مقدمة

في عام ١٩٤٧ دُعيت للاشتراك في مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في لندن لبحث مشكلة فلسطين، وكان لزيارتي لأوروبا ذلك العام أثر كبير في تحديد مشاعري نحو الغرب، وأخذت أشك في صحة الاعتقاد السائد بتقدم الغرب على الشرق في مضمار الحضارة.

لمست نوعًا من الأخلاق والعادات والتقاليد يخالف ما لمسته في بلادنا، وشاهدت منظمات وصناعة وإنتاجًا لا عهد لبلادنا به، ومنذ ذلك الوقت بدأت تتزاحم في رأسي مئات من الأسئلة التي أردت أن أدرسها لأجيب لنفسي عنها وللآخرين.

فمثلًا: هل الحضارة الأوروبية نتيجة لروح الأوروبيين؟ أو أن روح الأوروبيين هي نتاج الحضارة الأوروبية؟ أو بمعنى آخر: هل الصناعة مثلًا — وهي من أهم دعائم الحضارة الأوروبية — كانت نتيجة للرغبة في مقاومة الطبيعة، تلك الرغبة التي يتميز بها الأوروبيون، أم أن روح مقاومة الطبيعة والتعالي عليها نشأت نتيجة لقيام الصناعة؟ وهل قيام الصناعة بهذا الشكل واصطباغها بالصبغة الأوتوماتيكية كان نتيجة لأوتوماتيكية الأوروبيين، أو أن هذه الأوتوماتيكية كانت نتيجة لا مفر منها لقيام الصناعة وانتشارها على هذا النحو الواسع؟ وهل كان اتجاه الصناعة وغير الصناعة نحو الإنتاج الحربي وانتشار الحروب وروح البغضاء بين الدول، هل كان هذا نتيجة للحالة الاقتصادية والسياسية التي تسببت في قيامها الصناعة الحديثة والعلم الحديث، أم أن هذا الاتجاه الحربي وهذه الحالة الاقتصادية والسياسية نتيجة لروح حب الكفاح التي يتميز بها الأوروبيون ونتيجة للأحقاد التي نشئوا عليها؟

وهذه المبادئ السياسية التي حددتها أوروبا ورسمت صورتها، وهذه النظم الاقتصادية والاجتماعية من ديكتاتورية وديمقراطية وشيوعية، هل هي نتيجة التعليم الحديث والصناعة الحديثة، وكل حديث أتت به الحضارة الأوروبية؟ أم أنها لا علاقة لها بالعلم ولا بالصناعة وإنما جاءت بهذه الصورة لأنها هي صورة الأوروبيين أنفسهم؟

ثم هذه العلاقة بين الرجل الأوروبي والمرأة الأوروبية، وبينهما وبين أولادهما، وهذه العلاقة بين صاحب العمل والعامل، وبين الحاكم والمحكومين، هل كانت هذه العلاقات شيئًا جديدًا على أوروبا أتت به نظم الحياة الجديدة ودعا إليه فلاسفتها ومفكروها الحديثون حتى تحقق على يد المرأة والأولاد أو على يد النقابات والأحزاب؟ أم أنها علاقات قديمة أقامتها ضرورة الطبيعة في أوروبا فكانت قسوة المناخ وبرودة الجو وطبيعة الأرض الصلبة الفقيرة هي التي أدت إلى هذا النوع من التعاون بين الرجل والمرأة والأولاد، وبين الحاكم والمحكوم، ثم أدى هذا النوع من التعاون إلى هذه العلاقات التي نراها الآن بينهم؟

هذه أسئلة على جانب كبير من الأهمية، والبحث فيها والإجابة عليها يساعدنا كثيرًا في الإجابة على أسئلة تتعلق بحضارة الشرق الجديدة:
  • أولًا: هذه الحياة الجديدة وهذا النوع من التفكير والأنظمة التي جاءت بها الحضارة الأوروبية، إلى أي حد تتصل بتقدم الإنسانية؟
  • ثانيًا: هذه الأنظمة في الحضارة الأوروبية المتصلة بتقدم الإنسانية، إلى أي حد ترتبط بخصائص الغربيين وروحهم؟ وإلى أي حد يرتبط بخصائص الشرقيين وروحهم؟
  • ثالثًا: هل يستطيع الشرق أن يقوم بحضارته الجديدة من غير أن يتقيد مطلقًا بما وصل إليه الغرب؟

    أم هل من الضروري عليه أن يكمل من حيث انتهى الغرب؟ وهل يستطيع ذلك؟

هذه الأسئلة جميعها تضاربت في ذهني فترة طويلة من الزمن حتى رأيت أن أضع هذا الكتاب الصغير، محاولًا الإجابة عنها، والمساهمة في إنارة الطريق الذي يسير فيه الشرق الآن نحو حضارة جديدة.

والله الموفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤