الفصل الثاني عشر

موقف الشرق من الغرب

جاء القرن الثامن عشر والشرق متميز عن الغرب كل التميز في شئونه الاجتماعية والاقتصادية، فلو أراد مؤرخ أن يصف الفروق بين الشرق والغرب وقتئذ أمكنه أن يميز بينهما كل التمييز، لا كما هي الحال اليوم.

ثم حدث أن نهض الغرب نهضته وثار ثورته الصناعية، فأنتج نتاجًا كبيرًا، ورأى أن أسواقه وحدها لا تكفي في توزيع سلعه فاتجه نحو الشرق وغزاه، وكان الشرق ضعيفًا في جيشه وفي حياته الاجتماعية وفي حياته الاقتصادية، يعيش عيشة بدائية فانكسر أمام الغرب، وظلت بلاده تسقط في يد الغربيين واحدة إثر واحدة.

وعن هذا الطريق دخلت المدنية الغربية، وكان أمام دخولها طريقان؛ الأول: أن تدخل بالسيف والنار والقوة العسكرية، وتحطيم القوى الشرقية، واكتساح كل ما يعارضها لا كغاية بذاته وإنما مقترنًا بالاستعمار والسيطرة الاقتصادية والسياسية، والثاني: أن تدخل المدنية الغربية بالتفاهم والإرشاد الهادئ، ومعاملة الأخ الكبير للأخ الصغير والولي العادل للقاصر. ولكن مع الأسف كان دخول المدنية الغربية بالطريقة الأولى فاستُقبلت لا بالترحيب والتهليل ولكن بالهلع والفزع.

وقد وضع المستعمرون الغربيون للمستعمرين الشرقيين قواعد تستنبط من أعمالهم:
  • (١)

    أن ما كان في مصلحة المستعمر عُمل.

  • (٢)

    أن ما كان في مصلحة المستعمَر وفيه ضرر على استغلال المستعمِر لم يُعمل.

  • (٣)

    أن ما كان فيه منفعة للطرفين قد يُعمل وقد لا يُعمل. وعلى هذا الأساس شجع المستعمرون مثلًا تنمية الزراعة ووسائلها، فنظموا الري تنظيمًا حسنًا؛ لأن بلاد المستعمرين غير زراعية بل صناعية، وفي تنمية الزراعة في البلاد الشرقية زيادة الغلة، وإذا زادت الغلة انتفع الغرب أضعاف انتفاع الشرق بها.

ومن أمثلة ذلك مد السكك الحديدية في البلاد الشرقية ما أمكن؛ لأن في مدها فتح أسواق جديدة للمستعمر. ومن أمثلة ذلك أيضًا عدم تشجيع الصناعة لأن هذا يضر الصناعة الأوروبية، فخير أن تبقى البلاد الشرقية بلادًا زراعية. ثم يشجعون التعليم بقدر ما يوجِد التعليم موظفين صالحين للسير بالإدارة الحكومية لا أكثر؛ ولذلك شجع اللورد كرومر إنشاء الكتاتيب وحارب إنشاء الجامعة في مصر.

فإذا تم الفتح تسلطت الدولة المستعمرة الفاتحة واستخدمت كل قوتها في كبح بوادر النهوض، وتخويف الرعية والفتك بها، وإذلال أهلها بشتى الوسائل.

هكذا كان الاستعمار في أول العهد به.

ثم خفَّت قوته بعض الشيء، وحل محل التبجح بالقوة نظرية مسئولية الرجل الأبيض؛ أي إن الرجل الأبيض مسئول عن المدنية وعن تقدمها وواجب عليه أن يأخذ بيد المتخلف كالشرقيين.

وعلى هذا الأساس قامت فكرة الانتداب؛ أي إن دولة غربية متقدمة تُنتدب لإصلاح أمة متخلفة وهو اسم جديد للاستعمار.

على كل حال دخلت المدنية الغربية البلاد الشرقية في عنف، وأخذ الغرب يفرض مدنيته، فمد السكك الحديدية ونظم البريد ونظمت الحكومات تنظيمًا غربيًّا وأسست الطباعة والصحف والمجلات إلخ، ولكن يجب أن يلاحظ أن أكثر البلاد الشرقية كانت ربيبة حضارات قديمة كمصر والصين والهند، فكان لها استعداد لقبول الحضارة الغربية لا عاجزة عن ذلك بطبعها كسكان بعض البلاد المتأخرة، فحدث أن امتزجت الحضارة الغربية ببقايا الحضارات الشرقية امتزاجًا غريبًا جعل الحياة الشرقية معقدة كل التعقد، حتى لا تكاد تجد شيئًا شرقيًّا بحتًا ولا غربيًّا بحتًا.

ونلاحظ أمرين؛ الأول: أن اقتباس الماديات من الغرب كان أقوى وأكثر من اقتباس المعنويات.

والثاني: أن كل طبقة اقتبست بقدر استعدادها، فاقتباس أهل المدن كان أقوى من اقتباس أهل القرى، واقتباس المثقفين أقوى من غير المثقفين، واقتباس الطبقة الأرستقراطية أقوى من اقتباس عامة الشعب.

وكلما جاء جيل اقتبس من المدنية الغربية أكثر من آبائه؛ ولذلك اتسع مجال الخلاف بين الأبناء والآباء وسبَّب ذلك اضطرابًا وحيرة واصطدامًا بين الجديد والقديم والمحافظين والأحرار.

•••

تُرى ما الذي كان يصير إليه الشرق لو لم يفتحه الغرب؟ أكان يتطور تطورًا طبيعيًّا ولو بطيئًا أو كان يبقى خاملًا مريضًا حتى يموت؟ مهما كان الجواب فإن الغرب قد هز الشرق هزًّا عنيفًا، وأيقظه من نومه وفتح عينيه وحثه على الجد والعمل، شاء الغربي ذلك أو لم يشأ. فلما استيقظ الشرق أخذ يتلقى عن الغرب دروسًا كثيرة، درسًا بعد درس، وإن كان بعض هذه الدروس شديدًا قاسيًا. ومن حسن حظ الشرق أنه كان على استعداد لتلقي هذه الدروس وأن له من الذكاء ما جعله يفهمها، وكان من ضمن هذه الدروس المطالبة بالحرية والاستقلال؛ لأنه تعلم أن في المدنية الغربية شيئًا كثيرًا من ذلك. فلما طلب الشرق الحرية وفقًا للدرس الذي علَّمه إياه الغرب، أبى عليه الغرب ذلك وتجهم له وعبس في وجهه، وكان شأن الغرب في ذلك شأن المحامي الكبير الذي يعلِّم محاميًا ناشئًا، فإذا أتى المحامي الناشئ يترافع حسب ما علَّمه أستاذه أبى عليه الأستاذ ذلك. وأخذ الشرق يكِن البغض للغرب، وقابل الغرب البُغض بالبغض حتى فاض الشرق بذلك وتحول بغضه إلى عمل. وتنعكس هذه الصورة في تاريخ زعماء الشرق، فدعاة الإصلاح الأولون أمثال خير الدين التونسي في تونس ومدحت باشا في الأستانة والشيخ محمد عبده في مصر، كانوا مسالمين يدعون قومهم في هدوء وسكينة أن يسالموا الغرب ويأخذون منه خير ما عنده، كما كتب خير الدين ذلك في كتابه «أقوم المسالك» وكما كتب مدحت باشا ذلك في مذكراته، وكما كتب الشيخ محمد عبده ذلك في كثير من مقالاته، فلما ظهر العداء في الشعوب رأينا زعماء الشرق يناهضون الغرب، ويشهرون بأعماله، ويبدون له الخصومة، وظهر أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومن بعدهم يدعون الشعب للكفاح ضد المستعمر، وأصبحت كل الطبقات على اختلافها تكره المستعمرين وإن اختلفت أسباب هذا الكره؛ الملوك والأمراء يكرهون المستعمرين لأنهم سلبوهم سلطتهم، والأغنياء يكرهونهم لأنهم على دين ملوكهم، والفلاحون يكرهونهم لأنهم من غير دينهم، وحتى الذين ذاقوا ظلم العثمانيين وعسفهم، نسوا ذلك وأصبحوا يضمرون الضغن، وزاد في الضغن ما كان يظهر من الأجنبي المستعمر من غطرسة واستكبار وشموخ بالأنف، وشعور الشرقيين بأن هؤلاء الأجانب ليسوا من أهلهم ولا دينهم ولا يتكلمون لغتهم. وزاد في ذلك أن بعض أمم الغرب كانت تبعث بممثلين لها لا يتصفون بشيء من العدل ولا من الرحمة فكرَّهوا الشعوب فيهم وفي أممهم.

يضاف إلى ذلك أن الشعوب الشرقية كانت أول الأمر تعتقد أن القدر ابتلاهم بالغرب ابتلاءًا دائمًا، وأن الأمل في إخراجهم ضعيف لأنه ليس عندهم من القوة العسكرية ما عند الغربيين، فماذا يعملون إزاء الدبابات والغواصات والطيارات والجيوش المسلحة بأنواع الأسلحة المختلفة؟ ثم فهموا أن القوة العسكرية ليست كل شيء، فهناك قوى أخرى تزلزل قدم العدو، من مقاطعة البضائع وعدم تعاون واتحاد كلمة ونحو ذلك. وزادهم إيمانًا بذلك أنهم رأوا أن هذه الطرق جُربت فنجحت كما حصل في الهند، إذ كان غاندي الضعيف الذي لا يملك إلا مغزله ولا يأكل إلا لبن عنزه، أقوى من كل الجيوش والأساطيل الإنجليزية. فكثر أملهم في الخلاص، ثم حدثت حوادث قوَّت أمل الشرق، كاختلاف البلاد الغربية بعضها مع بعض، إذا كان الاختلاف بين فرنسا وإنجلترا مثلًا سببًا في استقلال لبنان وسوريا، وجاهر بعض المصلحين كولسن وروزفلت بتعاليم من مقتضاها حق كل أمة في تقرير مصيرها، فألهب ذلك حماسة الشرقيين.

وأخيرًا لم يبقَ حجر عثرة إلا حفنة من زعماء الغرب وقادة السياسة فيه، جمدوا على آرائهم وأبوا أن يسايروا الزمان، ولا بد أن يأتي يوم يفهمون هذه الحقيقة، أو لا يفهمونها فيحل محلهم من يفهمها فيتكشف الأمر عن استرداد الشرق حقوقه وإذ ذاك يسير مع الركب.

•••

بجانب فتح الغرب للشرق سياسيًّا فتحه له اقتصاديًّا، بل قل إن الفتح الاقتصادي كان داعيًا للفتح السياسي؛ فإن الثورة الصناعية في أوروبا كانت ثورة كبيرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، والتاريخ يدلنا على أن التقدم الصناعي كان بطيئًا جدًّا إذا لاحظت تاريخ الصناعة من أقدم العهود إلى ما قبل الثورة. فلما جاءت الثورة طفر التقدم، فالمركبات والسفن مثلًا كانت تعتمد قبل القرن التاسع عشر على الريح والعضلات كما كانت منذ أقدم العصور، فلما جاء القرن التاسع عشر أخضعت الطبيعة لأمر الإنسان، وعرف البخار والكهرباء واللاسلكي والبترول فطفرت الصناعة، وأخذت المنتجات الصناعية تتدفق مما أكسب أوروبا ثروة كبيرة، وغزت هذه المواد كل بقاع العالم. وكان الشرق يعيش على الزراعة وحدها تقريبًا، ولم يكن يحسن من الصناعة إلا بعض الكماليات التي لا تصلح إلا للطبقة الأرستقراطية، وكانت هذه الكماليات تعتمد على الأيدي، ولا يمكن أن تزاحم منتجات الآلات في رخصها، أضف إلى ذلك الكفاية العقلية والخلقية واليدوية، فقد كانت كلها ضعيفة بين العمال. ثم إن تقدم الصناعة يحتاج إلى رءوس أموال كبيرة والشرقي إذ ذاك لم تكن عنده الجرأة في تسخير ماله للصناعة، فهو لا يتصور المال إلا للكنز، وإذ ذاك كثرت الكنوز في الأرض وفي حيطان المنزل، وفي السواقي وكثرت الحكايات في العثور على الكنوز، فإن أنفق المال، فإنما ينفق في الإفراط في الشهوات وأنواع الترف.

ونتيجة ذلك كله فقد الشرق القدرة الاقتصادية، ولم يستطع أن يقف أمام تيار الغرب، فتدفقت السلع الغربية وانهزمت السلع الشرقية، هذا إلى أنه لما استعمِر الشرق شجع المستعمرون السياسيون المصنوعات الأوروبية وخذلوا الصناعة الشرقية بكل الوسائل، وكان جمهور الشرق فقيرًا ففضل السلع الأوروبية لرخصها إذ لا يهمه غير ذلك.

وانهارت الصناعات الشرقية كانهيار «براذع» الحمير أمام السيارات، وبدأ الشرقي يشعر بعد ذلك بوجوب إنشاء مصانع يجاري فيها الغرب، ولكن عبئًا ثقيلًا كان يثقل صدر الشرق وهو أن سياسة الغرب انحصرت في تأخير تصنيع الشرق أطول وقت ممكن.

وإذا كانت سيطرة الغرب على الشرق لم تعد بالوضوح الذي كان قبلًا فإن سيطرته الخفية قد غدت أشد خطرًا. فإنه إذا كان الشرقي العادي يستنكر وجود جيش أجنبي في أرضه، أو سياسيين أجانب على رأس حكومته؛ فإنه لا يدرك بسهولة مدى الخطر الذي يصيبه ويصيب شعبه من سيطرة الأجنبي على موارده واقتصاده، ومن هنا يبدو خطر هذا الخفاء.

•••

وقد نتج عن هذين الفتحين السياسي والصناعي تغير كبير في العادات والتقاليد ونظم الحكم والإدارة، ولم يكن هذا التغير كله أوروبيًّا، فإن الشرقيين قبسوا كما قلنا قبسة من الغرب وقبسوا قبسة من حضارتهم القديمة.

والمستشرقون الذين كتبوا عن الشرق دُهشوا لما عادوا بعد غيبة طويلة فرأوا تغييرًا كبيرًا وأوضاعًا جديدة لم يكونوا قد رأوها، حتى الآراء العقلية نفسها حصل فيها مثل هذا التغير ومثل هذه الاقتباسات، فأفكار حرة بجانب أفكار محافظة، والمرأة تطالب بأن تنتخِب وتُنتخَب … إلخ.

وعلى الجملة فإنا نرى أن الفتح السياسي والاقتصادي جعل الشرق يسير سير الغرب شيئًا فشيئًا، ويبتعد عن حضاراته القديمة شيئًا فشيئًا، ومنطق الناس، حتى المفكرين منهم، هو أن يتساءلوا دائمًا في كل ما يُعرض لهم: ماذا يفعل الغرب في هذا الموضوع، في السياسة وفي العلم وفي القانون وفي الاقتصاد وفي غير ذلك؟

وهذا منهج غير سليم، والمنهج الصحيح أن يضع المصلح إحدى عينيه على الغرب لينظر ماذا فعل، وعينه الأخرى على الشرق لينظر ماذا يصلح له، كما فعل مدحت باشا وخير الدين التونسي وأمثالهما، ومن حسن الحظ أن أكثر بلاد الشرق من هند وصين ويابان وبلاد عربية وإسلامية كلها مستعدة لقبول المدنية الحديثة. فالهند والصين مثلًا لهما حضارات قديمة وقد تقبلا المدنية الغربية وأفسحا لها صدرهما إلى أبعد حد، واليابان أصبحت وكأنها غربية، في الصناعات وفي العلم وفي السياسة، والعرب برهنوا في كثير من مواقفهم على أنهم على استعداد لقبول المدنية الجديدة والاستفادة منها بقدر الإمكان. وقديمًا استطاعوا أن يقتبسوا حضارة الفرس والروم واليونان ويأخذوا خير ما فيها؛ حتى أصبحت بغداد مسرحًا للحضارة المقتبسة من كل الحضارات.

على أن بعض الأوروبيين يرى أن الشرق لا يستطيع أن يتقبل مدنية الغرب، كالذي قاله اللورد كرومر عن مصر في كثير من تقاريره، وكالذي قاله شيخ من نزلاء الإنجليز في القدس: إن المسلمين ليس لهم حضارة باقية، وكل ما لهم الآن بقايا ممزقة وآثار بالية. ويقول أحد الفرنسيين: ليس في الحضارة العربية اليوم حياة؛ فإنها قد تحجرت في قرطبة، وعقمت ولم تعد تنتج شيئًا منذ خمسة قرون، وليس لمفكري العرب رغبة في إصلاح معين وهم الآن متهالكون على الآراء الغربية تهالكهم على البضائع الأوروبية، ويقول: إن للعرب مزايا عالية، ولكنها مظاهر خداعة، فأنت إذا تعاملت مع عربي شريف قدَّم لك القهوة ووضع جميع ممتلكاته تحت تصرفاتك، ولكنك تعجب لما فيه من عدم الاعتماد على النفس، وصفة التواكل التي ملكت عليه نفسه، وعجزه عن العزم وعن البدء بالعمل، وعدم تحديد غاية ينشدها، وعدم قدرته على الصبر والمثابرة.

فكل هذه الأقوال وأمثالها لا تمثل الواقع في نظري، وإنما بعث عليها الرغبة في بقاء الاستعمار والتشهير بالمستعمرين حتى يكون الاستعمار مقبولًا. والدليل على مرونة الشرقيين واستعدادهم لقبول المدنية الغربية تاريخهم في الخمسين سنة الأخيرة، كيف نهضوا وتغيروا وساروا في الطريق الصحيح، وهو من غير شك بدء يبشر بالخير، ولو كان الشرقيون كما يرى هؤلاء المستعمرون لرأينا الشرق جامدًا في مكانه، ولرأينا حاله اليوم كحاله منذ خمسين سنة.

غاية الأمر أن سرعة تقدم الشرق في مضمار الحضارة متوقفة على أمرين؛ أمر داخلي: هو إزالة ما في نفوسهم من مركب النقص واعتقادهم أنهم ناس كالغربيين، لا يقلون عنهم ميزة، ولا يقلون عنهم ذكاء، وأنهم يستطيعون أن يبلغوا أكثر مما بلغوا. وأمر خارجي: هو تعديل الغرب نظرته إليهم ومساعدته لهم من غير أن يستغلهم.

إن الشرق وخصوصًا العالم الإسلامي عاش قرونًا طويلة ينتج الأدب أكثر مما ينتج العلم، فنرى شعرًا كثيرًا، وأدبًا كثيرًا وعلمًا قليلًا، والنهضة الحديثة مبنية على العلم أكثر منها على الأدب، والعلم يطبع أهله بطابع الدقة والمنطق، والشرق فيه كنوز كثيرة مدفونة قابلة للاستغلال من بترول وذهب وفسفور وغير ذلك، وإذ كان الغربيون أعلم منا، أمكنهم أن يستغلوها من قديم، ويستفيدوا منها أكبر فائدة، بينما نحن أحق بها، إذ هي في ملكنا وتحت أعيننا، ولا ينقصنا إلا تقدمنا في العلم.

إن مشكلة الشرق خلقية وعقلية قبل أن تكون اجتماعية اقتصادية. فأخلاقهم ينقصها الحزم والصراحة، كما ينقصهم وجود زعماء نابغين حقًّا، وتسألني: على من تقع تبعة تأخر الشرق؟ أعلى الشرق نفسه أم على الغرب؟ والحق أنها تقع عليهما جميعًا، أما على الشرق فلجموده وخموله وتواكله وإمعانه في التقليد، وعدم إقباله على الابتكار، وسوء تربية بنيه. وأما على الغرب فلأنه استبد بالشرق واستغله، وسلبه حريته وراعى فيه مصلحته هو لا مصلحة الشرق نفسه. ومهما ذكرنا للشرق من عيوب وأبنَّا من عوائق؛ فإنه رغم عيوبه ورغم العوائق التي تعترضه قد تطور إلى خير مما كان، وهو بسبيله للتطور إلى ما هو خير من حاله الآن.

•••

ولكن مما يؤسف له أن هذا التطور صحبه كثير من الحيرة والاضطراب؛ وترجع هذه الحيرة إلى أمور أهمها:
  • (١)

    اضطرابه بين القديم والجديد، أيهما خير؟ ويكثر هذا الاضطراب عند الناس المخضرمين الذين عاشوا في القديم والجديد، فلا هم عاشوا كأجدادهم في القديم فقط، ولا هم عاشوا كآبائهم في الجديد فقط.

  • (٢)

    أنهم رأوا الأوروبيين أنفسهم في حيرة من أمرهم.

وهنا يعرض سؤال لكل باحث وهو: ما مصير الشرق؟ وأجيب على ذلك بأن هناك عوامل كثيرة ستؤدي إلى تقدمه، منها: زيادة وعيه القومي حتى أصبح يفهم أساليب الاستعمار ويقاومها، وزيادة تثقفه، وانقسام الأوروبيين على أنفسهم بين معسكرين كل معسكر يحاول أن يكون الشرق بجانبه، كل هذه العوامل تجعلنا نؤمل في الشرق كثيرًا، خصوصًا إذا زالت عقبة عقلية السياسيين الأوروبيين في نظرتهم إلى الشرق نظرة استعمار، والأمل كبير أن يحل محلهم ساسة جدد بعقلية جديدة، يسايرون الزمان ويعلمون أنه لا بد مع تغير الشرق من تغير الغرب، فإذا تم ذلك نظروا إلى الشرق نظرة جديدة ووضعوا أيديهم في أيدي الشرقيين، وتعاونوا جميعًا على العمل لخير الإنسانية، على أن ذلك لن يكون للشرق إلا بعد دروس قاسية، وجهاد طويل، وتضحيات كثيرة، ومحن تتطلب التحمل والصبر، وتجارب واسعة، وزعماء قادرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤