تمهيد

ما الشرق وما الغرب؟

شاع على الألسنة مقابلة الشرق بالغرب، فيقولون مثلًا الشرق شرق والغرب غرب، وقديمًا استخدموا هاتين الكلمتين متقابلتين، فالمؤرخون يقولون تاريخ الشرق وتاريخ الغرب، والفلاسفة يقولون مثلًا: إنه قد اجتمع في الإسكندرية إلهام الشرق ومادية الغرب، إلى غير ذلك من مختلف التعابير — فهل هناك حقيقة مدلول معين للشرق، ومدلول معين للغرب؟

الواقع أن الشرق والغرب من الكلمات العامة التي إذا أريد تحليلها عزَّت على التحديد، فباقي الكلمات العامة كحرية وجمال وعدل وديمقراطية، كلها يستعملها الناس كثيرًا، فإذا أريد تحديدها صعب على من أراد ذلك، فهل كلمتا الشرق والغرب يمكن تحديدها بالرجوع إلى الجغرافيا أو هما نوعان من المزاج والخصائص، أكثر منهما جغرافيين أو غير ذلك؟

من الباحثين من أرجع الفرق بينهما إلى المعنى الجغرافي، فحددوا الشرق بأنه ما كان شرقي البحر الأبيض المتوسط وامتداده شمالًا وجنوبًا، فيشمل ذلك الهند والصين واليابان والاتحاد السوفيتي وإيران والعالم العربي بأجمعه بما فيه مصر، كما يشمل أستراليا، ويشمل الغرب أوروبا وأمريكا، ولكن هذا التحديد الجغرافي عليه اعتراضات كثيرة، أهمها أن في أوروبا ما يُعد شرقيًّا كجزء كبير من تركيا، وفي الشرق ما يعد غربيًّا كأفريقيا الجنوبية وأستراليا؛ ولذلك ذهب بعضهم إلى عدم الاتجاه إلى التحديد الجغرافي، واتجهوا إلى التحديد بالخصائص. فالغرب يختص بالتقدم الميكانيكي، والحركات الصناعية والديمقراطية، وتلوين أدبه وفنه بلون خاص — لون عملي أكثر منه نظريًّا — وتقدير النساء ومنحهن كثيرًا من الحرية، والشرق يتصف بالتواكل والخضوع للاستبداد، والمساومة في المعاملة، والتقليل من حريات النساء، وكثرة الاعتقاد بالخرافات ونحو ذلك، وحينئذ إذا جرينا على هذا لم يعد للحدود الجغرافية قيمة، فقد نحكم على اليابانيين بأنهم تغرَّبوا؛ أي اتصفوا بالصفات الغربية، كما نحكم على بعض الأوروبيين بأنهم تشرَّقوا؛ أي اتصفوا بالصفات الشرقية. وعلى هذا تكون الشرقية والغربية صفات لا حدودًا جغرافية، وبناء على ذلك إذا قلنا المدنية الغربية فليس معناها المدنية التي أتى بها الغرب مقابلة للمدنية الشرقية؛ أي المدنية التي أتى بها الشرق، وإنما نعني بالمدنية الغربية ميزات وخصائص، تتسم بها المدنية الغربية.

وقد أنكر غاندي وبعض الباحثين هذه التسمية إطلاقًا، تسمية الشرق والغرب، وقال: الحق إن هناك جمعيات أو مجموعات من الناس لها خصائص معينة، ربما عُدت خمسًا: أوروبا وأمريكا والجمعية المسيحية الأرثوذكسية، والجمعية الإسلامية، والجمعية الهندوكية، والشرق، وهذه الجمعيات الخمس؛ اثنتان منها في الغرب الجغرافي وثلاث في الشرق، والفروق بين هذه الجمعيات كبيرة لا تستند على شرق ولا غرب، فالفرق بين المسلمين والهندوكيين وكلاهما شرقي، كالفرق بين المسلمين والمسيحية الأرثوذكسية، وإحداهما شرقية والأخرى غربية.

وبعضهم يميل إلى اعتماد هذا التقسيم على الزمن لا على التقسيم الجغرافي ولا على الطابع والمزاج، فالغرب يدل على معنى المدنية الحديثة بأساليبها الخاصة، كالاعتماد على العلم في كل مرفق من مرافق الحياة من تربية وزراعة وتجارة واقتصاد ونحو ذلك، ويقابل هذه المدنيات غير الحديثة من مدنية مصرية ورومانية ويونانية وعربية وغير ذلك، فالعنصر الأساسي في التقسيم هو الزمن.

ونحن أميَل إلى اعتماد التقسيم على الطابع والمزاج؛ فالمدنية الحديثة طابع ومزاج متدرجة في سلم الرقي، فمن انطبع بالطابع الحديث عُد مُمدنًا مدنية حديثة حيثما كان مسكنه في الشرق أو في الغرب، ومن لم ينطبع بطابعها عُد شرقيًّا؛ سواء كان في الشرق أو في الغرب، ونحن نجد الخلاف الكبير بين أفراد الأمة الواحدة فقد يكون فيها أفراد يعبدون كل ما هو شرقي قديم، وآخرون يعبدون كل ما هو غربي جديد، وآخرون لا يعبدون هذا أو ذاك وإنما هم يُعملون عقولهم، ويرسمون لأنفسهم خطة للتقدم سواء كانت هذه الخطة شرقية أو غربية.

ويرى قوم آخرون أن المسألة ليست مسألة شرق وغرب، وأن العالم كله على سعته لا يتحمل إلا مدنية واحدة، وإنه إذا جاءت مدنية نُسب إليها العالم كله على حسب تقدمه وتأخره؛ ففي الطليعة المتمدنون بها وفي نهايتها المتخلفون عنها، وسائر الناس طبقات بين ذلك.

هكذا الشأن في تاريخ مدنية قدماء المصريين والمدنية اليونانية والرومانية والإسلامية، فلما كانت كل مدنية من هذه المدنيات أرقى من غيرها في زمنها، سادت العالم وقلَّدها الناس على حسب استعدادهم، واليوم سادت المدنية الحديثة فعمت العالم كله إما طوعًا وإما كرهًا، فليست هناك مدنيتان متناقضتان: إحداهما شرقية والأخرى غربية، بل مدنية واحدة تعم العالم كله؛ غاية الأمر أن بعض الأمم يستفيد من هذه المدنية الحديثة أكثر من غيره، وبعبارة أوضح ليس هناك سُلمان مختلفان، بل هناك سلم واحد ذو درجات مختلفة وقف أصحاب المدنية الحديثة في أعلى السلم ووقفت الأمم الأخرى على درجات من السلم بحسب كثرة اقتباسهم منها أو قِلته، وقد تنهض أمة شرقية نهضة غربية فترتقي درجات في السلم كما فعلت اليابان وتركيا، وهناك أمم تقف على أول درجة في السلم، وبين ذلك أمم مختلفة، والمسألة كلها تابعة لظروف كل أمة، ومقدار استعدادها لارتقاء السلم الغربي، فالذين يقولون الشرق والغرب مخطئون، وخير لهم ألا يقيسوا المسألة بعامل جغرافي بل يقيسونها بمقدار الاستعداد.

على أن المدنية الغربية كلها لم تبلغ في جميع نواحيها مبلغ الكمال، بل هي معيبة بعيوب تجعلها ليست المثل الأعلى للمدنيات، كما سنبين ذلك فيما بعد، وأنه قد يخلفها مدنية ليست متصفة بهذه العيوب تكون أرقى منها، فما فيها من مادية مفرطة، وما تؤدي إليه من تطاحن وحروب مهلكة يجعلها ليست المدنية التي ينشدها العالم، بل إن الأمم التي تعدها المدنية الحديثة متأخرة قد يكون فيها من المزايا ما ليس عند المتقدمين في المدنية، فبعض الأمم التي تُعد متأخرة عندها من السماحة ومن الكرم ومن النجدة ما يفضل أهل المدنية الحديثة.

وقد اختلف الباحثون في الإجابة على السؤال الآتي: هل نشر المدنية الحديثة بين الأمم الشرقية، أو بعبارة أدق بين الأمم الأقل مدنية نعمة عليها أو نقمة؟ فبعضهم يرى أنها نعمة، فهي تزيد من إنتاجهم، وتنظم حياتهم، وتعلمهم المطالبة بحقوقهم ونحو ذلك، وبعضهم يرى أنها لعنة أو أنها نقمة؛ لأنها تجعلهم يضطربون ويحتارون بين سلوك قديم وسلوك جديد وأنهم يشْقُون بها لأن ظروفهم غير ظروف الأوروبيين.

خذ مثلًا البرلمان، فقد نجح في إنجلترا، ولكن لما نُقل إلى بعض الأمم الشرقية، أوجد فيها الشقاق والمحسوبية والبطء في الإصلاحات.

والحق أن اتصال الشرق بالمدنية الحديثة، وأخذه عنها واجب ضروري في نظرنا، غاية الأمر أن في نشرها الحالي عيبين؛ العيب الأول: أن المدنية الحديثة تُنقل كما هي من غير تعديل أو تمييز بين ما ينفع وبين ما لا ينفع، ولكل أمة ظروفها؛ فقد يكون الأمر نافعًا في إنجلترا، وهو إذا نُقل بحذافيره إلى الهند لا ينفعها، وقد يكون نوع من العادة أو السلوك نافعًا في بلاد باردة، وليس نافعًا في بلاد حارة وهكذا. والعيب الثاني: أنه مما يؤسف له أن المدنية الحديثة دخلت الأمم الشرقية بالحديد والنار لا بحسن التفاهم؛ مما جعل هذه الأمم تنظر إلى رجال المدنية الحديثة نظرًا شزرًا، ولو أنها دخلت بحسن التفاهم ولم ينظر الغربيون إلى غيرهم نظرة استعداء واستغلال لكان تقبل المدنية الحديثة أسهل وألطف. ومما يؤسف له أيضًا أن العدد المحدود من قادة السياسة لم يغيروا آراءهم الاستعمارية مع ظهور فسادها؛ ولذلك لم تذهب حدة العداء بين الطرفين، ولو وفق الغرب إلى أن يشعر الأمم الأخرى بحسن نيته، وعدم استغلاله، وأخذه بيده كما يأخذ الأخ الكبير بيد أخيه الصغير؛ لنجحت المدنية الحديثة أكثر مما تنجح الآن.

لقد نجح العرب في نشر المدنية الإسلامية في الشرق الأوسط؛ لأنهم دخلوه ناشرين لمبادئهم، آخذين بيد الضعفاء منهم ولم ينجحوا في نشر مدنيتهم في الهند لأنهم دخلوها قاصدين الاستغلال، وذلك بعد أن انتابهم الضعف وأصابهم مرض الجشع، وكان حال أوروبا مع الشرق كحال محمود الفاتح مع الهند.

•••

وهنا يعترضنا سؤال آخر في غاية من الدقة والصعوبة وهو: بماذا تُعد أمة أرقى من أمة؟ وما الذي يجعل أهل المدنية الحديثة أرقى من غيرهم، أو بعبارة أخرى ما هو مقياس الرقي؟ إن كثرة الآلات والمخترعات وحدها لا تصح قياسًا، فلو أننا قارنَّا بين بيت مُليء بالمخترعات الحديثة من الراديو والتليفون والمكيف الهوائي وآلات للطبخ والكنس، ولكن أهله متنازعون متكالبون على المادة أشقياء بماديتهم وأنانيتهم، وبين بيت آخر ليس فيه آلة من الآلات الحديثة ولكن أهله وادعون مطمئنون مرتاحو البال، لعُد البيت الثاني من غير شك أسعد وأرقى. ولو أننا خيَّرنا سيدة أوروبية بين بيت فيه كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ولكن أولادها يؤخذون من حين إلى حين إلى الحروب تُستنزف دمائهم وتلقيهم صرعى، وبين بيت آخر ليس فيه شيء من الآلات، ولكن أولادها لا تحصدهم الحرب، ولا ينزف دمائهم القتال لاختارت البيت الثاني. والنتيجة من هذا كله ما ذكرنا من أن مقياس الرقي ليس الآلات والمخترعات. فما هو مقياس الرقي إذن …؟

قد أجاب بعضهم عن هذا السؤال بأنه كلما كانت الأمة أقدر على استخدام الطبيعة، ومعرفة قوانينها واستخدام هذه القوانين في مصالحها واستغلالها أقوى استغلال كانت أرقى، ولكن بعض الهنود يعترضون على الأمم الغربية بنظرتهم إلى الطبيعة وقولهم: إنهم يقهرونها ويستغلونها في مصلحتهم، وكان الأولى أن يصادقوا الطبيعة حتى تفضي إليهم بأسرارها. والموقف بين النظرتين يختلف، فمحاربة الطبيعة وقسرها على البوح بسرها غير مصادقتها لتهدي إلى من يصادقها بعض أسرارها.

على كل حال ربما كان استخدام القوانين الطبيعية في الحياة اليومية خير مقياس للرقي، ومعنى هذا أن يطبق على نواحي الحياة ومرافقها كلها، فالحيوان أرقى من النبات لقدرته الطبيعية على الأشياء أكثر مما يقدر النبات، من حركة وبحث على الغذاء ونحو ذلك، والإنسان أرقى من سائر الحيوان لأنه فهم من الطبيعة ما لم يفهمه الحيوان واستخدمه أكثر من استخدامه.

وعلى هذا نرى أن المدنية الحديثة مقصرة تقصيرًا كبيرًا إزاء الأمم الأقل مدنية، فهم لم يستطيعوا في استعمارهم أن يفهموا نفوس الأمم المستعمرة، ويجاروها ويسايروها ويرقوها، وهذا بعينه جهل ببعض قوانين الطبيعة، فسوء المعاملة والإفراط في الأنانية والرغبة الشديدة في الاستغلال كل ذلك يسبب كراهية المستعمر وعدم إقباله على المدنية الحديثة إقبالًا تامًّا، ويعوق النزعة الإنسانية العالية في أن من الواجب على المتقدم أن يأخذ بيد المتأخر؛ غاية الأمر أن استغلال القوى الطبيعية ليس كل مقياس الرقي، بل يجب أن يضاف إليه أيضًا السمو الروحي. فالمدنية الغربية تشقى الآن بسبب عدم بلوغها هذا السمو.

ويظن البعض أن الحضارات أتت يكمل بعضها بعضًا، فكل حضارة تأتي تأخذ مزايا ما قبلها وتتجنب نقائصها. وهكذا كان موقف الحضارة اليونانية بالنسبة للحضارة المصرية، والرومانية بالنسبة لليونانية، والعربية بالنسبة لليونانية والرومانية، ولكني أرى أنها نظرية ترضي غرور بعض الأوروبيين؛ إذ يرون أن حضارتهم أرقى الحضارات؛ لأنها استفادت من كل ما قبلها من الحضارات وتجنبت عيوبها، والواقع في نظري أن الحضارة إنما تأتي لتقدم للإنسان نوعًا جديدًا من الأشياء يكون هو في حاجة إليه.

لقد جاءت الحضارة المصرية والإنسان متوحش يعيش عيشة بدائية، فلما استقر بوادي النيل وعاش عيشة مطمئنة كان في حاجة إلى تنظيم القوانين وإلى مرشد يشرح له وسائل الحياة. ولأول مرة قدمت مصر للعالم حضارة. ثم جاءت الحضارة اليونانية تقدم للعالم فنونًا وعلومًا وفلسفات جديدة لم يكن يعرفها بعد أن تعلَّم كيف يستقر في المدن، ووجد عنده من الوقت ما يصرفه في التفكير، فاستطاعت الحضارة اليونانية أن تقدم ذلك كله نتيجة لبيئتها الطبيعية والاجتماعية، فتقدم العالم بذلك خطوة أو خطوات ولكن سرعان ما دبت إليها الشيخوخة وظهر أن الإنسان يحتاج إلى من يقدم له نوعًا آخر من الحضارة، فكانت الحضارة العربية، وأخيرًا جاءت الحضارة الأوروبية الحديثة لتقدم للإنسان بعضًا من احتياجاته المادية والمعنوية، فكان العلم التطبيقي، وكانت الصناعات، وكان التقدم في العلوم على اختلاف أنواعها.

والحضارتان اليونانية والأوروبية نتيجة لحياة اجتماعية غربية، والحضارة المصرية والعربية نتيجة لحياة اجتماعية شرقية؛ فكل منها يقدم للإنسان ما هو في حاجة إليه وليست كلها كهرم؛ بعضها فوق بعض.

من هذا كله نستنتج أن الشرق سبق الغرب في حضارته، وأن حضارات الشرق عاشت أكثر من حضارات الغرب. فالحضارة المصرية عاشت أكثر من أربعة آلاف عام مع أن الحضارة اليونانية لم تعِش أكثر من ألف عام، وعاشت الحضارة العربية أكثر من ألف ومائتي عام، بينما الحضارة الغربية لم تعِش أكثر من سبعمائة عام، وقد بدأ انحلالها منذ بدء القرن العشرين؛ ولذلك نستطيع أن نقول إن مدة تحضر الشرق أطول من مدة تحضر الغرب. يضاف إلى ذلك أن الحضارات الشرقية كانت متجهة نحو الأديان والأخلاق، وتنظيم علاقات الجماعات والشعوب تنظيمًا يسوده السلام، بينما كانت الحضارة الغربية متجهة نحو التوسع في الرفاهية المادية، مما سبب التوسع في ولحراب ووسائلها، فحروب بين الغرب والشرق غرضها الاستغلال وهي تشنها باسم الإنسانية، وباسم واجبات الرجل الأبيض، وحروب بينها وبين بعضها من الأمم الغربية تشنها باسم الحرية والمحافظة على الديمقراطية، وحروب بين الفقراء والأغنياء يسببها الحقد والطمع، تشَن باسم الاشتراكية والشيوعية، وكلها تفيد أن الأمم الغربية لم تبلغ من الحضارة الصحيحة مبلغًا كبيرًا.

ومن هذا كله نستنتج ما قلناه من أن الحضارات ليست مكملة لبعضها، ونستطيع أن نقول إن الشرق إذا قدر له أن يبني استطاع أن يقدم للعالم ما ينقص الغرب من روحانيات وأديان وتأملات، ولكن هذا لن يأتي إلا إذا استفاد من الغرب نظم إنتاجه وروحه العلمية.

إني لآمل الخير للشرق، وأرى بعض علامات تدل على بدء وعيه وولادته من جديد، كما أرى بدء الانحلال في الغرب لانحرافه عن مبادئه.

فقد أصيب الغرب بالزهو، واعتقاده أنه يملك زمام كل شيء، وتكبر على كل من لم يكن من جنسه من الملونين، وجعل التاريخ محوره تاريخ أوروبا قديمًا ومتوسطًا وحديثًا، ويكاد يهمل تاريخ غيره من الصين والهند والفرس والعرب والعجيب أن كثيرًا من الشرقيين وقعوا في مثل هذا الخطأ، فقدَّسوا كل ما يأتي من الغرب، واحتقروا كل ما يأتي من بلادهم، والخوف كل الخوف إن تنقل إلى الشرق رذائل الغرب التي عملت في انحلاله، فيصاب هو أيضًا في بدء نهضته بما يصاب به الغرب.

إني أرى النشاط والحيوية بدآ في الشرق، وبدأ الأمل يساوره بينما بدأ اليأس يساور الغرب، وبدأ الشرق يتطلع إلى شيء جديد لا هو شرقي محض ولا هو غربي محض، بل فيه مزايا كل منهما. بينما تسود الغرب فكرة التشاؤم وعدم الإيمان بالمثل العليا، بل عدم الإيمان بأي شيء، وأصبحت الوسائل عنده غايات.

هل أدلُّ على فشلها من اختراعها أسباب انحلالها وعلى رأسها القنبلة الهيدروجينية؟ الحق أن نهرو أوسع أفقًا — فيما أعتقد — من تشرشل، والروح المعنوية لفِرق الفدائيين أعلى من الروح المعنوية للقوات الإنجليزية، التي لا تعتمد إلا على السلاح.

إن على زعماء الشرق أن يتخيروا من المدنية الغربية خيرها، وينبذوا شرها، من المدنية القديمة خيرها إن كان ذلك في الإمكان، ونتيجة ذلك مدنية لا شرقية محضة ولا غربية محضة.

نعم، وجد من المصلحين من أراد أن يأخذ المدنية الغربية بحذافيرها، لا فرق عنده بين صناعة وفن وابتكار، وبين فضائلها ورذائلها، ورأى أن المدنية الحديثة إما أن تؤخذ كلها أو تُترك كلها، كما فعل مصطفى كمال في الدولة العثمانية؛ لأنه رأى أن بعض من تقدموه حاولوا الأخذ ببعض مبادئ المدنية الحديثة وترك بعضها ففشلوا، كالسلطان عبد الحميد، فقد أراد أن ينقل من أوروبا النظم العسكرية، ولكنه لم يشأ أن ينقل مبادئ الحرية ففشل فشلًا ذريعًا، أراد مصطفى كمال أن يتجنب هذا الفشل بنقل المدنية كلها من نظم عسكرية ومخترعات وقوانين ونظم اجتماعية حتى القبعة واللغة اللاتينية.

وقد أدرك هذا المعنى رجل آخر بطريقة أخرى، وهو غاندي، إذ أراد أن يمنع عن بلاده كل المدنية الحديثة ودعا شعبه أن يغزل بيده؛ حتى لا يرتبط الشعب الهندي بالمصانع الإنجليزية، وحتى يبعد الهنود عما في الحضارة الغربية من لهو ومجون؛ لأن بعضها يسلم إلى بعض، ولكن تيار المدنية الغربية جرَّف تعاليم غاندي وعادت البلاد تأخذ عن الغرب.

نعم إن بعض من حاولوا المزج بين الحديث والقديم قد فشلوا كما فشل السلطان عبد الحميد، ولكن يظهر عندنا أن سبب الفشل هو جمع المصلحين بين عناصر متباينة لا انسجام بينها، كالجامعة العربية تسير في بعض تصرفاتها على مبدأ القومية وهو مبدأ المدنية الغربية، وأحيانًا على مبدأ العروبة وهو مبدأ التكتل، وأحيانًا على مبدأ الاتحاد في الدين وهو مبدأ الإسلام، وتضطرب بين هذه النزعات الثلاث فتمنى بالفشل، وكحال المزارعين في الشرق يسير بعضهم على مبدأ الآلات الحديثة، وما زال هناك اعتقاد بالخرافات واتكال على القدر.

إن نجاح الشرق يأتي عندما تتكون له شخصية واضحة يعرف من هو، وماذا يريد، وإلى أين يسير، وهنا يكون الأخذ والاختيار مبنيًّا على أساس ما يناسب هذه الشخصية وما يصلح لها ويقويها.

•••

ولم يكن فرق بين المدنية الغربية وغيرها قبل القرن السادس عشر الميلادي، فلم نكن نحس هذا الفرق عند انتشار المدنية الرومانية، إذ كانت تحكم القسطنطينية وما حولها والإسكندرية وما حولها ولم يكن يقال شرق ولا غرب، وكذلك لم يكن لهذا المعنى وجود في الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى، بل أحس كل جانب أن كل فريق متميز بدينه وبمزاياه، وربما أحس النصارى إذ ذاك بتفوق المسلمين عليهم كما أحس نصارى الأندلس وإيطاليا وفرنسا بتفوق مسلمي الأندلس عليهم؛ ولذلك كانت جامعات قرطبة مقصدًا للأوروبيين من مختلف الجهات يتعلمون فيها. فلما جاء القرن السادس عشر نهضت في أوروبا الحركات العلمية، واستخدمت طريقة المشاهدة والاختبار والشك والتجربة، ونادى بيكون وديكارت، ومن نحا نحوهما، بالطريقة الجديدة في التفكير، ووجد على أثرها اكتشافات هارفي ونيوتن وبويل، ونتج عن هذه الأبحاث العلمية والطريقة التجريبية نهضة في الصناعات. وسمعنا منذ ذلك الحين كلمة المدنية الغربية، وأكبر أساس فيها الصناعة، فإذا قيل المدنية الغربية فأول ما يصدم الذهن دلالتها على التقدم الصناعي، وهذا التقدم الصناعي أسلم إلى صنع الآلات الحربية المدمرة التي يجهلها الشرق؛ وبذلك أخضع الشرق لحكمه، ولو لم يكن هذا التقدم الصناعي، أو كان الشرق وُفق ببعض أبحاثه العلمية ورجاله العلميين إلى هذه الصناعات بعينها أو مثلها ما كانت المدنية الحديثة تدل على معنى، بل ما استُعملت كلمة الشرق والغرب، وما حَكم الغرب الشرق، وهذه النهضة التي قامت بأوروبا في القرن السادس عشر وما بعده أسلمت إلى مضاعفات جعلت الفرق بين الغرب والشرق شاسعًا، مع أن التقدم العلمي والصناعي وحده لا يخول للمدنية الحديثة هذا الفخر كله، فهو تقدم في ناحية واحدة من نواحي المدنية، وما زال هناك مجال للتقدم في نواحٍ أخرى كثيرة، كالتقدم في السلوك الخلقي وحب السلام والتعاون، وهناك شك كبير في تقدم الغرب فيها على الشرق.

وانتقلت المدنية الحديثة بعد القرن السادس عشر إلى الشرق سواء في مادياته كالراديو والتلغراف والقطار، أو في معنوياته كالأفكار والآراء، غاية الأمر أن الانتقال كان بطيئًا لما كانت المواصلات بين الشرق والغرب بطيئة، فلما أسرعت الاتصالات بواسطة الطيران والراديو ونحوهما، وزالت الحواجز التي كانت بين أجزاء العالم بعضها وبعض، أسرعت المدنية إلى الشرق وتقبلتها البلاد تقبلًا مختلفًا؛ تقبلتها اليابان مثلًا أكثر مما تقبلتها الصين، وتقبلها شمال السودان أكثر مما تقبلها جنوبه، ولعل الفارق الكبير بين انتشار المدنية في أوروبا وأمريكا وبين انتشارها في الشرق أن المخترعات الحديثة جاءت في أوروبا وأمريكا نتيجة لحوادث ذاتية حتمية، أما انتقالها إلى الشرق فكان نتيجة الاستعمار. وعلى الجملة لم يكن نتيجة لحياة اجتماعية خاصة أنتجتها، فكان الأمر كشجرتين؛ إحداهما: نمت وضخمت بسبب غذائها الداخلي وحسن تربتها وجودة بيئتها، وأما الأخرى: فقد تضخمت بسبب لصق أوراق وفروع عليها من الخارج، وشتان بين الوضعين؛ ولذلك يحس الأوروبي أو الأمريكي بأن الذي حدث من اختراع أو تقدم في الآلات الصناعية نتيجة طبيعية لحياته وظروفه، يتقبلها من غير دهش أو استغراب، أما الشرقي فيتقبلها مذهولًا مدهوشًا لأنها نبعت من غير بيئته، وكان من أثر ذلك أن التدرج في الشرق لم يخطُ الخطوات الطبيعية عكس الغرب المخترع، ففي الغرب أسلم (١) إلى (٢) و(٢) إلى (٣) وهكذا إلى (١٠) في حين أنه قد يفاجأ الشرق ﺑ (١٠) قبل أن يكون التسلسل من (١) إلى (١٠)، وربما ظهر ذلك في البيت الشرقي، فتجد فيه أشياء قد تكون آخر اختراع غربي على حين أنك تجد بجانبه شيئًا شرقيًّا من بقايا القرون الوسطى، فراديو «وفريجيدير» بجانب حصير وعباءة صوف من صنع اليد، أو جلباب حرير على آخر طراز من صنع أحدث الآلات الأوروبية بجانب بُلْغة في الرجل وهكذا، وهذا يعطينا صورة من صور الاضطراب في الحياة الشرقية وعدم الانسجام.

ومن آثار هذا تولد الشعور بالتسامي عند الأوروبيين والأمريكيين، والشعور بمركب النقص عند الشرقيين، ومن أجل هذا أيضًا عم التقليد في الشرق وكاد ينعدم الابتكار عندهم، بينما ازدهر الابتكار عند الغربيين. فيكاد الشرق ينقسم إلى قسمين قسم يقلد الآباء الأولين ومدنية العصور الوسطى في العلم والأدب ونوع التأليف ونحو ذلك، وقسم آخر حديث يتسائل دائمًا إذا عرض أمر: ماذا تفعل فيه أوروبا وأمريكا؟ فإذا عهد إليهم وضع دستور لبلادهم، تساءلوا ماذا فعلت فرنسا وإنجلترا وبلجيكا وربما أخذوا من كل دستور مادة، وإذا أراد الأديب إنشاء قصيدة قلد وادي القمر والقصر المسحور ونحو ذلك من عناوين لقصائد أوروبية. وكل هذا تقليد لا ابتكار فيه، كل ما في الأمر أن قومًا يقلدون أجدادهم القدماء، وقومًا يقلدون الغربيين المحدثين، فنحن إما عالة على هؤلاء وإما على هؤلاء. إن عقول الشرقيين في جوهرها ليست بأقل ذكاء ولمعانًا من عقول الغربيين، بدليل أن الشرقي إذا تعلم بجانب الإنجليزي أو الفرنسي لم يقل عنه في فهم ما يُلقى عليه، ونجاحه في الامتحان، ولكنه كثيرًا ما يختلف عنه في مواجهة الحياة، والابتكار في حل ما يُعرض عليه من مشاكل، والاعتماد على النفس، وهذا يدل أن الأمر أمر تربية أكثر منه أمر خلقة وطبيعة.

فالشرق إذا احتاج إلى شيء فاحتياجه أشد ما يكون إلى زعماء يغرسون فيه حب الابتكار، ويعلمونه ألا يأخذ شيئًا إلا بعد تمحيص وامتحان، ويسائل نفسه دائمًا: هل هذا حق أو غيره أحق منه، بدل أن يسائل نفسه: ماذا تصنع أوروبا فيه؟ ولا شك أنه إذا رُبي هذه التربية لم يكن أقل شأنًا من الغربي ولا أقل قدرة على الابتكار، وسيكسب العالم من ابتكاره أكثر من تقليده للغرب. ففي العالم الآن نمط واحد من التفكير واتجاه واحد إلى غاية، فإذا ابتكر الشرقي واخترع فستوحي إليه بيئته وتفكيره واختباره حتمًا منهجًا غير المنهج الأوروبي، فيخترع ما يخترع على أساس غير أساس الغربي، ويكسب العالم من المجهودين والنمطين والابتكارين.

سمعت أن دستور ليبيا الحديث جاء فيه نص: إن كل ولاية في ليبيا تستقل بالتشريع في شئونها إلا في مسائل؛ إحداها: ما يتعلق بالقنابل الذرية! كأن ليبيا تنتج فعلًا هذه القنابل. وكل ما في الأمر، على ما أعتقد، أن الليبيين نقلوا بعض مواد دستور الأمريكان من غير تنبه إلى اختلاف حالهم عنهم. كالذي شاهدت عندما كنت قاضيًا في الواحات الخارجة، خطيبًا يخطب يوم الجمعة فيدعو أهل الواحة إلى تجنب التَّصييف في باريس! وكل ما في الأمر أن الخطيب حصل على ديوان خُطب ألَّفه قاهري فقلَّده تقليدًا أعمى.

•••

والخلاصة أننا نخرج من كل هذه الآراء التي عرضناها بما يأتي:
  • (١)

    القول باختلاف الشرق والغرب بالمعنى الجغرافي لا محل له.

  • (٢)

    أنه قد يكون في الأمم أو في المدنيات التي سبقت المدنية الحديثة بعض امتيازات تعوز المدنية الحديثة وهي جديرة أن تقتبسها منها.

  • (٣)

    إن المدنية الحديثة ليست هي المثل الأعلى للمدنيات، ففيها عيوب تجعلها دون المثل الأعلى بكثير، والمثل الأعلى الذي ننشده هو مدنية إنسانية لا مدنية تسود فيها الوطنية والقومية، وتعد العالم كله كأسرة واحدة يعالج فيها المريض حتى يصح، ويأخذ بيد الصغير حتى يكبر، وتسهل فيها السبل للمتأخر حتى يلحق المتقدم.

  • (٤)

    خير للشرق وللعالم أن يبدأ الشرق نهضته الجديدة بشخصيته الجديدة ليقدم للعالم نوعًا من الحضارة هو في أشد الاحتياج إليها. حضارة يحل فيها السلام محل الحروب والتعاون محل الكفاح والتفاهم محل القهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤