك فيما أسلَفْناه في الفصول الأول كيف تشعَّب الرأي؛ فالخوارج قالوا بكُفر المخطئ بمثل ذلك الذنب الكبير، والمرجئة آثرَت أن يُعلَّق الحكم إلى يوم الحساب، فلما عُرِض الأمر على مجلس الحسن البصري بعدئذ، وكان واصلُ بن عطاء بين الحاضرين، أفتى واصلٌ بأن مرتكب هذه الكبيرة لا يَكفر بسببها، ولا يظل كامِلَ الإيمان، بل يقع في منزلةٍ بين المنزلتَين، ولم يَرضَ شيخُه الحسنُ البصري عن هذه الفتوى، فترَك واصلٌ مجلسَه، واتخَذ لنفسه مكانًا آخرَ من المسجد، لِيَنضمَّ إليه مَن يرى رأيه، فكان «اعتزالُه» هذا بدايةَ المعتزلة.

وأخيرًا يَجيء الأصل الخامس من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وليس الأمر — في نظر أصحاب هذا المبدأ — مقصورًا على جملة تُقال، بل لا بد من إعمال المبدأ في عالم السلوك، بمعنى أن نتدخَّل تدخلًا فِعليًّا لِنَنهى المقبِل على منكر عن فعلِ منكَرِه، ولنحضَّ الناس، بل لِنَحمِلهم بالقوة على أداء ما نراه صوابًا متعارَفًا عليه، وفي الأخذ بهذا المبدأ يَكمُن الجهاد ضدَّ من كفر بالله أو فسق.

تلك صورة لما أراده المعتزلة للناس من مبادئ الفكر والعمل، وليس مِن شأننا في هذا السياق أن نُؤيِّد أو نُعارِض أو نقترح التعديل، لكن ما نبتغيه هنا هو أن نضع أمام القارئ صورةً لجماعة فِكرية أتاها تأييدٌ من السلطان فتحكَّمَت فيمن يتولَّى مناصبَ القضاء ومَن يُعزَل عنها، ثم دالت دولتُهم فجاء أهل السُّنة — أي المحبِّذون لأخذ السلف نموذجًا يُحتذَى، ولِقَبول النص القرآني ونص الأحاديث النبوية بظاهر مَعانيها — كما جاء الشيعة، والرافضة منهم على وجه الخصوص، لِيَأخذوا بثأرهم من المعتزلة، فأشبَعوهم هجومًا ونقدًا.

وعندئذٍ أخرج الجاحظ (والجاحظ معتزلي) كتابه «فضيلة المعتزلة» دفاعًا عن مذهبهم، فلم يكن مِن «ابن الرَّاوَنْدي» إلا أن أخرج «فضيحة المعتزلة» لِيَرد به على الجاحظ، كما أخرج مجموعة مِن كتب أخرى رصَدها جميعًا لمهاجمة الإسلام من عدة جوانب، ومِن ثَم أصبح هدفًا لفاعلية فكرية امتدَّت بعده لأكثرَ من مائة عام، يُحاول خلالها كلُّ مَن آنس في نفسه قدرةً على دفع ما زعَمه ذلك «الكافر» ابن الرواندي، فمَن هو الرجل الذي أحدَث تلك الضجةَ كلها خلال فترة زمنية طالت إلى ذلك المدى؟ وهل كانت وراء تلك الهجمة الشاذةِ دوافعُ مما يمكن أن يُضيء لنا جوانبَ الموقف العقلي خلال القرنَين التاسع والعاشر؟

وإننا في هذا لنَنقل عن مقدمة المستشرق «ينبرج» الذي حقَّق كتاب «الانتصار» الذي ألفه «الخياط» المُعتزلي «للرد على ابن الرواندي الملحِد» [جرى ينبرج على رسم الاسم هكذا: «الروندي» بغير الألف، قائلًا إنه رسمٌ وجَده أشيعَ استعمالًا في الكتب مِن رسم «الراوندي» بالألف بعد الراء]:

مؤلف كتاب «فضيحة المعتزلة» هو «الراوندي»، ويُروى عنه أنه كان من المتكلمين، ولم يكن في زمانه أحذَق منه بالكلام ولا أعرَف بدقيقه وجليله، وكان في أول أمره حسَنَ السيرة حميد المذهب كثيرَ الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلِّه لأسباب عرَضَت له، وكان عِلمُه أكثرَ من عقله … وقد حكى جماعةٌ أنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حَميَّةً وأنَفةً من جفاء أصحابه له وتنحيتهم إياه من مَجالسهم، ولقد ألَّف أكثرَ كتبه الكفريَّات من أجل يهودي من الأهواز، وفي منزل ذلك اليهودي جاءه الأجَل.

ولقد اختلَف الكاتبون عنه في سبب إلحاده، فقيل: فاقةٌ لَحِقَته، وقيل: تمنى رياسة لم ينَلْها فارتدَّ وألحد، ولقد ألَّف كتبه تلك خدمةً لأصحاب العقائد الأخرى كاليهود والنصارى والثنوية، ولما كان المعتزلة ذَوي نفوذ، استعانوا بالسلطان على قتل ابن الراوندي لقاءَ ما اقترف، لكنه هرب إلى يهودي في الكوفة. تضاربَت الأقوالُ عن الرجل، حتى في تاريخ مولده وتاريخ موته، لدرجة أن بعض الرواة اختَلَف عن بعضهم الآخر في خمسين سنةً كاملة، فيَجعله بعضُهم في سن الأربعين عند موته، ويجعله الآخَرون فوق الثمانين، ويكفينا منه على كل حال أنه عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، وأنه في ذلك العهد فجَّر قنبلته الفِكرية الإلحادية، فقدم بها ذَخيرة عجيبة لمن خالَفه ومن أيَّده على السواء، والأعجب من هذا كلِّه أن نجد ألدَّ أعدائه من أهل السُّنة، لم يتحرَّجوا عن الاستعانة بما ورد في كتبه عن المعتزلة من حُجج، فأورَدوها في مُخاصمتهم لمذهب الاعتزال.

وتَرِد عن ابن الراوندي أخبارٌ كثيرة على أقلام المؤرِّخين، لو ضمَمْنا بعضها إلى بعض تكونَت لنا صورةٌ عن شخصية قلقة لم تستقرَّ على رأي تؤمن به حقَّ الإيمان، وطَفِقَت تبيع الآراء لمن يَشتري، فكانت تَصوغ من هذه الآراء ما يوافق الشاري، على نحوِ ما نعرفه اليوم ممن نُطلِق عليهم عبارة «كاتب مأجور»، بمعنى الكاتب الذي يَكتب لقاءَ أجر، ما يطلبه دافع ذلك الأجر، قيل عنه فيما قيل: كان ابن الراوندي يُلازم أهل الإلحاد، فإذا عُوتب في ذلك قال: «إنما أريد أن أعرف مذاهبهم»، ويُقال عنه كذلك: كان أبوه يهوديًّا فأسلم، وكان بعضُ اليهود يقول لبعض المسلمين: «لَيُفسِدن عليكم هذا كتابَكم كما أفسد أبوه التوراة علينا» ورُوي عن ابن الرواندي أنه كان يقول لليهود: قولوا إن موسى قال «لا نبيَّ بعدي»!

وذكر الطبري عن ابن الراوندي أنه كان لا يستقر على مذهب، ولا يَثبت على حال، حتى إنه صنَّف لليهود كتاب البصيرة ردًّا على الإسلام، لأربعمائة دِرهم أخذها — فيما بلَغَني — من يهود سامرَّا، فلما قبَض المال رام نقضه حتى أعطَوْه مائة درهم أخرى، فأمسك عن النقض، ويُروى أنه اجتمع مع أبي عليٍّ الجُبَّائي يومًا على جسر بغداد، فقال له: «يا أبا عليٍّ، ألا تَسمع شيئًا من معارضتي للقرآن ونقضي له؟» فقال له: «أنا أعلم بمَخازي علومك وعلوم أهل دهرك، ولكن أُحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في مُعارضتك له عذوبة وهشاشة وتَشاكلًا وتلازمًا ونَظمًا كنَظْمه وحلاوةً كحلاوته؟» قال: «لا، والله» قال الجُبائي: «قد كفَيتَني، فانصرِف حيث شئت.»

وكان من كتُبه الكُفرية: كتاب «التاج» يحتجُّ فيه لقِدَم العالم، أي إن الله لم يَخلُقه من عدم، وكتاب «الزمرذة» يحتجُّ فيه على الرسل، ويُبرهن على إبطال الرسالة، وكتاب «الفرند» [وكثيرًا ما يَرِد باسم «الفريد»] في الطعن على نبيِّ الإسلام عليه السلام، وكتاب «اللؤلؤة» في تَناهي الحركة، وكتاب «الدامغ» يتهجَّم فيه على الله تعالى، بمثل قوله: إن الخالق ليس عنده من الدواء إلا القتل، فِعْلَ العدو الحَنِق الغَضوب، فما حاجتُه إلى كتاب ورسول؟ وله كتاب «القضيب» [وقد يَرِد باسم «القصب»] … ولقد جاء ذِكر ابن الرواندي هذا وكتبه عند أبي العلاء المعرِّي في رسالة الغفران، فسَخِر منه المعرِّي سخرية مُرة، وكان مما قاله عن كتب ابن الراوندي: «وأما «القضيب» فمَن عَمِله أخسرُ صفقةً من قضيب»، والإشارة هنا لرجل كان اسمه القضيب يُحكى عنه أنه اشترى قوصرة تمر، وكان فيها بَدْرة، فلَحِقه بائعُها فاستردها، وكان مع قضيب سكين، فقتل نفسه حسرةً على البَدْرة الضائعة، «وأما «الفريد» [وحقيقة اسم الكتاب «الفرند»]، فأفرَده من كلِّ خليل، وألبسه في الأبد بُرْد الذليل»، «وأما «المرجان» فإذا قيل إنه مِن صغار اللؤلؤ، فمَعاذ الله أن يكون «مَرْجانُه» صِغارَ حصًى … وإنما هو مرَجانٌ؛ مِن مرَجتُ الخيلَ بعضها مع بعض، وترَكتُها كالمهمَلة في الأرض، أو لعله مُرُّجانٍ؛ مِن جنى الشجرة، أو مرَّجانٌ من الشياطين الفجرة»، وحسبك أن يكون هذا ردَّ فعل المعريِّ عن الرجل وكتبه، بعد أن كان قد مضى عليه نحوُ قرن من الزمان، لتعلم أيَّ دويٍّ أحدَثه في رجال الفكر والثقافة لفترة طويلة من الزمن.

٤٥

ولنقف وقفةً قصيرة عند كتابٍ واحد من كتبه تلك، وهو كتاب «الزمرُّذة» أو «الزمرُّذ» لنذكر لمحة من محتواه، تكون كاشفةً عن طبيعةِ ما في سواه، وسوف يكون مرجعُنا فيما نَذكره هو البحثَ الذي قام به «بول كراوس»، والذي نقَله إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام».

كان المصدر الذي أُخِذَت منه الفِقرات المقتبَسة من كتاب «الزمرذ»، ليس هو الكتابَ نفسَه، بل كان مصدرها هو ما ورد في «المجالس المؤيَّدية» للمؤيَّد في الدين هبةِ الله بن أبي عِمْران الشيرازي الإسماعيلي، داعي الدعاة في عهد الخليفة المستنصِر بالله الفاطمي، وهو نفسُه داعي الدعاة الإسماعيلي الذي حَفِظ لنا ياقوت مُراسَلاته مع المعرِّي، وأما كتابه «المجالس المؤيَّدية» فهو مِن ثمانية مجلَّدات تَحتوي على ثمانِمائة مجلس، هي عبارة عن محاضرات ألقاها مؤيد وهو في القاهرة، ولم يكن لهذه المحاضرات موضوعٌ واحد، بل تنوعَت موضوعاتها من شرح العقيدة الإسماعيلية إلى بسطٍ للمسائل السياسية والدينية، وكان مما ورَد ذِكره في تلك المحاضرات كتاب «الزمرذ» لابن الراوندي، فقد أخذ في مجالسه ما جاء عنه في كتاب داعٍ إسماعيلي غيرِ مذكور الاسم، وهو كتاب أورَد اقتباساتٍ كثيرةً من كتاب «الزمرذ» ليُناقشها ويردَّ عليها، تكفي للإلمام بمحتوى هذا الكتاب الأخير «الزمرذ» ما دام النص الكامل مفقودًا، وسنقتصر فيما يلي على بعض النصوص المأخوذةِ من «الزمرذ» وطريقة الرد عليها في «المجالس المؤيَّدية»:

قال ابن الرواندي: «إن البراهمة يقولون إنه قد ثبَت عندنا وعند خُصومنا أن العقل أعظمُ نِعَم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يُعرَف به الربُّ ونِعمُه، ومن أجله صحَّ الأمرُ والنهي والترغيب والترهيب؛ فإن كان الرسولُ يأتي مؤكدًا لِما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقطٌ عنا النظر في حُجته وإجابةِ دعوته، إذ قد غُنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ، وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح، والإطلاق والحظر، فحينئذٍ يَسقط عنا الإقرارُ بنبوته.»

كان هذا كلام ابن الراوندي عن النبوة، ونختصر ما فيه بلُغةٍ أوضح؛ فهو يقول: إما أن تكون رسالةُ النبي متَّفِقة مع العقل أو مُخالِفة له، فإذا كانت متفقة كنا في غِنًى عنها؛ لأن عقولنا تَكفينا، وإذا كانت مُبايِنة له فلَسْنا بحاجةٍ إليها؛ لأننا نُريد أن يكون للعقل زِمامُنا، وإذن فهي في كِلتا الحالين رسالة لا تدعو إليها حاجة.

وفي الرد على الفقرة السالفة عن النبوة، يقول صاحب «المجالس المؤيَّدية» بعد أن قرأ النصَّ على الحاضرين: «الجواب وبالله التوفيق: أما قوله: ثبَت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظمُ نِعم الله سبحانه على خلقه فنقول: إنه قطعٌ على قولٍ لم يُحرِّرْه؛ وذلك أن العقل كامنٌ في الصورة البشرية كُمونَ النار في الزناد، فلو بقي ما بقي في مِضماره عادمًا لِمَن يَستخرجه ويستدرجه، لم يقَع انتفاعٌ به، كالنار الكامنةِ في الحجر والحديد، لا يُستنفَع بها ولا يَحظى بطائل من خيرها ما عدمَتِ القادحَ، والذي يقَع من الفعل المكمون — في الصورة الآدمية — موقعَ قادحِ الزناد هم الأنبياء … فهم أولى بأن يُسمَّوْا عقلًا؛ لاستخلاصهم العقولَ من الصورة البشرية، وإخراجِهم إياها من حدِّ القوة إلى الفعل.»

قال ابن الراوندي: إن الرسول أتى بما كان مُنافِرًا للعقول، مثل الصلاة، وغُسل الجنابة، ورَمْي الحجارة، والطواف حول بيت لا يَسمع ولا يُبصِر، والعَدْو بين حجَرَين لا يَنفَعان ولا يَضرَّان، وهذا كله مما لا يَقتضيه عقل، فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبي قُبيسٍ وحِرًى، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت، إن الرسول شهد للعقل برِفْعته وجلالته، فلِمَ أتى بما يُنافره إن كان صادقًا؟

فنقول وبالله التوفيق: إن الرسول صلى الله عليه وآله بعثَه الله سبحانه ليُنشِّئ النشأة الأخيرة كما أن الوالِدَين يُنشِّئان أولادهما النشأة الأولى … وقد وجَدْنا الوالِدَين موضوعهما قطع الأولاد عن العادة البهيمية، وكَسْبهما الأخلاقَ الإنسانية؛ استخلاصًا للنطق فَهمًا منهما، وهو ما يقَع الفُرقانُ به بين البهائم وبينها، وإفادةً للحياء وحُسن الشمائل التي لا قِبَل للبهائم بمِثلها، ولو أنهم كفُّوا عن رياضتهم هذه الرياضةَ لخرَجوا أشباهَ البقر والغنم؛ نقول: إن الأنبياءَ — صلوات الله عليهم — يَسلُكون بتابِعيهم الذين يُنشِّئونهم النشأة الثانية للدار الآخرة مَسلك الآباء والأمهات بأولادهم، فيَخرقون عليهم العاداتِ الطبيعيةَ … ولمَّا كان خارجًا عن العادات الطبيعية أن يقوم أحدٌ إلى طهارة ويتوجَّه إلى قِبلة ويَقوم بصلاة يقصد بجميعها عبادةَ ربه سبحانه، أوجب الرسولُ ذلك كلَّه خرقًا للعادات الطبيعية …

قال الملحد (ابن الراوندي) في شأن المعجزات والدفعِ في وجوهها: إن المخاريق شتى، وإن فيها ما يَبعُد الوصولُ إلى معرفته ويَدِق عن المعارف لدِقته، وإن أُورِدَ أخبارها بعد ذلك عن شِرذمة قليلة يَجوز عليها المواطأةُ في الكذب.

فالجواب عن ذلك: أن المُحِقِّين لا يَستصِحُّون النبواتِ إلا من المعجزات العِلمية دون تسبيح الحصى وكلام الذئب وغير ذلك مما هو طِلْبةُ مَن قَصُر باع عِلمه وفَهمه، مشفوعةً تلك بالنصوص (واستطرد المتحدِّث ليُبين أن نبوة النبي عليه السلام كانت قد سبقَتها نصوصٌ دلَّت عليها) ثم قال: أما مَن كانت نفسُه أشرفَ النفوس، فجسمه بمجاورة نفسِه أشرفُ الأجسام، ومَن كان في نفسه وجسمه بهذا الكمال في الشرف، لم يَكُن مستحيلًا أن يَصدُر عنه ما يخرق العادة من إعجاز لا قِبَل للبشر بمثله.

قال ابن الراوندي عن القرآن: إنه لا يمتنع أن تكون قبيلةٌ من العرب أفصحَ مِن القبائل كلِّها، وتكون عدةٌ مِن تلك القبيلة أفصحَ من تلك القبيلة، ويكون واحدٌ من تلك العدة أفصحَ من تلك العدَّة، إلى حيث قال: وهَبْ أن باع فصاحته طالَت على العرب، فما حُكمه على العجم الذين لا يَعرفون اللسان، وما حُجته عليهم؟

فالجواب على ذلك: إن الكلام ألفاظ مقدَّرة على مَعانٍ مُلائمة لها، والكلام كالجسد، والمعنى فيه روحه، ومعلومٌ أن الأجساد — من حيث كونُها أجسادًا — لا تتفاوت تفاوتًا كثيرًا … وليس كذلك التفاوتُ من جهة النفوس التي هي المعاني … والكلام في القرآن هو بمثابة الجسد، ومعناه روحُه الذي كنَى الله سبحانه عنه بالحكمة، فلم يَذكُره في موضع من الكتاب إلا قرَنه بالحكمة، وقد قاربت — أيها الخصم — بالإقرار بكونه معجزًا من حيث لفظُه للعرب الذين هم أهل اللسان، ثم أردَفْته بقولك: فما الحُجة على العجم الذين ليسوا من اللسان في شيء؟ فنقول: إنَّ في معناه المَكْنيِّ عنه بالحكمة التي قدَّمنا ذِكرها ما يقوم به الحُجة …

قال ابن الراوندي الملحِد: إن الملائكة الذين أنزلَهم الله تعالى في يوم بدر لنُصرة النبيِّ بزعمِكم، كانوا مَغلولي الشوكة قَليلي البَطْشة على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يَقدِروا على أن يَقتلوا زيادةً على سبعين رجلًا، وقال بعد ذلك: أين كانت الملائكةُ يوم أُحد لما توارى النبيُّ ما بين القتلى فزعًا، وما باله لم ينصروه في ذلك المقام؟

فلم يَزِد صاحبُ «المجالس»، في ردِّه على هذا القول، على أن قال ما معناه: إن في حديث الملائكة مِن أسرار الحكمة ما لا تَبلغه عقولنا، وهو جوابٌ أضعفُ من الاتهام.

ولعله مما ينفع هنا أن نُورِد جُملة الاتهامات التي هاجم بها ابنُ الرواندي الإسلامَ في كتابه «الزمرذ»، والتي ذكَرْنا بعضها دون بعض؛ أقول: إنه مما ينفع أن نورد جملةَ الاتهامات ملخَّصة مبوَّبة، كما لخصها وبوَّبها «كراوس» في بحثه الذي نقَلْنا عنه ما نقَلنا؛ يقول:

بافتراضنا أن مؤلف الردِّ (يريد «الشيرازي» صاحب «المجالس المؤيَّدية») سرَد المقتبَسات من كتاب «الزمرذ» بنفس الترتيب الموجود في النص الأصلي للمؤلف، فإننا نستطيع أن نُرتِّب القطع المختلفة المنفردة مع الأجزاء الرئيسية التالية من الكتاب هكذا:
  • (١)

    سمو العقل على النقل.

  • (٢)
    نقد الإسلام:
    • (أ)

      الإسلام والشريعة الإسلامية تتناقض مع العقل.

    • (ب)
      معجزات محمد (عليه السلام):
      • فروض عامة.

      • تواريخ المعجزات، ومن بين المعجزات التي يَعُدها المسلمون دلائلَ على نبوة محمد القرآنُ نفسه؛ نقد إعجاز القرآن.

    • (جـ)

      نقد التواتر في الإسلام.

  • (٣)
    العلم ضد النبوة:
    • (أ)

      الكلام الإنساني حادث بطبعه، ولا يَرجع في أصله إلى الأنبياء.

    • (ب)

      والفلَك والموسيقى لا يَرجعان في أصلهما إلى الأنبياء. على أن ما نهتمُّ له في كتابنا هذا ليس هو الأوجُهَ المعينة التي هاجَم بها الإسلامَ هذا أو ذاك، والأوجه المعينة التي ردَّ بها المدافعون عن الإسلام، بل نهتم في الدرجة الأولى بالحركة العقلية من حيث هي، فيَكْفينا أن نَعلم كيف كان القوم يَصطرِعون بالحُجة ويَعتركون بالمنطق والدليل، ولقد بلَغوا في ذلك أقصى المدى إبَّان الفترة التي هي الآن محور حديثنا، أعني القرنَين التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي (الثالث والرابع بالتاريخ الهجري)، ولا عجب؛ فها هنا فقط أخذَت العقيدة الإسلامية تتخذ صورتها الكاملة من الناحية العقلية الجدلية، بفضل الحوار الذي تبادله المعارِضون والمؤيِّدون، مما أرهف قوةَ الحجة وضاعف مِن صلابة الدعائم، وأما قبل ذلك — أعني في القرنَين الأوَّلَين من تاريخ الإسلام: السابع والثامن، فقد كان المألوف أن نجد شعوبًا بأسرها، أو قُل جماعات كبرى من تلك الشعوب، قد أسلمَت، لكنها — عن وعيٍ منها بذلك أو غيرِ وعي — ظلَّت مُحافِظة على كثيرٍ جدًّا من مُيولهم الوجدانية نحوَ ما كانت تَنزِع إليه عقائدُهم السابقة على الإسلام؛ وذلك يُفسِّر سهولة انزلاق بعضهم — ومنهم مَن كانوا مِن صفوة المثقَّفين — في طريق «الزندقة»، أعني في طريق الارتداد إلى العقائد الأولى، حتى وإن ظَلوا مُستمسِكين بقشرة إسلامية خارجية، يقول «نيبرج» في مقدمته لكتاب «الانتصار» للخياط: «إن التاريخ يدلُّ على أن أمر الإسلام لم يُنفَّذ إلا تدريجًا، ولم يَخطُ إلا خطوةً خطوة، ولم يزَل في دار الإسلام عددٌ كبير من [أصحاب الديانات الأخرى الذي أقاموا لعقائدهم قواعدَ فلسفية ترتكز عليها] على حين كان الإسلام في بادئ أمره لم يُبيِّن علماؤه عقائده، ولم يبحَثوا عنها على طريق منطقيٍّ فلسفي …» (كتاب الانتصار، ص٥٤-٥٥ من مقدمة نيبرج).

على أنه إذا كان الطريق — في رأينا — صاعدًا نحو ازديادِ النُّضج الفكري فقد يراه آخَرون طريقًا هابطًا نحو النقص بعد الكمال، فها هو ذا أبو القاسم الصقلِّي في «كتاب الأنوار» (نقلًا عن ابن عباد الرندي في «الرسائل الصغرى»، ص٧٥) ينظر إلى مسار الفكر الإسلامي منذ بدايته، فيقول:

«كان أخصَّ الناس بفَهم عِلم الكتاب وشرح مَعرفة السُّنة وعمل الرسول أهلُ القرن الأول؛ لأنهم أفضل الناس عقلًا وأوسعُهم علمًا، ثم جاء القرنُ الثاني، فكانوا أعقلَ الناس وأعلمَهم — بعد الصحابة — بمعاني آيِ الكتاب، والعمل بالاقتداء، وفَهْم ما شرَحه الصحابةُ من البيان، غير أن الإيثار الذي خُصَّ به الصحابة رقَّ في التابعين … ثم جاء القرن الثالث فذهب أكثرُ العلم … وقلَّ فيهم الخوفُ والرجاء، والصبر والشكر، وكَثُر فيهم الخوض والجدل، والخصومة والمِراء … وصارت الحقيقةُ خصوصًا والجهالة عمومًا، ثم جاء القرن الرابع فاضطرَب الأمر في الحق، واستوحشَت طرق الهداية للسالِكين لها وكَثُر النفاق … وفسَدَت النيات في ذات الله … غير أنَّ في الناس بقايا من أهل التصديق بالقدرة، متحقِّقين بالإيمان بالقدَر، فإذا حلَّ دخولُ القرن الخامس اشتدَّ البلاء بأهل الإسلام خاصة فيما بينهم، فكان الكلُّ على الكل في القريب والبعيد … فإذا دخَل القرنُ السادس ذهَب أهل التصديق وبقي أهلُ الإنكار، وسُلِب الناسُ عقلَ البصيرة، وبقي عقلُ الحجة عليهم وذهب الإسلام فلم يبقَ إلا اسمه، ثم العجَب العجب أهل القرن السابع وهم أشرار الناس …» — لكنَّ أبا القاسم الصقلِّي ربما كان يَحصُر رؤيته في حدود الإيمان الصادق، وبذلك لم يستطِع أن يرى إلا ضَعفًا فيه يَزداد مع الزمن، أما نحن فرُؤيتنا موجَّهة إلى جانب آخر، هو التفكير العقلي فيما يَعرِض لأهل النظر من مُشكِلات، وعندئذٍ لا نرى إلا صعودًا حتى آخرِ القرن العاشر (الرابع الهجري) وقد لا يَكون بين النظرتَين من تناقض، إذ ربما سار الضعفُ في الإيمان جنبًا إلى جنب مع القوة في الحِجاج المنطقي.

٤٦

ذلكما — إذن — طرَفان تناقَضَا وتصارَعا؛ المعتزلة في طرَف، والمتمسِّكون بحَرْفية النص، ومعهم الروافض، في طرَف آخر، الأوَّلون يَنزِعون نحو التجريد العقلي، والآخرون يَقِفون عند النصوص بحروفها؛ الأولون يُبيحون التأويل إلى غيرِ حد، ليتمكَّنوا مِن فَهم النص فَهمًا يَرضى عنه العقل، والآخرون لا يُلْقون بزِمامهم إلى عقل، بل أساسهم هو الإيمان بما نزل، ولا يُجيزون التأويلَ في أقلِّ درجة من درجاته.

وكان لا بد للبندول الفكري المتأرجِّح بين ذَينِك الطرَفَين المتناقضَين أن يَلتمس نقطة وسَطًا، فلا يُعطى للعقل وحدَه كلُّ الحق في القَبول والرفض، كلا، ولا يُحرَم العقل حِرمانًا تامًّا من أن يكون له حقُّ النظر، ولماذا لا يكون للعقل مجالٌ وللإيمان مجال آخر؟ لماذا لا نُسلِّط العقل إلى آخر ما يَستطيع بلوغه، ثم نترك ما بعد ذلك للتسليم الإيمانيِّ بلا جدل؟

وذلك هو الموقف الوسط الذي وقفَه أبو الحسن الأشعري (٨٧٣–٩١٧م) فبدأ بذلك طريقًا للفكر الإسلامي لم يَنقطع عنه السائرون إلى يومنا هذا؛ فلقد أشفَق الأشعريُّ على دين الله وسُنة رسوله من أن يذهَبا ضحيةَ الآراء المتطرِّفة، فالمعتزلة مِن ناحية يَنظرون إلى صفات الله نظرةً مجردة حتى لتَكاد تَفقد وُجودَها، وأهل النص من جهةٍ أخرى يُقاوِمون النزعة العقلية مُقاوَمة انتهت بهم إلى جُمود، وأراد الأشعريُّ أن يوفق بين مذاهب السُّنة توفيقًا يوحِّدها جميعًا في نظرة واحدة؛ لأنها مذاهبُ تتفق على الأصول ولا تختلف إلا في الفروع.

ولا نترك هذه المناسبةَ قبل أن نَذكر حقيقةً أوردها الشَّهْرستاني وهي أن أبا الحسن الأشعريَّ يَنتسب إلى أسرة واحدة مع أبي موسى الأشعري (صاحب التحكيم بين علي ومعاوية) وأنه مِن عجيب الاتفاقات أن أبا موسى كان في وقته يَرى رأيًا شديدَ الشبَه بما رآه أبو الحسن. ويَروي الشهرستانيُّ في ذلك حوارًا موجَزًا دار بين أبي موسى وعمرِو بن العاص، على هذا النحو:

عمرو بن العاص : أو يُقدِّر الله عليَّ شيئًا ثم يُحاسبني عليه؟
أبو موسى الأشعري : نعم.
عمرو : ولِم؟
أبو موسى : لأنه لا يَظلمك.

ونعود إلى حديثنا عن أبي الحسن الأشعري، ورفْضِه أن يكون العقلُ مقياسًا مطلقًا لا يدَع مكانًا لمقياسٍ سواه؛ لأنه يرى أن ثَمةَ من المعطيات الدينية الأساسية ما لا بد من قَبوله برغم أنه يُجاوز حدود العقل؛ فالإيمان بالغيب مبدأٌ أساسي في الحياة الدينية، على حينِ أن «الغيب» يَستعصي على البراهين العقلية، ولقد ظنَّ المعتزلةُ أنهم إنما يَدعمون بُنيان الدِّين أن يَجعلوا السلطان للعقل وحده، ويتساءل الأشعري: إذا كان العقلُ أمرُه كذلك، فماذا تكون قيمةُ الإيمان بالله وبالكتاب المنزَّل؟ إنه إذا كانت الأحكام للعقل، فلا تبقى لنا حاجةٌ إلى إيمان نَقبله عن عقيدةٍ وتصديق، وإني لأتساءل هنا بدَوري: تُرى إلى أيِّ حد كان لابن الراونديِّ فضلُ التنبيه إلى هذه الفكرة حين قال في كتابه «الزمرذة» ما معناه: إننا إذا جعَلنا العقلَ مِقياسَنا فلا حاجة بنا إلى نبيٍّ ورسالة؛ لأن الرسالة إمَّا جاءت متفقةً مع ما يُدرِكه العقل بمنطقه ومِن ثَم فلا يكون لها مُبرِّر، وإما خالفَت منطقَ العقل فوجب التنكُّر لها، فهل كان هذا هو ما دعا الأشعريَّ إلى التحوُّط في النظر، بحيث انتهى إلى رأيٍ يوجِب الجمعَ بين العقل والإيمان ليكون لكلٍّ منهما مجالٌ لا يُنافِسه فيه الآخر؟

وحَسْبُنا دليلًا على قوة الموقف الوسط الذي اختاره الأشعري، أن نعلم كم مِن الأئمة الأعلام بعد ذلك — وعلى طول القرون التالية — اختار الموقف نفسَه، وربما كان الشيخ محمد عبده آخِرَ الأتباع الكبار، ولم يكن الجمعُ بين العقل والإيمان هو كلَّ ما قدَّموه، بل كان للأشاعرة آراء أخرى ذاتُ خطر عظيم في دنيا الفكر الفلسفي، منها تفسيرهم لعملية الخلق؛ فلقد وجَدوا أنفسهم أمام فِكرتَين في ذلك، رفَضوهما جميعًا، الأولى هي فكرة «الفيض» التي قال أصحابُها — أخذًا عن أفلوطين — إن الكائنات تَفيض من الجوهر الإلهي كما تَفيض أشعَّةُ الضوء من الشمس، فاعترض الأشاعرة قائلين: إن هذا التصور يَنفي عن الله حرية إرادته في خلق ما يُريد على الصورة التي يريد؛ لأن الكائنات الفائضةَ عن مَصدرها قد تَفيض دون أن يكون للمصدر إرادةٌ في فيضها أو في مَنعها، وأما الفكرة الثانية عن الخلق فهي السببية التي تجعل من الله تعالى سببًا أولًا، ثم تتسلسل الأسباب والمسببات، لكن ذلك يؤدي بنا إلى حتميةٍ لا فكاك منها، فأين عندئذٍ تكون الحرية المطلقة التي نَصِف بها الله؟!

فكيف يُفسِّر الأشاعرةُ عملية الخلق؟ إنهم يَستندون في ذلك إلى نظرية الجوهر الفرد، أي الجزء الذي لا يتجزَّأ، فإذا كان الوجود ينحلُّ إلى ذَرَّات من النوع الذي قال به ديمقريطس قديمًا، فتكون كلُّ ذرة وحدةً قائمة بذاتها، لا سبيل إلى النفاذ خلالها لأنها مُصمَتة، وأنها ذات شكل معين لا قدرة لها على تشكيل نفسها، إذن فهي بحاجة إلى مَن يُشكِّلها ويجمعها مع غيرها أو يُفرِّق بينها وبين غيرها، ومِن مثل هذا الجمع والتفريق تتكوَّن الأشياء جميعًا، نقول: إنها بحاجة إلى مَن يتولَّى تشكيلها لأنها بذاتها لا تحمل القدرة على ذلك، وإذن فهي بحاجةٍ إلى مبدأ أعلى منها، وهو الخالق.

٤٧

الظاهر أنه كلما بَعُد العهد بعصر من العصور، ثم جاء الخلَفُ يُحْيون الحياة الفكرية التي سادت ذلك العصرَ البعيد، تعذَّر عليهم — إن لم نَقُل استحال عليهم — أن يتغلغَلوا في أعماق تلك الحياة عن طريق قراءة الموروث المثبَت في الكتب؛ فهذا الموروث الباقي إن هو إلا نصوصٌ مرقومة على ورَق، مُحال علينا أن نَستشفَّ ما وراءها إذا كان لها وراء، اللهم إلا إذا وقَعنا بين تلك النصوص نفسِها على نصٍّ هنا ونص هناك نَستعين به على الفَهم الكامل، وبذلك يُفسِّر العصرُ الواحد بعضَه ببعضه، ونصوصَه بنصوصه.

وها نحن أولاء نصادف عبارة أوردها أبو العلاء المعرِّي في رسالة الغُفران عن الأشعري، نَقِف أمامها مَشدوهين ذاهِلين، نسأل عن المراد بها فلا نَستطيع الجواب المقنع، إذ يَقول أبو العلاء: «والأشعري إذا كُشف ظهَر نُمِيٌّ (أي طبع وجوهر)، تلعنه الأرض والسُّمِيُّ (أي الأرض والسماء)» (رسالة الغفران، تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ، ص٤٦٦). فما الذي عرَفه أبو العلاء عن الأشعري فأجاز له أن يَقول عنه إن ظاهرَه يُخفي وراءه باطنًا لو كُشِف لاستحقَّ لعنةَ الأرض والسماء؟!

فأما من حيث المنهجُ الأشعريُّ العام، الذي يقسم مجالات النظر شطرَيْن؛ أحدهما يجوز أن يُعرَض على العقل ليكون له الرأيُ فيه على ضوء تحليلاته المنطقية، والآخر لا يَجوز فيه مثلُ ذلك؛ لأنه أمور تُؤخَذ إيمانًا وتصديقًا، فلسنا نتصوَّر أن يكون في منهج كهذا ما يَستحق لعنةَ الأرض والسماء، وأما من حيث مُعتقَداتُ الأشعري بصفة عامة، فهي نفسُها معتقَدات أصحاب الحديث وأهل السُّنة التي، حتى إنْ خالفَهم فيها أصحابُ المذاهب الأخرى كالمعتزلة وغيرهم، لا تُودِي بصاحبها إلى حيث تلعنه الأرض والسماء.

لقد ذكر الأشعري في آخر الجزء الأول من كتابه «مقالات الإسلاميين» مُجمَل ما يقوله أصحابُ الحديث وأهل السُّنة، حتى إذا ما فرَغ من ذلك، ختَم هذا الفصل بقوله: «وبكل ما ذكَرنا من قولهم نقول، وإليه نَذهب» (ص٣٢٥). فماذا ذكَر مِن «قولهم» مما قرر أنه يتفق معهم فيه؟

قال: جملة ما عليه أهلُ الحديث والسُّنة الإقرارُ بالله وملائكته وكتبه ورُسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثِّقات عن رسول الله ، لا يَردُّون من ذلك شيئًا، وأن الله — سبحانه — إلهٌ واحد فَردٌ صمَد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأن الله يَبعث مَن في القبور.

وأن الله — سبحانه — على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وأن له يدَيْن بلا كَيف، كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وكما قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، وأن له عينَين بلا كيف، كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا وأن له وجهًا، كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.

وأن أسماء الله لا يُقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقَروا أن لله — سبحانه — علمًا، كما قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وكما قال: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.

وأثبَتوا السمع والبصر، ولم يَنفوا ذلك عن الله، كما نفَتْه المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.

وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خيرٍ ولا شر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.

وقالوا: إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يَخرج عن علم الله، أو أن يَفعل شيئًا عَلِم الله أنه لا يفعله.

وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيِّئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يَخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يَقدِرون أن يَخلقوا منها شيئًا.

وأن الله وفَّق المؤمنين لطاعته وخذَل الكافرين … وأن الله — سبحانه — يقدر أن يُصلِح الكافرين، ويَلطُف بهم حتى يَكونوا مؤمِنين، ولكنه أراد ألا يُصلِح الكافرين … وأراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذَلهم، وأضَلَّهم، وطبَع على قلوبهم.

وأن الخير والشر بقضاء الله وقدَره …

ويقولون إن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق … ويقولون: إن الله — سبحانه — يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلةَ البدر، يراه المؤمِنون، ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون … ويَعرفون حقَّ السلف الذين اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ، ويأخذون بفضائلهم … ويُقدِّمون أبا بكر، ثم عُمر، ثم عثمان، ثم عليًّا، رضوان الله عليهم، ويُقِرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديُّون …

على هذا السَّرد ذكَر الأشعريُّ معتقَدات أصحاب الحديث وأهل السُّنة، لِيُقرر بعد ذلك أنها هي معتقداته، ونحن وإن كنا لا نرى في أي شيء من ذلك ما يوجِب «لعنة الأرض والسماء» — على رأي أبي العلاء المعرِّي — لكننا في الوقت نفسِه نقف حيارى مُتسائلين: أين إذن يكون إعمالُ العقل الذي قال به الأشعريُّ وحدَّد له حُدوده ليترك الباقيَ للإيمان؟ أين يكون إعمالُ العقل إذا كان مما يُريدنا على الإيمان به تصديقًا وتسليمًا أن الخير والشر جميعًا بقضاء الله وقدَره، وأن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، وأن الله يَقدِر أن يُصلِح الكافرين لكنه لا يُريد ذلك، وأن سيئات العباد يَخلقها الله …؟ الحق أننا لا نحن قادِرون على رؤية ما يَراه المعريُّ في الأشعري من استحقاقه لِلَعنة الأرض والسماء، ولا نحن قادرون على رؤية ما يراه الأشعري من أشياء تَستوجب الاعتقادَ بغير إعمال العقل في تأويلها.

ومهما يَكُن من أمر، فيَكفينا من الأشعري منهجُه من حيث الصورةُ حتى وإن لم نجد له التطبيقَ عنده على النحو الذي نودُّ أن نفهمَه به. فإذا ما انتقلنا إلى الجزء الثاني من كتابه «مقالات الإسلاميين» واستعرَضْنا الموضوعاتِ التي قال إنها كانت مثارَ اختلافات بين أصحاب النظر، أدرَكْنا كم كانت غزيرةً في مُشكِلاتها ومُحاولاتها تلك الفترةُ التي نتحدث عنها! وأعني القرنَين التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي؛ فقد اختلفوا في طبيعة الأجسام ماذا تكون، وفي الطفرة ما أوجُه قَبولها أو رفضها، وفي الحركة هل تشمل الأجسام جميعًا، أو منها ما هو متحرِّك وما هو ساكن، واختلَفوا في حقيقة الإنسان ما هي؟ وفي الروح والنفس، وفي الحواسِّ، وهل يمكن أن تُصبح للإنسان حاسةٌ سادسة؟ وكيف يُفهَم الخلق؟ وماذا نَعني بالبقاء والفناء؟ وفي السببيَّة بكل تفريعاتها، وفي معرفة الإنسان للأشياء والحقائق ما سبيلها إلخ إلخ … خِضَم زاخرٌ بالمسائل، واهتمام شديد بالْتِماس الحلول، وحرارةٌ في مُناصَرة الرأي أو في معارضته، تلك هي حياة الفكر العربي في الفترة المذكورة.

٤٨

نحن الآن في عصر الفلسفة، فكأنما هو عصر أوشك أن يتحوَّل إلى «عقل» خالص، لا يَكاد يُصادف شيئًا إلا حاول أن يُعلِّله تعليلًا يقنعه ويرضيه، بادئًا من أبسط مظاهر الطبيعة ومنتهيًا إلى الله ووجوده، ولما كانت خُطتي في هذا الكتاب — كما ذكَرتُ فيما سبق — عدَمَ الغوص في فروع التخصص العلمي؛ كعلوم اللغة والنحو، وكالفقه والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية؛ حتى لا نُسيء إلى هذه التخصصات بأقوالِ رحَّالةٍ عابر، وأن أكتفيَ بالهوامش الثقافية العامة، التي كثيرًا ما تَكون هي المشيرَ الواضحَ الدلالةِ لما يُقلِق رجال الفكر من مسائل؛ أقول: إنه لما كانت هذه هي خُطةَ الكتاب، فلن أتناول الفلاسفة: الكِنْدي، والفارابي، وابن سينا (وسأدَع ابن رشد إلى أن يَحين حينُه من مراحل الطريق) لن أتناوَل هؤلاء إلا بإشارات تَحوم حول حِماهم ولا تقَع فيه، وإلا فهل يَجوز أن يكون «العقلُ» مدارَ الحديث، وأن يكون القَرنان التاسع والعاشر الميلاديان هما الفترةَ التي يُدار حولها السَّمَر، دون أن يَرِد ذِكرٌ لعمالقة «العقل» عندئذٍ؛ الكِنْدي، والفارابي، وابن سينا؟

وأما الكِندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق) (٨٠١–٨٦٥م) الذي يُنسَب إلى كِنْدة، والذي يُكْنى أحيانًا بفيلسوف العرب؛ لأنه كان أولَ مَن اشتغل بالفلسفة منهم، فقد وُلِد بالكوفة — وكان أبوه أميرًا عليها — ودرَس في البصرة وبغداد، فقد بدأ حياتَه العقلية متكلمًا، وشارك المعتزلةَ في بحوثهم عن العدل والتوحيد وغيرِهما من مبادئ المعتزلة التي بسَطْناها في أكثرَ من مناسبة سابقة، لكنه انصرف فيما بعدُ عن علم الكلام، إلى التفلسُف النظري المجرَّد، ناهِلًا في ذلك عن أرسطو وأفلوطين، وكسائر الفلاسفة المسلِمين، حاول أن يُوفِّق بين أصول العقيدة الإسلامية ونظريات الفلسفة اليونانية.

وسنختار في موقفنا هذا من الفيلسوف العربي الأول، شذراتٍ قليلةً من رسائله، وهي ما كان منها خاصًّا بمُحاولاته في تعليل طائفةٍ من الظواهر الطبيعية، كالمطر والضَّباب ولون السماء وما إلى ذلك، وهي وإن تَكُن مسائلَ عارضةً لا تمَس شيئًا من صميم فلسفته، إلا أنها تُقدِّم لنا لمحةً من الإطار العقلي الذي عاش فيه (وما قد اخترناه هنا من رسائله مأخوذٌ من الجزء الثاني من «رسائل الكِنْدي الفلسفية» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة).

فلماذا تُمطِر بعضُ الأقطار دون بعض؟ هكذا سُئِل الكِندي فأجاب سائلَه بما خلاصته: بعد أن ذكر أثر الشمس في تسخين الأرض والهواء، تسخينًا تتفاوت درجاتُه بالنسبة إلى قُرب المكان أو بُعده من الشمس، قال: «وكل جسم برَدَ انقبَض، واحتاج إلى مكانٍ أصغرَ من مكانه قبل برده، وكل جسم حَمِيَ انبسط، واحتاج إلى مكانٍ أعظمَ من مكانه قبل حَمْيِه، فسال الهواء من جهة الموضع المنبسِط الحارِّ إلى جهة الموضع المنقبِض البارد، وسيَلان الهواء هو المسمَّى ريحًا، فإن عادتنا أن نُسمِّيَ سيَلان الهواء ريحًا وسيلانَ الماء مَوجًا؛ فلذلك ما يكون أكثر رياح الزمان الذي تكون فيه الشمس في الميل الجنوبي حاميًا؛ لِمَسيلها من الجنوب — المتسِع بإحماء الشمس للمواضع التي في جهة الجنوب — إلى الشمال المنقبِض ببَرْد هواء الجهة الشمالية التي بعدت عنها الشمس …»

«فإذا كانت الشمس في الميل الشمالي، حَمِيَت المواضعُ التي في الجهة الشمالية، وبردَت التي في الجهة الجنوبية، سال الهواء الشمالي واتسَع لحرارته إلى الجهة الجنوبية، لانقباض الهواء الجنوبي ببرده؛ فلذلك تكون أكثرُ رياح الصيف شَمائلَ، وأكثرُ رياح الشتاء جَنائبَ …» (ص٧١).

«فإذا تناهى البخارُ إلى موضع، بُعدُه من سمت الشمس بُعدٌ يُبرِد جوَّه بالمقدار الذي يَحصر ذلك البخار ويُغلِّظه ويُكثِّفه، استحال ما ماسَّه من الهواء ماءً، فانحلَّت أمطارًا سائلة إلى الأرض ما كان فيه من البخار المائي …» (ص٧٢).

«فأما إذا كانت المواضع التي يَنتهي إليها البخارُ مواضعَ عادمةً لما يحصر بخارها ويُبرِّده، تعدَّاها البخار …» (ص٧٣).

تلك أسطُر من إجابة الكِندي في التعليل لسقوط المطر، آثَرْنا نقلها بنصوصها؛ لِيَرى القارئُ نموذجًا من دقة العبارة العِلمية كيف أوشكَت بصاحبها على أن يَضبط اللفظ ضبطًا لا يَزيد على المطلوب كلمةً ولا يَنقص كلمة.

كذلك أجاب الكِنديُّ سائلَه في تعليل الضباب، إجابةً فيها الدقة نفسُها التي لَحِظْناها في تعليله لسقوط المطر، فبدأ جوابَه عن ظاهر الضباب هكذا:

«إن الأبخرة إذا علَت في الجو انعقدَت، إذا عرضَت لها الأسباب المبرِّدة التي حدَّدنا في رسالتنا (عن المطر) وكان منها الغمام، فإن ثبَت في موضعه إلى أن تتمَّ استحالتُه وفساده، لم يَحدث الضبابُ من ذلك الغَمام، وإن عرَضَت ريحٌ في الجو أعلى من الغمام، فحطَّتْه إلى الأرض حتى يماسَّها، كان ما انحطَّ من الغمام وانتهى إلى الأرض ضبابًا؛ فإن الضباب ليس هو شيئًا غيرَ غمام منحطٍّ إلى وجه الأرض، متحلِّل بحَمْي الهواء المماسِّ الأرض؛ ولذلك إذا كان الضبابُ تامًّا عظيمًا كان دليلَ صحو؛ لأن العلة التي حطَّتْه من العلو، تُعدِمه الموضعَ الأعلى من الجو الذي يمكن أن يَنعقد فيه الغمام ويتحلَّب منه ماء» (الجزء الثاني من رسائل الكِندي الفلسفية، ص٧٦).

وسأله السائل تعليلًا لما يُرى من اللون اللازَوَرْديِّ في جهة السماء، ويُظَن أنه لون السماء، فيُجيب بدقته العلمية في صياغة العبارة الوصفية، بما مُلخَّصه (والتلخيص لناشر الرسائل) (١) لون السماء — إن كانت ذاتَ لون — لا يمكن إدراكُه بالحس، كما لا يمكن معرفته بالاستدلال. (٢) كل الأجسام الشفافة، أو المتخلخِلة، كالهواء والماء واللهَب — وهي الأجسام «السيَّالة» أو غير المتضامَّة الأجزاء — أو هي الأجسام «التي ليست مُنحصِرة في ذاتها» بتعبير الكِندي، لا لون لها، ولا تَستضيء بذاتها. (٣) الجسم الذي يتأثَّر بالضوء هو الجسم «المنحصِر» (أي المتكثِّف الأجزاء) وهو يَقبل الحرارة في ذاته ويَعكِسها، كما أنه يَقبل الضوء لا في ذاته، وإن كان يَعكسه، وإذن فمصدر الضوء الذي نُشاهده هو انعكاس الضوء من جسمٍ عاكس له، وهذا الضوء لا يُرى بذاته، بل منعكِسًا من جسم. (٤) تتفاوَت الأجسام المستضيئة بحسَب قابليتها لأنْ تَعكس الضوء. (٥) الضوء الذي نراه في الجو ضوءٌ منعكِس من الذرَّات البخارية والأرضية التي يَحملها الهواء، وإذا تجاوَزْنا طبقة الهواء الحامل لهذه الذرَّات، انعدم ما يَعكِس الضوء وكان الظلام، كما أن الحرارة في الجو المرتفِع تنعدم لعدم وجود الجسم الذي يَنفعل بها؛ ولذلك توجد البرودة في الجو المرتفع. (٦) النار لا لون لها، إنما اللون للأجسام التي تَستحيل نارًا بحسَب طبيعتها؛ وذلك لأن اللون لا يَكون إلا للجسم المنحصِر (أي الكثيف) المتضامِّ الأجزاء الذي يَعترض البصر. (٧) الكواكب أجسامٌ ذات لون، فهي «منحصرة» بدليل أن بعضها يَكسِف بعضًا. (٨) لما كانت طبيعة الجو المرتفِع الخالي، هي الظلام؛ لعدم وجود ما يَعكس الضوء فيه، وكانت طبيعةُ الجو القريب من الأرض تَسمح باستضاءةٍ ضعيفة بواسطة الذرَّات الموجودة في هذا الجو، والتي تَعكِس الضوء، فإن الكِندي يَخرج من ذلك بأن لون الجوِّ — وهو المسمَّى السماء — لون مختلِط من ضياءٍ وظلام، وهو اللون اللازَورْدي الذي لا يَعْدو أن يكون لونًا ظاهريًّا؛ لأنه شيء يَعرِض للبصر (رسائل الكندي، ج٢، ص١٠١-١٠٢).

تلك نماذجُ قليلة من فيضٍ غزير، أرَدْنا بها أن نُقدِّم مثلًا للطريقة العِلمية في المشاهدة ودقة الوصف عند فيلسوفنا العربي، كفَيْنا أنفُسَنا مَئونة الخوض في نِتاجه الفلسفي الخالص؛ جريًا على السُّنة التي رسَمْناها لأنفسنا في متابعة «العقل» حيثما وجَدْناه في الوقفات الثقافية العامة، دون الدراسات المتخصصة المتعمقة الفاحصة.

•••

وإنه ليَطيب لنا في هذا المقام أن نُقدِّم عن الكِندي نُتَفًا من الصورة الحية التي رسَمها له الجاحظُ في «البخلاء»؛ فذلك كفيلٌ بأن يُجسِّد لنا الرجل في صورة إنسانية، لها جوانبُ قوَّتها وجوانبُ ضعفها؛ إذ ما أيسرَ أن يَنزلِق الإنسانُ مع الوهم، فلا يَكاد يتصور أمثالَ هؤلاء العظماء في دنيا الفكر ناسًا كسائر الناس في أمور معاشهم! يقول الجاحظ فيما يقول عنه، وقد كان الكِنديُّ مالكًا لعقار: «كان الكِندي لا يَزال يقول للساكن، وربما قال للجار: «إن في الدار امرأةً بها حَمْل، والوحمى ربما أسقطَت من ريح القِدْر الطيبة، فإذا طبَختُم فرُدُّوا شهوتها ولو بغَرْفة أو لَعْقة؛ فإن النفس يردُّها اليسير …» فكان ربما يُوافَى إلى منزله من قِصاع السُّكان والجيران ما يَكفيه الأيام … وكان الكِندي يقول لعياله: «أنتم أحسنُ حالًا من أرباب هذه الضِّياع؛ إنما لكل بيتٍ منهم لونٌ واحد، وعندكم ألوان …» [وقال أحدُ المستأجرين لداره]: قَدِم ابنُ عمٍّ لي ومعه ابنٌ له، وإذا رُقعة من الكندي قد جاءتني: «إن كان مقام هذَين القادِمَين ليلةً أو ليلتَين، احتمَلْنا ذلك، وإن كان إطماعُ السكان في الليلة الواحدة يَجرُّ علينا الطمعَ في الليالي الكثيرة.» فكتبتُ إليه: «ليس مُقامُهما عندنا إلا شهرًا أو نحوَه.» فكتب إليَّ: «إن دارك بثلاثين درهمًا، وأنتم ستَّة، لكلِّ رأسٍ خمسة، فإذا قد زِدتَ رَجُلَين، فلا بد من زيادة خمستَين، فالدار عليك مِن يومك هذا بأربعين.» فكتبتُ إليه: «وما يَضرُّك من مُقامهما، وثِقل أبدانهما على الأرض التي تَحمل الجبال، وثقل مؤنتهما عليَّ دونَك، فاكتب إليَّ بعُذرك لأعرفه، ولم أدرِ أني أهجم على ما هجَمت، وأني أقع منه فيما وقعت.» فكتب إليَّ:

«الخِصال التي تدعو إلى ذلك كثيرة، وهي قائمةٌ معروفة؛ مِن ذلك سرعةُ امتلاء البالوعة، وما في تَنقيتِها من شدة المؤنة، ومن ذلك أن الأقدم إذا كَثُرت، كثر المشيُ على ظهور السطوح المطيَّنة، وعلى أرض البيوت المجصَّصة، والصعود على الدرَج الكثيرة، فيَنْقشر لذلك الطينُ، وينقلع الجصُّ، وينكسر العتَب، مع انثناء الأجذاع لكثرة الوطء، وتكسُّرها لِفَرْط الثقل. وإذا كثر الدخولُ والخروج، والفتح والإغلاق، والإقفال وجذبُ الأقفال، تهشمَت الأبواب وتقلعَت الرَّزَّات، وإذا كثر الصِّبيان وتضاعف البوش نُزِعَت مسامير الأبواب، وقُلِعَت كل ضبَّة، ونُزِعَت كل رَزَّة، وكُسِرَت كلُّ حَوزة … هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد وخشب الرفوف.

وإذا كثر العيالُ والزُّوار والضِّيفان والنُّدَماء، احتِيجَ مِن صب الماء واتخاذ الحببة القاطرة، والجِرار الراشحة، إلى أضعاف ما كانوا عليه؛ فكم مِن حائط قد تأكَّل أسفله، وتناثر أعلاه، واسترخى أساسُه، وتداعى بُنيانه، من قَطْر حُبٍّ ورَشْح جرَّة ومِن فضل ماء البئر ومن سوء التدبير، وعلى قدر كثرتهم يَحتاجون من الخبيز والطبيخ، ومن الوَقود والتسخين، والنار لا تُبقي ولا تذَر، إنما الدُّور حطَبٌ لها، وكل شيء فيها من متاع فهو أكلٌ لها، فكم مِن حريق قد أتى على أصل الغَلَّة، فكلَّفتم أهلها أغلظَ النفقة، وربما كان ذلك عند غاية العُسرة وشدة الحال؛ بما تعدَّت تلك الجنايةُ إلى دور الجيران، وإلى مُجاورة الأبدان والأموال، فلو ترَك الناسُ حينئذٍ ربَّ الدار وقدر بليَّته ومقدار مصيبته، لكان عسى ذلك أن يكون مُحتملًا، ولكنهم يتَشاءمون به، ولا يَزالون يستثقلون ذِكرَه، ويُكثِرون من لائمته وتعنيفه» …» ونكتفي بهذا القدر من تلك الصورة الأدبية الساخرة بالفيلسوف الكندي (راجع «البخلاء» تحقيق طه الحاجري، قصة الكندي، ص٨١–٩٣).

٤٩

لم يكن قد مضى على موت الكِندي إلا خمسةُ أعوام، حين وُلد الفارابي (٨٧٠–٩٥٠م)، ونحن إذ نكون في صُحبة الفارابي، فإنما نكون مع رجل ذي أصالةٍ أصيلة في الفكر الفلسفي وفي تحليل الفنون من شعر وموسيقى، فلم يَقتصر الرجلُ على أن تَمثَّل فلسفة أرسطاطاليس وأنْ درَس المنطق الأرسطي شارحًا إياه، ومِن ثَم أطلَق عليه اسم «المعلِّم الثاني» — على اعتبار أن أرسطاطاليس هو المعلِّم الأول بمنطقه — بل زاد الفارابيُّ على ذلك من تفكيره الفلسفي والنقديِّ ما عظمَت به مكانته في عالم «العقل» من تراثنا الفكري، وإذا كان لا مندوحةَ لنا عن الاكتفاء بلَمْحة من دنيا الرجل — جريًا على مِنهاجِنا في هذا الكتاب — فلتكن تلك اللمحة وقفةً عند كتابه «إحصاء العلوم».

فليس عبثًا ولا مُصادَفة أن نجد كثيرين من الفلاسفة الأعلام في العالم كلِّه — قديمه وحديثه — يقفون من علوم عصرهم وقفةً متأمِّلة قد تَقصُر بهم وقد تَطول، والأرجح أن يتَناولوا تلك العلومَ بشيء من التصنيف والترتيب يَجيء كاشفًا — إلى حدٍّ كبير — عن وِجْهة نظرهم فيما يُريدونه لعصرهم من توجيهٍ عِلمي، فلئن كان الرجل العاديُّ من رجال العالم يَكْفيه أن يُتقِنَ علمًا واحدًا تخصَّص فيه، فإن «فيلسوف العلم» لا يَرضى عن نفسه إلا إذا اتخذ موقفًا «أعلى» من العلوم لِيَنظر إليها النظرةَ المقارنة التي قد تَنتهي بتوحيدها جميعًا في منظومة واحدة، فيها ما هو أدنى وما هو أعلى، بمعنى ما هو أخصُّ وما هو أعم؛ لأنك إذا عرَفتَ أين يقع عِلمك الذي تخصصتَ فيه من سائر العلوم، أدركتَ الهدف البعيد لطريق سيرك، وإدراكُ الهدف عاملٌ قوي في تنظيم الخُطى وتمييز الأهم من المهم ومما ليس بذي خطَر من أجزاء مادَّتك العِلمية نفسِها.

يبدأ الفارابي بهذه العبارة التي يوضح فيها خُطتَه في تصنيف العلوم المعروفة في عصره وترتيبها، فيقول:

«قصدنا في هذا الكتاب أن نُحصيَ العلوم المشهورة عِلمًا علمًا، ونعرف جُمل ما يَشتمل عليه كلُّ واحد منها، وأجزاءَ كلِّ ما له منها أجزاء، وجُملَ ما في كل واحدٍ من أجزائه، ونجعله في خمسة فصول؛ الأول في علم اللسان وأجزائه، والثاني في علم المنطق وأجزائه، والثالث في علوم التعاليم (= الرياضة) وهي العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمي وعلم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحِيَل (= الميكانيكا)، والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه، والخامس في العلم المدَني وأجزائه، وفي علم الفقه، وعلم الكلام» (إحصاء العلوم، تحقيق الدكتور عثمان أمين، ص٤٣).

ونظرةٌ سريعة إلى هذا التقسيم تَكشِف عن جانب مما أراده الفارابي؛ وذلك أن أربعةَ أقسام من الخمسة، خاصة بالعلوم النظرية، وأما الخامس فخاصٌّ بالتطبيق العمَلي على الحياة الاجتماعية في المدينة والحياة الفردية في العقيدة والشريعة، كأنما يُريد الفارابيُّ أن يَقول: إن هدف الفكر النظريِّ لا بد أن يَكون هو التطبيقَ على الحياة العمَلية، هذه واحدة، والأخرى هي أنه في نِطاق العلوم النظرية نفسِها، سار مِن علوم الصورة (اللغة والمنطق والرياضة) إلى علوم المادة (الطبيعة وما وراء الطبيعة)، أي إنه سار هابطًا من الأعمِّ إلى الأخص، فالعلم الأخصُّ لا يَستغني عن العلم الأعم، ولكن العكس غير صحيح، بمعنى أن العام يَستغني عن الخاص؛ فاللغة والمنطق والرياضة لا يَعنيها أن تَنحصر في مادة عِلمية بذاتها؛ لأنها «مَقولات صورية» قابلة لأنْ تَمتلئ بأية مادة عِلمية، وأما علم الطبيعة وعلم ما وراء الطبيعة فلَهما مادة عِلمية معيَّنة لا بد من تناولها، على أن يَجريَ هذا التناولُ في إطارات اللغة والمنطق والرياضة.

وسنكتفي هنا بلَقْطة واحدة نلقطها من «إحصاء العلوم» لنقف حِيالَها وقفةً تحليلية تكشف عن نَفاذ البصيرة عند الفارابيِّ من جهة، وتُفيدنا نحن اليوم فيما يمَس موضوعها من جهة أخرى، وإنما قصَدتُ إلى ما ارتآه الفارابي في طبيعة «الشعر» ما هي؟ (راجع «إحصاء العلوم»، ص٦٧-٦٨)؛ وذلك لأن فيلسوفنا الفارابيَّ قد وصَف طبيعة الشعر ومُهمته التي يؤدِّيها، وصفًا يضَع به الأساسَ لمذهبٍ في الفن الشعري، قريبِ الشبَه جدًّا ببعض مذاهب الشعر في النقد الأدبي المعاصر، نذكر منها على سبيل المثال رأي «إ. إ. رتشاردز» الذي بسَطه في كتابه «مبادئ النقد الأدبي».

ومؤدَّى هذا المذهب الفارابي هو أن الغاية التي يُحقِّقها الشعر، هي أن يُوحيَ لقارئه بوقفة سلوكية يُريدها له الشاعر، لا بالقول المباشر، بل برسم صورة يكون بينها وبين السلوك المرتجَى علاقةُ الإشارة الموحية. ولو صدَق هذا المذهب لكانت لنا به ثلاثةُ معايير يكمل بعضها بعضًا، نستطيع بها أن نميز جيدَ الشعر من رَديئه؛ أولها: أن تَرسُم القصيدةُ صورةً أو صورًا تتكامل أجزاؤها بحيث يمكن تصوُّرها، وثانيها: أن يكون للصورة المرسومة من قوة التداعي ما تَستجلب به إلى الذهن شبيهًا لها من الخبرة المكنونةِ عند قارئها، وثالثها: أن تكون الصورة المستدعاة حافزًا لصاحبها على اصطناع وِجهةٍ للنظر، ينظر بها إلى العالَم، فيَصطبِغ بها سلوكه على وجه الإجمال.

إذن فهذه ثلاث خطوات تتحقق بها طبيعةُ الشعر؛ صورةٌ تُرسَم أولًا، فخبرةٌ خاصة تَستدعيها هذه الصورةُ المرسومة من ماضي ذكرياتنا ثانيًا، فوقفةٌ سلوكية نقفها إزاء العالم بِناءً على هذه الخبرة الخاصة ثالثًا. وسأعرض عبارة الفارابي بنصِّها، مجزَّأةً ثلاثةَ أجزاء، كلُّ جزء منها يصف مرحلةً من المراحل الثلاث، معقبًا على كل جزء من النص بشيء من الشرح يُلْقي الضوء على معناه:
  • (١)

    يبدأ الفارابيُّ بقوله: «الأقاويل الشِّعرية هي التي تُؤلَّف منها أشياء، شأنها أن تُخيِّل — في الأمر الذي فيه المخاطبة — خيالًا ما، أو شيئًا أفضلَ أو أحسَن، وذلك إما جَمالًا أو قُبحًا، أو جَلالة أو هَوانًا، أو غير ذلك مما يُشاكِل هذه.»

    إلى هنا ينتهي الفارابيُّ من الخطوة الأولى، وهي أن تُخيِّل القصيدةُ خيالًا ما، في الموضوع الذي يُريد أن يُخاطِب الناسَ فيه، أي أن تَرسُم القصيدةُ صورةً ما، لا يَنعكس فيها الواقعُ انعكاسًا مباشرًا، ومعنى هذا أن الصورة الشعرية لا تَجيء مُحاكاةً للحقيقة الواقعة في عالم الأشياء، بل هي صورة يَختار لها الشاعرُ أجزاءها كما يُريد له فنُّه، ولا يُشترَط أن تكون الصورة المرسومة محبَّبة إلى النفس، بل قد تكون كَريهةً مُنفِّرة تبعًا لنوع الفكرة التي يريد الشاعرُ أن يُوحيَ بها إلى القارئ، والتي ستكون بدَورها أساسَ الوقفة السلوكية التي يُنتظَر للقارئ أن يقفها إزاء العالم، إذ قد يريد الشاعر لقارئه أن يَزْورَّ عن فعل معيَّن أحيانًا، كما قد يُريد أن يُقبِل على فعل آخَر أحيانًا أخرى.

  • (٢)

    نَنتقل الآن إلى الجزء الثاني من عبارة الفارابي، وهو الجزء الذي يَصِف به المرحلةَ الثانية، عندما يتأمَّل القارئُ الصورة التي قدَّمَها إليه الشاعر، لا لِيَقف عندها وكفى، بل لِتُثار في ذهنه خبراتُ ماضية، بينها وبين الصورة الحاصرة أمام ذِهنه شَبَه؛ ففي هذا الجزء يَقول الفارابي: «ويَعرِض لنا عند استعمال الأقاويل الشعرية — عند التخيُّل الذي يقع عنها في أنفسنا — شبَهٌ بما يَعرِض لنا عند نظَرنا إلى الشيء الذي يُشبِه ما يُعاف، فإنا مِن ساعتنا يُخيَّل لنا في ذلك الشيء أنه مما يُعاف، فتقوم أنفسُنا منه، فتتجنَّبه، وإن تيَقنَّا أنه ليس في الحقيقة كما يُخيَّل لنا.»

    وهذه هي الخطوة الثانية، فبعد أن تُرسَم الصورة التي قدَّمَها الشاعرُ في ذهن القارئ، يَحدث له نفسُ الشيء الذي يَحدث حين ينظر إلى شيء ليس في ذاته كريهًا، لكنه يُشبِه شيئًا آخرَ كريهًا، فيَستدعي الشبيهُ شبيهَه إلى الذهن، فمِن الحقائق النفسية المعروفة ذلك القانونُ الذي يُسمُّونه بقانون التداعي، وخلاصته أنه إذا اقترن في خبرتك شيئان لأيِّ سبب من الأسباب، ارتبط هذان الشيئان أحدُهما بالآخر، بحيث إذا عرَض لك أحدُهما، وثَب الآخرُ إلى ذهنك فورًا؛ فقد تصف الشيءَ الواحد بصِفتَين، كِلْتاهما — من حيث الواقعُ — صحيحة، ومع ذلك فإحداهما تكون مَدحًا، والأخرى تكون قَدْحًا، حسَب ما تَستدعيه كلٌّ منهما إلى الذهن، فالأمر كما يقول الشاعر في عسل النحل:

    تَقول هذا مُجاجُ النحلِ تَمدحُهُ
    وإنْ ذمَمتَ تَقُل قَيْءُ الزَّنابيرِ

    لكن لماذا يُعوِّل الشاعر على أن تَستثير الصورةُ الخيالية في أنفُسِنا شيئًا سِواها مما يُشبِهها؟ إنه يَفعل ذلك لأن الصورة الخيالية — بحكم كَونها خيالية — لا تتصل بالواقع صِلةً مباشِرة، وبالتالي فهي وحدها لا تَصلح أداةً نمَسُّ بها العالمَ الخارجي مسًّا مباشرًا، وإذن لا بد أن أَستعين بها على إخراج شيء آخرَ من مكنون نفسي، تتوافر فيه هذه الصلةُ المباشرة بعالَم الأشياء الخارجية كما هي واقعة، يصلح أساسًا للوقفة السلوكية التي يُراد لي أن أَقِفَها:

    ولعله مِن المفيد هنا أن نَسوق مثلًا نوضِّح به ما نريد؛ خُذ هذه الأبياتَ الثلاثة:

    غيرُ مُجْدٍ في مِلَّتي واعتقادي
    نَوحُ باكٍ ولا تَرنُّمُ شادِ
    وشَبيهٌ صوتُ النَّعِيِّ إذا قيـ
    ـسَ بصوتِ البَشير في كلِّ نادِ
    أبَكَت تِلكمُ الحَمامة أم غنَّـ
    ـتْ على فَرعِ غُصنِها الميَّادِ؟

    فها هنا صُورٌ يُلاحِق بعضُها بعضًا لِيُقوِّيَ بعضُها بعضًا، حتى لكأنما هي صورة واحدة؛ باكٍ ينوح وإلى جواره شادٍ يترنَّم، نَعِيٌّ ينقل الخبر المشئوم وإلى جواره بَشير يهتف بالبُشرى، حمامة تُغمغِم على غصن ميَّاد فلا ندري أهو بُكاء منها أم غِناء؛ فهل يُراد لنا أن نَقف إزاءَ هذه الصور في ذاتها، لا نُجاوز حدودها؟ كلا، بل المراد أن نتأمل الصور لِتَحدث النقلةُ منها إلى أشباهها مما قد خبَرْناه في حياتنا الماضية، فقد يَعود إلى خاطري — بسبب حضور هذه الصور في ذهني — أمثلةٌ خبَرتُها بنفسي وعِشتُها، إذ كنت أذوق من الشيء الواحدِ حُلوَه ومُرَّه معًا، إنه لا جدوى من هذه الصورة التي رسمَها الشاعر لحمامة تُغمغِم فلا ندري أبُكاء هو أم غناء، ما لم تكن هذه الصورةُ مثيرةً في نفسي لهذا السؤال الذي ما ينفكُّ يُعاودنا إزاءَ مئات المواقف وأُلوفها؛ تُرى أيكون هذا الأمرُ خيرًا أم يكون شرًّا؟ ولكن ماذا بعد أن يُثير الشاعرُ من نفسي كَوامِنَها؟ إنه بذلك يُهيِّئ السبيل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي أن تتبلوَر عندي في النهاية وِجهةٌ معيَّنة للنظر؛ ففي حالةِ هذه الأبيات المذكورة، لا بد أن ينتهيَ بي الأمرُ إلى وقفةِ مَن يعلو على الحوادث، بحيث ينظر إليها فإذا هي عند العقل سواء، وإنها لنظرةٌ مِن شأنها أن تُشكِّل سلوكي في مواقف الحياة العمَلية، وهنا ننتقل إلى الجزء الثالث من عبارة الفارابي.

  • (٣)

    ففي الجزء الثالث من النص الذي نَعرِضه، فنعرض به مذهبًا مُتكامِلًا في طبيعة الشعر؛ يقول الفارابي: «إننا نَفعل فيما تُخيِّله لنا الأقاويلُ الشعرية … كفِعلنا فيها لو أن الأمر كما خيَّله لنا ذلك القول، وإن عَلِمْنا أن الأمر ليس كذلك، فإن الإنسان كثيرًا ما تَتبع أفعالُه تخيلاتِه أكثرَ مما تتبع ظنَّه أو عِلمَه؛ فإنه كثيرًا ما يكون ظنُّه أو عِلمه مُضادًّا لتخيُّله، فيكون فعله بحسَب تخيُّله لا بحسب ظنِّه أو عِلمه.»

في هذا الجزء من عبارة الفارابي وصفٌ لتأثر الإنسان بما يَرتسِم له في ذهنه من خيال، حتى وإن عَلِم أن واقع الأمر لا يُطابِق هذا الخيالَ المرتسِم، وهو جزء مَليء باللفتات النفسية النافذة، فعلى الرغم مِن أن قارئ الشعر حين يَجد نفسه إزاء صورة لا يَشُك في أنها نسجٌ من وهم الشاعر، إلا أنه — مِن عجبٍ — يَصدُر في سلوكه عما خيَّله له الشاعر، لا عن عِلمه هو بالواقع علمًا قد يضادُّ هذا الخيال! ولا يَفوت الفارابيَّ أن يُلاحظ هذه الملاحظة العامة عن الطبيعة الإنسانية، وهي أنه إذا ما تعارض وهمُ الإنسان مع علمه بالواقع، فالأغلب جدًّا أن يَميل الإنسانُ نحو التصرف وفق وهمه، غاضًّا نظَرَه عن معرفته العقلية، مما حَدا بفلاسفة المنهج العلمي جميعًا ألا يدَّخروا من وُسعِهم وُسعًا لِيَلفِتوا أنظار العلماء — ودَعْ عنك عامةَ الناس — إلى هذه الحقيقة العجيبة من طبيعة الإنسان، وهي أنه يتأثر بأوهامه إلى الحدِّ الذي يعميه عن رؤية الواقع كما هو، وحتى إن رأى الواقع رؤية واضحة، ولَبِثَت أوهامُه قائمة، كان الأرجحُ — إذا لم يُلجِم طبيعته الجامحةَ بالشكائم — أن يُلبِّي نداء الوهم قبل أن يُصغِيَ إلى صوت الحقيقة الواقعة.

وعلى هذا الجانب من الفطرة البشرية يَبني الفارابيُّ خطوته الثالثة في مذهبه عن الفن الشعري؛ إذ يَركن رُكونَ الواثق أو يَكاد، إلى أن الشعر إذا أُجيدَ فيه التصويرُ كان قَمينًا أن يَفتِن القارئَ فِتنة تُلهيه عن ذات نفسه، أي إنها تَصرِفه عن إدراكه الواعي، بحيث يواجه الصورةَ الخيالية، وكأنما هو يواجِه أمرًا واقعًا، بل ما هو أقوى أثرًا من الأمر الواقع.

والحقُّ أن هذا موضعٌ من مواضع السرِّ في الفنون كلها، فمَن ذا ينظر إلى المسرحية الجيدة ولا يَنسى أنه إزاءَ عالمٍ مِن خلق الفنان، فيَكاد يضحك مع مَن يضحك على خشبة المسرح، ويَبكي مع مَن يبكي، متوهِّمًا أنه إزاءَ عالم الحوادث الجارية؟

ونعود إلى عبارة الفارابي لِنتتبَّع قوله عن أثر الشعر في استثارة قارئه إلى وقفة سلوكية؛ إذ يقول: «وإنما تُستعمَل الأقاويل الشعرية في مخاطبة إنسان يُستنهَض لفعل شيء ما، باستقرار إليه واستدراجٍ نحوَه:

وذلك إما أن يكون الإنسان المستدرَج لا رَويَّة له تُرشِده فيَنهض نحوَ الفعل الذي يُلتمَس منه بالتخييل، فيقوم التخييل مقامَ الرويَّة، وإما أن يكون إنسانًا له رَوية في الذي يُلتمَس منه ولا يُؤْمَن إذا روَّى فيه أن يَمتنع، فيُعاجِل بالأقاويل الكاذبة؛ لِيَسبق بالتخييل رَويَّتَه حتى يُبادِر إلى ذلك الفعل.»

وواضحٌ من هذه الفقرة أن الناس من حيث الرويةُ العقلية صِنفان؛ فصِنف منهما لا يَصدر في أفعاله عن رَويَّة وتدبُّر، وإذن فالشعر أصلحُ ما يكون لهذه الطائفة من الناس؛ لأن الصور الخيالية التي يُقدِّمها لهم الشاعر لن تَجد في أنفُسِهم عِلمًا آخر يُناقِضها فيعوق فعلها، ولا غرابة إذن أن تَزداد أهميةُ الشعر — من حيث هو حافزٌ إلى السلوك — في أُولى مراحل التاريخ، وفي الإنسان الفرد وهو في سَوْرة شبابه، وأما الصنف الثاني من الناس، وهم أولئك الذين أخَذ المنطق العقليُّ بزِمامهم، فتراهم يُقلِّبون الأمور على وجوهها قبل أن يأخذوا في العمل، كما راح هاملت يُقلِّب الأمر على وجهَيْه: أبقاء أم فناء؟ قبل أن يهم بفعل معيَّن في موقفه الذي كان فيه، فمُهمة الشاعر إزاء هؤلاء أن يَقطع عليهم تفكيرهم المنطقي الهادئ؛ لِيَدسَّ في أنفسهم حافزًا يحفزهم إلى سلوك معين قبل أن يَحول تفكيرُهم في العواقب دون التصرف على النحو المراد لهم أن يتصرَّفوا به؛ لهذا كلِّه كان لا بد للأقاويل الشعرية — كما يقول الفارابي في جملته الختامية — «أن تُجمَّل وتُزيَّن وتُفخَّم ويُجعَل لها رَونقٌ وبهاء.»

•••

تلك هي نظرية الفارابي في المضمون الشعري ماذا عساه أن يكون، وهي نظرية أوجزَها وركَّزها في صفحة واحدة من كتاب، ولكنها جديرةٌ منا بدَرْس وتحليل وتطبيق، يُبرِز منها جوانب قوتها ويُظهِر نواحيَ ضعفها، ومن النتائج القوية التي تتفرَّع عنها، حلُّها لإشكال ما ينفكُّ قائمًا بين النقاد، وهو: هل يخضع الفن للأخلاق، أو أن القيمة الجمالية في الفنون مستقلَّة عن معايير الفضيلة؟ أو بعبارة تَلوكها ألْسِنةُ النُّقاد اليوم؛ أيكون الفن هادفًا أم لا يكون؟

إنني لو كنتُ لأختار لنفسي جوابًا عن هذا السؤال، لما ترَددتُ لحظة في التفرقة الفاصلة الحاسمة بين مجال الفن من ناحية ومجال الأخلاق من ناحية أخرى؛ فلكلٍّ من المجالَين مِعياره، فلا فرق عند الفن بين أن يصوِّر الفنان فضيلة أو أن يصور رذيلة، ما دام قد أجاد التصوير في كِلْتا الحالتَين، وهذا هو «ملتن» يُصوِّر الله ويُصوِّر الشيطان فيُجيد في الصورتَين معًا، بل لعله في تصوير الشيطان أجوَدُ وأقوى، وإذن فهو فنان بهذه كما هو فنان بتلك.

لكنني أجد النظرية الفارابية تحلُّ الإشكال حلًّا وسطًا، قد يُصادِف قَبول الطائفتَين المتقاتِلتَين جميعًا، فما دام الشعرُ عنده — وتَستطيع أن تقول الفن كله — يستهدف في نهاية الأمر استثارة القارئ ليقف موقفًا سلوكيًّا معينًا، إذن فالغاية الخلقية — ونقصد بالأخلاق هنا السلوكَ بوجه عام — هي مدار البناء الفني، لكن الشعر — من جهة أخرى — لا يكون شعرًا إذا هو أدَّى الوعظ بطريقٍ مباشر؛ إذ لا بد من بناء الصورة الخيالية أولًا — التي لا يُراعى فيها إلا معاييرُ الفن وحدها — ثم يترك الأمر لما توحيه الصورة المرسومة لمن يُطالِعها، فإذا ما كانت صورة محبَّبة إلى نفسه بحيث تقمَّصَها وسلَك على هداها، كان الشعر بهذا قد حقق الغاية الخلُقية دون أن يجعلها هدفًا مباشرًا، وكذلك قُل في صورة منفِّرة كريهة يرسمها الشاعر، فيطالعها مَن يطالعها، فيَعافُها، فيكفُّ عن مزج نفسه بها، فها هنا أيضًا يُحقِّق الشعر ما تبتغيه معايير الأخلاق باجتناب الشر، ولكن الشعر لا يحقق ما يُحققه في كِلتا الحالتَين إلا عن طريق خدمته للفن الشعري ذاتِه.

•••

تحدث الفارابي عن مضمون الأقوال الشعرية في الفصل الذي عقَده لعلم المنطق من كتابه «إحصاء العلوم» لأنه أراد مقارنة العبارة الشعرية بغيرها من العبارات الدالَّة، فكأنما هو يردُّ الأمر لا إلى مجرد اتفاق يجيء عرَضًا، بل إلى جذور ضاربة في أعماق الطبيعة البشرية فلا يَنبغي أن تكون إلا هكذا، شأنها في ذلك شأن قوانين الفكر نفسِها، فإذا قلتَ إن النقيضَين لا يجتمعان، فأنت لا تقول بذلك شيئًا يمكن أن يقع ويمكن ألَّا يقع، بل تقول شيئًا لا بد من وقوعه ما دامت طبيعةُ الإنسان العقلية هي ما هي، وكذلك قُل في مضمون الشعر عنده، فإذا قلنا إن الشعر يرسم صورة خيالية لِتَستدعيَ صورة أخرى من خبرة القارئ (أو السامع)، وهذه بدَورها تدفع صاحبَها إلى وقفة سلوكية معيَّنة، فقد قلنا شيئًا يشبه أن يكون قانونًا من قوانين النفس البشرية.

لكنه حين أراد أن يتحدث عن شكل الشعر ومَبْناه، جعل هذا الحديث في الفصل الخاص بعلم اللسان، ثم جعل الأمر مرهونًا بالاتفاق الصِّرْف فكأنما يريد أن يقول إن المنطق العقلي لا يَقتضي في الشعر صورة بعينها، بل إن معيار الصحة هنا هو القواعد الموروثة، وبالنظر إلى علم الأشعار من هذه الجهة، يجده الفارابيُّ أقسامًا ثلاثة:
  • فأولًا: «إحصاء الأوزان المستعمَلة في أشعارهم» ولنلاحظ هنا استعماله لضمير الغائب في كلمة «أشعارهم»، فهو دليل على أن أمر الأوزان عنده موكول إلى تراث ثقافي معلوم، قد يَختلف باختلاف الأمة، ومن زمن إلى زمن.
  • وثانيًا: «النظر في نهايات الأبيات في وزنٍ وزنٍ، أيُّما منها عندهم على وجه واحد، وأيُّما منها على وجوهٍ كثيرة، ومن هذه أيما التام وأيما الناقص، وأيُّ النهايات يكون بحرف واحد بعينه محفوظًا في الشعر كله، وأيما منها يكون بحروف أكثرَ من واحد محفوظًا في القصيدة.»
  • وثالثًا: «البحث عما يَصلُح أن يُستعمَل في الأشعار من الألفاظ عندهم» ولنلاحظ مرة ثانية ومرة ثالثة استعمالَه لضمير الغائب مما يؤكد أنه إن جعَل مضمون الشعر موكولًا إلى الفطرة الثابتة، فهو يَجعل الشكل مستنِدًا إلى السوابق التاريخية وحدها.

ذلك هو المذهب النقدي عند الفارابي، أقَمْناه على أسطُر قليلة وردَت في «إحصاء العلوم»، وهو وإن بلَغ من دقة التفكير العقلي غايةً قُصوى، فذلك لم يَنتقص من حاسته الذوقية التي كفَلَت له أن يَكتب في الموسيقى رسالة هي — فيما يُقال — أول رسالة عِلمية شهدها التاريخ كله في هذا الفن، كما كفلَت له أن يُجيد العزف إجادة هوَّلَتها الأساطير، حتى لقد روى الرواة أنه عزَف في مجلس سيف الدولة يومًا فأضحَك الجالسين، ثم أبكاهم ثم أنامهم، وانصرف! ومات الفارابيُّ في دِمَشق في شهر ديسمبر من عام ٩٥٠ بعد الميلاد، ويُروى أنه كان عندئذٍ في صُحبة أميره سيف الدولة، فارتدى الأميرُ ثياب المتصوِّفة وصلى عليه، وكان الفارابي قد قضى من عمره ثمانين عامًا.

(سبق لنا نشر هذا الحديث عن «نظرية الشعر عند الفارابي» في كتابنا «فلسفة وفن» (١٩٦٣م)، وكان في أصله محاضرةً أُلقِيَت في مِهرَجان الشعر الذي أُقيمَ في دمشق في شهر مايو من سنة ١٩٥٩م.)

٥٠

مضَت بعد موت الفارابي ثلاثون سنة، وعندئذٍ وُلد شيخُ الفلاسفة الشيخ الرئيس ابن سينا (٩٨٠–١٠٣٦م)، وُلد ومات في بلاد الفُرس، وإنا إزاءَه لنَقف أمام خِضمٍّ من الفكر العقلي، سبيلُه لمن أراد الخوض فيه أن يُدرَس دراسة فلسفية متخصِّصة، لكننا في كتابنا هذا جريًا على السُّنة التي رسَمناها، سنختار من ذلك النِّتاج العريض الغزير قطرة، نُراعي في اختيارها أن تكون — مع دلالتها على الاتجاه العقلاني — داخلةً في باب الثقافة العامة، فكان أنِ اخترنا قصته «حيُّ بن يَقْظان» (وهنالك بهذا العُنوان نفسِه قصةٌ لابن طُفَيل وأخرى للسُّهْرَوردي) لأنها صاغت فكرةَ الإعلاء من شأن العقل صياغة أدبية ممتازة، وذلك من حيث «الشكل» الفنيُّ الذي اصطنَعه الكاتب ليسوق فيه «المضمون» الفكري الذي قصد إليه.

وخلاصة «حي بن يقظان» لابن سينا (وإذا شئتَ فارجع إلى القصة كما حقَّقها وعلق عليها وقدم لها أحمد أمين في مؤلَّف مستقل بعنوان «حي بن يقظان») هو أن جماعة خرَجوا يتنزَّهون، فصادَفهم في الطريق شيخٌ وَقور مَهيب الطلعة، اسمه «حي بن يقظان»، وإنما رمزَت القصةُ بهذا الشيخ إلى «العقل»، وأما الجماعة التي صادفَتْه فهي رمزٌ للشهوات والغرائز والعواطف والانفعالات، وسائر هذه الجوانب اللاعقلية مِن طبيعة الإنسان، فإذا رأينا الحوار قائمًا بينها وبين الشيخ، عرَفْنا أنه الحوار المألوف في حياة الإنسان، حين تتنازعه في باطنه أحكامُ العقل المنطقي من جهة، ودوافعُ الوجدان من جهة أخرى.

ولقد أشار الشيخ في حواره مع الغرائز إلى ما أسماه «علم الفِراسة قاصدًا به «علم المنطق»، وإنما أسماه بالفراسة لأن المنطق من شأنه أن» يتأمَّل الظاهر ليستخرج منه ما قد بطن واستخفى، بمعنى أنه قد ينظر إلى «المقدمات» لِيَخلص منها إلى «النتائج» المضمَرة فيها، وأما الدوافع اللامنطقية من طبيعة الإنسان، فهي رُفقة سوء، ولك أن تُضيف إليها قوة التخيُّل التي يَصفها الشيخُ بأنها «شاهد الزور» لأن سبيلها هو أن تُشبِّه شيئًا بشيء زورًا بُغيةَ إيقاع الإنسان في السوء، ومثل هذا التشبيه المضلِّل لا يُقرُّه عقلٌ يحتكم إلى مبادئ المنطق في خُطاه.

وليس أشْيعَ مِن وصف الطبيعة البشرية بأن قِوامها قُوًى ثلاث: العقل ثم قوَّتان أُخرَيان يطمع الإنسان الكامل في إخضاعهما لأحكام العقل، وهما «القوة الغضَبية» (أي الدوافع الانفعالية التي مِن أهمها الغضب وما يتبعه من شجاعة، وعُضوها هو القلب) و«القوة الشهوانية» (أي كل ما يتَّصل بالبطن من رغبات، وعضوها أسفل الجذع من جهاز هضمي وجهاز جنسي)، ولعل هذه القسمة الشائعة للقوى الرئيسية في طبيعة الإنسان راجعةٌ إلى الصورة التي ترَكها أفلاطون قديمًا حين صوَّر الموقف بعرَبة يجرها حِصانان؛ فسائق العرَبة — واللجام في يده — هو العقل، وأحد الحِصانَين هو القوة الغضبية، والحصان الآخر هو القوة الشهوانية، وحالة الكمال هي أن يُسيطِر العقل على الحصانين لتتزن حرَكاتهما فتأمن العربةُ خطَر الجموح هنا أو هناك.

وذلك هو ما قصَد إليه الشيخُ في قصة ابن سينا حين قال: إن هذا الذي عن يمينك أهوج، والذي عن يسارك قَذِر شَرِه شَبِق، لا يَملأ بطنَه إلا التراب، فالرمز هنا بالذي عن اليمين هو إلى القوة الغضبية، وبالذي عن اليسار إلى القوة الشهوانية، ولما أراد الشيخ أن يُقرِّر بأن هاتَين القوَّتَين الجامحتَين إنما هما من صميم الفِطرة البشرية لا يَنفصِلان عنها إلا بالموت، عبَّر عن ذلك بقوله: «إن هذه القوة ملتصقة بالإنسان الْتِصاقًا كبيرًا، ولا يُبرِئ الإنسانَ منها إلا غربةٌ تأخذها إلى بلاد لم يطَأْها مِن قبلُ أمثالُه»؛ قاصِدًا بذلك إلى القول بأنه لا مَنْجاة للإنسان من انفعالاته وشهواته إلا بمُفارقة البدن، وذلك لا يكون إلا بالموت. واستطرد الشيخُ في حديثه عن وجوب امتلاك «العقل» لزِمام هاتَين القوتين، فقال مُحذِّرًا: «وإياك أن تُقبِضَهم زِمامك، أو تسهل لهم قِيادَك، بل استظهِرْ عليهم بحُسن الإيالة، وسُمْهم سَومَ الاعتدال؛ فإنك إن مَتُنتَ لهم سخَّرتهم ولم يُسخِّروك، ورَكِبتَهم ولم يَركَبوك.»

وبعد أن فرَغ الشيخ من حديثه عن الشهوات والغرائز والانفعالات … إلخ، وكيف أنها عثراتٌ على طريق الهدى، وأنها لا تُقتلَع إلا بالموت، وإذن فأقصى ما يَستطيعه الإنسان حيالَها هو أن يُحكِّم فيها سلطان العقل ليُرغِمَها على السبيل السويِّ المستقيم، انتقَل الشيخ إلى حديث آخر يُرشِد به مَن أراد الجوَلان بعقله في رحاب الكون الفسيح، فقال ما معناه: إنَّ للطريق ثلاثةَ حدود؛ «حدٌّ منها يَحوزه الخافِقان» وهو إنما يَقصد بذلك الأشياء المدرَكة بالحواس في جَنبات الأرض والسماء، وأما الحدَّان الآخَران فهما «حدُّ المغرب وحدُّ المشرق، ولكل واحد منهما صُقْع قد ضُرِب بينهما وبين عالم البشَر بسور لن يَعْدوه إلا الخواصُّ الذين مُنِحوا قوة لم يُمنَحْها البشر بالفطرة»، والرمز «بحدِّ المغرب وحدِّ المشرق» إنما هو إلى «الهيولى» و«الصورة»، فكلنا يَعرف كيف أدار أرسطو (ومِن بعده أتباعُه، وعلى رأس هؤلاء الأتباع من الفلاسفة المسلمين ابنُ سينا) فلسفتَه حول تفسير الكون كلِّه، بكل ما فيه ومَن فيه، بمبدأ «الهيولى والصورة»، أعني المادة التي صِيغَت والإطار الذي صيغت فيه، وهما بمثابة الأداة ووظيفتها، وها هو ذا «الشيخ» — أي «العقل» — في قصة ابن سينا يَرسُم لسامِعِيه طريقَ ارتيادهم للعالمين، فيقول إنه في الْتماس الهيولى والصورة لكل شيء تقَع عليه الحواسُّ في أرض أو سماء، على أن هذَين المبدأَين المغروزَين في الكائنات لَيْسا، كظاهر تلك الكائنات، مما يُدرَك بالحواس، بل «قد ضُرِب بينهما وبين عالم البشر بسور، لن يَعْدُوه إلا الخواص الذين مُنِحوا قوة لم يُمنَحها البشر بالفطرة» ومعنى ذلك أنهما يُنالان بالتأمُّل النظري، فلا بد من بذل الجهد ومن كَسْب العلم ليتمكَّن الإنسان من اجتياز السور المحيط بهما، ثم أضاف الشيخ إلى ذلك قوله: «إن تَخطِّيَ هذا السور لا يتأتَّى للبشر بالفطرة، وإنما يتأتَّى بالاغتسال في عين فوَّارة إذا هُدِيَ إليها السائح فتطهَّر بها، وشَرِب من فوَرانها»، وهو يريد بهذه «العين» التي يَغتسِل بمائها مَن أراد كسْبَ العلم الصحيح «المنطق» الذي هو طريقُ السير العقلي المؤدي بالسالك إلى الصواب.

وتَمضي القصة موغِلةً في الرمز، لِتُحدِّد العلاقة بين البشر وعالَمَيِ النبات والحيوان، ثم بينَهم وبين الأفلاك السماوية التي كان قد جرى عُرْف فلسفي بقِسمتها تسعةَ أفلاك وراءها عاشرٌ هو علة العلل، وهو الله سبحانه، وكثيرًا ما يُطلق على تلك الأفلاك التسعة ومعها العلة الأولى «بالعقول العشرة»، وهكذا دارت القصة كلُّها على إعلاء شأن العقل، وعلى قدرته على إدراك الكون وخالق الكون، إذا هو استطاع التحكُّم في الجوانب اللاعاقلة من الإنسان.

وبعد هذه الخلاصة الموجَزة لقصة «حي بن يقظان» لابن سينا، أودُّ أن أُطلِعَك على أسطُرٍ منها كما وردَت بنَصِّها في مستهلِّ القصة لِتذوق الأدب السينيَّ ذَوقًا مباشرًا، فقد بدأَت القصة بحديث يُلقيه إنسانٌ مزوَّد بكل ما تُزوَّد به الطبيعة البشرية مِن قُوًى، فيقول: «إنه قد تيسَّرَت لي حين مُقامي ببلادي «بَرْزة» برُفقائي إلى بعض المتنزَّهات (لاحظ: الرفقاء: القُوى اللاعاقلة؛ والبَرْزة: يَقْظة تتنبَّه إلى أن وراء البدن قوةً أخرى؛ متنزَّهات: حقائق العقل) المكتنِفةِ لتلك البُقعة، فبَيْنا نحن نتَطاوف إذ عنَّ لنا شيخٌ بهيٌّ قد أوغَل في السِّن، وأخْنَت عليه السنون وهو في طراءة العز، لم يَهِنْ منه عظمٌ ولا تضعضَعَ له ركن، وما عليه من المشيب إلا رُواء مَن يَشيب، فنزَعتُ إلى مخاطبته، وانبعثتُ من ذات نفسي لمداخلته ومُجاورته، فمِلتُ برُفقائي إليه، فلما دنَونا منه، بدأَنا هو بالتحية والسلام، وافْترَّ عن لهجةٍ مقبولة، وتنازعنا الحديث حتى أفضى بنا إلى مُساءلته عن كُنْهِ أحواله، واستعلامِه سِنَّه وصناعتَه، بل اسمه ونسَبَه وبلده، فقال: أما اسمي ونسَبي فحيُّ بن يقظان، وأما بلَدي فمدينةُ بيت المقدِس، وأما حِرْفتي فالسياحة في أقطار العوالم حتى أحَطتُ بها خُبرًا، ووجهي إلى أبي وهو حي، وقد عطوتُ منه مفاتيح العلوم كلها، فهداني الطريقَ السالكة إلى نواحي العالم حتى زوَيت بسياحتي آفاقَ الأقاليم، فما زِلْنا نُطارحه المسائل في العلوم، ونستفهمه غوامِضَها حتى تخلَّصْنا إلى علم الفِراسة (= المنطق) فرأيتُ من إصابته فيه ما قضيتُ له آخِرَ العجب …» (حي بن يقظان عند ابن سينا، ص٤٠–٤٩ من كتاب «حي بن يقظان» لأحمد أمين).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤