مستعذبو الألم

١

ابتُلي نيكولاس فانس، الطالب بجامعة هارفارد، بمعاناة ألمٍ عصبيٍّ حادٍّ، بلا انقطاع تقريبًا، خلال الفصل الثاني من سنته النهائية. لم يُسبِّب له المرض آلامًا مُبَرِّحة في الوجه فقط، ولكنه حرَمه أيضًا من الانتفاع بمحاضرة البروفيسور سوردتي الهامة، في المنطق التأملي، وهي دراسة كان فانس مولعًا بها بشدة.

لو أن فانس ذهب من البداية إلى طبيب جيد، مثلما رجَته الآنسة مارجريت ستال، لقيل له، ولا شك، إن ما ألهب وجهه هو صراعٌ عقلي، ولَنصحَه الطبيب بالتخلي عن التفكير التأملي لبعض الوقت، والذهاب لصيد الأسماك؛ إطفاءً لهذا اللهب.

ولكن على الرغم من أن الشاب كان يحب الآنسة مارجريت ستال، أو أنه أحبها، على الأقل، بقدر ما يمكن للمرء أن يحب شخصًا لا يهتم بالفرضيات، فلم يعِر رأيها في مسألة الألم العصبي اهتمامًا كبيرًا. وبدلًا من استشارة عضو في كلية الطب، مؤهَّل كما ينبغي، أسرع ذات صباح عبر الجسر، وهو يعاني ألمًا حادًّا، ليطلب مشورة تيثامي كونكانون أسوأ من كان يمكنه الاستعانة به في هذه الظروف.

كان تيثامي نفسه مفكِّرًا تأمليًّا، يعيش على ارتفاع أربعة أزواج من السلالم، وكانت نافذته الوحيدة تطل على فسحة كئيبة من الأفنية الخلفية وحبال الغسيل. وبعملية تفكير بارعة، عرف أن النافذة كانت تُشرِف على منظرٍ رائع للغروب، لو أننا سلَّمنا فقط أن الشمس تُشرق من جهة الغرب، وأنها تغرب في الشرق. ولأن تيثامي كان يعي، فوق ذلك، أن الشرق والغرب مصطلحان نسبيَّان، يُستخدمان بصورة اعتباطية، وأنه ما من علة متأصلة في الشمس أو مطلقة تجعل رحلتها من الشرق إلى الغرب، أكثر منطقية من رحلتها من الغرب إلى الشرق؛ فقد حصل على قدرٍ كبير من المتعة من مشاهد الغروب التي لحظها بالفعل. تلك هي مصادر المنطق التأملي.

دان تيثامي بالفضل في ثقافته إلى اسمه. قبل ميلاده بشهر واحد، مات توماس كونكانون، الذي كان قبل ثلاثين عامًا من ذلك، يعلِّم الطلبة الجدد في جامعة هارفارد كيفية نطق حرف الديجاما اليوناني. وبرغبة مخلصة من السيدة كونكانون، الشابة المسكينة، في تكريم ذكرى زوجها الراحل، سمَّت الرضيع تيمُّنًا بفعلٍ يونانيٍّ كان المعلِّم يكنُّ له احترامًا خاصًّا، وكثيرًا ما سمعته يتحدث عن إمكاناته بحماس. حاولت أسرتها، بلا جدوى، أن تُقنع الأم الساذجة، بأن تتخلى عن الفكرة، أو حتى أن ترضى باسم تيموثي، المقارب في تركيبه لذلك الفعل الوثني، وإن يكن محترمًا تمامًا فيما يحيل إليه من معانٍ. لم ترضخ ولو بمقدار أنملة، وعُمِّد تيثامي الوليد. كان حفل التعميد الغريب ذاك بمثابة بناء للطفل وهدم له على السواء. وتحت تأثير الابتهاج الشديد بطرافة الاسم غير المقصودة، عرض أحد أعمام والديه، وكان غنيًّا غريب الأطوار، أن يمنح تيثامي الصغير أفضل تعليم يمكن شراؤه بالمال، وقد أوفى بوعده على امتداد المراحل التعليمية، بدءًا من الروضة، وحتى جامعة هايدلبرج. في الجامعة تعلَّم تيثامي الكثير من المنطق من سبيسيكارتيوس الشهير، وتعمَّق في العلوم الميتافيزيقية على يد العلامة سوندهويتسر، حتى إنه جعل نفسه غير صالح على الإطلاق لجميع الأعمال العملية في الحياة. عاد إلى الوطن، وسرعان ما تجادل مع عمه الخيِّر حتى الموت، لكن ليس قبل أن يقوم السيد المسن بشطب الفتى المفكر من وصيته، والتبرع بأملاكه كلها لوقفية ملجأ للصم والبكم.

حينما أطرب فانس تيثامي بملحمة ألمه الكاملة، قال له تيثامي: «عزيزي نيكولاس، إنك لأسعد شخص في مدينة بوسطن. أهنئك من أعماق قلبي. أبعد يدك عن خدك، واجلس على ذلك المقعد المريح وابتهج.»

تأوَّه فانس الذي كان يعرف حقيقة المقعد، وقال: «شكرًا لك، لكنني أفضِّل أن أقف.»

قال تيثامي بمرح: «حسنًا، قف إن كان ذلك يسعدك، ما أمكنك الوقوف. الأرضية تُحدث صريرًا، وصاحبة البيت، التي تهتاج بحماقة من أجل إيجار تافه، ماهرة في الإسراع إلى هنا لدى سماعها أدنى ضجيج يُذكِّرها بحقيقة وجودي. هل قرأت كيف أنه في جبال الألب، أحيانًا ما تتسبب نسمة هواء في انهيار ثلجي؟»

صرخ نيكولاس: «سحقًا لصاحبة بيتك! لقد أتيت إليك باعتبارك صديقًا، لتتعاطف معي، لا لتسخر مني.»

تابعَ تيثامي: «إذا كان لا بد من أن تدبدب كالمجنون، يا نيكولاس، فاسمح لي بأن أقترح عليك ألا تقترب من اللوح الخشبي الثالث من جهة المدفأة. إنه بالذات ملخلخ. أكرر، إنك لكلب محظوظ يا نيكولاس. أنا مستعد للتخلي عن عشائي أسبوعًا، نظير الحصول على ألمٍ عصبيٍّ كهذا.»

سأل نيكولاس بغضب: «أيمكنك أن تقدِّم لي أي شيء، أم لا؟ لا أحب انتهاج أسلوب التهديد، ولكن، أقسم بجوبيتر، إذا لم تكفَّ عن المزاح فسأُطلِق صيحةً كفيلة ببدء انهيار ثلجي.»

انتابت رجفة ملحوظة جسد تيثامي. كان واضحًا أن التهديد لم يخلُ من تأثير. نهض بسرعة وتأكد بنفسه من أن الباب مغلق بإحكام، ثم عاد إلى فانس، وخاطبه بأسلوب مقنع.

قال له: «يا نيكولاس، لقد كنتُ جادًّا كل الجد حين هنأتك على ألمك العصبي. إنك مفكر تأملي، مثلي. وعلى الرغم من أنك الآن لست في حالة ذهنية صافية ومتزنة تمامًا، فإنك — وأنا متأكد من ذلك — لن ترفض القياس المنطقي. دعني أطرح عليك سؤالين سقراطيين بسيطين، وأقدم لك قياسًا منطقيًّا واحدًا، ثم سأعطيك شيئًا سيخفف ألمك … لكن ضع في اعتبارك أنني سأفعل ذلك على مضض؛ إذ سأشعر بأنني أسيء إليك يا نيكولاس.»

صرخ نيكولاس: «تبًّا لحِسِّ العدالة لديك! إنني أقبل العرض.»

قال له: «حسنًا، أجبني عن هذا: هل تحب الكاري الهندي الحار؟» أجاب نيكولاس: «لا شيء أفضل منه.»

«لكن افترض أن أحدًا عرض عليك الكاري حينما كنت أصغر بخمس عشرة سنة — في أثناء مرحلة الخبز والحليب، من مراحل نمو ذائقتك — هل كنت ستنال منه أي مسرَّة تُذكر؟»

أجاب نيكولاس: «لا، كنت سأشعر حينها بأنني ألحس الطرف الملتهب من قضيب إذكاء النار.»

«ممتاز. والآن سنمضي إلى قياسنا. ها هو: إن الأحاسيس الكريهة في الأصل، ربما تصبح مقبولة بقدر أو آخر، بتهذيب مناسب للحواس. الألم الجسدي كريه في الأصل. إذًا، ربما يمكن جعل الألم الجسدي أيضًا، بالتهذيب الحصيف، مصدر لذة بالغة.»

قال نيكولاس: «إن ذلك لا يُخفف ألمي العصبي. ما الذي يعنيه كل ذلك على أي حال؟»

قال تيثامي بأسف: «لم أسمعك تتحدث بهذه الطريقة الفظة عن القياس من قبل.» ثم تناول إناءً صغيرًا من خزانة في الزاوية، وأخرج منه حفنة من مسحوق أبيض ناعم، أعطى نيكولاس منها مقدار ما يغطي سنتًا نُحاسيًّا قديمًا. فعل ذلك بتردد واضح.

وأضاف: «تعالَ إلى هنا الليلة، في التاسعة والنصف، وسوف أريك ما يعنيه كل ذلك، يا صديقي الشاب.»

٢

استيعاب حقيقة جديدة عميقة الدلالة عملية بطيئة. بينما كان نيكولاس يمشي عائدًا إلى بيته عبر الجسر، أخذ يتأمل القياس الذي طرحه تيثامي. ولما وصل إلى مدخل المنزل الذي تعيش فيه الآنسة مارجريت ستال، ورأى تلك الشابة في حديقة أزهارها تروي زهور الربيع، خطر له للمرة الأولى أنه نسي ألمه العصبي.

جلس إلى عتبة الباب وأشعل سيجارًا. جعلته الأسئلة اللطيفة والرعاية الحنون التي أحاطته بها حبيبته، خجِلًا من نفسه إلى حدٍّ ما. لم يكن من الوقار أن يجلس فيلسوف شاب يعاني مرضًا عضالًا، بين زهور الربيع، متناسيًا بؤسه، بل شاعرًا بذلك الوهج الخافت من الإشباع الذاتي الجسدي الذي قد يشعر به كلب نيوفاوندلاند حسن التغذية إذ يتمدد تحت أشعة الشمس. شعر نيكولاس بأن من واجبه إخضاع حقائق القضية للتحليل المنطقي.

كانت النتيجة الأولى التي توصَّل إليها هي الحقيقة الجديرة بالملاحظة، أن الألم لم يزل حاضرًا بحدَّته كلها.

وبتأمُّل أحاسيسه عن قرب، استطاع فانس أن يكتشف أنه ما من تغير، سواء في حدة النوبات العصبية، أو معدل تكرارها. فعلى فترات منتظمة يمكن احتمالُها، كان تيار النار يسري في نبضات عبر وجهه وصدغيه. وفي الفترات الفاصلة بين كل نوبتين، كان هناك الألم المضجر نفسه الذي جعل الحياة غير محتملة على مدار الأيام السابقة؛ ولذا شعر نيكولاس بالاطمئنان في استنتاجه أن المسحوق الذي قدَّمه له تيثامي، لم يعالج الألم.

أما الأمر المدهش، فهو أنه منذ أن أخذ المسحوق أصبح الألم مسألةً غير ذات أهمية. اضْطُر نيكولاس، لأنه كان متمنطقًا منصفًا، إلى الاعتراف بأنه لم يكن ليبذل أي جهد للتخلص من الألم العصبي الآن. كان التحول الذي أصاب جهاز الإحساس لديه شديد الغرابة حتى إنه أصبح يشعر بنوع من الرضى في نبضات الألم والوجع، ويشعر بأنه سيحزنه، أكثر مما سيسعده، لو توقَّفت. في الحقيقة، كلما أمعن التفكير في الأمر، كان يقترب من استنتاج أن الألم العصبي، في ظل الظروف القائمة، كان ترفًا وشيئًا يُحتفى به.

لم يكد يتحدث مع الآنسة مارجريت ستال عن هذه الفكرة حتى اعتراها القلق بشأن قواه العقلية، وأسرعت لإحضار خالتها بينيلوبي. استمعت تلك السيدة العذراء المجرِّبة المحترمة، إلى المسألة المطروحة، دون أن تبدي دهشة ولا أي انفعال آخر. وتمثَّل تعليقها بكلمة واحدة.

قالت الآنسة بينيلوبي: «مورفين.»

صرخ نيكولاس: «سمِّهِ اللوتس، أو طعام الآلهة، سمِّهِ المورفين، أو ما شئتِ. إذا كان هناك ترياق في العقار المُبارك، يمكنه أن يحيل الكرب فرحًا، والعناء سرورًا، ويجعل من نوبات العذاب في الصباح نبضاتِ انتشاءٍ بعد الظهيرة، فلمَ لا يكون الأمر كما قال تيثامي؟ إنه … لكنني سأذهب إلى بوسطن وأسأله من فوري.»

توقَّف نيكولاس برهة؛ إذ كانت الآنستان بينيلوبي ومارجريت ترمقانه باندهاش. بدت مارجريت مذهولة، لكن تعبيرًا غريبًا للغاية كان على وجه خالتها، سيتذكره نيكولاس بعد ذلك كأوضح ما يكون.

قالت الآنسة بينيلوبي بهدوء: «سيد فانس، إن المورفين يفعل فعله في رأسك. لمَ لا تتمدَّد على الأريكة في الردهة الخلفية، حيث المكان بارد وهادئ، حتى يحين موعد العَشاء، وبعد تناول قدحٍ من الشاي، ستكون في حال أفضل تسمح لك بالذهاب إلى بوسطن، وسيسرني للغاية أن أرافقك؛ فأنا أخطط لتمضية المساء مع بعض الأصدقاء في منطقة ويست إند.»

٣

في الساعة التاسعة وخمس وعشرين دقيقة، ارتقى فانس درجات السلَّم المؤدية إلى مسكن تيثامي. وجد المفكر التأملي مرتديًا حُلةً رسميةً كاملة، وكان يرتدي حينئذٍ نعلين طويلين ضيقين. أدهش ذلك نيكولاس؛ فلم يسبق أن رأى صديقه متورطًا في هذه الحماقة من قبل.

قال تيثامي بمرح: «الألم العصبي ليس شيئًا سيئًا، أليس كذلك يا نيكولاس؟ إنه شيء يشبه الكاري الحار، حين يرتقي إليه ذوقك. ومع ذلك، فمؤسف حقًّا أن تقلل من حدة ابتهاجك، بالمورفين. الأمر يشبه رش نشارة من الخشب على محار مكشوف ناعم. ومع ذلك، سنصل بك قريبًا إلى مستوًى من الثقافة، يتجاوز مثل هذه الممارسات الفجة. أريدك أن تخرج معي.»

قال نيكولاس: «لكنني لا أرتدي ملابس مناسبة.»

ذهب تيثامي إلى المرآة، وتفحَّص برضًى ملابسه الرثَّة إلى حدٍّ ما. وقال: «لن يشكل ذلك فارقًا، فلن يلحظ الأمرَ أحد. والآن، تفضَّل بالنزول أولًا، وإذا كان أسفل السلم خاليًا، فصفِّر لي مناديًا «آني لوري» وسآتي على الفور. أما إذا لحظت أسفل السلَّم أنثى تنِّين، قيصر أنثى، امرأة بشعة، سليطة غاضبة، متَّشِحة بثوب من الصوف والحرير الأسود، فصفِّر «اللحن الجنائزي» من معزوفة «شاءول»، وسأنزل متشبثًا بأنبوب المزراب، وأنضم إليك عند الزاوية.»

تصادف أن كان أسفل السلم خاليًا، وجلب النداء «آني لوري» تيثامي إلى الباب المفتوح على الشارع، في إثر نيكولاس. قاد تيثامي فانس من شارع إلى شارع، وانعطف به عند زاوية بعد الأخرى، متحدِّثًا في تلك الأثناء عن مواضيع خفيفة، بلباقة رجل اجتماعي. لم يسبق لنيكولاس قطُّ أن رأى تيثامي يُظهر مثل هذه الروح الطليقة. بدا أنه نفض عنه عفونة المنطق العلمي، وأخذ يمشي ويتكلم وكأنه شابٌّ طائش من شباب القرن التاسع عشر، يمضي في طريقه إلى ارتكاب رذائل طُبِع عليها.

قال نيكولاس، محاولًا — على استحياءٍ — فتح موضوع يرغب بشدة في الحصول على توجيه بشأنه: «لقد كنتَ تقول هذا الصباح إن الألم الجسدي — لكونه مجرد مصطلح نسبي، وعلى اعتبار أن الأحاسيس نفسها، عند درجة معدلة، غالبًا ما تسبب لنا ما نسميه المتعة الجسدية — قد يمكن تهذيبه ليصبح مصدرًا لاستمتاع رائع. والآن يظهر لي أن هذه النظرية …»

قال تيثامي بتحاذق — وقد تعمَّد على ما يبدو أن يدق ببراجمه مصباحًا كانا يتجاوزانه في تلك اللحظة: «أوه، دعك من النظرية! ما فائدة الكلام عن النظرية إذا كنت سترى التطبيق العملي للفكرة عما قريب؟»

أصرَّ نيكولاس على موقفه قائلًا: «ولكن أخبرني رجاءً بما تعنيه من أن الألم نسبيٌّ فقط.»

قال تيثامي: «لماذا! من يستطيع أن يضع الحد الفاصل، لنقُل، بين الشعور المريح الذي ينتابك بعد عشاء لذيذ، والشعور غير المريح الذي ينتابك بعد الإفراط في تناول الطعام؟ في إحدى الحالتين، يترجم مخك الإحساس إلى متعة. وفي الحالة الأخرى، فإن الإحساس نفسه، بقدرٍ أوضح قليلًا، يُسمَّى ألمًا. هل أنت أعمى مثل أرنب حديث الولادة، إلى حد أنك لا ترى — رغم تتلمذك طويلًا على يد البروفيسور سوردتي — أن الفرق بين الألم والمتعة ليس سوى مغالطة كلامية؟ ألم تُثبت لك ذلك خبرتك بالمورفين اليوم؟ تخلَّص من المورفين وارتقِ بذكائك إلى المستوى الملائم، وسوف تحصل على النتيجة نفسها.»

وهنا توقَّف تيثامي قليلًا كما لو أنه ملَّ الجدال، وبدأ يرقص على الرصيف رقصةً مفعمةً بالحيوية.

تجرأ نيكولاس على سؤاله: «لماذا ترقص ونعلاك ضيقان؟»

رد تيثامي: «ببساطة، لأنهما ضيقان، وقدمَاي ضعيفتان للغاية.»

واصل نيكولاس السير في صمت. كان سلوك تيثامي يزداد غرابة بين لحظة وأخرى. لكن دهشة نيكولاس بلغت أوجها، حين توقَّف صديقه أمام قصرٍ مبنيٍّ بالقرميد، كان أرستقراطيًّا ذات يوم. ارتقى تيثامي الدرجات وقرع جرس الباب، وكأنه شخصٌ وصل إلى وجهته. ولا عجب أن أصابت نيكولاس الدهشة؛ فقد رافق بينيلوبي خالة مارجريت إلى ذلك الباب نفسه، في تلك الليلة نفسها، قبل ما لا يزيد على نصف ساعة.

٤

حضر نيكولاس ذات مرة اجتماعًا للنادي الراديكالي الأول، في منزل خاص، غير بعيد عن هذا الذي دخله الآن. أعاد المشهد في الردهة إلى ذهنه جلسة المفكرين المتقدمين. كان حوالي اثني عشر رجلًا وامرأة، من ذوي المظهر التقدمي بشكل أو بآخر، جالسين على مقاعد أو أرائك، يستمعون إلى مقالة يتمتم بها رجل طويل، يقف في أحد الأركان، ويقرِّب الورقة من نظارته. لم يَبدُ أن المقالة أثارت الكثير من الحماس؛ فقد فاق عدد المقاعد الخالية، عدد المستمعين.

وحين أُدخِل نيكولاس وتيثامي، نهض كل الرفاق تقريبًا، وحيَّوا الأخير تحية صامتة، لكنها مفعمة بدلائل الاحترام العميق. في الواقع، كانت التحيات أشبه في تأدُّبها بالتحية الشرقية.

همس فانس باستخفاف: «إنك أشبه بديكٍ مختالٍ هنا يا تيثامي!»

همس تيثامي بدوره: «صه! لقد كنتُ أنا أول من جلب هذه الفكرة من هايدلبرج إلى بوسطن. إنهم ممتنُّون فحسب لهذا الإنعام العظيم. لكن استمع إلى المقالة.»

كان المتحدث يقول آنذاك: «لنسلِّم بأن المبدأ الذي نعتنقه هو سر الأسرار، والفردوس الأرضي الحقيقي، ولنسلِّم أيضًا بأننا سنرتقي من المادي إلى الفكري، في تطويرنا لهذا المبدأ، فمن الذي يمكنه أن يهرب من نتائج هذه المقدمات المنطقية؟ كلما أحرزنا تقدمًا في الانضباط الذاتي الذي يمَكِّننا بالفعل من استخلاص أقصى متعة جسدية من الأحاسيس التي طالما عُدَّت لعينة، منذ أول مغص أحس به قابيل، سنجد أنه ما زالت هناك متع أسمى في مجال الألم العقلي. إنني على يقين تام من أنه لن يمضي وقت طويل حتى يصير موت زوج أو زوجة أمتع للمبتدئين من القبلة الأولى عند المذبح، وتصير خسارة ثروة مصدرًا للسعادة أكثر واقعية من تسلُّم تركة، وتصبح خيبة المطمح أجدر بالاحتفاء بها من تحقُّق الأمل. وليس ذلك سوى المنطق …»

لم يستطع نيكولاس أن يتمالك نفسه أكثر من ذلك. كان يعرف هذا الصوت، وأسلوب التفكير، والنظَّارة. لقد استمع إلى محاضرات البروفيسور سوردتي، في جامعة هارفارد، مرات عديدة، وباهتمام كبير، لا يمكن معهما أن يخلط بينه وبين شخص آخر. أطلق صفيرًا خفيضًا. ونظر إليه تيثامي وهو يوشك أن يُطلق صفيرًا آخر.

همس قائلًا: «أولًا وقبل أي شيء، لا تُبدِ أي اندهاش من أي شيء قد تراه أو تسمعه. واحذر خصوصًا من إبداء معرفتك بأي شخص تلتقيه، حتى لو كان جدتك نفسها. آداب المكان تُلزمك بذلك القدر من الحذر.»

ثم نهض تيثامي وأشار إلى نيكولاس أن يتبعه إلى خارج الغرفة. وقال: «إن هذا ممل؛ البروفيسور يميل إلى الإسهاب. تحب قلة أعضائنا الرجعيين الجلوس والاستماع إليه. إنهم يحاولون على الأرجح الوصول بمبدئه إلى حد استمداد الإثارة من ملل مؤلم. يجدر بنا ألا نُضيع وقتنا هنا. لنذهب إلى الندوة.»

أفضى بنا دهليز تكسوه ستائر ثقيلة إلى غرفة إضافية، أُنشئت في الأصل لتكون صالة عرض فنية. لم يكن فيها أي نوافذ. أزيلت الكوَّة التي كانت في الأعلى، وكانت الغرفة معزولة تمامًا، مثل الحجرة الداخلية في أحد أهرامات الجيزة. ومُدت أسمطة الطعام على مائدة في وسط الغرفة. كانت المائدة محاطة بأرائك واسعة، تشبه الأرائك الرومانية، وكان يتمدد عليها بضعة أشخاص. قلة منهم كانت تأكل، أما الغالبية فبدت مستغرقة في حالة من الاسترخاء البالغ. وفي أركان الغرفة، لحظ نيكولاس كثيرًا من الآلات الخشبية الضخمة. بدا المكان وكأن نصفه قاعة للولائم، ونصفه الآخر صالة رياضية.

وكما كان الحال في الردهة الخارجية، نهض جميع الرفاق وحيَّوا تيثامي باهتمام ملحوظ. حيَّوه بطريقة أقرب إلى الميكانيكية، وكما لو أنه أمر بدهي. أما حضور نيكولاس، فلم يبدُ أن مستعذبي الألم الأبيقوريين انتبهوا له أكثر مما قد ينتبه مرتادو وكر أفيون صيني. كانت هناك دَعَة حالمة خيمت على الرفاق، جعلت المكان لا يبدو مختلفًا عن وكر أفيون.

ذهب تيثامي مباشرة إلى مقصف جانبي، وسكب من دورقٍ جرعةً مترعة.

شرح قائلًا: «إنه حامض النتريك، المخفَّف بالطبع، لكنه قوي بما يكفي لسلخ الجلد عن الشفاه، وإشعال النار في الفم والحلق. هل ستجرب كأسًا؟ لا؟ لن يكون أقوى لذائقتك من البراندي لذائقة طفل. يكبر الطفل، ويتعلم أن يحب البراندي. وأنت ستكبر لتقدِّر هذا الشراب. آه، يا دكتور! اجلب لي كأسًا معك. هل تستمتع بحياتك هذه الأيام؟»

ميَّز نيكولاس في الرجل الذي اقترب في تلك اللحظة ووجَّه إليه تيثامي حديثه، واحدًا من أطباء بوسطن البارزين، مشهورًا بكونه ممارسًا ماهرًا في جميع أنحاء الولايات الشرقية. هز الطبيب رأسه لدى سماعه السؤال المهذب الذي طرحه تيثامي.

وردَّ قائلًا: «بقدر ضئيل، ضئيل جدًّا. لم يعد الكيُّ يجلب لي متعة أكبر مما يجلبه مجرد استخدام كاسات الهواء أو العَلَق. إنني على استعداد لمنح نصف دخلي، في سبيل التمكن من الاستمتاع بألم عصبي بسيط، مثلما اعتدتُ أن أفعل سابقًا.»

نظر تيثامي إلى نيكولاس نظرةً ذات معنى.

وتابع الدكتور بطريقة تدعو للتأمل: «ومع ذلك، فإن العميان الحمقى الجاهلين الذين يستعينون بي باحتراف، يصرون على استخدام الكلوروفورم في عملية جراحية تافهة. أظن أنهم لن يخلعوا سنًّا دون تخدير. من المؤسف أن رفاهيةً مثل الألم، لا يمكن أن يحتكرها أولئك الذين يمكن أن يقدِّروها!»

نصحه تيثامي قائلًا: «حريٌّ بك، بما تملكه من مصادر ومعرفة بعلم الأمراض، أن تتابع تقدُّم ألمك، وأن تتجنب السأم.»

ردَّ رجل الطب متنهدًا: «جرَّبت كل شيء، أَلَمْ يخطر لك من قبلُ يا تيثامي …» وتابع بحيوية أكبر: «أنه لو استطاع المرء أن يجد مُنشِّطًا يستثير الجهاز العصبي كله إلى درجة حساسية أشد مما يحققها أي عاملٍ معروف، فقد يجعل نفسه واعيًا بالدورة الدموية؟ كم سيكون مبهجًا أن يشعر المرء حقًّا بالمد المنطلِق عبر الشرايين، المتخلل للشعيرات الدموية، المتدفق في الأوردة، المندفع إلى الوتين! والسبب، أن ذلك سيمنح الوجود لذوعة جديدة.»

بعد انصراف الدكتور، قال تيثامي لنيكولاس: «إنه واحد من أكثرنا تقدُّمًا، لكنه يمضي أسرع مما ينبغي. إنني أومن بالاعتدال في الألم، كما في جميع المتع الأخرى. باعتدالي في إشباع رغباتي، فإنني أبقي على تشوُّقي للمزيد. أما الدكتور، فبلجوئه إلى الكي ثلاث مرات في اليوم أو أربعًا، فقد قتل الإوزة التي كانت تضع له بيضاتٍ ذهبية. إنه لم يبلغ من الفلسفة ما يكفي لجعله أبيقوريًّا.»

سأل نيكولاس: «هل وصل كل أصدقائك هنا إلى مستوًى متقدم مثل الدكتور؟»

«أوه، لا يا عزيزي! تدرك أنه مع تقدُّم الشخص يجب أن تزيد الجرعة. فبينما قد يسعد شخص مبتدئ بألم الأسنان، أو قد يتخم نفسه بتناول البطيخ الأخضر لعلاج المغص، مثل ذلك الشاب هناك، أو غرس الإبر في ربلة ساقه، مثلما يفعل في هذه اللحظة أولئك السادة الجالسون على الأريكة التي إلى يسارنا، فإن هناك آخرين، لديهم شهيات أكثر تهذيبًا، يجب أن يحصلوا على أعلى درجات الألم. ولكن الأمر هو نفسه في كل المراحل؛ بعضهم يسعده أن يكون عقلانيًّا في انغماسه في الملذات؛ بينما يُغرق فيها البعض الآخر إلى حدودها القصوى. أذكر مصرفيًّا، ليس حاضرًا هنا الليلة، أصبح مولعًا بشدة باستخدام مكبس أصابع عتيق، اقتناه من متجر تحف، وهو أداة تعذيب يضغط بها على الأصابع، وراح يأخذه في جيبه إلى مكتبه، ويستخدمه خفية خلال ساعات العمل. لا يمكنني تحمُّل مثل هذا الرجل. لا بد أنه انحدر إلى الشبق السري، أو أنه يقدم مثالًا سيئًا لموظفيه.»

قال نيكولاس: «ينبغي أن أوافقك الرأي!»

وإذ اقترب رجل ألماني قوي البنية، تابع تيثامي قائلًا: «والآن لدينا شخصية مختلفة تمام الاختلاف. إنه قانع بأبسط المتع. عِمْت مساءً يا سيدي. تبدو هانئ البال الليلة.»

قال التيوتوني: «يا إلهي! لكن لدي مصيبة محببة واحدة في الرأس. لقد كنت — كيف تقولونها بالإنجليزية؟ — أخبط رأسي في الجدار.»

وتابع تيثامي بعد تهنئة الألماني على أسلوبه: «وذلك الذي هناك واحد من أندر نماذج الحمقى المسلوبي العقول الذين يمكنني أن أُريكهم. ذلك الرجل ذو اليد المضمدة والابتسامة الرائقة المرتسمة على وجهه، كان يومًا ما من الغباء بحيث يقطع أنملة من خنصره، في سبيل الاستمتاع المؤقت بالألم الشديد. إنه ممارس جيد للمحاماة، وحريٌّ به أن يكون أكثر وعيًا. حسنٌ، التأم الجرح، وانقضت متعته؛ ولذا قطع قطعة أخرى، إلى الأسفل قليلًا. واستمر الأمر على هذا المنوال، قطعة قطعة، حتى لم يتبقَّ له الآن سوى جذوع سبعة أصابع، وإبهام يُبقي عليه من أجل التسلية. لقد بدأ في تقطيع الإصبع الثامن بالفعل، وأراهن على أنه سيقدِّم قضيته التالية أمام هيئة المحلَّفين، بإبهام وحيد.»

حينئذٍ جذب صريرٌ حادٌّ انتباه نيكولاس إلى إحدى الآلات الخشبية في الركن. ولدى ذهابه إلى هناك، يتبعه تيثامي، أبصر مشهدًا شديد الغرابة؛ كانت الآلة تشبه بطريقةٍ فجةٍ ساقيةً دائرة. كانت تُدار بذراع يحمل عبءَ تحريكها رجلٌ أفريقي مفتول العضلات مهذب السلوك. وكان هناك مواطن ممتلئ، في منتصف عمره، وله مظهر مهيب، مشدودًا على حافة الساقية، وقد رُبطت يده وقدمه. كان يرتدي قميصًا ذا أكمام، والعرق الغزير يرشح عن جبينه، بينما ينطق وجهه بسعادة لا تُوصف. كلما بذل الرجل الأسود جهدًا في تحريك الذراع، كان الضغط يزيد على عضلات الأبيقوري السمين ومفاصله. بدا أن الضغط هائل، ومع ذلك فقد سمعه نيكولاس يهمس بصوت لا يكاد يُسمع، لكنه يفيض بنشوة لا تُوصف: «أدرها دورة أخرى، جورج واشنطن، شَدَّة … أخرى … صغيرة …»

قال تيثامي: «كنت أتحدَّث للتوِّ عن المراتب الأعلى من الألم. إليك أحد أمثلته: إن الرجل السمين رأسماليٌّ مشهور، وهو أيضًا يعيش في حالة فراغ، مثلي. يعيش في بيكون ستريت، وهو من المتحمسين لملاحقة أحدث صيحات الألم. اشترى هذه الآلة من مدريد، وقدَّمها إلى الجمعية. إنها نسخة أصلية، بلا جدال، من آلة التعذيب التي تُعرَف باسم «المِخلعة»، ويُقال إن محاكم التفتيش كانت تستخدمها. وعلى كل حال، فلم تزل تعمل بصورة جيدة. وبوجود رجل قوي يديرها، توفِّر قدرًا من المتعة الخالصة، التي أتمنى أن تستطيع يومًا تقديرها حق قدرها.»

ارتعد نيكولاس، وأشاح بوجهه عن المخلعة. وفي تلك الأثناء، أصبح في الغرفة خمسة وثلاثون أبيقوريًّا أو أربعون. زاد عدد الحاضرين بمجيء جماعة الردهة؛ إذ كان البروفيسور سوردتي قد اختتم مقالته أخيرًا. كان هناك نشاط وصخب بين الأبيقوريين بقدر أكبر مما كان في بداية الليلة. كانت سكرة الألم تفعل فعلها، والعربدة تزداد طيشًا وضجيجًا.

قال نيكولاس: «دعنا نرَ ما يفعلون.»

رد تيثامي بتأدب: «تصرَّف وكأنك في بيتك. لقد أخبرتك بأن وجودك لن يلحظه أحد. اذهب إلى أي مكان تشاء، وإذا شعرت برغبة في تجريب أيٍّ من آلاتنا، فلا تتردد في فعل ذلك. لكن إذا سمحت لي ببضع دقائق، أعتقد أنني سآخذ الدور التالي على المخلعة.»

استمرت العربدة بفوران متزايد. اختلطت أصوات همهمات الهذيان، بصرير آلتين أو ثلاث من آلات التعذيب. وفي أحد الجوانب، رأى نيكولاس مجموعة وقورة، تتكون من اثنين من الفلاسفة، وستة طلاب لاهوتيين. كانوا جالسين على مقعد مكسوٍّ بالمسامير الحادة، وكانوا يتناقشون في خلود الروح، بأسلوب بالغ الحيوية. واقتدى بضعة أبيقوريين بالرجل الألماني، وأخذوا يخبطون أدمغتهم في الجدار. وكان هناك شاب من الواضح أنه حديث عهد برفاهيات الألم، بدا أنه يستمد من أبسط أشكال التعذيب متعةً بالغة. أدخل إصبعًا في عصَّارة ليمون، وبينما كان يضغط بيده الأخرى مقبضي العصَّارة، كانت تعابير الألم ترتسم على وجهه، مع سرور ينمُّ عن قلة الخبرة. وكان شخصان حاصلان على الدكتوراه في اللاهوت قد تعرَّيا حتى خاصرتيهما، ويجلد كل منهما الآخر متطوعًا، بالتناوب، باستخدام سوط من الصفصاف. ومما يحسب لحسِّ الإنصاف لديهما، أن الخدمة المتبادلة، كانت تتم بالتساوي، سواء من حيث المدة، أم من حيث الشدة التي تُسدد بها الضربات. لحظ نيكولاس أن سكرة الألم جعلت الناس أنانيين عمومًا. فلم يعبأ أيٌّ من الأبيقوريين كثيرًا باستمتاع أولئك المحيطين به؛ لانشغاله بمتعة أحاسيسه.

ومع ذلك، لم تكن الحال هي نفسها فيما يخص مجموعة من النساء والرجال الذين تجمَّعوا في أقصى الغرفة. كانت هناك همهمات من الحوار، وإبداء واضح للاهتمام بابتكار عظيم. كان الجمع يصفقون لمخترع أداة جديدة. شق نيكولاس طريقه إلى داخل المجموعة، وفجأة بدأ يبتعد في ذهول.

جلست امرأة في منتصف العمر على إحدى الأرائك، وقد وضعت قدمها في سلة مغطاة جيدًا بالقماش، بينما كان حذاء وجورب مُلْقَيَيْن على الأرض. كان شعر المرأة مشعَّثًا، وكان وجهها يتوهج بانفعال مَرَضيٍّ. ومع الاسترسال في عربدة جنونية، بدأت تغني أغنية مفعمة بالحيوية لكنها مفككة. تهدَّج صوتها الحاد نوعًا ما، ليُصبح ارتعاشات غامضة من النشوة الهستيرية. التفت نيكولاس إلى أحد المارة وسأله: «ماذا لديها في السلة؟»

كانت الإجابة: «ستة أعشاش دبابير. أليس ذلك جميلًا؟ إنه اكتشاف العصر، ومن الجميل التفكير في أن السيدات يجب أن يكنَّ أولًا!»

كاد نيكولاس يفقد وعيه رعبًا وتقززًا. كان يعرف السلة؛ لأنه اشتراها من كامبريدج. كما كان يعرف السيدة، فهي بينيلوبي، خالة مارجريت. وخالة مارجريت هي الشخصية المحورية في حفل عربدة كهذا! شق طريقه إلى المقدمة، ووقف أمام المرأة المحمومة. نظرت إلى أعلى، وخيَّم على وجهها تعبير غائم عن تذكُّر ضبابي وخزي حائر. قال بحزم: «البسي حذاءكِ!» أطاعته بطريقة آلية. ركل نيكولاس السلة جانبًا، وكان هناك تنافس محموم بين الأبيقوريين للاستيلاء عليها وكأنها كنز. لم يُعِر الشاب تنافسهم اهتمامًا، وجذب الآنسة بينيلوبي من ذراعها، وأخرجها من ذلك المكان الرذيل، إلى خارج المنزل. أعادها هواء الليلة النقي إلى وعيها بصورة جزئية. طأطأت رأسها، وصحبته في صمت.

شرعت آخر سيارة متجهة إلى كامبريدج تتحرك من الميدان. وخلال الرحلة الطويلة، لم يفُه نيكولاس بكلمة، ولا فعلت مرافقته. لم ينكسر الصمت للمرة الأولى إلا عند باب المنزل. رفع نيكولاس نظره عن الأرض. كان القمر يضيء نافذة الغرفة التي كانت مارجريت تنام فيها في غفلة عما يحدث.

قال نيكولاس بصوت خفيض لكنه حازم: «من أجل مارجريت، ومن أجلك أنت أيضًا، عديني يا آنسة بينيلوبي بألَّا تذهبي إلى ذلك المكان أبدًا مرةً أخرى.»

ارتجف جسد الآنسة بينيلوبي في اهتياج، وانتحبت بمرارة. نظرت إلى نيكولاس أولًا، ثم إلى نافذة مارجريت. وأخيرًا نطقت.

قالت: «أقسم لك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤