خاتمة

هناك قصة هندية تروى؛ أن ثلاثة رجال كانوا يفخرون بعلمهم وثقافاتهم، قرروا أن يرحلوا إلى بلاد بعيدة ليستفيدوا من شهاداتهم وعلمهم، وفيما هم سائرون وجدوا عظامًا متناثرة لأسد ميت. قال أحدهم: أنا أعرف كيف أضم هذه العظام بعضها إلى بعض، وقال الثاني: وأنا أستطيع أن أكسوها بالجلد واللحم، وقال الثالث: وأنا سأجعله يتنفس. وقام الأول فنفذ ما وعد به، ثم الثاني: وما أن نجح الثالث في أن يجعل الأسد يتنفس حتى قام الأسد وأكلهم جميعًا.

ترمز هذه القصة إلى الحضارة الأوروبية وزهو الأوروبيين بعلمهم، وكيف أنهم قاربوا نهايتهم بسبب غرورهم وسوء تصرفهم، حتى انقلب علمهم وانقلبت صناعاتهم وبالًا عليهم.

وتعجبني حكاية صينية قديمة، عن بستاني كان يسقي بستانه بإناء يملؤه مرارًا ويسقي به زرعه، فرآه رجل آخر وقال له: لماذا تتعب نفسك هذا التعب؟ ما عليك إلا أن تحفر قناة أو قناتين، أو تقيم شادوفًا تسقي به البستان. فأبى البستاني وقال: إني أحب أن أرى يداي تسقي كل زهرة من أزهار بستاني، وإذا أنا استخدمت الآلة للسقي جف قلبي وصار آلة مثلها.

قصتان تحذران من غرور العلم ومن الآلة، وقد رأينا بالفعل ما وصلت إليه أوروبا من غرور وتحجر قلب، حتى قامت فأحرقت نفسها ودمرت ما بنته بحربين لم يشهد العالم مثيلهما، وعاشت بعد الحربين في خوف دائم ونشرت الرعب في العالم كله.

إنني أرى أن العلم والصناعة ليسا سبب بلاء الحضارة الأوروبية، وأن الذي أهلك أوروبا إنما هو جشعها وطمعها وتجردها من العواطف الإنسانية، حتى إنهم لم يستخدموا العلم والصناعة إلا في استعمار الدول الأخرى وكبت حرياتهم وسرقة ثرواتها.

figure
المصانع … عماد مدنية الغرب.

ولم يكن هذا أمرًا طبيعيًّا حتى يدوم، ففي الشرق حدث أن ثارت الشعوب ضد الاستعمار، ومدتهم هذه الثورة بأسباب الكفاح: نشاطًا بعد خمول، وقوة بعد ضعف، وأملًا بعد يأس.

وحدث عكس هذا في الغرب، فقد تنافست الدول في أيها يفوز بالمستعمرات، وأدى بها التنافس والطمع إلى حروب أتت على قوتها ونشاطها، وساعدت هذه الحروب لشرق على أن يستمر في كفاحه ضد هذه الدول المتحاربة، وباستمرار هذا الكفاح نال الشرق قوة وحيوية لم يعهدا فيه منذ أجيال طويلة.

وهكذا رأينا حضارة جديدة تقوم في الشرق، حضارة مبنية على العلم والصناعة كحضارة الغرب، وكل أملنا أن تظل حية قوية دون أن تصيبها تلك الأمراض التي أصابتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤