أمثلة من رسائل الجاحظ

كتب في الاعتذار

أما بعد، فنعم البديل من الزلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار، وإن أحق من عطفت عليه بحلمك من لم يستشفع إليك بغيرك، وإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك، وقد مسَّني من الألم ما لم يَشْفه غير مواصلتك.

•••

قال الجاحظ: تشاغلت مع الحسن بن وهب بشرب النبيذ أيَّامًا، فطلبني محمد بن عبد الملك (الزيات) لمؤانسته، فأُخبر باتصال شغلي مع الحسن بن وهب، فتنكَّر لي وتلوَّن عليَّ، فكتبت إليه رقعة نسختها:

أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة، فقد خِفت — أيَّدك الله — أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء. وبعدُ، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:

وإن امرأً أمسى وأصبح سالمًا
من الناس إلا ما جنى لسعيد

وقال الآخر:

ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل

فإن كنت اجترأت عليك — أصلحك الله — فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة؛ ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان، رحمه الله: «عمر كان خيرًا لي منك؛ أرهبني فأتقاني، وأعطاني فأغناني.»

فإن كنت لا تهب عقابي — أيَّدك الله — لخدمة، فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك، فعُد إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فأتِ ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد وتتجافى عن عقاب المصرِّ، حتى إذا صِرت إلى من هَفْوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك والإنعام إلا منك؛ هجمت عليه بالعقوبة. واعلم — أيَّدك الله — أن شَيْن غضبك عليَّ كزَيْن صفحك عني، وإن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكرك مع اتصال سببي بك، واعلم أن لك فطنة عليم، وغفلة كريم، والسلام.

وكتب في التشوق

ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك إلا وجدت الشوق إليك قد حزَّ في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي. فأنا بين حشا خافقة ودمعة مهراقة ونفس قد ذبلت بما تجاهد وجوانح قد أُبليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الاغتماض، قول بشار:

إذا هتف القُمْري نازعني الهوى
بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا
وكُنَّا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زمانًا وبينها
كما كان بين المسك والعنبر الورد

فانتظم وصف ما كُنَّا نتعاشر عليه ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا. وذكرت أيضًا ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصائي الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبُعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أَوْبتك، وقلت أبياتًا تقصر عن صفة وجدي وكُنه ما يتضمنه قلبي، وهي:

بخدي من قطر الدموع ندوب
وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفَس حتى الدجى يصدع الحشا
ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمها
يخبِّر عني أنني لكئيب
كأني لم أُفجع بفرقة صاحب
ولا غاب عن عيني سواك حبيب

وله من كتاب إلى ابن الزيات

لا والله ما عالج الناس داء قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئًا هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم بابًا أجمع لخصال المكروه من الذل. ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام. فكم من كربة فادحة وضيقة مصمتة قد فُتحت أقفالها وفككت أغلالها، ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى لا مقسم الأمل على تقصير قد احتملته وتفريط قد اغتفرته. ولعل ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك، فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان وحسن الحال متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤