شعره

نظلم الجاحظ كثيرًا إذا اعتبرنا شعره ركنًا من أركان عبقريته أو جزءًا من أجزاء أدبه، ونضل إذا عددناه دليلًا من أدلة عظمته؛ لأن الجاحظ لم يُخلق شاعرًا، وإنما نظم الشعر كما نظمه غيره من العلماء والكتَّاب واللغويين والفقهاء والمؤلفين، وتلك ظاهرة في الثقافة العربية عمت بلواها جميع من تذوق طعم العربية.

خذ أي كتاب من كتب التراجم، وارجع إلى ترجمة أي رجل شئت، فقيهًا كان أو محدِّثًا، فيلسوفًا أو طبيبًا، فإنك واجد في أعقاب ترجمته: «ومن شعره قوله».

هذا النوع من الشعر يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: شعر الكُتَّاب وشعر العلماء وشعر الفقهاء؛ فالأول يُكنَّى به عن حسن الصنعة واختيار الألفاظ وانسجام النظم، كشعر ابن العميد والصاحب ابن عباد، والثاني يُكنَّى به عن جمع الأمثال ومعالجة الحقائق العلمية وما وراء الطبيعة، كشعر ابن دريد وابن سينا، والثالث يُكنَّى به عن الغثاثة والبرودة.

أما شعر الجاحظ فمن النوع الأول، وما أظن الباعث على نظمه إلا خيلاء العلم والأدب؛ يعني أن سعة روايته للشعر وغزارة مادته في الأدب ورسوخ قدمه في العلم وقوة طبعه في النثر زيَّن له نظم الشعر، وإن لم يكن شاعرًا، وهكذا قُل في أكثر الكُتَّاب.

فمن شعره قوله:

يطيب العيش إن تلقى حليمًا
غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيرة كل ريب
وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء
وداء البخل ليس له طبيب

وأنشد المبرد للجاحظ:

إن حال لون الرأس عن لونه
ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة
فما الذي يحتاله الأصلع

ومن شعره في ابن أبي دواد:

وعويص من الأمور بهيم
غامض الشخص مظلم مستور
قد تسنمت ما توعر منه
بلسان يزينه التحبير
مثل وشي البرود هلله النسـ
ـج وعند الحجاج در نثير
حسن الصمت والمقاطع أما
نصت القوم والحديث يدور
ثُمَّ من بعد لحظة تورث اليسـ
ـر وعرض مهذب موفور

وقال يهجو الجماز بأبيات منها:

نسب الجماز مقصو
ر إليه منتهاه
تنتهي الأحساب بالنا
س ولا تعدو قفاه

وقال يمدح إبراهيم بن رياح:

بدا حين أثرى بإخوانه
ففلل عنهم شباة العدم
وذكره الدهر صرف الزمان
فبادر قبل انتقال النعم
فتى خصه الله بالمكرمات
فمازج منه الحيا بالكرم
ولا ينكث الأرض عند السؤال
ليقطع زواره عن نعم

وكتب إلى أحمد بن أبي دواد:

لا تراني وإن تطاولت عمدًا
بين صفيهم وأنت تسير
كلهم فاضل عليَّ بمال
ولساني يزينه التحبير
فإذا ضمنا الحديث وبيت
وكأني على الجميع أمير
رب خصم أرقُّ من كل روح
ولفرط الذكا يكاد يطير
فإذا رام غايتي فهو كابٍ
وعلى البعد كوكب مبهور

وله:

بخدي من قطر الدموع ندوب
وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا
ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمها
يخبِّر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب
ولا غاب عن عيني سواك حبيب

وقال في إبراهيم بن رياح:

وعهدي به والله يصلح أمره
رحيب مجال الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبة
عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى
به المجد إلا أن يلج ويستشري

وقال في أبي الفرج نجاح بن سلمة، يسأله إطلاق رزقه من قصيدة:

أقام بدار الخفض راضٍ بخفضه
وذو الحزم يسرى حين لا أحد يسري
يظن الرضا شيئًا يسيرًا مهونًا
ودون الرضا كأس أمر من الصبر
سواء على الأيام صاحب حنكة
وآخر كابٍ لا يريش ولا يبري
خضعت لبعض القوم أرجو نواله
وقد كنت لا أعطي الدنية بالقسر
فلما رأيت القوم يبذل بشره
ويجعل حسن البشر واقيه الوفر
ربعت على ضلعي وراجعت منزلي
فصرت حليفًا للدراسة والفكر
وشاورت إخواني فقال حليمهم
عليك الفتى المري ذا الخلق الغمر
أعيذك بالرحمن من قول شامت
أبو الفرج المأمول يزهد في عمرو
ولو كان فيه راغبًا لرأيته
كما كان دهرًا في الرخاء وفي اليسر
أخاف عليك العين من كل حاسد
وذو الود منخوب الفؤاد من الذعر
فإن تدع ودي بالقبول فأهله
ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر

ومن شعره:

لئن قدمت قبلي رجال فطالما
مشيت على رسلي فكنت المقدما
ولكن هذا الدهر تأتي صروفه
فتبرم منقوضًا وتنقض مبرمًا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤