الفصل الحادي عشر

مادية الغرب وروحانية الشرق

اعتاد الكاتبون أن يصفوا الشرق بالروحانية، والغرب بالمادية. حتى قال فنلبند في كتابه «تاريخ الفلسفة» إنه قد التقت في الإسكندرية أيام أينعت فلسفتها، مادية الغرب بروحانية الشرق، وجرى على أثره كثيرون، وقد طعن — أخيرًا — في هذا المعنى بعض الكُتاب، إذ قالوا إن الغرب يفوق الشرق أيضًا في الروحانيات كما يفوقه في الماديات فنجد أن عواطفه أرق، وأن عنايته بالمستشفيات والملاجئ وتنظيم الإحسان أرقى. فإن أردنا بالروحانيات الخرافات والأوهام كتحضير الجن والسحر فالغرب فيها حقًّا خير من الشرق، وإن أريد بالروحانيات رقي العواطف وأعمال البر والإحسان فذلك في الغرب خير منه في الشرق أيضًا، وبناء على ذلك يكون الغرب أرقى في الماديات والروحانيات جميعًا.

ولكن يظهر لنا أن للمسألة وجهًا آخر غير الذي ذهب إليه هؤلاء الكُتاب، وهو أن الناحية الروحانية غير الناحية العقلية، وغير الناحية العاطفية، ويتجلى ذلك في الشرق في أمور:
  • الأول: أن الشرق منبع الديانات الكبرى، فاليهودية والنصرانية والإسلام وهي الثلاثة أديان الكبرى في العالم، بل ومذاهب بوذا وكنفوشيوس وزرادشت، كلها نبعت في الشرق، وانتقلت منه إلى الغرب، وقد كانت ولا تزال في الشرق أعظم منها في الغرب، ولا شك أن هذه الأديان كلها تبعث في النفس روحانية على نحو غير ما يُقصد بالناحية العقلية والعاطفية منها.

    ومن خصائص هذه الروحانية مزجها الطبيعة بما فوق الطبيعة، والاعتقاد بأن الله سبحانه سبب كل ما يحدث في العالم من خير أو شر. وتقرأ الكتب الثلاثة السماوية من توراة وإنجيل وقرآن، فتراها تكرر أن كل ما في العالم من صنع الله، وهو المدبر له والمنظم لشئونه حتى أدق الأشياء «وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين» وهو الذي يرسل السحاب، وينزل الغيث ويخالف بين الألوان والألسنة، وهو الذي يقدر سعادة الإنسان وشقاءه … إلخ إلخ.

    وعلى الجملة فإن هذه الكتب وما جرى على منوالها لها تعاليم ومنهج غير التعاليم والمناهج التي تجدها في الكتب الغربية الحديثة. وقد أدرك أبو هندو في القرون الوسطى ذلك فألف كتابًا في الفرق بين أساليب القرآن وأساليب اليونان.

    ولا شك أن هذه المناهج المختلفة بين أساليب الكتب المقدسة وأساليب الكتب الغربية لها أثرها المختلف في الشرق والغرب، ولسنا ننكر أن في الغرب روحانيين مشهورين مثل سبينوزا، ومثل ما سمعت به من جمعيات صوفية في جنيف كان يرأسها المرحوم عنايت الله، وكانت تضم متصوفين من كل الأجناس.

    وأنا أعتقد أن في كل إنسان قبسًا من هذه الروحانية يختلف كبرًا وصغرًا، شأن الناس في ذلك شأنهم في الحب.

    والروحاني قادر على الاتصال بالروح الأبدية والسمو إليها وإدراك كنهها، وهو دائمًا يقول: إنه إذا وصل إلى ذلك رأى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والروحاني من هذا القبيل يرى أنه يصل إلى هذا الحد بقلبه لا بعقله، ويرى أن إدراك ذلك بالقلب أقوى من إدراكه بالعقل. وقد حكوا عن أفلوطين أنه وصل إلى هذه الدرجة في حياته مرة واحدة. وحكي عن غيره أنه أدرك هذه الدرجة مرارًا حتى أصبحت طوع يده، كما حكى ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان».

  • الثاني: أنه كان من أثر انتشار الأديان والتعمق فيها أن قيست أمور الحياة بمقياس غير مادي، فالعمل في الغرب يقاس بنفعه أو ضرره فقط، أما في الشرق فإنه يقاس أيضًا بمقياس حلِّيته وحرمته، برضى الله عنه أو عدم رضاه، وقد بلغ هذا النظر بالغرب إلى حد أن نشأ مذهب كبير يرى قياس الأمور خيرها وشرها بمقياس اللذة والألم. من أجل هذا كان ترتيب الفضائل في الشرق غيره في الغرب، فالمروءة والسماحة والنبل والطاعة من أكبر الفضائل في الشرق، بينما يعد من أكبر الفضائل في الغرب حفظ الميعاد والاقتصاد والصدق في المعاملة.
  • الثالث: أن الناس في الشرق عادة — وهذا من أثر الأديان أيضًا — يقدرون في أعمالهم وغاياتهم في أعمالهم الحياة الأخرى كما يقدرون الحياة الدنيا، فحسبوا حساب ما ينالهم من الجزاء الأخروي بجانب الجزاء الدنيوي، وأضافوا في أعمارهم الآخرة إلى الدنيا، ولا شك أن هذا نوع من الروحانية. أما الغربيون فالدنيا وحدها هي التي تدخل في حسابهم.

    إن الشرقيين يبنون حياتهم على الاعتقاد بأن هناك عالمًا آخر هو المسمى بعالم الغيب، فيه الجنة والنار، وفيه الملائكة والجن، وفيه المعجزات … إلخ وكلها أمور روحانية لا مادية يحار فيها العلم.

    نعم، إننا لا ننكر أن بين الغربيين من يبني حسابه على جنة ونار، وعلى دنيا وآخرة، ولكنهم ليسوا كالشرقيين في ذلك وحتى هذا القدر كان نتيجة للاعتقادات الدينية التي انتقلت من الشرق إلى الغرب.

  • الرابع: أن من مظاهر الحياة الروحانية في الشرق الاعتقاد بالقضاء والقدر والحظ وكرامات الأولياء ونحو ذلك، ليس له نظير في الغرب.
  • الخامس: ما يظهر في أعمال الغربيين عادة من إمعان في حساب الربح، فإن رجحت كفة الفوائد بعد حساب النفقات أقدموا على العمل وإلا فلا، ولا نظر عندهم إلى خير الإنسانية أو ضررها.

    فالمصانع الكبيرة لإنتاج الآلات الحربية من مدافع وطيارات وغواصات وأمثالها تقوم على مقدار ما تنتجه من الربح، ولو أهلكت الملايين من الناس، والنظر الروحاني في هذه الأعمال يختلف كل الاختلاف عن هذا النظر المادي، فهو لا يبيح إنشاء مصانع لآلات القتال لأنها تبيد الإنسانية وإن أربحت مالًا وفيرًا. وقد كان غاندي في بعض مواقفه يتحدى بروحانيته العالم المادي كله بقنابله وأساطيله وطياراته وغواصاته وكثيرًا ما كان ينجح، وهو الرجل الضعيف الأعزل الذي يعيش على لبن ماعز.

وكثيرًا ما نعى المصلحون على أوروبا إفراطها في المادية، وعبروا عن ذلك بقولهم: «إن الغرب قد اختل توازنه، فنما عمله، ونمت صناعاته، ونما علمه، ونمت كل مرافق الحياة، ولكنه لم ينمُ قلبه»، وهذا التعبير يساوي ما قلناه من قبل في الحياة الروحانية والمادية.

نعم، إن الروحانية في الشرق بولغ فيها، كما بولغ في مادية الغرب، فاعتراها كثير من الخرافات والأوهام من تدجيل وتخريف، واعتقاد شديد في الأرواح، وغير ذلك من الأوهام، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في الناحية التي تشيع فيها الروحانية كالتصوف. فكم مُني التصوف بالدجالين؛ لأن التصوف مبني على الذوق لا على العلم والعقل، وإذا بني على الذوق أمكن أن تقوم فيه الادعاءات الكاذبة والأقوال الفاسدة.

ومن النتائج السيئة لهذه الروحانية المفرطة الكسل والقعود عن العمل والضعف وعدم الأخذ بأسباب القوة، مما جعل حياة الناس في عزلة، يعيش أكثرهم عالة على بعضهم، والحق أن هناك روحانية صادقة تدعو إلى العمل لا إلى الكسل وتؤمن بالقدر، بقدر.

ويظهر أن هذه التفرقة بين مادية الغرب وروحانية الشرق تفرقة عميقة في ثنايا التاريخ، فهم يحدثوننا أن فلسفة الهند من قديم الزمان كانت متجهة إلى تحليل النفس الداخلية وتأملاتها، وتعدَّوا في ذلك منطقة الحواس ووُفقوا في اكتشاف أشياء كثيرة. أما اليونانيون فكان اهتمامهم موجهًا إلى معرفة قوانين العالم الخارجية، وتحديد مقام الإنسان في العالم الخارجي، فكانت نزعتهم خارجية في حين كانت نزعة الهند داخلية. أما الصينيون فلم يهتموا بطبع الإنسان الداخلي ولا بالطبيعة الخارجية، بل اهتموا بعلاقة الإنسان مع الإنسان، وانبنى على ذلك اختلاف في الفلسفات؛ فالفلسفة اليونانية منذ القدم اهتمت بعمل الإنسان الخارجي أكثر من اهتمامها بالإنسان نفسه، نعم إن بعض فلاسفة اليونان الأقدمين رأوا الإنسان جوهرًا روحانيًّا ولكن أرسطو حوَّل الفلسفة إلى الاهتمام بأعمال الإنسان في الحياة، وتأثرت الفلسفة اليونانية بقوله: «إن الإنسان حيوان عاقل.» وإذ كان الأوروبيون وارثي الفلسفة اليونانية قد تأثروا بها وجروا في طريقها، وقد بالغ الأوروبيون في القرن السابع عشر في الدعوة إلى قهر الطبيعة والتغلب عليها. فالفلسفة الغربية تدعو إلى الكفاح ضد الطبيعة، والفلسفة الشرقية تدعو إلى مصادقة الطبيعة.

وبهرت الانتصارات العلمية العقل الغربي فزاد الغربيون في طريقتهم تحمسًا، وبالغوا في اعتناق قول أرسطو أن الإنسان حيوان عاقل، فذهب دارون إلى أن الإنسان إنما تسلسل من الحيوانات، وقال ماركس إن عقلية الإنسان من نتاج محيطه الحيواني. وجاء فرويد في القرن العشرين فقال إن الإنسان لم يتسلسل من الحيوان فقط، بل لا تزال عقليته تحافظ إلى اليوم على بقايا أصله الحيواني.

كل هذا بينما الفلسفة الشرقية وخصوصًا الهندية تلح في القول بروحانية الإنسان. وجر التفكير النفسي إلى التصوف؛ فقال المتصوفون إننا لا يمكننا أن نفهم الإنسان إذا قلنا إنه مادة فقط. وغلا بعض الصوفية في ذلك فقالوا بوحدة الوجود، وبأن جميع الأشياء مظهر لوجود الله، وقالوا إن الله خلق آدم على صورته، وشبه الصوفية الإنسان بموجة من أمواج البحر الذي لا نهاية له، وذلك البحر هو الله، وهو شعاع من الشمس، وتلك الشمس هي الله. والإنسان لا يرى ذاته إلا إذا جردها من شهواتها وقد ساعد الدين من يهودية ونصرانية وإسلامية على تقوية هذه النظرة، من ذلك مثلًا ما جاء في التوراة من أن الله خلق الإنسان على صورته.

وقد أثر التصوف في موقف المسيحية، فدعت إلى كبت النزعات المادية، والإسلام نفسه عظم من شأن الإنسان، وجعل الإنسان خليفة الله في الأرض، وفكرة خلافة الإنسان لله أثرت تأثيرًا عميقًا في الفلاسفة المسلمين، إذ قرروا أن هناك علاقة مباشرة بين الإنسان والله، وأن الإنسان فوق جميع الخلق، واستندوا إلى ما جاء في القرآن وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بأرسطو ولكنهم لم ينسوا ما جاء به الإسلام من نظرية خلافة الإنسان لله، والعلماء المسلمون كالغزالي والرازي والراغب والأصفهاني قد زادوا في النظرية القائلة بأن الإنسان يشترك مع الله في صفاته.

والقول بوحدة الإنسان والله، أو بعبارة أخرى بوحدة الوجود، جعلت المجتمع الإنساني الإسلامي أقل مبالاة بالمصائب التي تحل بالناس، إذ إن الإنسان فيض إلهي، فكل ما يفعله الإنسان هو في النهاية فعل الله، وكل ما يقع يقع بإرادة الله، والإنسان ليس إلا ريشة في مهب الرياح؛ ولذلك كثيرًا ما نجد في الحياة الاجتماعية الشرقية عدم الاهتمام بالكسب والسعي إلى الرزق، حتى ولا بإزالة أسباب الأمراض.

أما الفلسفة في الغرب فسيطر عليها القول بالعلة والمعلول، والنتيجة أنه بينما كان الشرقي يهتم بحياته الفردية، ويتخذ الوسائل لخلاص نفسه، اهتم الغربي برفاهية المجتمع المحيط به، وبينما جعل الغربي العلم وسيلة إلى رفاهيته جعله الشرقي غاية.

والخلاصة أن الشرقي يرى أن الإنسان فيض إلهي يشترك مع الله في صفاته، وقد سخر الخلق كله له، أما الغربي فيرى أن الإنسان حيوان يكافح العالم الخارجي، والشرقي يقول بالكيان الروحاني والغربي يقول بالتقدم الإنساني.

•••

فإن نحن نقدنا المادية في جفافها، وقصرها حسابها على الظاهر دون الباطن وعلى الربح دون خير الإنسانية؛ فإننا ننقد الروحانية في أنها سمحت للأفكار الضالة أن تتسمى باسمها وتعيش بجانبها، وإذا نحن تمنينا شيئًا في هذا الموضوع؛ فإنَّا نتمنى أن تطعم روحانية الشرق بالمادية العاقلة التي تدعو إلى القوة واستخدام العلم في مرافق الحياة، كما نتمنى أن تطعم مادية الغرب بشيء من الروحانية الصادقة، لا دجل فيها ولا أوهام ولا خرافات.

إنه إذا حصل ما نتمنى أضفنا إلى روحانية الشرق يدًا عاملة وقوة حاسمة، وإلى مادية الغرب قلبًا نابضًا وشعورًا فياضًا، ولكن أنى لنا ذلك والمطلب عسير، وتحقيقه يحتاج إلى شعوب قد عرفت المادية والروحانية ثم صممت أن تسير في الطريق الذي تجمعت فيه مزايا الاثنتين وخلا من عيوبهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤