حسن محاضرته

لم يكن الجاحظ من أولئك العلماء المتزمِّتين الذين زووا وجوههم عن المجتمع، وتجاهلوا ما يحيط بهم من أحوال عصرهم، واقتصروا على فهم الحياة من الكتب؛ كلا، فلقد كان كثيرَ الاختلاط، يلابس طبقات الناس كلها، من الخليفة وحاشيته إلى الحراس.١ فأضاف إلى واسع روايته في الأدب عظيمَ خبرته لأهل زمانه، فضلًا عن حدة ذكائه وقوة عارضته، وعما رُكِّب في طبعه من حب الدعابة والفكاهة؛ فليس عجيبًا أن يكون حلو الحديث حَسَن المحاضرة حاضر الجواب سريع النكتة، وحسبنا أن نروي من ذلك قصة رواها ابن خلكان؛ قال: قال الجاحظ: ذُكِرتُ للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض عليَّ الخروج معه والانحدار في حرَّاقته، وكُنَّا بِسُرَّ مَن رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارة وأمر بالغناء، فاندفعت عوَّادة فغنَّت:
كل يومٍ قطيعة وعتاب
ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خُصصت بهذا
دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

وسكتت، فأمر الطنبورية فغنَّت:

وا رحمتَا للعاشقينا
ما أن أرى لهم مُعينا
كم يُهجرون ويصرمو
ن ويُقطعون فيصبرونا

قال: فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون! وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء. وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمرُّ بين الماء، فأنشد:

أنت التي غَرَّقْتني
بعد القضا لو تعلمينا

وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما معتنقان، ثمَّ غاصا فلم يُرَيا، فاستعظم محمد ذلك وهاله أمرهما، ثُمَّ قال: يا عمرو، لتحدِّثني حديثًا يسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتُك بهما. قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم يومًا، وعُرضت عليه القصص، فمرَّت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يُخرج إليَّ جاريته فلانة حتى تُغَنِّيني ثلاثة أصوات فعل، فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثُمَّ أتبع الرسول رسولًا آخر يأمره أن يُدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحِلمك والاتكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبقَ أحد من بني أمية إلا خرج، ثُمَّ أمر فأُخرجت الجارية ومعها عودها، فقال لها الفتى غني:

أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

فغنته، فقال له يزيد: قل. فقال: غني:

تألق البرق نجديًّا فقلت له
يا أيها البرق إنِّي عنك مشغول

فغنته، فقال له يزيد: قل. فقال: يا مولاي، تأمر لي بِرَطل شراب؟ فأمر له به، فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد، فرمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهل، ظن أنِّي أُخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي، يا غلمان خذوها بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا عنه بثمنها. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أُعِدَّت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:

من مات عشقًا فليمت هكذا
لا خير في عشق بلا موت

فألقت نفسها في الحفيرة، فماتت. قال الجاحظ: فسُرِّيَ عن محمد وأجزل صلتي.

١  انظر حديثه مع الحارس في باب الكلب من كتاب الحيوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤