كلمة المعرب

الإحساسات الرقيقة والعواطف النبيلة التي تخفق في قلب أمة من الأمم، والأَخْيِلة البديعة التي يظهر نور ضيائها من أذهانهم، والآمال العالية التي تجول في أدمغتهم، كل ذلك إنما يَتَوَلَّد من مطالعة الكتب الأخلاقية النفيسة والآثار الأدبية النافعة.

ابحث عن الجرثومة الأولى لكل أنواع البطولة، وعن الباعث الحقيقي للصفات الجميلة، والأخلاق الحسنة في نفس قوم أو طائفة من الناس، تجدها تَأَتَّتْ من رسالة أو منظومة أو مقالة، بل إنها قد تنشأ في بعض الأحايين من جملة حِكَمِيَّة، أو بيت من الشعر أو كلمة ذهبية صَدَرَتْ من أعماق قلب؛ لتحل في سويداء قلب آخر.

وكلما ازدادت أفكار الإنسان وتصوُّراته رقة، واشتد تذوُّقه لطعم الآداب، تزداد في نفسه الرغبة للتقدُّم والتمشي مع روح العمران، إن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب، وإنما كلما تقدَّم الإنسان خطوة في هذا السبيل تكوَّنَت في نفسه ملكات أسمى من ذلك وعواطف أرفع منها رتبة، فقد تتربى في نفسه عاطفة إنكار الذات، وإفناء النفس في سبيل المصلحة العامة، فإذا ما وَصَلَ الإنسان إلى هذا المثل الأعلى من الطبع الإنساني، لا تلبث المقاصد الشريفة والأغراض النبيلة أن تتغلب على كل الأغراض والأهواء التي تعززها قوة مادية، ولا يمضي على ذلك زمن كبير حتى ينهار بناء الظلم مهما كان شامخًا؛ ليقوم على أنقاضه بناء جميل متين الأساس، هو بناء الحرية، ثم تحل الفضيلة بعد ذلك مكان الرذيلة، وينزل السيف عن منبر الخطابة ليدع مجال الكلام فسيحًا أمام القلم.

قبل أن تبدأ الحكومة العثمانية في تشكيل هيئتها، وقبل أن يكمل قوام جماعاتها كان أساس الأدب في الشرق متزلزلًا، أما عند الأتراك العثمانيين فقد كان معدومًا.

كان الأدب متزلزلًا في الشرق؛ لأن الحروب الصليبية ومهاجمات التتر، أَضِفْ إلى ذلك المنازعات والمشاحنات التي كانت بين خلفاء الإسلام أولًا، ثم ملوك الطوائف ثانيًا، كل هذه الأمور قَلَبَتْ كل شيء في الشرق رأسًا على عقب، وأنزلت آداب الشرق تبعًا لذلك من عرش العزة والسؤدد إلى درجة البؤس والفاقة.

أما كونه كان مفقودًا عند العثمانيين، فالسبب راجع إلى هجرتهم وتخليتهم الديار والأوطان أيام تدفُّق سيل التتر، فتركوا آدابهم القومية بجانب قبور آبائهم وأجدادهم في جهات خراسان، غير أن الأمر لم يستمر كثيرًا على هذا المنوال، بل ما كادت قُوَّتُهم تَعْظُم، وساعِدُهم يشتد، ونفوذهم ينتشر في بقاعٍ هي من أهم المراكز في العالم، حتى شعروا بحاجتهم إلى لسان أدبي، وبتعطشهم إلى لغة يُظْهِرون بها إحساساتهم وتصوراتهم، فنظروا أولًا إلى الآداب العربية فإذا هي قد أضاعت بهجتها الأولى ورونقها السابق، ثم عطفوا أنظارهم إلى الأدب الفارسي، فإذا هو في دور الاحتضار والخمول، ولكن ما العمل والحاجة ماسة إلى اتباع أحد الطريقين والارتواء من أحد المَنْهَلين؟ وكان الأدب الفارسي — على علاته — أقرب إلى نفوسهم فاتَّبَعُوه.

على هذا الأساس بُنِيَ الأدب التركي في مبدأِ أمْره، إلَّا أنه كان أساسًا واهيًا لا يُبَشِّر بالدوام والخلود، كان تافهًا لا يَسُدُّ حاجة الأمة.

إنني — مع احترامي للأسلاف وشكري لمعلوماتهم التي كانت السببَ في ترقية الكثيرين — لا يسعني إلَّا أن أَقُولَ بأن الأفكار عندهم كانت مُقَيَّدَة، محصورة، كانت مقيدة بالعادات ومحصورة في دائرة ضيقة من المعلومات، وإن كل الصور التي تجلت في آثارهم لم تكن مرآة تنطبع عليها آمال الأمة وحاجاتها، وإنما كانت تُصَوِّر أهواءهم الخاصة وميولهم الشخصية، تَصَفَّحْ كتب فلاسفة الغرب وآدابهم في القرن الماضي تجدها طافحة بدروس الحكمة، والتحليلات الفلسفية الصادرة من أعماق القلب بقصد تنوير الأذهان وترقية الأفكار، ثم تَصَفَّحْ آثار أدبائنا في نفس العصر تجدها ملأى بالصور التي تنعكس عن شخصياتهم، وبينما كان أحد أدباء الغرب في منفاه يَكُدُّ الذهن، ويشحذ القريحة ليُخْرِج للعالم كتابًا خالدًا يقول في بدئه: «ولد الإنسان ليعيش حرًّا، ولكنه يَرْسُف في قيود الاستعباد في كل مكان»، كان الشاعر أو الأديب في الشرق يَكُدُّ الخاطر ليصف امرأة عارية أو غلامًا جميلًا، أو ليطرب من ذِكْر الخمر والنُّدْمان.

وربما كانت هذه من أهم العوامل التي أَخَّرَت الأدب في الشرق، ووقفت في سبيل رُقِيِّه وتَقَدُّمه.

إلَّا أن الأتراك العثمانيين كانوا أَوَّلَ الشرقيين الذين انتبهوا إلى هذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها الآداب الشرقية؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الغرب أَكْثَرَ مِنْ سواهم، فإنه ما كاد يَكْثُر اختلاطهم بأهل الغرب حتى اشتد تبعًا لذلك إحساسهم بالحاجة إلى إصلاح لسانهم الأدبي، وأدى بهم ذلك إلى إعجابهم بالآداب الغربية، وبالأخص أدب اللغة الفرنسية، فاقتبسوا كثيرًا منه وأَدْخَلُوه في آدابهم بعد تحوير وتعديل.

ثم جاء «عاكف باشا» الشاعر الشهير فخطا خطوة في سبيل الإصلاح، وأخذ في تحوير الخطة التي سَنَّهَا «نعيما» في الأدب، إلى أن جعلها وفْق المحيط الذي كان فيه على قَدْر الإمكان، فكان بعمله هذا أَوَّلَ من تَشَبَّثَ بتمزيق سُحُب التردد المتكاثفة في سماء الأدب التركي، غير أن ذلك القلم العالي لم يتمكن من انتشال الأفكار من وهدة الغفلة التي كانت فيها.

وتلاه بعد ربع قرن «شناسي» المجدد الشهير، وكان أَقْدَرَ من «عاكف باشا» لتذوُّقه بالأدب في محيطٍ أرقى من البيئة التركية، غير أن المرض الذي لازَمَه طول حياته لم يُمَكِّنه من الاستمرار في سبيل الإصلاح، بل كان ما فَعَلَهُ هو تزيين الخطة التي رَسَمَها عاكف باشا للإصلاح.

كانت حاجة العثمانيين شديدة في ذلك الزمن إلى عبقري يقوم بتشييد بناء جديد للآداب التركية يتمشى مع روح العصر، فتمت تلك المعجزة على يد نبي الآداب التركية «نامق كمال» ذلك الذي مَزَّقَ ستار الآداب القديمة وكَسَرَ قيودها، وَبَشَّرَ العثمانيين بموقع في الآداب أعلى من موقعهم، ثم تَطَوَّرَت الآداب التركية عقب الثورة العثمانية، فظهرت بثوب جديد وخَطَّتْ في سبيل الرقي خطوات واسعة، وكانت الكاتبات التركيات في مقدمة هذه النهضة المباركة يُفْسَح لهن المجال في صدور المجلات، وأمهات الصحف، وتنشأ لآثار أقلامهن المقالات الطوال، ومن بين تلك الفضليات امتازت أميرتنا المصرية الجليلة القدر «قدرية حسين» بكثرة ما نَشَرَتْه من الكتب النفيسة، والمقالات الرائعة، سواء أكان ذلك في مصر، أم في الآستانة، وإن هذا القلم الضعيف لَأَعْجَزُ من أن يحصر مناقب صاحبة السمو وآثارها القلمية؛ لأن ذلك يستلزم مجلدًا كاملًا، وإنما أَرَدْتُ إجلالها وإظهار ما لها من المكانة في عالَم الخيال والأدب، بترجمة مؤلفاتها المكتوبة باللغة التركية، وكانت فاتحة أعمالي في ذلك ترجمة خواطر سموها، فلاقت من إقبال الناس عليها، واهتمام كُبْرَيات المجلات والصحف العربية والإفرنجية، ما دفعني إلى المضي في سبيل ما أَخَذْتُه على عاتقي، وها أنا ذا أتقدم إلى أبناء مصر بالحلقة الثانية من سلسلة تلك البدائع التي أُعْجِبُوا بها وافتتنوا بجمال أسلوبها «في كتاب الخواطر»، وفي مأمولي أن يكون من وراء هذا الصنيع الفائدة التي أَنْشُدها، وهي الوساطة في تمكين المعرفة بين الأدَبَيْن العربي والتركي، وإعلاء شأن النابغات من فضليات مصر، اللائي يَفْتَخِر بنبوغهن شبابُ هذا الوطن، والله هو المستعان على تحقيق الغايات.

عبد العزيز أمين الخانجي
القاهرة ٤ شوال سنة ١٣٣٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤