جنازة الشيطان

أحسستُ بأيادٍ خفية تحملني عن سريري إلى أعلى وتضعني بسرعة في خطِّ الزمن الذي لا يفتأ يضيق. في كلِّ لحظة كنتُ أطوي قرنًا من الزمن، وأقابل إمبراطوريات جديدة، وشعوبًا جديدة، وأفكارًا غريبة، وأديانًا غير معروفة. وهكذا، وجدتُ نفسي في النهاية، في نهاية الطريق، في نهاية الخط، في نهاية الزمن، تحت سماءٍ ذاتِ حُمرة دموية، أكثر بشاعةً من السواد الحالك.

هَرول الرجال والنساء هنا وهناك، ووجوههم الشاحبة تعكس وجهَ السماء البغيض. خيَّم على كلِّ شيءٍ صمتٌ مُطبِق. وبعد ذلك سمعتُ صوتَ عويل خفيض وبعيد، مُثقل بالوجع على نحوٍ لا يُصدَّق، يعلو ويهبط مرةً أخرى، ويمتزج بأنغام العاصفة التي بدأت تزوم. ردَّ على العويل صوت تأوُّه، وزادت التأوُّهات حتى استحالت إلى هدير صاخب. اعتصر الناس أيديَهم وقطعوا شعورهم، وانطلق صوتٌ حادٌّ ومستمر، يعلو على صوت اللغط: «إلهُنا وسيدُنا، الشيطان، لم يَعُد له وجود! إلهُنا وسيدُنا، الشيطان، لم يَعُد له وجود!» مِن ثَمَّ انضممتُ أنا أيضًا إلى المُشيِّعين الذين ندبوا موت الشيطان.

أتى إليَّ شيخ عجوز، وأخذني من يدي، وسألني: «هل أحببتَه أنتَ أيضًا وخدمتَه؟» لم أُجب بشيء؛ إذ لم أعرف سببًا لانتحابي. حدَّق في عينيَّ بثبات، وقال بلهجة ذات مغزًى: «ما من أحزان لا يمكن التعبير عنها.» رددتُ قائلًا: «ليست إذن مثل حزنك، فعيناك جافَّتان وما من حزنٍ خلف مقلتيهما.» وضع إصبعه على شفتيَّ وهمس قائلًا: «على رِسْلِك!»

قادني الشيخ إلى قاعة رحبة وعالية السقف، امتلأت عن آخرها بحشدٍ مُنتحِب. كانت الجموع، بحقٍّ، غفيرة؛ إذ إن جميع الناس من جميع العصور التاريخية، الذين عبدوا الشيطان وخدموه، تجمَّعوا هناك؛ ليؤدُّوا للميت الشعائر الأخيرة. رأيتُ هناك رجالًا من زمني، وميَّزتُ آخرين من أزمانٍ أقدم، وصلتني وجوههم وشهرتهم عبر الفن وعبر السجلات التاريخية. ورأيتُ آخرين عديدين ممن ينتمون إلى القرون المُتأخِّرة، التي مررتُ عبرها في أثناء تقدُّمي الليلي عبر خطِّ الزمن. لكن، بينما كنت على وشك أن أستفسر عن هؤلاء، منعني الشيخ. قال لي: «صه، وأصغِ.» وصاحت الجموع في صوتٍ واحد: «اسكت واستمع إلى تقرير تشريح الجثة!»

من مبنًى آخر، تقدَّم جرَّاحون وأطباء وفلاسفة وأساتذة مُثقَّفون من كل العصور، عُهد إليهم بفحص جثة الشيطان والكشف عن سرِّ وجوده، إن أمكن. علَّل الناس ذلك بقولهم: «إن استطاع هؤلاء العلماء إخبارنا بمكمن الشيطان في الشيطان؛ إن أمكنهم التفريق بين أجزائه الفانية وجوهره السرمدي الذي يُميِّزه عنا، فلربما نستمر في عبادة ذلك الجوهر السرمدي، من أجل مصلحتنا الدائمة، وللمجد الدائم لإلهنا وسيدنا الراحل.»

تقدَّم من بين الحكماءِ ثلاثةُ مندوبين، بخُطًى مُتثاقلة، وقد عَلَت مسحةٌ من الحزن ملامحهم. رفع الشيخ المجاور لي يده داعيًا إلى الصمت التام. كان كلُّ صوت تحسُّر يتم إسكاته على الفور. رأيتُ أن أحدهم كان جالينوس، والثاني باراسيلسوس، والثالث كورنيليوس أجريبا.

قال أجريبا بصوتٍ جهوري: «أنتم يا من خدموا السيد بإخلاص، عليكم أن تصغوا على كلِّ حال إلى السر الذي كشفتْ عنه مشارطنا. لقد استخرجنا كلًّا من القلب والرُّوح منه، ذلك الراقد هناك. كان قلبه يُشبه قلوبنا، مشكَّلًا على نحو ملائم لينبض بالشغف الملتهب، وينكمش بالكراهية، وينتفخ بالغضب. ولكن سرَّ روحه من شأنه أن يعصفَ بالشفاه التي تنطق به.»

على عجل، جذبني الشيخ بعيدًا عن الحشد بعض الشيء. بدأت الجموع تندفع وتترجرج بغضبٍ محتدم. كانوا يسعَوْن إلى الإمساك برجال العلم الأجلاء، الذين شرَّحوا جثة الشيطان ولكنهم رفضوا الإفصاح عن سرِّ وجوده، وتمزيقهم إلى أشلاء. هتف أحدهم: «ما هذا الهراء الذي تقولونه لنا، أيُّها الدجَّالون لصوص الجثث ومنتهكوها؟» وصاح آخر: «أنتم لم تكتشفوا أيَّ سر؛ أنتم تكذبون علينا عيانًا بيانًا.» وصرخ آخرون: «اقتلوهم! إنهم يريدون إخفاء السر لمصلحتهم الخاصة. وعمَّا قريب سيصير لدينا حكومةٌ ثلاثيةٌ من الدجَّالين الذين يُنصِّبون أنفسهم سادة علينا، بدلًا منه، مَن عبدناه لأجل مهابةِ تعاليمه، وعمق حكمته، والسمت الرفيع لفضائله. الموت لهؤلاء الفلاسفة المُدَّعين، الذين يريدون اغتصاب روح الشيطان.»

برصانةٍ ردَّ رجال العلم: «نحن لم نسعَ إلَّا إلى الحقيقة، لكننا لا نستطيع أن نعطيكم الحقيقة كما وجدناها. سلطتنا لا تخوِّلنا ذلك.» وانسحبوا على الفور.

صرخ قائد الحشد الغاضب: «دعونا نَرَ بأنفسنا.» ومِن ثمَّ شقوا طريقهم إلى المبنى الداخلي، حيث يرقد جثمان الشيطان في مهابة. اندفع الآلاف خلفهم، وكافحوا عبثًا للدخول إلى حضرة الموت؛ لربما استطاعوا — هم أيضًا — اكتشاف الطبيعة الجوهرية للراحل. اقترب أولئك الذين تمكَّنوا من الدخول، بهدوء — لم يخلُ من التلهُّف — من النعش الضخم المصنوع من الذهب الخالص، والمُرصَّع بالأحجار المُتلألئة، والذي تألَّق بمزيج مبهر من الزمرد والزبرجد واليشم. نكصوا على أعقابهم مبهورين، بوجوه وحشية ونظرات متحيرة. لم يجرؤ رجل منهم على أن يمدَّ يده لإزاحة الضمادات والأغطية التي أخفى بها الجرَّاحُون عملهم.

بعد ذلك، ارتقى الشيخ — الذي شهد معي بصمتٍ المشهد المضطرب — مكانًا مرتفعًا، وقال بصوتٍ عالٍ: «يا عبدة الشيطان، يا من يهيمن عليكم سلطانه حتى بعد وفاته! إنه لأمرٌ جيد أنكم لم تقعوا على السرِّ قبل الأوان. إن دلائلَ متنوعةً تجتمع لتمنحني نفحةً من الأمل في أن ما ألجم أفواه رجال العلم قد ينكشف، برغم ذلك، عبر الإيمان. دعونا الآن نؤدِّ تحية الإجلال الأخيرة الحزينة لسيدنا الراحل، دعونا نُقدِّم لذكراه قربانًا يليق بإخلاصنا. في مقدرتي أن أشعل نارًا تلتهم سبائك الذهب الثقيلة، بالسرعة نفسها التي تحرق بها ورق الزينة، ولا تُخلِّف وراءها رمادًا ولا ندمًا. ليجلب كلُّ رجلٍ إلى هنا كل الذهب الذي جناه في خدمة الشيطان، سواءٌ على هيئة عملات، أو أدوات، أو حُلِي، ولتجلب كلُّ امرأة الذهب الذي جنته، وتلقِ به في النار الملتهبة. عندئذٍ ستصبح المحرقة الجنائزية لائقة بذلك الذي نُشيِّعه.»

صاح عبدة الشيطان: «لا فُضَّ فوك أيها الشيخ! وبذلك سنُثبت أن عبادتنا لم تكن زائفة. ابنِ المحرقة ريثما نذهب لجلب ذهبنا.»

كانت عيناي مثبتتين على وجه رفيقي، ولكنني لم أستطع قراءة ما يدور في عقله. وعندما استدرت ثانية كانت القاعة الرحبة خالية إلا منه ومني.

بتُؤَدةٍ وبجهدٍ جَهِيد، بنينا المحرقة الجنائزية في منتصف المبنى. بنيناها بالأخشاب الثمينة التي كانت في متناول أيدينا، وأغدق بها المشيعون المتدينون، مع أفضل أنواع البخور. بنينا المحرقة واسعةً وعالية، وزينَّاها بأشياء رائعة. تبسَّم الشيخ بينما كان يُعدُّ النار السحرية، التي كان مفترضًا أن تلتهم الذهب الذي ذهب عبدة الشيطان لجلبه. وقد ترك داخل المحرقة مساحةً واسعةً مُخصَّصة لقربانهم.

معًا جلبنا جثمان الشيطان، ووضعناه بعناية في موضعه فوق المحرقة. توالت الرعود في الفراغ المهيب فوق رءوسنا، وارتجَّ المبنى بكامله بعنف، حتى حسبتُ أنه سينهار، ساحقًا إيَّانا بين السقف والأرضية. توالى هزيم رعد وراء هزيم، وأخذ يقترب أكثر فأكثر من المحرقة. وعلى مقربة لمع برق تلو الآخر حولنا؛ حول الشيخ وحول جثمان الشيطان وحولي. ورغم ذلك كنا لا نزال في انتظار الجموع، لكن الجموع لم تَعُد.

قال الشيخ أخيرًا، مسلِّطًا كشَّافه المُضاء على منتصف المحرقة: «انظر إلى المراسم الجنائزية! ما من مشيِّعين سوانا، ولا نملك أونصة واحدة من الذهب لتقديمها. انطلِق الآن، وادعُ جميع عبدة الشيطان إلى قراءة الوصية والعهد الأخيرَيْن. سيأتُون.» انطلقتُ مسرعًا امتثالًا لأمر الشيخ، وسرعان ما ازدحمت ساحة الجنازة من جديد. وهذه المرة، أحضر عبدة الشيطان ذهبهم، وعند المحرقة عَمَد كلُّ رجلٍ إلى اختلاق عذرٍ لتأخره. كان الجو مثقلًا بالتبريرات. قال واحد: «لقد تمهَّلتُ فقط لكي أتأكَّد من أني جمعت كلَّ ما في حوزتي من ذهب، حتى آخر قطعة.» وقال ثانٍ: «لقد جلبتُ ما كنزته بمشقة على مدار خمسين عامًا، لكنني أقدمه كله عن طِيب خاطر، قربانًا لذكرى سيدنا العزيز.» وقال ثالث: «انظروا، إنني آتٍ بكلِّ ما أملك، بما في ذلك خاتم زواجي من زوجتي المتوفَّاة.»

دار نزاع بين عبدة الشيطان، حول من يرمي بكنزه في النار أولًا. تَلقَّف اللهب المسحور الذهب، وعلت ألسنته فوق الجثة، ملقيةً على كلِّ وجهٍ متلهِّفٍ في الغرفة الرحبة وهجًا أصفر رهيبًا. ما زالت النار تغذيها أيادٍ لا تُعَد ولا تُحصَى، وما زال الشيخ يقف بجانب المحرقة، مبتسمًا على نحوٍ غريب.

صاح عبدة الشيطان عندئذٍ بصوتٍ أجش قائلين: «الوصية! الوصية! دعونا نستمع إلى العهد الأخير لسيدنا الراحل!»

فتح الشيخ لفافةً من ورق الأسبستوس، وبدأ يقرأ بصوتٍ عالٍ، بينما خَفَت ضجيج الحشد العظيم تدريجيًّا، حتى تحوَّل إلى صمت، وخمد هدير النيران الملتهِمة الغاضب، حتى تحوَّل إلى هفيف خفيف. كان ما تلاه الشيخ هو ذا:
إلى رعاياي الأحباء، العالم كله، عبادي المؤمنين وخُدَّامي المخلصين، تحية ونعمة الشيطان الوحيدة، لعنة أبدية!
بقدر إدراكي لاقتراب التغيير الذي يتهدد كلَّ وجودٍ حي، فإنني في حالة من العقل السليم والعزم الراسخ، أعلن ذا، باعتباره وصيتي ورغبتي وأوامري الأخيرة، فيما يتعلق بالتصرُّف في مملكتي وممتلكاتي.
للحكماء سأترك الحماقة، وللحمقى الألم. للأغنياء أترك شقاء الأرض، وللفقراء معاناة العجز. للمنصفين أترك الجحود، وللظالمين الندم. للاهوتيين أترك رمادَ عظامي.
أقضي بأن يُغلق المكان المُسمَّى الجحيم، إلى الأبد.
أقضي بأن يُوزَّع العذاب، بلا شروط، بين جميع رعاياي المؤمنين، كلٌّ حسب استحقاقه، وأن تُوزَّع السعادة والثروة أيضًا بين رعاياي بإنصاف.

عقب ذلك، صاح عبدة الشيطان بصوتٍ واحد: «لا إله إلا السيد الشيطان، وهو ميت! والآن لندخل إلى ميراثنا.»

لكن الشيخ ردَّ قائلًا: «أيها التعساء! مات الشيطان، ومع الشيطان مات العالم. إن العالم ميت.»

عندئذٍ وقفوا مذعورين، ينظرون إلى المحرقة. وفجأة، قفزت النيران المثقلة بالذهب إلى السقف، على هيئة عمود ملتهب، وخمدت. وأمام الجمرات الحمراء التي هي قلب الشيطان، تسلَّلت ثَمَّ حيةٌ صغيرة، تفُحُّ على نحوٍ مخيف. قبض الشيخ على الحية ليسحقَها، لكنها انزلقت من بين يديه، وشقَّت طريقها إلى وسط الحشد. أمسك يهوذا الإسخريوطي بالحية، ووضعها في حضنه. وحينما فعل ذلك، بدأت الأرض تحتنا تتزلزل، كما لو أنها زلزلة الموت. ترنَّحت أعمدة القاعة الجنائزية الشامخة، كأنها كائنات عملاقة تملَّكها الدُّوار. سقط عبدة الشيطان منبطحين على وجوههم، ووقفتُ أنا والشيخ وحدنا. وسرعان ما وقعت رجَّة تلو الأخرى، في كلِّ جانب حولنا، لكنه لم يكن هزيم الرعد هذه المرة. لقد كان صوت الانهيار اليائس لبُنيان الإنسان ونسيجه، وصدى وقوع قيامة هذا العالم، المتردد في العوالم الأخرى. ثم بدأت النجوم تسقط، وهبطت علينا أنوار السماء الأكثر خفوتًا، كأنها صيِّبٌ عاتٍ من نار متجمدة. مات الأطفال من الرعب، والأمهات ضممن أطفالهن الميتين إلى صدورهن الباردة، وهرولن هنا وهناك بحثًا عن ملاذٍ لم يجده أحدٌ على الإطلاق. استحال النور إلى ظلام، واندفع طوفان من الفوضى، من رَحِم الكون، وابتلع عبدة الشيطان وعالمهم الميت.

حينئذٍ قلتُ للشيخ بينما نحن واقفان في الفراغ: «مؤكدٌ أنه لا وجود الآن للشر ولا للخير؛ لا عالَم ولا إله.»

لكنه ابتسم وهزَّ رأسه، وتركني لأهيم على وجهي من جديد عبر القرون على غير هدًى. ولكن عندما اختفى، رأيتُ فوق حطام العالم، قوس قزح ذا سطوعٍ لا متناهٍ يمتد في كلِّ جوانبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤