الفصل العاشر

الفاشية والطبقة الاجتماعية

في وقت ما كانت الفاشية تكاد تُفسَّر بالكامل على أساس علاقتها بالطبقة؛ إذ كانت الفاشية بالنسبة للماركسيين ديكتاتورية تتسم بأقصى عناصر الرأسمالية رجعية، أو تعبيرًا عن تحالف الرأسماليين المسيطرين مع طبقة برجوازية صغيرة أدنى مرتبة؛ وبالنسبة للفيبريين كانت الفاشية تمثل آخر محاولة من جانب «النخب التقليدية» لحماية نفسها من «التحديث». ولعلنا سنضيف في هذه المرحلة نظرية أخرى — جذورها أيضًا متأصلة في الفيبرية — تعتبر الفاشية حركة تعبر «بالأساس» عن عداء البرجوازية الصغيرة لرأس المال الكبير، الذي يضارع عداءها للتنظيمات العمالية.

ورغم اختلاف الماركسيين والفيبريين حول الطبقة التي يرونها مسئولة عن الفاشية (وفي طريقة تعريفهم للطبقة)، يسعى كلا الفريقين لأن يكتشفا، من خلال تصرفات الفاشيين وحلفائهم وكلماتهم وكتاباتهم، دليلًا على «المصالح الكامنة» للطبقات التي يرون أنها مهمة في هذا الصدد. وهكذا قد يعتبر الماركسيون أن تمجيد الفاشيين للمصلحة الوطنية وسيلة يحارب بها الرأسماليون محاولات الاشتراكيين إقناع العمال بأن مصالح الطبقة ينبغي أن تكون في المقام الأول. وبالمثل، ربما يفسر الفيبريون سياقات معاداة السامية على أنها محاولات لشيطنة صورة العالم الحديث بربطها بشخص اليهود، أو للتدليل على معضلات البرجوازية الصغيرة.

في المقابل، يجادل منظِّرو الشمولية بأننا لا بد أن نبدأ بفهم الطريقة التي ينظر بها الفاشيون إلى العالم؛ فقد ادعى الفاشيون أنفسهم أن التعصب القومي هو قوتهم المحركة، وأن إقامة المجتمع الوطني المستنفر هدفهم؛ لذا فإن مهمتنا هي أن نسأل عن مدى نجاح الفاشيين في تحقيق أهدافهم، وفي التغلب على العقبات التي واجهوها والتنازلات التي اضطروا لتقديمها. أما مصالح الطبقة فنادرًا ما تظهر في النهج الشمولي.

وبدلًا من أن نعود لفرز نقاط الضعف والقوة في النُّهُج المتنافسة، دعونا نجمل وجهة النظر التي طرحتها في الفصول السابقة:
  • (١)

    ذهبت وجهة نظر الفاشيين الخاصة إلى أن تحقيق الوحدة الوطنية، «على النمط الذي عرفوه»، هو هدفهم الرئيسي. وطغت الفكرة الفاشية عن الأمة على كل جوانب السياسة.

  • (٢)

    والمبررات «كما حددوها» التي تدعم هدفهم بالغة الأهمية، فالفاشيون اعتبروا أن الأمة ليست فكرة مجردة، مستمدة من لا شيء، وإنما هي فكرة مبنية من كل أنواع الأفكار المسبقة، بما فيها النزوع لشكل الأسرة الأبوي وعلاقات حق التملك القائمة.

  • (٣)

    لكن الفاشيين لم يدافعوا عن الأسرة الأبوية وعن حقوق أرباب العمل إلا إذا بدت متماشية مع حقوق الأمة، أما الأسر أو الشركات «الأجنبية» فلا تتمتع بالحماية. ومن ثمَّ، كان الفاشيون — خلافًا للمحافظين — لا يدافعون دفاعًا مطلقًا عن الأسرة أو حق التملك.

  • (٤)

    ولما كان الفاشيون قوميين متعصبين، فلا بد أنهم كانوا يعارضون كل المذاهب الأخرى؛ فقد اتهموا أنصار الحركة النسائية والاشتراكيين بأنهم يضعون النوع أو الطبقة أو الإنسانية في مرتبة أعلى من مرتبة الأمة. لكن بما أن الفاشيين أرادوا إدماج كلا الجنسين وجميع الطبقات في الأمة الواحدة، فربما كانوا يتقبلون إصلاحات معينة من تلك التي ينادي بها أنصار الحركة النسائية والاشتراكيون، «ما دامت هذه الإصلاحات تخضع للمصلحة الوطنية كما عرفها الفاشيون.»

قبل أن ندرس ما أحدثه هذا من آثار على علاقة الفاشية بالطبقة، تجب الإشارة إلى أنه ما من شيء في الفاشية يجعلها تروق «في حد ذاتها» لأي طبقة اجتماعية بعينها؛ فأصحاب الأعمال ربما ينجذبون لحركة تسعى لتدمير الحركة العمالية باسم الوحدة الوطنية، لكن أرباب العمل ربما يرتابون في حركة مستعدة لأن تذعن لبعض المطالب الاشتراكية، وتقدِّم الأمة على حق التملك. وبالمثل، ربما يعارض العمال الفاشية لأنها تناهض الاشتراكية، لكن ربما يجذبهم إليها وعدها بتقديم مصالح العمال الوطنيين على مصالح العمال الأجانب.

ولن نستطيع أن نحدد من دَعَم الفاشية في الواقع وأسباب ذلك إلا من خلال دراسة الفاشية «داخل سياقها». علينا أن ننظر إلى الموقف من زاويتين؛ أولًا: علينا أن نفحص البنية الاجتماعية لمؤيدي الفاشية ودوافعهم. وثانيًا: علينا أن نحلل الطريقة التي عملت بها استراتيجيات الناشطين الفاشيين ومواقفهم على تشكيل ما للفاشية من جاذبية.

الناشطون والناخبون

تفاوتَ الدعم الذي نالته الفاشية من كل طبقة تفاوتًا كبيرًا؛ إذ يُجمع معظم المؤرخين على أنه كانت هناك مبالغة في تقدير نسبة الفلاحين وأبناء طبقة البرجوازية الصغيرة (لا سيما الحرفيين، والموظفين الحكوميين، والعاملين في البيع بالتجزئة، والموظفين الإشرافيين) في جمهور ناخبي النازية، الذي قُتل بحثًا، وعلى أن النازيين اكتسبوا أيضًا دعمًا ليس بالهين من العمال وأفراد الطبقة العليا. صحيح أن الحزب النازي كان قويًّا وسط طبقات بعينها، لكنه كان أقرب من أيٍّ من منافسيه إلى كونه حزب «كل الطبقات».

تُظهر الفاشية الفرنسية في سنوات ما بين الحربين شعبية مماثلة واسعة، مقرونة أيضًا بمبالغة في تقدير نسبة المؤيدين من الطبقة المتوسطة. وإذا نظرنا عن كثب فسنكتشف بعض الاختلافات المثيرة للاهتمام، فبينما فضَّل موظفو القطاع العام ذوو الياقات البيضاء والمعلمون في ألمانيا التصويت للنازيين، انجذب نظراؤهم في فرنسا إلى تيار اليسار. وإذا انتقلنا إلى المجر، فسنجد أن دعم الفاشية من جانب الطبقة العاملة والعمال الذين لا يملكون أراضي كان أكثر قوة. ها هي الشعبوية القومية تختلف في التوجه تارة أخرى. نعرف الكثير عن «الجبهة الوطنية» الفرنسية، ونعرف أنها تجتذب عددًا من المصوتين يكاد يكون متساويًا من جميع الطبقات.

وإذا أخذنا في الحسبان تأثيرات أخرى أثرت على التصويت للفاشية، فستصبح الصورة أكثر تعقيدًا؛ ففي ألمانيا، نجد أن عمال الصناعات الصغيرة من البروتستانتيين كانوا ميالين للتصويت للنازية، بينما كان العمال الكاثوليك يصوِّتون لحزب «المركز الكاثوليكي» أو للشيوعيين، وعمال الصناعات الكبيرة من البروتستانتيين يصوِّتون للاشتراكيين. وفي فرنسا، سنكتشف أن البرجوازيين الكاثوليك في المناطق الفرنسية الصناعية والحضرية كانوا أكثر ميلًا للانضمام للمنظمات الفاشية من البرجوازيين الكاثوليك في المناطق الريفية أو من برجوازيِّي المدن المناهضين لهيمنة رجال الدين. سنجد أيضًا أن عمال الصناعات الفرنسية الثقيلة كانوا أقل ميلًا للانضمام للنقابات الفاشية من العاملات الإناث في صناعة النسيج.

في الواقع لن نجني من وراء سَوْق أمثلة أخرى سوى مزيد من الحيرة. والنقطة المهمة هي أن النوع والجغرافية والدين اشتركت مع الطبقة في التأثير في التصويت للفاشية؛ فالفاشية لم تكن تتمتع بشعبية استثنائية لدى أي طبقة اجتماعية بعينها، والتفاوت الموصوف أعلاه يبين لنا أمورًا تتعلق بالظروف السياسية في كل بلد على حدة بقدر ما يوضِّح لنا أمورًا عن الفاشية. ربما يجدر أن نضيف أن تنوُّع المواقف السياسية في أي طبقة من الطبقات يجعلنا نفترض أن أعضاءها اختلفوا حتمًا حول ماهية الوجهة التي تضمن مصالحهم.

وهذا يشير إلى الجانب الثاني من مسألة الفاشية والطبقة، ألا وهو: دور الناشطين. ففي كثير من الأحيان، يُنظر إلى الناشطين باعتبارهم ممثلين للقوى الاجتماعية «الكامنة»، وبناءً على هذا يقال إن الناشطين الاشتراكيين «يتحدثون باسم» الطبقة العاملة، ويقال إن الناشطين المحافظين أو الفاشيين (حتى ولو لم يكونوا على علم بذلك) «يتحدثون باسم» الطبقة البرجوازية. لكن أيَّ امرئ يعرف الناشطين السياسيين سيدرك أنهم ليسوا تمامًا كبقيتنا؛ فهم يشعرون أنهم يملكون بصيرة متميزة بمنظومة العالم، وأنهم موكَّلون بمهمة إقناع بقيتنا بصحة آرائهم. فالناشط الاشتراكي على سبيل المثال لا يعبِّر فحسب عن مشاعر العمال، فهو يحاول أن «يقنع» العامل بأن مصلحته تتحقق في اعتناق مذهبه الاشتراكي الخاص، لا مذهب مدرسة اشتراكية منافسة، أو مذهب الكاثوليكية السياسية، أو حتى الفاشية. لذا فإن الناشطين لا يعكسون فحسب آراء أولئك الذين يسعون لتمثيلهم، وإنما يلعبون أيضًا دورًا كبيرًا في تشكيل الطريقة التي يدرك الناس بها «مصالحهم». يجب أيضًا أن نأخذ على محمل الجد من كانوا مسئولين عن إعداد الدعاية الحزبية، وعن تحديد الفئة التي ينبغي أن تستهدفها الدعاية.

دعونا نأخذ النازية كمثال: رغم أن النازية كانت تتمتع بشعبية خاصة وسط الفلاحين وأبناء البرجوازية الصغيرة، كانت شعبيتها تفوق شعبية منافسيها (كانت الاشتراكية تروق بخاصة لذكور الطبقة العاملة، والشيوعية تروق للذكور العاطلين، وحزب «المركز الكاثوليكي» للأقلية الكاثوليكية). ففي حين كانت هذه الأحزاب الأخيرة تعرض برامجها من منظور الطبقة أو الطائفة، جذبت النازية المصوتين باعتبارهم أعضاءً في الأمة الواحدة. لقد قدَّم النازيون أنفسهم ممثلين عن «الشعب»، وزعموا أنهم يعبِّرون عن معارضة شعبية لمؤسسة سياسية أجنبية فاسدة، وهي معارضة يحتمل أن تلقى تأييد عدد كبير بالفعل على أرض الواقع. كان النازيون قادرين على تحويل كراهية صغار أصحاب المحال إلى هجمات على أصحاب المتاجر «اليهود»، ونالوا تأييد الكثير من العمال من خلال دمجهم الرموز التي كان اليسار يستخدمها — كالأعلام الحمراء المضاف عليها الصليب المعقوف، أو صورة الرأسمالي البدين ذي الابتسامة العريضة الذي يرتدي القبعة المرتفعة ويدخن السيجار — في برنامج قومي معادٍ للسامية. كانوا يخبرون العمال أن عدوهم لا يتمثل في الشركات، وإنما في الشركات اليهودية. وقد امتاز هذا العداء القومي للرأسمالية بأنه كان جذابًا نسبيًّا بالنسبة للعديد من أرباب العمل أيضًا؛ لأنه كان من الممكن أن يرفع اللوم عن الرأسماليين الألمان فيما يعانيه العمال من محن.

كان النازيون هم أكثر من نجح في التحول إلى الشكل الذي حاول جميع الفاشيين أن يتحولوا إليه، ألا وهو شكل الأحزاب القومية، التي تدمج كل الجماعات المعارضة الأخرى داخل حركة واحدة. ورغم ذلك، لا يجب أن نعتبر نجاح سياسة كهذه نجاحًا تلقائيًّا. فالقومية لا تتمتع في حد ذاتها بشعبية تفوق شعبية الطبقة، بل إن الأمر كله يتوقف على كيفية تعريف الأمة والطبقة. فكان المفهوم النازي مثلًا للأمة واقعًا تحت تأثير «تحيزات» واعية وغير واعية؛ فقد كان عدد كبير من النازيين يعتبرون أن ألمانيا بطبيعتها بروتستانتية أو حتى وثنية، وهي رؤية كانت تقصي الكاثوليك من جمهور ناخبيهم. في المقابل، كان الفاشيون في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا يعرِّفون الأمة بصفتها كاثوليكية، ومن ثم، كانوا يستبعدون مناهضي سيطرة رجال الدين. وفي رومانيا، كان كودريانو يرى أن الأرثوذكسية الرومانية معادل للأمة، وبالتالي، كان لا يعد أتباع العقيدة «الوحدوية» من الأمة، ويستبعدهم من الفيلق.

أفضل طريقة لفهم ما للفاشية من جاذبية بالنسبة لكل طبقة هي تناولها باعتبارها ناجمة عن تفاعل بين استراتيجيات الناشطين الفاشيين (وما لديهم من تحيزات لا يعترفون بها) مع ظروف كل جماعة (بما لديها من تحيزات لا تعترف بها). واختلاف الأشكال الناتجة عن ذلك لا يعني أن التركيب الطبقي للفاشية غير مهم، بل على العكس، هو مهم جدًّا؛ لأن الفئات التي علَّقت آمالها على الفاشية كانت تختلف عن بعضها اختلافًا شديدًا من حيث السلطة المتاحة لكل منها؛ إذ لم تكن جميع الطبقات متساوية في انعدام حيلتها أمام فوهة البندقية، كما كان يقول الماركسيون. وأود أن أوضح هذا من خلال دراسة موجزة لمصطلحين رئيسيين في المعجم الفاشي: الاشتراكية القومية والكوربوراتية.

الاشتراكية القومية

لم يكن النازيون هم الوحيدين الذين استخدموا مصطلح الاشتراكية القومية؛ فبالعودة إلى عام ١٨٩٨ نجد أن موريس باريه قدَّم البرنامج الانتخابي «للجنة الجمهورية الاشتراكية القومية» في مدينة نانسي كما يلي:

ضد السياسة التي لا تهدف إلا لإرضاء الأحقاد، والتي لا يحركها إلا اشتهاء السلطة، جئت تارة أخرى لأعارض الأفكار «القومية» و«الاشتراكية» التي هللتم لها من قبل، والتي لن تتبرءوا منها اليوم.

[…] في أعلى مراتب المجتمع، وفي قلب المقاطعات، وعلى الصعيدين المعنوي والمادي، في التجارة والصناعة والزراعة وحتى في أحواض بناء السفن، حيث يتنافس الأجانب مع العمال الفرنسيين، هم يسممون أبداننا وكأنهم طفيليات.

ثمة مبدأ مهم واحد ينبغي أن تقوم عليه السياسة الفرنسية الجديدة هو حماية جميع مواطنيها من هذا الغزو، وأن تتوخَّى الحذر كي لا يتسبب مذهب الاشتراكية هذا العالمي للغاية، أو بالأحرى الألماني للغاية، في إضعاف دفاعات البلاد.

من وجهة نظر باريه، هو يرى أن الاشتراكية العالمية — الماركسية — تشكل تهديدًا للأمة الفرنسية، بل للعرق الفرنسي؛ لأنها أيديولوجية «ألمانية». ودعا إلى اشتراكية تكون وطنية من خلال تلبيتها شرطين: ألا تحمي إلا العمال الذين لهم جذور ضاربة في التراب الوطني، وأن تتصالح مع الفئات المعارضة، في ذلك الوقت، بأن تضمن أن تقدم كلٌّ منها المصلحة الوطنية على مصالحها الخاصة.

لم ينادِ باريه بقمع حق التملك، وإنما بإحداث تغيير في «روح» العلاقات بين الطبقات. هذه الصياغة كانت أقل من الماركسية ترويعًا للرأسماليين. لكن باريه اقترح إصلاحات مثل فرض ضريبة تصاعدية على الدخول والمشاركة في الأرباح، وهي إصلاحات قد تبدو مستأنسة للقارئ اليوم، لكنها قوبلت باعتراض مطلق — بل وهستيري — من جانب الرأي المحافظ السائد في ذلك الوقت. وبالمثل، لم تستهوِ أقطاب صناعة الحديد المحليين رغبة باريه في وقف تدفق العمالة الأجنبية الرخيصة. ما حدث هو أن برنامج باريه نال بالفعل إعجاب بعض المحافظين الذين لم يعودوا قانعين بمبادئ المحافظية في «نانسي»، لكن هذا الإعجاب لم يكن كافيًا لفوزه في الانتخابات.

بعد مضي سبعة وعشرين عامًا، كان هتلر — الذي منحه القاضي قدرًا استثنائيًّا من حرية الكلام لا يمنح لأي متهم — يخاطب هيئة المحلفين في محاكمته لضلوعه في انقلاب «بير هول» قائلًا:

إن الحركة الاشتراكية القومية لما كان يُعرف بحزب العمال جعلت مبدأها الرئيسي أن تناضل الحركة الماركسية باستماتة حتى النهاية، وثانيًا أن الثورة [ثورة عام ١٩١٨]، نتيجة للماركسية ولعمل إجرامي غير مسبوق، لم تكن تهدف لأن يصبح أعضاء البرجوازية الألمانية قوميين مرة أخرى. المشكلة هي أن الألمان من الطبقة العاملة، الجماهير العريضة، لا بد أن يصبحوا قوميين مرة أخرى، وهذا لا يعني أن تكون علاقتهم بالقومية مجرد علاقة نظرية، أعني سلبية، وإنما يتطلب خوض نضال فاعل ضد من ظلوا يدمرون القومية حتى الآن. يضاف إلى ذلك، أنه من المثير للسخرية أن نرغب في أن يصبح الشعب قوميًّا بينما يعمل مئات الآلاف من جميع الأطراف على تقويض قوميته، وهؤلاء المئات من الآلاف، الذين أشعلوا الثورة، ليسوا حتى من عرقنا. وهكذا تصبح المشكلة الماركسية مشكلة عرق، بل وأخطر المشاكل التي نواجهها اليوم وأكثرها تعقيدًا.

ربما لم يكن هتلر يتمتع بمواهب باريه الأدبية، لكنه يطرح فرضيات مشابهة لفرضياته؛ فالماركسية العالمية هي عدو العرق الألماني، ولكي تُحارَب يجب أن يعاد إدماج العمال في الأمة، وأن تعمل الاشتراكية «القومية» على استرضاء الطبقات.

الكوربوراتية

كان هتلر، شأنه شأن الفاشيين في كل مكان، يرى أن الكوربوراتية — التي يرفضها أحيانًا الباحثون المعاصرون باعتبارها ستارًا يغطي نفوذ كبريات الشركات الذي لا يعوقه عائق — أحد مفاتيح السلام الاجتماعي، لكن الكوربوراتية ليست فاشية بطبيعتها؛ فهي، في أبسط صورها، تعني أن تتولى اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة كيانات تنظيمية تمثل أصحاب المصالح المعنيين بهذه القرارات — نقابات عمالية أو اتحادات أرباب العمل أو جماعات تمثل الأسرة أو الفلاح … إلخ — بدلًا من أن تتخذها الحكومة أو البرلمان. ومن وقت لآخر قامت معظم ديمقراطيات ما بعد الحرب في الغرب بممارسة الكوربوراتية، حيث كان للنقابات واتحادات أرباب العمل رأي في صياغة السياسات.

لكن الكوربوراتية الفاشية تختلف عن الكوربوراتية التقليدية في أنها تقوم على تدمير أو تطهير المؤسسات القائمة؛ لأنها كانت تفترض أنه بمجرد القضاء على منابع التأثير اليسارية أو «الأجنبية» غير الوطنية ستظهر من جديد الوطنية الطبيعية لكل الطبقات. وكانت تفترض أيضًا أن الكوربوراتية ستحمي العمال من الاستغلال الذي كانوا يتعرضون له في السوق الحرة، التي كانت الأجور فيها تحت رحمة أهواء الرأسماليين. وأن الصراع الطبقي سيفسح المجال لحدوث انسجام داخل الأمة.

لكن الغموض ظل يكتنف التنازلات التي يتوقع أن يقدمها الرأسماليون كي يجذبوا العمال مجددًا إلى المجتمع الوطني؛ إذ كان الأمر المهم أهمية خاصة هو قدر الاستقلالية التي يجب أن تُمنح للنقابات الفاشية في النظام الكوربوراتي. في كثير من البلدان كان يطلق على من ينادون بمنح نقابات العمال أقصى درجات الحرية: «النقابيون».

fig13
شكل ١٠-١: عامل إسباني يحيي استعراضًا عسكريًّا لكتائب الفلانخي عام ١٩٣٧. كان الفلانخي يتباهون بأن برنامجهم للعمال كان مبتكرًا.1

في إيطاليا، اختلف ورثة «الجمعية القومية الإيطالية» مع الفاشيين الراديكاليين حول طبيعة الكوربوراتية. بصفة عامة، أكدت الجمعية على ضرورة سيطرة الدولة على الكيانات الكوربوراتية. بينما أراد التكنوقراط المحيطون بجوزيبي بوتاي مزيدًا من السلطة لمديري هذه الكيانات ومهندسيها. أراد أكثر الراديكاليين تعصبًا — النقابيون ونشطاء النقابات الفاشية — أن تنال النقابات العمالية مزيدًا من الاستقلالية، أما الشركات فقد عارضت بوجه عام أي شكل للكوربوراتية القسرية باعتبارها قيدًا على حرية الشركات في التنافس، بل وطلبت أيضًا من الدولة أن تقدم دعمًا قانونيًّا للاتحادات الاحتكارية التي يكوِّنونها لتثبيت الأسعار!

في عام ١٩٢٥ نظَّمت النقابات الفاشية عددًا من الإضرابات في المصانع العاملة بمجال المعادن في محاولة منها لفرض توجهاتها النقابية، وبموجب اتفاقية «قصر فيدوني» لعام ١٩٢٥ حصلت على احتكار لتمثيل العمال، مما أثار استياء الشركات التي كانت ترى أن النقابات الفاشية تكاد تكون خطيرة خطر الكيانات الاشتراكية. لكن النقابات لم تفلح في الحصول على مكتسبات مساوية لمكتسبات اتحادات أرباب العمل في الهيكل الكوربوراتي الذي بدأ يتخذ وضعه في ذلك الوقت. خرج أصحاب المصالح التجارية من كل هذا فائزين لأن الإضرابات حُظرت، وأعلنت الدولة أن النقابات وكيل عنها. لكن ظلت الشركات خائفة من سعي بوتاي الرامي لأن تكون السلطة الحاسمة في أيدي المديرين والمهندسين، لا الشركات الكبرى، ومع ذلك لا مجال لإنكار أن مؤيدي النقابات العمالية الفاشية لم يفلحوا في تحقيق غاياتهم.

ضم الحزب النازي أيضًا جناحًا نقابيًّا قويًّا تمثَّل في شكل تنظيم خلية المصنع المعروف باسم «تنظيم خلية المصنع الاشتراكي القومي». بعد عام ١٩٣٣ هدد قادة التنظيم — الذين كانوا يظنون أن اليوم يومهم — المديرين بمعسكرات الاعتقال إذا لم يرفعوا أجور العمال. كان قضاء هتلر على «كتيبة العاصفة» عام ١٩٣٤، والذي يعزى جزئيًّا إلى ضغط المحافظين، ضربة قوية للراديكاليين. وكان «تنظيم خلية المصنع» قد جرى إدماجه بالفعل منذ عام ١٩٣٣ في «جبهة العمل الألمانية» الكوربوراتية. على أرض الواقع، كان القضاء على النقابات اليسارية وحظر الإضرابات، إلى جانب إقرار حقوق المديرين في الإدارة، كفيلًا بعدم حصول العمال الألمان على تمثيل جماعي، لكن كحال الهيئات النازية الأخرى، قدَّمت «جبهة العمل الألمانية» فرص عمل ودعمًا للنهوض بالعمال المؤمنين بأيديولوجية الفاشية، وباتت تشكل إحدى «الإقطاعيات» التي تقوض التراتب القديم للدولة. احتفظ النازيون أيضًا بكثير من نظام الرعاية الاجتماعية لجمهورية فايمار، ودشنوا حركة «القوة من خلال البهجة» كي ينظموا أوقات ترفيه العمال، ولكن أخضعوها لمشاريعهم العرقية واليوجينية. كانت الرعاية الاجتماعية تخدم هدف دمج كل الطبقات في مجتمع وطني نقي عرقيًّا وقوي عسكريًّا.

كان نصيب الفلاحين والحرفيين في كلا النظامين الفاشيين، الإيطالي والألماني، مماثلًا لنصيب العمال؛ فقد وعد كلٌّ من الفاشيين والنازيين باستعادة وضع هذه الفئات ومكانتها، لكنه على أرض الواقع لم يحقق شيئًا يذكر. وراحت أدراج الرياح وعود النظام الإيطالي بمنح أراضٍ للفلاحين ذوي الحيازات الصغيرة، ولم تفلح حملة موسوليني لمنع هجرة الريفيين للحضر في الحيلولة دون تضاعف عدد سكان روما خلال فترة نظامه. أما في ألمانيا، فلم تَنَل تنظيمات أصحاب المحال والحرفيين النازية حرية التصرف إلا بالقدر القليل، وتبددت الوعود بإغلاق المتاجر الكبرى، بينما استفادت كبريات الشركات، لا صغارها، من مصادرة الأملاك اليهودية. صحيح أن النازيين وفوا عهودهم بإعانة الفلاحين المدينين، لكن تبيَّن فيما بعد أن هذا لم يكن كافيًا للحيلولة دون انخفاض عدد سكان المناطق الريفية.

كانت الفاشية الراديكالية أكثر من مجرد أداة لخداع الطبقات الدنيا، فقد كان الفاشيون على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى من أجل تحقيق أهدافها. لكن الفاشية الراديكالية لم تفشل لأنها كانت غير ذات معنى، بل لأنها لم تملك القوة الكافية لتحقيق غاياتها. ولم تكن المصلحة الوطنية قط قوية بما فيه الكفاية بحيث «تهذِّب» الرأسمالية المتوحشة، لا سيما وأن الرأسماليين وكثيرًا من الفاشيين كانوا يعتقدون أن وجود رأسمالية قوية يصب في المصلحة الوطنية. وعلى أية حال، كان كلا النظامين يعتبر الشركات الكبرى عنصرًا ضروريًّا في الإنتاج الحربي، ويمنح هذه المؤسسات أولوية في تخصيص المواد الخام والعمالة.

لكن وضع العمال لم يتحدد من خلال مجرد تبعيتهم للرأسمالية (مثلما لم يكن وضع النساء البرجوازيات اللاتي يعملن بمنظمات الرعاية الاجتماعية الفاشية يتحدد من خلال التبعية للرجال)؛ إذ تشير الأبحاث التي أُجريت مؤخرًا على «الحياة اليومية» في ظل النازية إلى أن العمال الأكبر سنًّا تحديدًا ظلوا معادين للنازية، بينما أعاد كثيرون توجيه أحلامهم بمجتمع أفضل تنظيمًا إلى النازية، وكانت الأحزاب الاشتراكية تمثل هذا الحلم من قبل؛ فالاشتراكيون الديمقراطيون، رغم كل شيء، لم يكونوا قط بمأمن من الشعور القومي؛ إذ ما إن ثبت عدم فعالية الاشتراكية في الفترة ١٩٣٢-١٩٣٣، حتى بدا أن النازيين يحققون بعض النجاح في كسب تأييد العمال الذين كانوا اشتراكيين من قبل. حتى إن البعض يشير إلى أن الجنود المنتمين للطبقة العاملة باتوا يعتبرون المشاركة في جرائم النظام العرقية في الشرق امتدادًا «للعمل الألماني عالي الجودة» الذي كانوا ينتجونه من قبل في المصانع. في الواقع، كان العمال ينالون مقابل تخليهم عن ارتباطاتهم بطبقة العمال أدوارًا ثانوية في نخبة وطنية، ونصيبًا من منافع الفتوحات الأجنبية. فقد تسيَّد العمال في ألمانيا — في تحدٍّ لقيم الحركة العمالية العالمية — على ملايين العمال العبيد، وفي إيطاليا، أيضًا، كان تقسيم العمل يجري على نحو شبه عنصري، بحيث يحتل عمال الشمال الوظائف التي تتطلب مهارات، بينما يشغل عمال الجنوب وظائف أقل شأنًا.

الأعمال التجارية والفاشية

هل يعني كل هذا أن الفاشية كانت أيديولوجية تجارية «بالأساس»، كما أشار بعض الماركسيين؟ نعم! ولا! أولًا: نعم؛ لأن بعض أصحاب المصالح التجارية في ألمانيا وإيطاليا انضمُّوا للحركات الفاشية، وما إن وصلت الفاشية إلى السلطة حتى باتت الشركات الكبرى تدعمها، وتنظر لتدمير الحركة العمالية بعين الرضا.

ثانيًا: لا؛ لأنه في الوقت الذي كان فيه الرأسماليون في العديد من البلدان سعداء باستخدام العصابات الفاشية لمحاربة اليسار، كان عدد من يرغب منهم بالفعل في إقامة أنظمة فاشية قليلًا نسبيًّا. ففي إيطاليا، خلال سعي الفاشيين للاستيلاء على السلطة، ظل رجال الأعمال منقسمين في ولائهم السياسي بين «الجمعية القومية الإيطالية» وليبرالية جوليتي. أما في ألمانيا، فقد فعل كبار رجال الأعمال الكثير كي يقوِّضوا الديمقراطية، لكن الغالبية العظمى من رجال الأعمال كانوا يفضِّلون أن تقوم ديكتاتورية محافظة، بدعم نازي، بدلًا من حكومة يتزعَّمها هتلر. وقد لعب أصحاب المصالح الزراعية دورًا أكثر فعالية من كبريات الشركات في المفاوضات التي أتت بهتلر إلى السلطة في نهاية المطاف.

ولا، ثانية، لأن وصف الفاشية بأنها نظام رأسمالي لا يخبرنا بالكثير، فقد تبيَّن أن الشركات الكبرى تملك قدرة هائلة على التكيف مع أنظمة تعارضها من حيث المبدأ. علاوة على أنه من المرجح أن نقول بأن اللجوء إلى الفاشية ما كان لينقذ رأسمالية ألمانيا أو إيطاليا في فترة ما بين الحربين. صحيح أن بعض رجال الأعمال انضموا لحركات فاشية اعتقادًا منهم بأن الأمر كذلك، لكن ما من سبب وجيه يجعلنا نعتقد بأنهم كانوا على حق. فمن غير المعقول أن يكون رجال الأعمال بصفة عامة «ربما» اعتقدوا أن الفاشية السبيل الوحيد الممكن لضمان بقاء الرأسمالية، لكن، نستطيع أن نقول إن غالبية رجال الأعمال، في ظل الظروف التاريخية الخاصة لإيطاليا عام ١٩٢٢ ولألمانيا عام ١٩٣٣، لم ينظروا إلى الأمر على هذا النحو.

fig14
شكل ١٠-٢: النازية والملكية الخاصة: إضفاء الصبغة «الآرية» على متجر يملكه أحد اليهود في فرانكفورت عام ١٩٣٨ تقريبًا. مكتوب على اللافتة: «ستام وباسرمان» «جومي فايل» سابقًا.2

وهذا يذكرنا بأن الفاشية لم تكن تدافع عن حق التملك على الإطلاق، بقدر ما كانت تدافع عن الأسرة. كانت الأنظمة الفاشية تنظم الأعمال التجارية حسب المصلحة الوطنية، لا سيما لأغراض الحرب، بينما كانت تدمر قدرتها على التدخل باعتبارها كيانًا في صنع القرار السياسي. أما النظام الإيطالي فقد أسس قطاعًا عامًّا مؤممًا قويًّا خلال الثلاثينيات. صحيح أن صناعات القطاع الخاص ظلت مزدهرة، لكن قوة القطاع العام ساعدت على استبعاد المحافظين من النظام خلال الحرب. لكن أكثر ما يثير الدهشة كان مصادرة النظام النازي الممتلكات اليهودية؛ ففي أوروبا الشرقية، هدَّد الفاشيون بمصادرة قطاعات كبيرة من الأعمال التجارية بحجة أنها أجنبية من الناحية العرقية، الأمر الذي أثار معارضة شرسة من جانب المحافظين.

وقد يعترض الماركسيون على ذلك بأن كثيرًا من الناس، بما فيهم رجال الأعمال، انضموا لحركات فاشية بسبب عدائهم للماركسية، وبأن التعصب القومي الفاشي كان يمثل محاولة متعمدة لتقويض ولاء العمال للطبقة العمالية. وهذا كله صحيح، لكن القول بأن الفاشية كانت «بالأساس» وسيلة للدفاع عن الرأسمالية أمر آخر تمامًا؛ وذلك لأن أفكار التعصب القومي التي قامت عليها الفاشية حوت كثيرًا جدًّا من الدوافع والمفاهيم والأفكار الأخرى، التي لم تكن مسألة الرأسمالية تغيب عنها قط، ولا تغلب عليها أيضًا.

هوامش

(1) © Mary Evans Picture Library.
(2) © AKG London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤