الفصل الخامس

ألمانيا: الدولة العنصرية

يوجد من أوجه الشبه بين الفاشية والنازية ما يكفي لجعل تطبيق مفهوم الفاشية أمرًا جديرًا بالاهتمام؛ ففي إيطاليا وألمانيا حدث أن توَّلت السلطةَ حركةٌ كانت تسعى لخلق وحدة وطنية من خلال قمع أعداء الوطن وإدماج جميع الفئات وكلا الجنسين داخل أمة مستنفَرة على الدوام. كان هذا مشروعًا شموليًّا، لكن تحقيقه مستحيل.

أحد أسباب فشل الشمولية الذريع في إيطاليا وألمانيا أن المجتمع الوطني المثالي جرى تصوره على نحو تطلَّب تقديم النخب قدرًا من التنازلات أقل بكثير من التنازلات التي كانت مطلوبة من اليسار. في إيطاليا، شكَّل الملك والكنيسة الكاثوليكية — إلى جانب ما تبنته النخبة من أعراف الإنسانية الليبرالية — عقبة كئودًا في طريق الشمولية. وفي ألمانيا، جرى تخفيض عدد أفراد الجيش بموجب معاهدة فرساي، وكانت الكاثوليكية أضعف حالًا، وكانت الكنائس البروتستانتية تحظى عادة بتفضيل السلطة، وكانت الأحزاب المحافظة قد تشرَّبت بالفعل العديد من أفكار اليمين الراديكالي قبل عام ١٩١٤. ومع ذلك، لم يحدث قطُّ أن تخلَّى النظام النازي تمامًا عن المحافظة غير الفاشية.

fig6
شكل ٥-١: صورة تجمع هتلر وموسوليني التُقِطت عند نصب الشهيد الفاشي، فلورنسا، ١٠ أكتوبر ١٩٣٨.1

شهد كلا البلدين تنافسًا دائمًا بين الحزب الفاشي وفروعه من جهة والمؤسسات القائمة من جهة أخرى ضمن حدود تحددت على أساس الولاء الشخصي لهتلر وموسوليني، وسرعان ما أصبحت المؤسسات القائمة في وضع لا تُحسد عليه في كلا البلدين، لا سيما في ألمانيا، حيث نجح هيملر، بموافقة هتلر، في دمج وحدات «شوتزشتافل» — قوات الأمن الخاصة المعروفة بالوحدة الوقائية — مع قوات الشرطة، محققًا بذلك أحد الشروط اللازمة لإبادة اليهود. حاول كلُّ جانب في هذا التنافس المميت أن ينال إعجاب الزعيم ليستخدمه ضد منافسيه، الأمر الذي عزَّز شعبية كلٍّ من موسوليني وهتلر، التي كانت هائلة بالفعل بفضل ما اعتبره البعض نجاحهما في إعادة إقامة دولتيهما وتحويلهما إلى قوتين عالميتين.

وبدءًا من منتصف عشرينيات القرن العشرين، اعتبر هتلر نفسه القائد العظيم الذي يمتلك رؤية يسوعية ستقود ألمانيا إلى النصر أو الموت. كان يؤمن أن مهمة ألمانيا هي غزو مكان العيش في الشرق على حساب روسيا «اليهودية البلشفية»، وآمن أيضًا أن قدرة ألمانيا على تحقيق هذا الهدف متوقفة على التغلب على ما تعانيه من انحلال، وذلك عن طريق نبذ الديمقراطية وتطهير نفسها من أعدائها من الأعراق الأخرى. وسيكون من شأن مكان العيش المنشود توفير الموارد اللازمة لتوحيد الناس في ألمانيا جديدة نقية عرقيًّا. كانت أهداف السياسة الخارجية والأهداف المحلية يعتمد بعضها على بعض.

افتقرت هذه الأفكار في حد ذاتها إلى النضج الكافي، لكنها كانت قوية لأنها انبعثت من التيار «الفاجنري» في الثقافة الألمانية، واستُمدت من الأفكار الداروينية الاجتماعية، والإمبريالية، والعنصرية في القرن التاسع عشر، والتي كانت متنكرة في لباس «العلم» في بعض الكليات الجامعية والمهن، حيث أوعزت بمجموعة كبيرة من المشاريع الرامية لهندسة مجتمع قوي. لم يكن الشعب الألماني كله أو حتى النازيون جميعهم يشاركون هتلر «هوسه»، بما في ذلك هوسه بإبادة اليهود، لكن شعبيته الجارفة سمحت له بتنفيذ مخططاته العنصرية الراديكالية والعسكرية. فقد كان متأكدًا، أيضًا، من أنه سينال دعم التراتب الهرمي النازي المرتبط به عن طرق الولاء الشخصي.

كيف أمكن أن تصل حركة كهذه إلى سدة الحكم؟ لم تكن العلاقة مباشرة بين جسامة الأزمة الاجتماعية وانتصار الفاشية؛ لأنه رغم أن حالة الاضطراب التي أعقبت الحرب العالمية الأولى كانت على الأقل متساوية الخطورة في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا، لم تستفِد الفاشية منها استفادة مباشرة؛ فقد أدت الهزيمة عام ١٩١٨ إلى انهيار النظام الملكي الاستبدادي، فتأسست مجالس من الجنود ومن العمال، وحكمت إحدى الجمهوريات السوفييتية بافاريا لفترة وجيزة. وقدمت «جمهورية فايمار» الجديدة امتيازات كبيرة للنقابات العمالية ومنحت المرأة حق التصويت، وحققت الاشتراكية مكاسب هائلة في انتخابات عام ١٩١٩.

ذُهل القوميون من قسوة معاهدة سلام عام ١٩١٩ التي بترت مساحة كبيرة من أراضي ألمانيا، وألقوا باللائمة على الديمقراطيين والاشتراكيين لأنهم «وجَّهوا طعنة غادرة لظهر ألمانيا» عام ١٩١٨. وكما حدث في إيطاليا، حدث رد فعل من جانب اليمين؛ الذي تمثَّل في تحالف ضم المحافظين السائدين في ذلك الوقت، والمنتمين للاتحاد الجرماني، وجماعات من الجنود المسرحين من الخدمة مثل جماعة «الفيالق الحرة»، وحركات قومية شبه عسكرية جديدة كانت منها حركة «الاشتراكيون القوميون» التي تزعَّمها هتلر. عاود التعصب القومي الراديكالي الظهور مجددًا في ظل الأزمة؛ ففي عام ١٩٢٠، حاول فولفجانج كاب، من «الاتحاد الجرماني»، أن يُحدث انقلابًا في برلين، وفي عام ١٩٢٣ حاول هتلر، بالتحالف مع الجنرال لودندورف، إحداث انقلاب عسكري آخر في ميونيخ، عُرف باسم «انقلاب بير هول».

لكن جمهورية فايمار نجت تلك المرة، وعلى عكس ما حدث مع اشتراكيي إيطاليا، دافع نظراؤهم الألمان عن النظام من التيار اليميني، ونجح أحد الإضرابات العامة في إجهاض انقلاب كاب. كان الجيش على علم بأن بريطانيا وفرنسا لن تسمحا بأي حال من الأحوال بقيام نظام قومي في ألمانيا، لذلك قَبِل هو أيضًا بالديمقراطية في ذلك الوقت. وبحلول عام ١٩٣٣، كان كثير ممن دافعوا عن جمهورية فايمار وقت تأسيسها قد انضموا إلى صفوف معارضيها الذين لم يكن هناك سبيل لوقف ازديادهم أكثر فأكثر.

إبان عشرينيات القرن العشرين بدا أن جمهورية فايمار بلغت درجة من الاستقرار؛ فقد تحسَّن الوضع الاقتصادي، إلى حد ما، وبالكاد نجحت ائتلافات الوسط في فرض حكومة مستقرة. علاوة على أن عودة التقارب مع فرنسا وبريطانيا حمل بعض الأمل في إمكانية استرداد ألمانيا أراضيها الشرقية. وخمد العنف السياسي تقريبًا، لكن الجمهورية ظلت هشة؛ ففي تيار اليسار لم يتقبل الحزب الشيوعي قط هذه الجمهورية البرجوازية، بينما في تيار اليمين ظل حزب الشعب الوطني الألماني مواليًا للمَلَكية. وترسَّخت جماعة المحاربين القدامى شبه العسكرية «شتالهيلم» (أي الخوذة الفولاذية) بقوة في المجتمع البروتستانتي البرجوازي القروي، وراكمت العداء لأنصار الديمقراطية الاجتماعية وللشيوعية ولتيار اليمين القائم. في الواقع، كان من يرغبون في التصويت للنازية في ثلاثينيات القرن العشرين قد اعتنقوا بالفعل سياسة القومية الشعبوية المتعصبة في العقد السالف وربما قبل عام ١٩١٤، وكانوا قد صوتوا لمجموعة من الأحزاب القومية المنشقة في عشرينيات القرن العشرين. كان هؤلاء الناخبون يستنكرون خضوع نظام فايمار للمصالح الاقتصادية الأنانية وطالبوا بسياسة أكثر «قومية»، وفي الوقت نفسه، ومن قبيل المفارقة، طالبوا بحماية أكثر فعالية لمصالحهم الخاصة. وانحطَّت السياسة في فايمار إلى مرتع للفوضى، تتهم كلُّ مجموعةِ مصالح فيه جماعاتِ المصالح المنافسة بأنها هي التي رفضت أولًا تغليب المصلحة القومية. وانتصر النازيون لأنهم تمكنوا من إقناع قطاعات واسعة من الناخبين بأنهم يستطيعون رأب الصدع والتوفيق بين المصالح الفئوية ومصالح الأمة.

كان لانهيار الاقتصاد الأمريكي عام ١٩٢٩ أثر خطير على مجتمع ألمانيا الهش، حيث أدى الركود إلى انهيار الشركات، واستدانة المزارعين، وارتفاع هائل في معدل البطالة. ثم فقدت الجمهورية كل ما لها من شرعية مع شعور المحافظين بأنهم غير قادرين على تحمُّل تحيزها للعمال وللحركات النسائية ولليهود. وأدار كثير من الستة ملايين عاطل عن العمل ظهورهم للنظام الذي بدا أنه لم يجلب لهم سوى البؤس. ونال الشيوعيون والنازيون أصواتًا، ومن ثم كان من المستحيل تشكيل حكومة برلمانية، وتعيَّن على الحكومات من عام ١٩٣٠ أن تتولى شئون البلاد بموجب مرسوم رئاسي. وبدأ الجيش، الذي لم يعد يخشى الحلفاء، يتدخل كثيرًا في السياسة. وهكذا كانت الديمقراطية الألمانية في طور الاحتضار قبل وقت كافٍ من تولي هتلر مقاليد السلطة.

عندما كان هتلر في السجن بسبب ضلوعه في انقلاب عام ١٩٢٣، بات مقتنعًا بأن الحزب لن يستطيع نيل السلطة إلا عن طريق صناديق الاقتراع. استهدفت الدعاية الانتخابية في المقام الأول العمال الصناعيين، على أمل إقناعهم بالانفصال عن الحزب الشيوعي الألماني، لكن انتخابات عام ١٩٢٨ أسفرت عن مكاسب غير متوقعة من الفلاحين البروتستانت، الذين تضرَّرُوا أشد الضرر جراء الأزمة الزراعية. ومنذ ذلك الحين وما تبعه صارت الدعاية النازية تستهدف الناخبين المحافظين، وحصد النازيون معظم أصواتهم من هذا المصدر. ورغم أن اليسار بات أقل خطورة مما كان في الفترة التي أعقبت الحرب مباشرة، شنَّ النازيون حملة ترهيب ضد الاشتراكيين والشيوعيين والكاثوليك، وبذلك قدَّموا أنفسهم على أنهم القوة الوحيدة القادرة على استعادة النظام، واتخذوا في الوقت نفسه موقفًا مناهضًا للمؤسسة الحاكمة، ليُظهروا أنهم هم ممثلو الشعب، متَّهِمين الحكومات المحافظة المتعاقبة بأنها لا تمثل الشعب.

رغم أن الخطاب الشعبوي الذي استُخدم في الانتخابات جذب المحافظين السابقين تحديدًا، حصدت النازية أصواتًا أكثر مما فعلت الأحزاب الأخرى؛ فقد فازت الحركة بأقلية كبيرة من الأصوات التي كانت من المفترض أن تصوِّت لليسار، ونالت إعجاب الرجال والنساء على حد سواء تقريبًا. علاوة على أن ما يقرب من ربع الطبقة العاملة الألمانية — لا سيما عمال الشركات الصغيرة في البلدات الصغيرة — صوتت على الأرجح للحركة النازية في انتخابات يوليو ١٩٣٢.

ورغم زيادة قاعدة المنجذبين للنازية، ونيل النازيين ٣٧٪ من الأصوات في يوليو عام ١٩٣٢، فإنهم لم ينالوا من المقاعد البرلمانية ما يكفي لأن يتولوا الحكم. يُضاف لهذا أنهم خسروا مليوني صوت في انتخابات جديدة عُقدت في شهر نوفمبر. فكيف فاز هتلر بالسلطة إذن؟ مثلما حدث في حالة إيطاليا، تمكَّن هتلر من ذلك من خلال مزيج من التحالف مع المحافظين والضغط من الشوارع. بطبيعة الحال، كان السياسيون المحافظون — مثل رجال الأعمال والعسكريين والنخب من ملاك الأراضي — يكنون العداء للجمهورية، لكنهم لم يكونوا واثقين في النازيين واعتبروهم «بلاشفة بقمصان بنية»، وفضَّلوا أن تتولى السلطة حكومة استبدادية يديرونها بأنفسهم، لكن المشكلة أن النخب اعتقدت — صوابًا أو خطأً — أنه ما من حكومة تستطيع الصمود من دون دعم جماهيري. وهذا الاقتناع أكد على المدى الذي تغلغلت به افتراضات «الديمقراطية» في جميع التيارات، حتى اليمين الرجعي، وعَكَس أيضًا مخاوف الجيش من احتمال عجزه عن الحفاظ على النظام حال بقاء كلا الشيوعيين والنازيين في عداء مع النظام. حاول الجنرال شلايشر حل هذه المشكلة فقدَّم لرؤساء النقابات العمالية وللنازيين الراديكاليين برامج تعافٍ اقتصادي مبتكرة، لكن لم يكن هذا ما أراده معظم المحافظين، ونظرًا لعدم توافر خيارات بديلة، نصب المحافظون هتلر مستشارًا في ٣٠ يناير عام ١٩٣٣.

حصل النازيون على حقيبتين وزاريتين إضافة إلى المنصب الذي تولاه هتلر، لكن سيطرتهم على الشرطة إلى جانب حقهم في الحكم بموجب مرسوم رئاسي سمحا لهم بإطلاق العنان لموجة من القمع استهدفت اليساريين. وكان حريق مبنى البرلمان الألماني «رايخستاج» في ٢٧ فبراير ذريعة لتعطيل حرية الصحافة وحرية التنظيم النقابي. لم يكن أداء النازيين بالجودة المتوقعة في انتخابات الخامس من شهر مارس، لكنهم حصلوا على أغلبية مع حلفائهم من حزب الشعب الوطني الألماني، ووضع قانونُ التمكين الذي مرره البرلمان في ٢٣ مارس الأساسَ للديكتاتورية؛ ففي الأسابيع اللاحقة حُظرت نقابات العمال، وحلَّت الأحزاب اليمينية غير النازية نفسها، وكان أحد أول الإجراءات التي اتخذها النظام عزل اليهود من الوظائف الرسمية.

في هذه الأثناء، تنافس المحافظون والراديكاليون على السلطة داخل النظام، وطالب الجناح الباطش للنازيين، كتيبة العاصفة، بثورة ثانية، وكان من قبل يقود الحملة ضد اليسار. كان الجيش يخشى من أن تكون الكتيبة راغبة في اغتصاب موقعه. وقد كانت ضغوط المحافظين أحد الأسباب التي دفعت هتلر لاعتقال قيادات الكتيبة وإعدامهم في ٣٠ يونيو عام ١٩٣٤ فيما أُطلق عليها «ليلة السكاكين الطويلة». لكن هذا لم يمكِّن المحافظين من استعادة النفوذ المفقود، وذلك لأن القمع لم يكن يُنفذ بفعل الدولة أو الجيش، بل من خلال أحد الأجنحة الأخرى للحركة النازية: الوحدة الوقائية «إس إس شوتزشتافل». وهكذا أقسم الجيش بعد مضي أسابيع قليلة يمين الولاء لهتلر.

كانت راديكالية النازية واضحة في المجال السياسي وضوحًا خاصًّا؛ فالقضاء على سيادة القانون لم يكن يعني فقط ممارسة القمع بتوجيه الهجمات أو السجن في معسكرات الاعتقال أو الإعدام، بل يضاف لذلك أيضًا تآكل الأساس الفعلي للحكومة والعدالة والإدارة المستندة للقانون. فقد جرى التخلص من العناصر غير المرغوب فيها من قطاع الوظائف الحكومية، وصارت مؤسسات الحزب ووحدة «إس إس» بمنزلة إدارة موازية يجري تجنيد أفرادها على أساس الأيديولوجية وخدمة الحزب، لا من خلال الإجراءات المتبعة في تعيين موظفي الحكومة. فترقَّى العديد من الأشخاص من ذوي الخلفيات الشاذة غير التقليدية إلى مواقع نفوذ. لم تكن هذه ثورة على النحو الذي يعرفه الماركسيون، لكنها مثَّلت هدمًا لهياكل السلطة القائمة.

وكما حدث بعد وصول الفاشية للحكم في إيطاليا، خاب إلى حد كبير أمل الراديكاليين بالنقابات وأولئك الذين كانوا يأملون أن تمنح النازية النساء مزيدًا من المساواة بعد وصول النازية إلى السلطة (انظر الفصلين التاسع والعاشر). لكن النازيين كانوا أكثر نجاحًا في أن يضمنوا أن تتوغل عقيدتهم في جميع أوساط المجتمع؛ فقد عدَّلوا المناهج المدرسية، وحلوا جميع الجمعيات المستقلة، بدءًا من الجماعات النسائية وحتى الجمعيات السينمائية، أو دمجوها في تنظيمات نازية. وقد شاركت «جبهة العمل الألمانية»، التي كانت مثالًا على مخططات النازية الكوربوراتية، إضافة إلى منظمة الترفيه عن العمال التي حملت الاسم المخادع «القوة من خلال البهجة»، مشاركة كبيرة في هندسة اليوتوبيا النازية.

كان العرق هو المبدأ الموجه لكل هذا، ورغم أن معاداة السامية لم تكن سمة مشتركة لدى جميع الألمان، ورغم أن العداء البيولوجي للسامية لم يكن منتشرًا على نطاق واسع، سمح سقوط جمهورية فايمار بأن تستولي على السلطة حركةٌ تشكِّل العنصرية البيولوجية بالنسبة لها عقيدة راسخة، لا سيما بين قياداتها. يضاف لذلك أن معاداة السامية اكتسبت القوة الضرورية لتنفيذ مخططاتها بسبب شعبية هتلر الهائلة — التي اكتسبها عن طريق سحق الشيوعية واستعادة مكانة ألمانيا الدولية — إلى جانب عدم اكتراث كثير من القطاعات بمصير اليهود وتشرُّب البعض إلى حد بعيد بالأفكار التي روجتها دعاية النظام. وسوف نتناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل في الفصول التالية، أما الآن فيكفي أن نقول إن الاعتبارات الراديكالية شابت كل جوانب السياسة، من حماية الأمهات وتوزيع الرعاية الطبية إلى الدبلوماسية والمناهج التعليمية.

لم تكن السياسات العنصرية النازية لتُنفَّذ من دون مساعدة المؤسسات غير النازية، لا سيما الجيش والدوائر الحكومية والأساتذة الأكاديميين. كان تأثير الراديكالية النازية متفاوتًا، الأمر الذي أتاح احتفاظ الشركات الكبرى والجيش وبعض الوزارات بشيء من الاستقلالية، وأحدث قدرًا كبيرًا من التنافس بينها وبين أجهزة الحزب والدولة، تمامًا كما حدث في إيطاليا. رغم ذلك، اختلف ميزان القوى في ألمانيا عنه في إيطاليا؛ فقد خسرت الشركات قدرتها على التأثير على سياسات الحكومة تأثيرًا جماعيًّا عندما زاد خضوعها أكثر فأكثر للقوانين المنظمة. وفي عام ١٩٣٨ أُقيل عدد كبير من الجنرالات وأصبح هتلر القائد العام للقوات المسلحة، وأسست وحدة «إس إس»، بقيادة هاينريش هيملر، قوتها العسكرية الخاصة وامتد نطاقها ليطول جميع مجالات السياسة العنصرية، فقد كان نفوذها القمعي هائلًا؛ نظرًا لأن السياسة الراديكالية كانت من أساسيات النازية.

ونظرًا لأن الجيش الألماني والدوائر الحكومية والأساتذة الأكاديميين كانوا أكثر تقبلًا للخطاب الفاشي من نظرائهم في إيطاليا، فقد كانت شتى عناصر النظام الألماني تتفوق على بعضها البعض في سعيها لتحقيق أجندة الفوهرر الشاملة، وقد قال إيان كيرشو إنهم كانوا يعملون «من أجل الفوهرر». ولم يكن هتلر بحاجة لأن يملي عليهم سياسة تفصيلية، في أي حالة لا يملك فيها الطاقة أو القدرة للتدخل تدخلًا منهجيًا في الشئون الداخلية. لكن هذا لا يعني أن النظام لم يتطلع إلى الشمولية. وقد أدى ارتباك السلطات إلى تحرر صناع القرار السياسي من قيود الأخلاق والقانون، وجعل عدم اليقين مبدأً من مبادئ الحكومة وأصاب ضحايا النظام بالعجز واليأس.

كان هتلر، كموسوليني، مولعًا بالدبلوماسية ولعًا شديدًا، وكان دائمًا ما يعتبر الاستحواذ على «حيز معيشي» والقضاء على الأعداء العرقيين وعلى البلشفية ضروريَّيْن لإقامة مجتمع ألماني متآلف، ولم يكن لديه فكرة واضحة عن الكيفية التي تمكِّنه من تحقيق هذه الأهداف، لكنه بدأ إعداد ألمانيا لحرب عنصرية. وكانت معظم السياسات المحلية ترتبط بطريقة أو بأخرى بهذه الأولوية؛ فتدابير تشجيع النساء على الزواج والإنجاب كانت تهدف لزيادة عدد السكان «الأصحاء» وتوفير جنود في المستقبل، وكان تعقيم «غير الصالحين» يستهدف تحسين نوعية السكان، وكان لمشاريع الأشغال العامة بُعدٌ عسكري؛ فقد ركزت الخطة الرباعية لعام ١٩٣٦ على إنتاج الأسلحة وإحلال الواردات. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتخذ سياسة التعامل مع اليهود منحًى راديكاليًّا في نوفمبر ١٩٣٨ بتأثير ذعر الحرب، فقد كان النازيون يعتبرون القضاء على النفوذ اليهودي — لم تكن الإبادة قد دخلت بعدُ نطاق السياسات النازية — هدفًا للحرب وشرطًا ضروريًّا لتحقيق النجاح.

لم تكن دبلوماسية هتلر تسترشد خطاها من خطة واضحة متوسطة الأجل؛ إذ سرعان ما خاب أمله في أن تظل بريطانيا على الحياد وتترك لألمانيا حرية السيطرة على القارة، لكن هتلر أخبر جنرالاته عام ١٩٣٦ أنه لا بد من خوض حرب لتأمين حيز معيشي قبل عام ١٩٤٠ على أقصى تقدير، وفي العام التالي لم يفوِّت أي فرصة تلوح أمامه لهذا الغرض؛ فضمَّ النمسا إلى الرايخ في مارس عام ١٩٣٨، ثم حوَّل اهتمامه إلى أقلية «السوديت» الألمانية في تشيكوسلوفاكيا في شهر سبتمبر. وأخيرًا اندلعت الحرب ضد بريطانيا وفرنسا في سبتمبر عام ١٩٣٩ عندما غزا هتلر بولندا، متَّكلًا على تحالفه مع الاتحاد السوفييتي. وما كاد هتلر يهزم فرنسا عام ١٩٤٠ حتى بدأ يخطط لغزو الاتحاد السوفييتي.

أطلق غزو هتلر للاتحاد السوفييتي العنان لصراع وحشي على نحو غير مسبوق؛ فقد نالت المنظمات النازية من وراء التدمير الكامل للسلطة الأصلية في الأراضي الشرقية المحتلة وغياب القيود التي تمثلها البيروقراطية داخل ألمانيا، فرصةً لإعمال القتل والتعذيب والاستغلال والنهب وإجراء التجارب على سكان البلاد المهزومة تماشيًا مع نبوءات هتلر بنهاية العالم. فقد كان هتلر قد صرَّح قبل أن تبدأ الحرب بأنها ستنتهي بإفناء يهود أوروبا، وقد حدث هذا بالفعل.

ظلت أوهام هتلر البعيدة عن الواقع باقية رغم انهيار الجيوش الألمانية انهيارًا كاملًا. وكان هتلر، في قبوه ببرلين، يتطلع هو وجوزيف جوبلز إلى بطاقات التاروت وصور فريدريش العظيم طلبًا للوحي. وقد وجَّه اللوم في آخر تصريحاته للشعب الألماني لأنه خذله.

هوامش

(1) © Hulton Archive.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤