المدرسة الصفوية الأولى

قامت هذه المدرسة على أكتاف بهزاد وتلاميذه وأعوانه الذين هاجروا من هراة لما استولى عليها الشاه إسماعيل. وأما الذي رعاها بعنايته، حتى أينعت وكان إنتاجها طيبًا فهو الشاه طهماسب الذي ظل يحكم إيران من سنة ١٥٢٤ إلى سنة ١٥٧٦ بعد أن قضى أبوه الشاه إسماعيل حكمه في حروب وطَّد بها دعائم الحكم للأسرة الصفوية ولم تترك له الفراغ الكافي لتعهد دار الكتب الملكية التي أنشأها كمجمع للفنون الجميلة وعقد إدارتها لبهزاد.

والذي يجب ملاحظته عن الحياة الفنية في عصر الدولة الصفوية عامة هو أن مكانة الفنانين الاجتماعية ولا سيما المصورين ارتفعت فسار من بينهم أصدقاء السلطان وندمائه، بل كان الشاه طهماسب نفسه مصورًا تعلَّم الفن من المصور المشهور سلطان محمد، وكان كذلك صديقًا لبهزاد وتلميذه أغا ميرك. ولا غرابة في أن يرتفع شأن رجال الفن في حكم الدولة الصفوية فإنها أول دولة إيرانية وطنية منذ العصر الساساني، فطبيعي أنها فكرت في أن تعيد إلى إيران مجدها الفني القديم وبدأت برجال الفن، فكان نصيبهم وافرًا من تشجيعها وإكرامها. ومن ثم فإن مخطوطات العصر الصفوي فيها عدد كبير محلى بالصور التي يمثل أكثرها أبهة هذا العصر، وحياة البلاط والأمراء فيه، وما يتبع ذلك من حدائق غناء وعمائر ضخمة جميلة، وملابس فاخرة ومجالس طرب وشراب، كل ذلك في رسم دقيق وألوان زاهية في هدوء ومتنوعة في انسجام، يتوج ذلك مهارة في تأليف الصورة وتوزيع الأشخاص فيها، ومراعاة النسب بين أجزائها المختلفة.

وتمتاز الصور في المدرسة الصفوية الأولى بلباس الرأس المكون من عمامة ترتفع باستدارة وتبرز أعلاها صورة صغيرة حمراء. ولكن هذه الميزة ليست عامة لأن وجود تلك العمامة في صورة من الصور يدل على أنها ترجع إلى عصر الأسرة الصفوية الأولى أي قبل وفاة الشاه طهماسب، بينما وجود غيرها أو عدم وجودها لا يفيد قطعيًّا أن الصورة لا يمكن نسبتها إلى هذا العصر. ويلوح لنا أن هذه العمامة كانت أول الأمر شعار أفراد الأسرة الصفوية وأتباعهم، وكان المصورون يرسمون العصا الصغيرة فيها باللون الأحمر، ثم قل خطر هذه العمامة وبدأ القوم يغيرون لون العصا، ثم أصبح وجودها نادرًا في الصور الصفوية التي صنعت بعد وفاة الشاه طهماسب سنة ١٥٧٦م.

وقد كان لقيام الدولة الصفوية أثر كبير في توحيد الأساليب الفنية بعد أن حققت هذه الدولة الوحدة السياسية في البلاد الإيرانية. فلا غرو أن أصبحت منتجات مصوري البلاط في تبريز وقزوين أنموذجيًّا ينسج على منواله النابهون من المصورين في سائر العاهلية الصفوية.

ومن أعلام المصورين في هذه المدرسة أغا ميرك وسلطان محمد ومظفر علي ومحمدي وسيد مير نقاش وشاه محمد ودوست محمد وشاه قولي التبريزي.

أما أغا ميرك فقد كان تلميذًا لبهزاد، ولعله أكبر الفنانين بعده في تاريخ التصوير الإسلامي، وقد نشأ في أصفهان ونبغ منذ حداثته في التصوير وفي الحفر على العاج، ولكنه لم يستطع أن يتحرر تمامًا من أساليب المدرسة التيمورية. وإبداع ما يعرف من آثار أغا ميرك خمس صور في مخطوط من المنظومات الخمسة للشاعر نظامي. ولعل هذا المخطوط أجمل ما ينسب إلى المدرسة الصفوية الأولى. وقد كتب للشاه طهماسب بقلم الخطاط المشهور شاه محمود النيسابوري بين سنتي ٩٤٦–٩٥٠ﻫ/١٥٣٤–١٥٣٩م وفيه أربع عشرة صورة كبيرة بريشة أعلام المدرسة الصفوية ميرك وسيد علي وسلطان محمد وميرزا علي ومظفر علي. ومما تمتاز به صفحات هذا المخطوط هامشها المذهبة والمزينة بنقوش نباتية ورسوم حيوانات طبيعية وخرافية.

والصور التي تنسب إلى أغا ميرك في مخطوط المتحف البريطاني تعتبر كلها خير أمثلة للتصوير في ذلك العصر، سواء أفي الموضوعات أم في الأساليب الفنية، فثلاث منها تمثل مناظر استقبال وحفلات في البلاط تتجلى فيها العظمة الشرقية وأبهة الملك الإيراني، بينما تمثل إحدى الصورتين الباقيتين مجنون ليلى في الصحراء تحيط به حيوانات دقيقة الرسم متقنة النسب. وتوضح الصورة الأخيرة أسطورة كسرى أنوشيروان يصغي لبومتان تتحدثان فوق أنقاض قصر قديم وتتنادران ذاكرتين عواقب الظلم.

أما الذي حمل لواء التصوير في بلاط الشاه طهماسب بعد بهزاد وميرك فهو سلطان محمد، ويتجلى في صوره إتقان عجيب لمزج الألوان، ومهارة كبيرة في رسم الجموع، وتوزيعها في الصورة، وفي رسم الحيوان ولا سيما الخيل، وولوع بمناظر الطرب والسرور والغبطة والأبهة.

ومن أبدع آثاره الفنية صورتان في مخطوط المتحف البريطاني سالف الذكر توضح إحداهما منظرًا في قصة «خسرو وشيرين» المشهورة في الأدب الفارسي، فنرى خسرو يفاجئ شيرين تستحم. أما الصورة الثانية فتمثل بهرام جور يصيد الأسد. والواقع أن هذا المخطوط آية فنية. وقد كتب أحد المؤرخين الإيرانيين أن عين الزمان لم تقع على مثل صوره قط.

على أن سلطان محمد لم يكتف بتصوير المخطوطات، بل كان رئيسًا لمجمع الفنون الجميلة في تبريز وأشرف على عمل الرسوم للقاشاني وللسجاجيد. والمعروف أن تأثير المصورين من المدرسة الصفوية الأولى كان عامًّا في ميادين الفن الإيراني، كما بينا ذلك في مقالنا عن الفن الإيراني (عدد يوليو سنة ١٩٣٨ من المقتطف).

ولقد لقن سلطان محمد ابنه فن التصوير، فأصبح «محمدي» مصورًا ماهرًا بل وتفوق على أبيه في رسم المناظر الطبيعية، كما يظهر من رسم له محفوظ بمتحف اللوفر ومؤرخ من سنة ٩٨٦ﻫ/١٥٧٨ ويمثل فلاحًا يحرث الأرض، وآخر يجلس تحت شجرة، وثالثًا يقطع خشبًا من شجرة، ورجلًا يملأ جرة وبجواره خيمتان فيها نساء يغزلن وينسجن، وفي الجانب الأيسر من الصورة راع يحرس قطيعًا من الغنم ويعزف على مزمار في يده.

ومن الذين نبغوا في بلاط الشاه طهماسب المصور مظفر علي وقد ساهم في تزيين مخطوط المتحف البريطاني، فرسم صورة توضح قصة بهرام جور وحبيبته التي طلبت إليه أن يدل على براعته في الرماية، وذلك بأن يضرب حمار الوحش سهمًا واحدًا فيثبت حافره بأذنه. فضرب بهرام جور حمار الوحش في أذنه بقطعة من طين، فرفع الحمار حافره ليحك أذنه، وانتهز بهرام جور الفرصة فأطلق عليه سهمًا ثبت حافره في أذنه.

ورسم مير سيد علي التبريزي صورة في المخطوط سالف الذكر تمثل عجوزًا تقود المجنون إلى ربع ليلى.

وقد كان من حظ هذا المصور وزميل له اسمه عبد الصمد أن لقيا في مدينة تبريز همايون العاهل الهندي المغولي، حين لجأ إليها وأضافه الشاه طهماسب، فاتصلا به وتلقى هو وابنه أكبر دروسًا في التصوير عنهما، وقامت على أكتافهما مدرسة هندية إيرانية في بلاد الهند ونبغ من تلامذتهما دازونت وبازوان.

وفي دار الكتب المصرية مخطوط فارسي من كتاب يوسف وزليخا للشاعر جامي (رقم ٤٥ أدب فارسي) ويشتمل على سبع صور من عصر الشاه طهماسب: إحداهما تمثل المعراج، والثانية تمثل زليخا جالسة مع زوجها في جوسق، والثالثة تمثل مركب فرعون مصر ونراه فيها راكبًا حصانًا وحوله فريق من حاشيته على الخيل ومعه نساء وعازفات على الآلات الموسيقية، وتذكر هذه الصورة بطراز سلطان محمد. أما الصورة الخامسة فنرى فيها سيدنا يوسف ومعه زليخا في قصر صغير. وتوضح الصورة السادسة حادث البرتقال الذي تذكر القصة الفارسية أن زليخا قدمته للنساء اللاتي دعتهن، فلما دخل يوسف ذُهلنَ بجماله فقطَّعْنَ أصابعهن بدلًا من البرتقال. وفي ذلك جاء القرآن الكريم: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. أما الصورة الأخيرة فتمثل سيدنا يوسف على عرش وإلى جانبه رجل هرم. ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى أن المؤلفين الفرس اتخذوا حكاية يوسف وزليخا موضوعًا لقصة أدبية لا تتفق نهايتها مع نهاية القصة في القرآن الكريم.

وقصارى القول أن عصر الشاه طهماسب كان غنيًّا في الإنتاج الفني، ولكننا نشاهد في الجزء الأخير منه تقليدًا للسلف وجمودًا ينذران بالاضمحلال الذي سار إليه الفن في العصر الصفوي الثاني. وقصارى القول أن زيادة الإنتاج بدأ يصحبها انحطاط في نوع المنتجات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤