بَينَ القَديم والجدِيد

١

إنَّ المُفاضَلة بين القَديم والجدِيد، وبتعبيرٍ أدق: المُوازنة بين روح المُحَافَظَة ونزعة التجديد، من أهم الأمور التي شَغلَت أذهان رجال الفكر والعمل في جميع أنحاء العالم المُتمدِّن في مختلف أدوار التارِيخ.

فإننا إذا لاحظنا سلوك النَّاس تجاه مسألة «القَديم والجدِيد» وجدنا أنَّ بعضهم يكره القَديم، ويُحب الجديد، ويَدعو إلى التجديد، في حين أن بعضهم بعكس ذلك يتَمسَّك بالقَديم، وينفر من الجدِيد، ويَدعو إلى إبقاءِ ما كان على ما كان.

ويُغالي بعضُ المُجدِّدين في نزعتهم التجديدية مُغالاةً شديدة فيستنكرون كل ما هو قديمٌ استنكارًا مطلقًا، ويدعون إلى «قطيعة الماضي» قطيعةً تامة.

كما يُغالي بعض المحافظين في حب القَديم مُغالاةً شديدة؛ فإنهم لا يكتفون بالتحذير من الجدِيد، وبالدعوة إلى إبقاءِ ما كان على ما كان، بل يقولون — علاوةً عن ذلك — بوجوب العودة إلى الماضي، ويَدْعون إلى إحياء القَديم المهجور أيضًا.

وإذا تتبَّعنا تواريخ الأُمَم وجدنا أن في بعض الأدوار من التارِيخ تتغلب «روح المُحافَظة على نزعة التَّجديد»، فيكتسب القَديم شيئًا من القَداسة، ويصبح التَّجديد نوعًا من الكُفر. ولا يكتفي النَّاس في تلك الأدوار باستهجان الحركات التَّجديدية، بل إنَّهم يُقاوِمونها بكل ما لديهم من قوة، ويُوصلُون الأمر أحيانًا إلى درجة اعتبارها من الجرائم التي تستوجب العقاب الصارم؛ ولهذا يطلبون مُعاقبةَ كل من يُقْدِم عليها، أو يدعو إليها، أو يقول بها. في حين أننا نجد في بعض الأدوار من التارِيخ تتغلَّب نزعة التجديد على روح المُحافَظة؛ عندئذٍ يفقد القَديم كل ما كان له من اعتبار، بل يصبح مكروهًا ومنفورًا منه، وتُعتبر روح المُحَافَظَة من الأمور الشائنة التي تسيء إلى سمعة الإنسان، ويُتهم كلُّ من يتوجه إلى القَديم بالرجعية والتأخُّر والانحطاط.

غير أننا نستطيع أن نقول إن هاتَين النزعتَين كثيرًا ما تعيشان جنبًا إلى جنب، وقلَّما تزول إحداهما من النفوس زوالًا تامًّا في دَورٍ من أدوار التارِيخ في حياة أمة من الأُمَم. إنما الغلبةُ تكون للنزعةِ الأُولى في بعض الظروف وللنزعة الثانية في بعض الظروف الأخرى.

وتظهر آثار هاتين النزعتين المتخالفتين في شتى شئون الحياة الاجتماعية؛ من مختلف نواحي الحياة الفكرية إلى شَتَّى مظاهر الحياة الدينية والسياسية والعائلية، ومن مختلف أساليب الفِكْر والحِسِّ، إلى شتَّى ميادين الصناعة، والزراعة، والطب، والعلوم والآداب والفلسفة … كل شيء قد ينال حظًّا من روح المُحافَظة أو من نزعة التجديد.

ومما يجب الانتباه إليه في هذا الصدد أن غلبة إحدى هاتَين النزعتَين على الأخرى لا تتم في جميع الميادين مرةً واحدة وعلى حَدٍّ سواء، بل كثيرًا ما يحدث أن نزعة التجديد تتغلَّب على روح المُحافَظة في بعض الميادين في حين أن روح المُحافَظة تبقى السائدة عليها في الميادين الأخرى.

مثلًا، من المعلوم أن الإنكليز من أشد الأُمَم محافظةً للتقاليد القَديمة في الأمور الشكلية، ولكنهم من أكثر الأُمَم اندفاعًا نحو التجديد في الحياة الاقتصادية، في حين أن أكثر الأُمَم الشرقية — بعكس ذلك — تسترسل في تقليد مظاهر الحياة الغربية، ولكنها تبقى بعيدة عن مسايرة روح العصر في طراز التفكير والعمل وفي سائر نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

ومن المعلوم أن روح المُحافَظة في أوروبا كانت وصلَت إلى أوج قُوَّتها في القرون الوسطى، حيث كان كل شيء تقريبًا استقَر على شكلٍ معيَّن لم يتبدَّل منذ عدة أجيال؛ حتى الأعمال الزراعية والصناعية كانت قد تقرَّرَت على قواعدَ ثابتة لا يسوغ لأحدٍ أن يخالفها أو أن يُغيِّر شيئًا منها، وحتى التفكير كان أخذ يسير سيرًا رتيبًا، لا مجال فيه لأدنى تغيير وتجديد. وقد أُحيطت الكُتب القَديمة بأجمعها بهالة من التمجيد والتقديس، واعتُبرت الكتب المذكورة المصدر الأصلي لكل علم، والمرجع الأول والأخير لكل قضية. وصار الدرس والبحث والتفكير لا يعني شيئًا غير فهْم الكتب القَديمة، والاستنباط من الكتب القَديمة، والبحث في الكتب القَديمة، وشرح معاني الكتب القَديمة، وتفسير عبارات الكتب القَديمة.

ولكن الأمور تغيَّرتْ منذ تلك العصور تغيرًا كليًّا، وقد فقدَت روح المُحَافَظَة قوَّتها شيئًا فشيئًا، وأخذَت نزعة التجديد تتغلغل في النفوس وتتصل بشتى نواحي الحياة تدريجيًّا، إلى أن صارت تشمل جميع مظاهر الحياة تقريبًا.

والآن قد وصل العالم المتمدن إلى دَورٍ أصبحَت فيه نزعة التجديد مسيطرة على جميع مظاهر الحياة. وصارت كل الأمور تتطور بصورةٍ مستمرة وبسرعةٍ هائلة لم يسجل التَّارِيخ لها مثيلًا في حياة أية أُمَّة من الأُمَم، وفي أي دَورٍ من أدوار الماضي القريب والبعيد. أصبح كل شيء يتجدد ويتطور بسرعةٍ هائلة، تجعل هذه الأطوار شبيهةً بالانقلابات الثورية التي تجرفُ كُل شيء فلا تترك شيئًا من الأشياء على حالته القَديمة.

وأما نحن فقد بقينا محافظين على معظم أحوالنا القَديمة ولم نساير هذا التطور السريع الذي أخذ يجرفُ العالم جَرفًا. ولا نُغالي إذا قلنا إننا وقفنا أمام هذه السيول الجارفة حائرين، مُتردِّدين ومُتخالفِين:

ففريقٌ منا يدعو إلى الإسراع في التجديد دون قيد وشرط حتى إنه يقول بوجوب نَبذِ كُل ما هو قديم بدون استثناء. وفريق يعتقد بإفلاس الحضارة الغربية ويدعو إلى الاحتفاظ بتراث الشرق وعدم التفريط به «في سبيل هذه الحضارة المزيَّفة». وفريق يقف موقفًا بَين بَين، ويُحاول أن يُعيِّن الأمور التي يجب التجديد فيها والأمور التي يجب سُلوكُ مسلكِ المُحَافَظَة في شأنها.

فماذا يجب أن يكون موقفنا من هذه القضايا؟ ماذا يجب أن يكون موقف الجيل الجدِيد في البلاد العربية من قضايا «القَديم والجدِيد» ومن سياسة «المُحافَظة والتجديد»؟

٢

إن أُولَى الحقائق التي يَتَوصَّل إليها الباحث عندما يُنعم النظر في قضية «القَديم والحديث»، هو أنهما عنصران هامَّان من عناصر الحياة. وهما متلازمان وضروريان لبقاء الحياة الجسمانية والنفسية والاجتماعية بوجهٍ عام.

فلننظر أولًا في تأثير كُلٍّ من القَديم والحديث في الحياة الجسمانية:

من المعلوم أن أهم الأوصاف التي تُميِّز الأحياء عن الجمادات هي صفة «التجديد المستمر».

فإن الخلايا التي تُؤلِّف البدن — في جميع الكائنات الحية — تَتغيَّر وتتَجدَّد على الدوام، كما أن المواد التي تتركَّب منها كُلُّ واحدةٍ من هذه الخلايا أيضًا تتغيَّر وتتجدَّد بدون انقطاع.

ولا حاجة إلى القول إن مفهوم «التجديد» يُفيد «حدوث شيءٍ جديد» من حيث الأساس، ولكنه يتضمَّن في الوقت نفسه «بقاء شيءٍ قديم» أيضًا؛ لأن «التجديد» يختلف عن «التغيُّر المطلق»، ويَعْني «تغيُّر العناصر المكونة» مع بقاء الهيئة الأصلية واستمرار البناء القَديم.

فنستطيع أن نقول لذلك إن «القَديم والحديث» عنصران لا ينفصلان في «الحياة الجسمانية».

افرضوا أن عُضوية من العُضويات أخذَت تتغير في موادها المركَّبة، دون أن تحتفظ بهيئتها الأصلية وبنائها القَديم. وتصوَّروا ماذا سيكون مصير تلك العُضوية، لا شك في أن هذا المصير لن يكون سوى فقدان الحياة والانحلال والفَناء.

وافرِضوا — بعكس ذلك — أن عُضوية من العُضويات حُرِمَت بغتة من حركة التجدُّد والتغيُّر وحافظَت في الوقت نفسه على هيئتها الأصلية وبنائها القَديم، وتصوَّروا ماذا سيكون مآل تلك العضوية، لا شك في أنها ستَتحوَّل إلى مومياء فقدَت الحياة ودخلَت في عِداد الجمادات والمُستحدَثات.

يظهر من ذلك أن لكلٍّ من القَديم والحديث مهمةً خاصة في الحياة.

ونستطيع أن نقول إن الحياة تقوم على نوعٍ من التوازُن بين القَديم والحديث، وهي تَعني قيام عناصرَ جديدةٍ مقام العناصر القَديمة، مع بقاء الهيئة الأصلية والبناء القَديم.

ومما يُلفِتُ النظر أن النسبة بين القَديم والحديث لا تَبقَى على وتيرةٍ واحدة في جميع أعضاء البدن وفي جميع أدوار الحياة.

فإن سن الشباب هو الدَّور الذي تبلغ فيه حركة التجدُّد أقصى سرعتها وأَوْج نشاطها. وأمَّا سن الشيخوخة فهو الدَّور الذي تَخِفُّ وتتضاءل فيه حركة التجديد، وتزداد خلاله في البدن المواد القَديمة التي تبقى خارجة عن نطاق هذه الحركة.

كما أن هذه الحركة تَخِفُّ وتتضاءل في بعض أعضاء البدن قبل غيرها، والمواد التي تبقى خارجةً عن تيار التجديد، تتراكم في تلك الأعضاء أكثر مما تتراكم في غيرها.

والشيخوخة إنما تتأتَّى من تراكُم هذه الرواسب الجامدة وتضاؤل حركات التجديد في مختلفِ أعضاء البدن.

ويظهر من كل ذلك أن الحياة الجسمانية تقوم على عنصر التجديد والمُحافَظة في وقتٍ واحد، ولكنها تتمثل في عنصر التجديد أكثر مما تتمثل في عنصر المُحافَظة بوجهٍ عام.

إن ما قلناه آنفًا عن الحياة المادية — الحياة الجسمانية — ينطبق على الحياة النفسية أيضًا.

فإن الحياة النفسية أيضًا مزيج من القَديم والحديث، لا القَديم يكفي لها، ولا الحديث يغني عن القَديم فيها، بل إن كِلَيْهما ضروري للحياة النفسية ضرورةً قاطعة.

افرِضُوا أن شخصًا من الأشخاص البشرية تجرَّد عن كل ما هو قديم، وفقَد كل ما كان له من العناصر التي تمُتُّ بصلة إلى الماضي، وتصوَّروا ماذا ستكون حياته النفسية في هذه الحالة. لا شك في أنه سيفقد الإدراك والفهم والتفكير مرةً واحدة؛ لأن الإدراك لا يتم إلا بتلاحُق الإحساسات الجدِيدة مع القَديمة، والفهم لا يتيسر إلا بإدخال المفهوم الجدِيد بين المعلومات القَديمة، والتفكير لا يقوم إلا على أساس الانتقال من المعلوم إلى المجهول، وذلك لا يتم إلا بتنظيم المعلومات السابقة على أشكالٍ جديدة وتحليلها وتركيبها على أنماط وصُورٍ مختلفة كلها حديثة. إن الحرمان من الذكريات القَديمة لا بد من أن يؤدي إلى الحرمان من كل هذه الصفات العقلية، ولا بد من أن يستوجب توقُّف وانقطاع جميع هذه الأفاعيل النفسية.

وافرِضُوا — بعكس ذلك — أن شخصًا من الأشخاص انقطع بَغْتة عن كل جديد، وأصبح لا يملك في ذهنه غير ذكرياتٍ قديمة، حتى إنه فقد قابليةَ تركيبِ هذه الذكريات بأشكالٍ جديدة، وتصوَّروا ماذا ستكون حياته النفسية في هذه الحالة. لا شك في أن هذه الحياة ستتلاشى حالًا، فلن يعمل الشخص إلا ما كان تهيَّأ له قبلًا، مثل المكائن الأوطوماطية التي لا تعرف شيئًا من الجدِيد أبدًا.

يَظْهر من ذلك أن لكلٍّ من القَديم والجدِيد مهمةً خاصة ودورًا خاصًّا في الحياة النفسية، وهذه الحياة لا يمكن أن تدوم وتترعرع دون أن تستند إلى كِلَيْهما في وقتٍ واحد.

ونستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن حوادث الماضي وأفاعيله لو لم تترك أثرًا في النفس لَمَا استطاع الإنسان أن يرتقي إلى مرتبة «العقل العالي» التي وصل إليها، ولبقي محرومًا من قابليات الحكم والفَهْم والتفكير والإبداع حرمانًا مطلقًا.

إن القَديم هو الذي يفسح المجال لقيام الحديث، والمكتسبات الماضية هي التي تُمكِّن الذهن والخيال من الإبداع والاختراع، كما أن الجدِيد هو الذي ينفُخ الحياة في القَديم ويُورثه القوة والفاعلية. ورُوح التجديد هي التي تَبني من «الأشياء القَديمة» المباني الجدِيدة وتُكسِب تلك الأشياءَ الفائدةَ والقيمة.

القَديم وحده جمودٌ وموت، والحديث وحده عجز وحرمان، وأمَّا الحياة النفسية الواعية فما هي إلا نتيجة التمازُج والتفاعُل بين القَديم والحديث.

٣

إن الحياة الاجتماعية لا تخلو من الشَّبَه بالحياة النفسية بهذا الاعتبار؛ فإن هذه الحياة أيضًا تقوم على تمازُج القَديم مع الحديث وتفاعُله على الدوام؛ لأن الروابط الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض — من اللغة إلى التقاليد والعادات وسائر المؤسسات المادية والمعنوية — كلها من بقايا الماضي ومن مواريث الأجيال القَديمة.

إنَّ كلَّ جيلٍ من الأجيال المتتالية في المجتمعات البشرية يرث من الأجيال التي سَبقَتْه مجموعةً كبيرة من العنعنات والمعلومات والخبرات والمهارات، ثم يضيف إليها ما يستطيع إضافته بجهوده الجدِيدة، وفي الأخيرة يُوصِّلها مع هذه الإضافات إلى الجيل الذي يأتي بعده. إن الحضارة البشرية لا تقوم ولا تتقدَّم إلا على هذا الأساس، وعلى هذه الوتيرة؛ فلو لم يَرثِ الجيل الجدِيد تلك الثروة المادية والمعنوية القَديمة المتراكمة، لَمَا استطاع أن يعيش عيشةً تختلف عن عيشة الوحوش والبهائم، ولكن لو اكتفى الجيلُ الجدِيد بما تَوارثَه عن أجداده دون أن يُكيِّفها حَسبَ ما تقتضيه الظروف الجدِيدة، ودون أن يُضيف إليها شيئًا جديدًا، لتوقَّف المجتمع عن التقدُّم فجمد في مكانه، ولأصبحَت حضارتُه جامدةً متحجرة لا تأخذ أي حَظٍّ من التطوُّر المبدع، فلا تستطيع أن تَتقدَّم خطوةً واحدة إلى الأمام.

هذا ما حدَث وما يحدُث في الأقوام البدائية، التي تعيش على هامش الحضارة عيشةً ميكانيكية، لا تبديل فيها ولا تجديد.

ولا حاجة إلى القول إن أمثال هذه الأقوام تتعرَّض إلى الفناء والاضمحلال، عندما تصطدم بجماعاتٍ جديدة، مسلحةٍ بأسلحةٍ حديثة، عاملةٍ بأساليبَ جديدة.

إن هذا الركود والجمود قد يأتي بعد تقدُّمٍ كبير ناتج عن تجدُّدٍ سابق طويل، ولكن هذه المجتمعات الجامدة أيضًا لا تستطيع أن تصمد أمام هجمات المجتمعات الناهضة ومنافساتها مهما كانت متقدمةً عليها بتاريخها، ومهما كانت متفوقةً عليها بعدد أفرادها.

إنَّ تاريخ الصِّين من أبلغ الشواهد على ما نقول، من المعلوم أن الصينيين كانوا قد تقدَّموا تقدُّمًا كبيرًا في شتى نواحي الحياة الفكرية والاجتماعية، وكانوا قد سبقوا جميع الأُمَم الغربية في هذا المضمار. غير أنهم انقطعوا بعد ذلك عن التجدُّد والتقدُّم وجمدوا في مكانهم في المرتبة العالية التي كانوا قد وصلوا إليها قبل غيرهم؛ ولذلك لم يستطيعوا أن يقاوموا فيما بعدُ هجماتِ شِرذمةٍ صغيرة من الجماعات الأوروبية المتجددة، فاضطُروا إلى الاستسلام إليها، والرضوخ لمشيئاتها، بالرغم من تفوُّقهم العددي الهائل على تلك الشراذم الصغيرة. والصين لم تَتقوَّ وتصبح قادرة على مقاومة الاحتلال الأجنبي إلا بعدما أقلعَت عن الجمود، وعدلَت عن الاعتداد بالماضي، فأخذَت تقتبس أساليب الحضارة الحديثة، ودخلَت في تيار التجديد العالمي المعلوم.

ويظهر من ذلك بكل وضوحٍ أن القَديم والحديث عُنصرانِ ضروريَّان لقيام المجتمع وتقدُّمه.

وهنا لا بد لي من أن أُشيرَ إلى قضيةٍ هامة، وهي قضية التوازن بين القَديم والحديث:

إن هذا التوازُن يختل أحيانًا، من جرَّاء توجُّه الأمور نحو الحديث أكثر من توجُّهها نحو القَديم، أو — بعكس ذلك — توجُّه الأمور نحو القَديم أكثر من توجُّهها نحو الحديث، فنجد أحيانًا أن تيَّار التجديد يكتسب قوةً كبيرة ويصرف الأذهان عن القَديم، وقد يصل إهمال القَديم بهذه الصورة إلى درجةٍ تُصبِح معها مُقوِّمات الأُمَّة وكيانها، معرَّضة إلى خطر التضعضُع والاضمحلال، فيترتَّب على مُفكِّري الأمة عندئذٍ أن ينبِّهوا الأذهان إلى هذا الخطر، ويَدْعوا النَّاس إلى زيادة الاهتمام بالقَديم.

وقد يحدث أحيانًا عكس ذلك تمامًا؛ أنَّ روح المُحافَظة تتقوَّى إلى درجةٍ كبيرة، فتصرف الأذهان عن الالتفات إلى حركات التجديد، فتصبح الأمة معرَّضة إلى خطر الجمود والتأخر، فيترتَّب على المفكرين عندئذٍ أن يُنبِّهوا الأذهان إلى هذا الخطر، وأن يقوموا بدعايةٍ قوية جدًّا لحمْل الجيل الجدِيد على الثورة ضد القَديم، وإبعاد النَّاس عن مَهاوي الركود والجمود، ودفعهم نحو سبيل التقدُّم والتجديد.

ولستُ في حاجة إلى القول بأننا الآن في وضْع يشبه هذا الوضع الأخير.

لقد تأخَّرنا كثيرًا جدًّا عن مسير قافلة الحضارة العصرية، وجمدنا على أساليبَ بالية، في معظم مناحي حياتنا الفكرية والأدبية والاجتماعية، فأصبح من الواجب علينا أن نثور على هذا الركود والجمود، وأن نسارع إلى سلوك سُبل التجديد، وأن نسير في هذه السبل مُسرعين ومُهرولين، لنستطيع أن نتلافى ما فاتنا من الزمن في هذا العصر الذي امتاز بوجهٍ خاص بسرعة التطوُّر والتجدُّد الخارقة.

٤

يُوجَد بيننا عددٌ غير قليلٍ من الشُّبَّان والكهول الذين يَتخوَّفون من الإسراع في هذا السبيل، ويقولون بوجوب السير على «سُنَّة التدريج» في أمر التجديد. وهؤلاء كثيرًا ما يَتذرَّعون بنظرية التطوُّر لدعم رأيهم وتبرير موقفهم من هذه القضية.

لا شك في أن نظرية التطوُّر كانت من أهم النظريات التي أَوجدَت أخطر الانقلابات الفكرية في النصف الثاني من القرن الأخير، والتي غيَّرت نظر الإنسان إلى الكون تغييرًا أساسيًّا.

كل شيءٍ يتطوَّر في الكون، في الأرض وفي السماء، وفي عالم الجماد وفي عالم الأحياء … كل شيء يتطوَّر بالتدريج بفعل عواملَ طبيعية قد تبدو في الوهلة الأولى ضئيلة. والتطوُّرات التي تحدث بهذه الصورة قد تكون في بادئ الأمر تافهة، غير أنها عندما تتوالى وتَتلاحَق تُؤدِّي تدريجيًّا إلى نتائجَ كبيرة وخطيرة.

وهذه النظرية التي نشأَت عن أبحاث داروين في «أصل الأنواع» الحيوانية والنباتية ما كانت تهدف في بادئ الأمر إلى شيءٍ غير تفسير وتعليل كيفية نشوء هذه الأنواع. غير أنها لم تَلْبث أن انتقلَت إلى ميادين الفلسفة على يد «هربرت سبنسر»، وقد أخذَت تُؤثِّر في شتَّى نواحي التفكير البشري تأثيرًا عميقًا. و«الفلسفة التطورية» التي نشأَت بهذه الصورة أخذَت تتوسَّع وتَترعْرَع بسرعة، وصارت تغزو ميادين الأخلاق والتَّارِيخ والأدب واللغة والاجتماع … وفي الأخير قد تسلَّلَت إلى ميادين العمل والسياسة أيضًا.

وبعض المفكرين أخذوا من هذه النظرية فكرة «التدريج» وحدها، وصاروا يستعملونها لتبرير نزعة المُحافَظة، ولشجب روح الثورة والانقلاب في الحياة الاجتماعية.

إن قُرْب الكلمة التي تُعبِّر عن مفهوم «التطوُّر» في اللغات الأوروبية Evolution من الكلمة التي تدُل على الثورة والانقلاب Révolution في اللغات المذكورة قد ساعد كثيرًا على تقوية هذا الاتجاه الفكري، وصارت كلمتا التطوُّر والانقلاب تُذكَران معًا للدلالة على طريقتَين مُتعاكستَين في أمور التجديد والإصلاح.

فلنُفكِّر إذن، ما هي قيمة نظرية التطوُّر في تأييد وتبرير سياسة الإبطاء والتدرُّج في الحياة الاجتماعية؟

أولًا يجب أن نُلاحِظ أن قياس الحوادث الاجتماعية على الحوادث الطبيعية على الإطلاق، والزعم بأن ما يصح في إحداها يصح في الأخرى أيضًا في كل الأحيان، مما لا يستند على أساسٍ علمي صحيح أبدًا؛ فإن عالم الاجتماع يختلف عن عالم الحياة اختلافًا كبيرًا، فالنظريات التي تُستنبط من دراسة الحوادث الحياتية والطبيعية لا يجوز أن تُعتبر شاملة للحياة الاجتماعية أيضًا.

وفضلًا عن ذلك يجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن الأبحاث والتجارب التي قام بها جماعة من علماء الحيوان والنبات أنفسهم قد زَعزعَت فكرة التدرُّج التي كانت تتضمنها نظرية التطوُّر في شكلها الأول؛ لأنه قد ثبت ببراهينَ قاطعة — منذ تجارب «دوفريس» المشهورة — أن التطوُّر في الحيوانات والنباتات قد يحدث فجأة، وأن بعض النُّوَيْعات منها قد تظهر وتتولَّد وهلةً دون أي تدرُّجٍ كان.

ونستطيع أن نقول لذلك إنه قد أصبح من العبث تمامًا الاستناد إلى نظرية «التدرج» لتحديد خطط الإصلاح والتجديد في الحياة الاجتماعية.

هذا، وكثيرًا ما يتذرَّع دعاة «التدرج في الجدِيد» في دعاياتهم هذه بكلمة قالها أحد علماء الطبيعة المشهورين قبل مدةٍ تزيد على قرن ونصف قرن: «الطبيعة لا تقفز.» La nature ne fait pas des sauts أنهم كثيرًا ما يُحوِّرون هذه الكلمة إلى شكل آخر فيقولون: «الطفرة مُحال!»

غير أن هذه الكلمة — حتى في شكلها الأصلي — لا تُعبِّر عن حقيقةٍ مُطلَقة؛ فإنها إذا صحَّت في بعض الحوادث الطبيعية فلا تصح في بعض الأخرى.

إن ثورات البراكين وحدها تُبرهِن على ذلك برهنةً قطعية. فضلًا عن ذلك، كثيرًا ما لاحظ علماء الفلك أن بعض النجوم تتوهَّج بغتة، مما يدل على حدوث تطوُّراتٍ خطيرة جدًّا في تركيبها، فلا يجوز لنا قط أن نقول إن الطبيعة لا تعرف الطفرات والانقلابات الفُجائية أبدًا.

ومع هذا، ولو تساهلنا في الأمر وسلَّمنا جدلًا بأن الطبيعة لا تطفر أبدًا، فإن ذلك لا يمنعنا من القول بأنها لا تسير سيرًا وئيدًا على الدوام، بل إنها كثيرًا ما تُهروِل هرولةً …

ولهذا السَّبب كلما أسمع أحدهم يقول: «الطبيعة لا تطفر أبدًا.» أُعقِّب على ذلك قائلًا: «ولكنها تستطيع أن تُهروِل كثيرًا.»

ولا أُراني في حاجةٍ إلى القول إن الهرولةَ أهمُّ بكثير من الطفرة في هذا الميدان؛ لأنها تتألَّف — في حقيقة الأمر — من سلسلة قفزاتٍ وطفرات.

٥

وقبل أن أختم حديثي عن «القَديم والجدِيد» أَودُّ أن ألفت أنظار القائلين بوجوب «التدرج في التجديد» إلى الحقائق التالية:

إن سَيْر الحضارة العالمية لم يَعُدْ سيرًا عاديًّا وئيدًا، بل إنه أصبح سيرًا سريعًا جدًّا لا يختلف عن الهرولة كثيرًا.

وإذا كانت الأُمَم التي تتقدم القافلة أخذت تسير بهذه الصورة بسرعةٍ هائلة، أفلا يترتب على الأُمَم التي تأخَّرتْ عنها في هذا المضمار أن تسير بسرعةٍ أعظم من ذلك أيضًا؛ لتستطيع اللحاق بالقافلة التي كانت قد سبقَتْها كثيرًا؟

هذا، ويجب علينا أن نعرف حق المعرفة، أننا نعيش الآن في عصرٍ أصبح فيه «التوقف» لا يؤدي إلى «التأخر» فحسب، بل يُعرِّض الواقفين إلى «الاضمحلال» أيضًا؛ لأن الحضارة العصرية أخذَت تطغى وتستولي على جميع أنحاء العالم، وتسعى وراء استغلال جميع موارد الأرض، فصارت مطامح الدول القوية تشمل جميع أنحاء الكرة الأرضية، حتى إن الصحاري القفراء الخالية والأقطار القطبية المتجمدة، مع كل ما فوقها من الأجواء العالية، وكل ما تحتها من الطبقات العميقة، أخذَت تدخُل في نطاق نشاط تلك الدول بصُورٍ شتَّى.

فأصبح من المستحيل على أية ناحية من نواحي الكرة الأرضية أن تبقى زمنًا طويلًا على حالتها القَديمة … وغدا من المستحيل على أية أمةٍ من أُمم العالم أن تُحافظ على كيانها دون أن تتسلح — مادةً ومَعنًى — بأسلحة الحياة العصرية.

هذه حقيقة، ويجب علينا أن ندركها تمام الإدراك، ونؤمن بها أصدق الإيمان، وأن نضعها نُصْب أعيننا على الدوام؛ لنعمل على هَدْيها بدون تأخُّر، وبحزم واندفاع.

يجب علينا أن نسلُك، بدون تأخُّر وبحزم واندفاع، مسالك التجديد في كل ساحةٍ من سُوح الحياة المادية والمعنوية والاجتماعية.

التجديد في كل شيء؛ في اللغة والأدب، في التَّربية والأخلاق، في العلم والفن، في السياسة والثقافة، في الزراعة والصناعة والتجارة …

التجديد في كل مكان؛ في البيت والمدرسة، في القرية والمدينة، في الشارع والحديقة …

التجديد في كل زمان، وفي كل شيء، وفي كل مكان … يجب أن يكون شِعارَنا العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤